موسوعة التفسير

سُورةُ العادِياتِ
الآيات (1-11)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

غريب الكلمات:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا: أي: الخَيلِ العادِيَةِ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ تَضبَحُ، والعَدْوُ: السَّيرُ بسُرْعةٍ، والضَّبْحُ: صَوتُ أجوافِها إذا عَدَتْ، وهو النَّفَسُ، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على تجاوُزٍ في الشَّيءِ، وأصلُ (ضبح): يدُلُّ على صَوتٍ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 535)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/385) و(4/249)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/81). .
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا: أي: الخَيلِ تُورِي النَّارِ بحوافِرِها إذا وقَعَت على الحِجارةِ، يُقالُ: وَرَى الزَّندُ: إذا خرَجَت نارُه، والإيراءُ: إخراجُ النَّارِ، والقَدْحُ هو الضَّربُ والصَّكُّ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 536)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/67) و(6/104)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 472)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا: أي: الخَيلِ الَّتي تُغِيرُ على العَدُوِّ عندَ الصَّباحِ، يُقالُ: أغارَ على العَدُوِّ: هَجَم عليهم دِيارَهم، وأوْقَع بهم، وأغارَ الفرَسُ: إذا أسْرَعَ في العَدْوِ، وأصلُ (غور) هنا: يدُلُّ على إقدامٍ على أخذِ مالٍ قَهرًا أو حَربًا [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/401)، ((المفردات)) للراغب (ص: 618)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/456)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 472)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا: أي: الخَيلُ تُثيرُ الغُبارَ بحوافِرِها بمكانِ عَدْوِها، يُقالُ: ثارَ الغُبارُ والدُّخَانُ: إذا ارتفَعَ، وأصلُ (ثور): يدُلُّ على انبِعاثِ الشَّيءِ، والنَّقْعُ: الغُبارُ السَّاطِعُ المُثارُ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/580)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/395)، ((البسيط)) للواحدي (24/245)، ((تفسير ابن عطية)) (5/514)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 41). .
لَكَنُودٌ: أي: لَكَفورٌ جَحودٌ؛ مِن كَنَد النِّعمةَ: أي: كَفَرها ولم يَشكُرْها، وأصلُ (كند): يدُلُّ على القَطعِ، وسُمِّي الكَنودُ بذلك لأنَّه يَكْنُدُ الشُّكرَ، أيْ: يَقْطَعُه [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 536)، ((تفسير ابن جرير)) (24/584)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/140)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 472)، ((تفسير الألوسي)) (15/444). .
بُعْثِرَ: أي: أُثيرَ وأُخرِجَ، والبعثرةُ: قلبُ الشَّيءِ وإثارتُه، بجَعلِ أعلاهُ أسْفَلَه، وأسْفَلِه أعلاهُ [10] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/308)، ((تفسير ابن جرير)) (24/590)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8407)، ((المفردات)) للراغب (ص: 133)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/206). .
وَحُصِّلَ: أي: مُيِّزَ وبُيِّنَ، وأُظهِرَ وجُمِعَ، كإظهار ِاللُّبِّ مِنَ القِشْرِ وجَمْعِه، والتَّحْصيلُ: إخراجُ اللُّبِّ مِنَ القُشورِ، كإخراجِ الذَّهَبِ مِن حَجَرِ المعدِنِ، والبُرِّ مِنَ التِّبنِ، والحاصِلُ مِن كُلِّ شيءٍ ما حَصَل وذَهَب ما سِواه، وأصلُ (حصل): جَمعُ الشَّيءِ [11] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/286)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/68)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/455)، ((المفردات)) للراغب (ص: 240)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 464). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا *... أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ
قَولُه: ضَبْحًا: مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ المُطلَقةِ بفِعلٍ محذوفٍ جملتُه حالٌ، والتَّقديرُ: تَضبَحُ ضَبحًا. أو مَنصوبٌ على الحالِ؛ لتأويلِه بالمشتَقِّ، أى: ضابحاتٍ. ومَن قال: إنَّ الضَّبحَ نَوعٌ مِنَ السَّيرِ والعَدْوِ [12] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/ 155)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/499). ، فهو عندَه مَصدَرٌ مؤَكِّدٌ لـ «العادياتِ».
قَدْحًا: مَصدَرٌ مُؤَكِّدٌ لـ «المورياتِ»؛ لأنَّ الإيراءَ مِنَ القَدْحِ، يُقالُ: قَدَحَ فأَوْرى: إذا أخرَج النَّارَ. ويجوزُ أن يكون حالًا؛ لتأويلِه بالمشتَقِّ، أى: قادحاتٍ، أو مَفعولًا مُطلَقًا لفِعلٍ محذوفٍ جُملتُه حالٌ، أي: تَقْدَحُ قَدْحًا.
صُبْحًا: منصوبٌ على الظَّرفيَّةِ الزَّمانيَّةِ، أي: الَّتي تُغِيرُ وقْتَ الصُّبحِ.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا: مَعطوفٌ على اسمِ الفاعِلِ قبْلَه، وهو العادياتُ، وما بَعْدَه؛ لكَونِه في تأويلِ الفِعلِ؛ لوُقوعِه صِلةً للمَوصولِ؛ فإنَّ الألِفَ واللَّامَ في الأسماءِ المشتَقَّةِ أسماءٌ مَوصولةٌ، فالكلامُ في قُوَّةِ: واللَّاتي عَدَوْنَ فأَوْرَينَ فأغَرْنَ فأثَرْنَ.
بِهِ الباءُ ظرفيَّةٌ، والضَّميرُ للمَكانِ الدَّالِّ عليه السِّياقُ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكرٌ؛ لأنَّ الإثارةَ لا بدَّ لها من مكانٍ.
وقيل: ضَميرُ بِهِ للصُّبحِ، والباءُ ظَرفيَّةٌ، أي: فهيَّجْنَ في ذلك الوَقتِ نَقْعًا، أي: غُبارًا.
وجُوِّزَ كونُ ضَميرِ بِهِ للعَدْوِ الدَّالِّ عليه «العاديات»، والباءُ للسَّببيَّةِ أو للمُلابَسةِ. جَمْعًا: مَفعولٌ به للفِعلِ «وَسَطَ».
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ قَولُه: إِذَا بُعْثِرَ: في العامِلِ فيها أوجُهٌ؛ أحَدُها: محذوفٌ دَلَّ عليه لَخَبِيرٌ، ولا يجوزُ أن يَعمَلَ فيه لَخَبِيرٌ؛ لأنَّ ما في حيِّزِ «إنَّ» لا يتقدَّمُ عليها، أي: إذا بُعثِرَ جُوزوا. الثَّاني: مَفعولُ يَعْلَمُ المحذوفُ هو العامِلُ في إِذَا،  أي: أفلَا يَعلَمُ مآلَه إذا بُعثِرَ مَن في القُبورِ. الثَّالِثُ: أنَّ إِذَا خارِجةٌ عن الظَّرفيَّةِ مَفعولٌ به لـ يَعْلَمُ، على معنى: أفلا يعلَمُ ذلك الوَقتَ ويَعرِفُ تحَقُّقَه. وقيل: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ في محَلِّ نَصبٍ سَدَّت مَسَدَّ مَفعولَيْ يَعْلَمُ المُعلَّقةِ عن العَمَلِ؛ لوُجودِ اللَّامِ في خَبَرِ «إنَّ»، ولذا كُسِرَت هَمزتُها. وهي استئنافٌ تعليليٌّ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ [13] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/257)، ((تفسير الزمخشري)) (4/786)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1300)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/81 - 92)، ((تفسير الشوكاني)) (5/588)، ((تفسير الألوسي)) (15/442 - 446)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/390). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالخَيلِ المُسرِعةِ حتَّى يُسمَعَ ترَدُّدُ أنفاسِها مِن أجوافِها، الَّتي تُوقِدُ شَرَرَ النَّارِ بحوافِرِها حينَ تصطَكُّ بالحِجارةِ أثناءَ عَدْوِها، والَّتي تُغِيرُ على العَدُوِّ وَقتَ الصَّباحِ، فتُهَيِّجُ الغُبارَ في مَوضِعِ الإغارةِ، فتَصيرُ في ذلك الموضِعِ وَسْطَ جَمْعِ الأعداءِ؛ أقسَمَ اللهُ بهذا على أنَّ الإنسانَ كَفورٌ لنِعَمِ رَبِّه عليه، وأنَّ الإنسانَ شاهِدٌ على نَفْسِه بذلك، وأنَّه شَديدُ المحبَّةِ للمالِ، حريصٌ عليه.
ثمَّ قال الله تعالى مُزَهِّدًا في الدُّنيا، ومُرَغِّبًا في الآخرةِ، ومُنَبِّهًا على ما يَستَقْبِلُه الإنسانُ مِن الأهوالِ: أفلا يَعلَمُ هذا الإنسانُ مآلَه إذا أخرَجَ اللهُ ما في القُبورِ مِنَ الأمواتِ، وأظهَرَ ما في قُلوبِ العِبادِ؟! إنَّ رَبَّهم خَبيرٌ بهم يومَ القيامةِ، وسيُجازيهم بما يَستَحِقُّونَ.

تفسير الآيات:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1).
أي: أُقسِمُ بالخَيلِ المُسرِعةِ الَّتي تَعْدو بقُوَّةٍ حتَّى يُسمَعَ ترَدُّدُ أنفاسِها مِن أجوافِها [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/570، 574)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير القرطبي)) (20/153)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 75-78)، ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 130، 131)، ((تفسير ابن كثير)) (8/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 291، 292). قال ابنُ الجَوزيِّ: (قولُه عزَّ وجلَّ: وَالْعَادِيَاتِ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّها الإبلُ في الحجِّ... والثَّاني: أنَّها الخَيلُ في سبيلِ الله). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/480). ممَّن اخْتارَ أنَّ المُرادَ بها: الخَيلُ: ابنُ جَريرٍ، والزَّجَّاجُ، والسَّمْعانيُّ، والزَّمَخْشَريُّ، والرَّازيُّ وعَزاه إلى أكثَرَ المُحَقِّقينَ، والقُرْطُبيُّ وعَزاه إلى عامَّةِ المُفَسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ، والنَّسَفيُّ، والخازِنُ، وابنُ كثير، والعُلَيْميُّ، والشربينيُّ، والشوكانيُّ وعَزاه للجُمهورِ، والسعديُّ، وابنُ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/574)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/353)، ((تفسير السمعاني)) (6/270)، ((تفسير الزمخشري)) (4/786)، ((تفسير الرازي)) (32/ 259)، ((تفسير القرطبي)) (20/153)، ((تفسير النسفي)) (3/671)، ((تفسير الخازن)) (4/460)، ((تفسير ابن كثير)) (8/465)، ((تفسير العليمي)) (7/418)، ((تفسير الشربيني)) (4/576)، ((تفسير الشوكاني)) (5/588)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 291). ممن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، وعَطاءٌ، ومجاهِدٌ، وأبو العاليةِ، وعِكْرِمةُ، والضَّحاكُ، وقَتادةُ، وعطيَّةُ، والرَّبيعُ، والكلبيُّ. يُنظر((تفسير ابن جرير)) (24/570)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير البغوي)) (5/295)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/480). وممَّن قال: إنَّ المُرادَ بها الإبِلُ: علِيٌّ، وابنُ مَسْعودٍ، وإبراهيمُ، وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ، ومحمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظيُّ، والسُّدِّيُّ، وأبو صالِحٍ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/238)، ((تفسير البغوي)) (5/295)، ((تفسير ابن كثير)) (8/466). .
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر عَدْوَها، أتْبَعَه ما يَنشَأُ عنه، فقال عاطفًا بأداةِ التَّعقيبِ؛ لأنَّ العَدْوَ بحيثُ يتسبَّبُ عنه، ويتعَقَّبُه الإيراءُ [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/212). :
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2).
أي: الَّتي تُوقِدُ شَرَرَ النَّارِ بحَوافِرِها حينَ تصطَكُّ بالحِجارةِ أثناءَ عَدْوِها [16] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 131)، ((تفسير ابن كثير)) (8/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 292). قال السعدي: (أي: تَقدَحُ النَّارَ مِن صَلابةِ حوافِرِهنَّ وقُوَّتِهنَّ إذا عَدَوْنَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ العَدْوَ وما يتأثَّرُ عنه؛ ذكَرَ نتيجتَه وغايتَه، فقال [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/212). :
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3).
أي: الَّتي تُغِيرُ على العَدُوِّ وقْتَ الصَّباحِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/578، 580)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير ابن كثير)) (8/465)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 292). قال القُرْطُبيُّ: (كانوا إذا أرادوا الغارةَ سَرَوْا ليلًا، ويَأتونَ العَدُوَّ صُبْحًا؛ لأنَّ ذلك وقْتُ غَفْلةِ النَّاسِ). ((تفسير القرطبي)) (20/158). .
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4).
أي: فتُهَيِّجُ الغُبارَ في مَوضِعِ الإغارةِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/580)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير ابن كثير)) (8/465، 466). قَولُه: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا أي: بمَكانِ عَدْوِها، وهو وإن لم يَتقدَّمْ له ذِكْرٌ لكنْ في الكَلامِ دَليلٌ عليه. وقيلَ: الضَّميرُ يَرجِعُ للوَقْتِ، وهو الصُّبحُ، وهو وَقْتُ الإغارةِ. وقيلَ: للعَدْوِ الَّذي دَلَّ عليه وَالْعَادِيَاتِ، وتكونُ الباءُ سببيَّةً. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/247)، ((تفسير الزمخشري)) (4/787)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/501). وممَّن اختارَ القَولَ الأوَّلَ -أنَّ الضَّميرَ يَعودُ على اسْمِ مَكانِ العَدْوِ-: ابنُ جَريرٍ، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، ومَكِّيٌّ، والواحِديُّ، والبَغَويُّ، والخازِنُ، والعُلَيْميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/580)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/353)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/ 155)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8403)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير البغوي)) (5/296)، ((تفسير الخازن)) (4/460)، ((تفسير العليمي)) (7/419). وممَّن اختارَ القَولَ الثاني -أنَّ المُرادَ بقَوْلِه: بِهِ: وقْتُ الصُّبحِ-: الزَّمَخْشَريُّ، وابنُ عَطِيَّةَ، والبَيْضاويُّ، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/787)، ((تفسير ابن عطية)) (5/514)، ((تفسير البيضاوي)) (5/331)، ((تفسير النسفي)) (3/671). وممَّن قال بالقَولِ الثَّالِثِ في الجُملةِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ -وقال: بجَرْيِهنَّ يَعْني بحَوافِرِهنَّ-، والكِسائيُّ وعَزاه إليه الرَّازيُّ، والسعديُّ، وابنُ عُثَيْمينَ، وزادا معَ العَدْوِ: الإغارةَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/802)، ((تفسير الرازي)) (32/261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 292). .
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5).
أي: فتَصيرُ في ذلك الموضِعِ وَسْطَ جَمْعِ الأعداءِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/582)، ((الوسيط)) للواحدي (4/544)، ((تفسير القرطبي)) (20/160)، ((تفسير ابن كثير)) (8/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/501). قال البِقاعي: (فدخلَتْ في وسَطِ ذلك الجَمعِ؛ لشَجاعتِها؛ وقوَّتِها، وطَواعيتِها، وشجاعةِ فُرْسانِها). ((نظم الدرر)) (22/213). .
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر المُقسَمَ به؛ ذكَرَ المُقسَمَ عليه، وهو أمورٌ ثلاثةٌ [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/261). ، فقال:
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6).
أي: إنَّ الإنسانَ لَكَفورٌ لنِعَمِ رَبِّه عليه، بَخيلٌ بإعطاءِ المالِ الَّذي لدَيه [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/584)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 80)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/502، 503)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 293). قال القُرْطُبيُّ: (هذا جَوابُ القَسَمِ، أي: طُبِعَ الإنسانُ على كُفْرانِ النِّعْمةِ). ((تفسير القرطبي)) (20/160). .
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7).
أي: وإنَّ الإنسانَ لَشاهِدٌ على نَفْسِه بحالِه وأعمالِه وأقوالِه بأنَّه كَفورٌ لنِعَمِ رَبِّه عليه [23] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/506)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933). قال ابنُ عطيَّةَ: (قَولُه تَعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ يَحتَمِلُ الضَّميرُ أن يَعودَ على اللهِ تَعالى، وقالَه قَتادةُ، أي: ورَبُّه شاهِدٌ عليه، ونفسُ هذا الخَبَرِ يَقْتضي الشَّهادةَ بذلك، ويَحتمِلُ أن يَعودَ على الإنسانِ، أي: أفعالُه وأقوالُه وحالُه المعلومةُ مِن هذه الأخلاقِ تشهَدُ عليه، فهو شاهِدٌ على نفسِه بذلك). ((تفسير ابن عطية)) (5/514). ومِمَّن ذهَبَ إلى أنَّ الضَّميرَ يَعودُ على اللهِ تَعالى: الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جَريرٍ، وحَكاه الثَّعْلَبيُّ والبَغَويُّ والقُرْطُبيُّ عن أكثَرِ المُفَسِّرينَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/285)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 536)، ((تفسير ابن جرير)) (24/587)، ((تفسير الثعلبي)) (10/272)، ((تفسير البغوي)) (5/296)، ((تفسير القرطبي)) (20/162). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في رِوايةٍ عنه، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، وسُفْيانُ الثَّوْريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/587)، ((البسيط)) للواحدي (24/253)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/481، 482)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/604). وممَّن اخْتارَ عَوْدَ الضَّميرِ على الإنسانِ: ابنُ جُزَي، والبِقاعيُّ، والسعديُّ، والشنقيطيُّ. ((تفسير ابن جزي)) (2/506)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 283)، ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (2/275) و (5/327). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في رِوايةٍ عنه، ومحمَّدُ بنُ كَعبٍ القُرَظيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/482)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/604). قال ابنُ عثيمين: (الصَّوابُ أنَّ الآيةَ شامِلةٌ لهذا وهذا؛ فاللهُ شَهيدٌ على ما في قَلبِ ابنِ آدَمَ، وشهيدٌ على عمَلِه، والإنسانُ أيضًا شهيدٌ على نَفْسِه، لكِنْ قد يُقِرُّ بهذه الشَّهادةِ في الدُّنيا، وقد لا يُقِرُّ بها فيَشهَدَ على نَفْسِه يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 293). .
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن العجائِبِ أن يَكفُرَ أحَدٌ إحسانَ المنعِمِ، وهو شاهِدٌ على نَفْسِه؛ ذكَرَ الحامِلَ له على ذلك حتَّى هان عليه، فقال [24] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/216). :
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8).
أي: وإنَّ الإنسانَ لَشَديدُ المحبَّةِ للمالِ؛ فهو حريصٌ عليه، بَخيلٌ به [25] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/285)، ((تفسير ابن جرير)) (24/588، 589)، ((تفسير القرطبي)) (20/162)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 293). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَإِنَّهُ أي: الإنسانَ، مِن غَيرِ خلافٍ). ((تفسير القرطبي)) (20/162). وقال ابنُ القيِّم: (الخيرُ هنا المالُ باتِّفاقِ المفَسِّرينَ، والشَّديدُ: البَخيلُ مِن أجْلِ حُبِّ المالِ؛ فحُبُّ المالِ هو الَّذي حمَلَه على البُخلِ. هذا قولُ الأكثَرينَ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 81). .
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ [آل عمران: 14] .
وقال سُبحانَه: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20] .
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عَدَّ على الإنسانِ قبائِحَ أفعالِه؛ خَوَّفَه [26] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/262). .
وأيضًا لَمَّا كان المالُ فانيًا لا يَنبغي لعاقِلٍ أن يُعَلِّقَ أمَلَه به، فضلًا عن أن يُؤْثِرَه على الباقي؛ نبَّهَه على ذلك بتهديدٍ بليغٍ، فقال [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/217). :
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9).
أي: أفلا يَعلَمُ هذا الإنسانُ -الجَحودُ لنِعَمِ رَبِّه، المحِبُّ للمالِ- مآلَه إذا أخرَجَ اللهُ ما في القُبورِ مِنَ الأمواتِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/590)، ((الوسيط)) للواحدي (4/545)، ((تفسير ابن عطية)) (5/515)، ((تفسير الرازي)) (32/263)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/506)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 294). قال ابنُ عطيَّة: (قَولُه تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ توقيفٌ على المآلِ والمصيرِ، أي: أفلا يعلَمُ مآلَه فيَستَعِدَّ له؟!). ((تفسير ابن عطية)) (5/515). وقال ابنُ عثيمين: (قال: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ فيَعمَلَ لذلك، ولا يكونَ هَمُّه المالَ؟!). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 294). ؟
كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [المعارج: 43] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار: 4].
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10).
أي: ومَيَّز اللهُ وأظهَرَ ما في قُلوبِ العِبادِ مِنَ الإيمانِ والكُفرِ، والخَيرِ والشَّرِّ [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/590)، ((الوسيط)) للواحدي (4/545)، ((تفسير ابن عطية)) (5/515)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 83)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/506). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 9] .
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11).
أي: إنَّ رَبَّ النَّاسِ خَبيرٌ بهم يومَ القيامةِ؛ فهو مُطَّلِعٌ على بواطِنِهم، ولا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أمرِهم، وسيُجازيهم بما يَستَحِقُّونَ [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/591)، ((تفسير القرطبي)) (20/163)، ((تفسير ابن كثير)) (8/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/218)، ((تفسير أبي السعود)) (9/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 933)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/507). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا أقسَمَ تعالى بفَرَسِ الغازي؛ لِما فيه مِن مَنافِعِ الدُّنيا والدِّينِ، وفيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسانَ يجِبُ عليه أن يُمسِكَه لا للزِّينةِ والتَّفاخُرِ، بل لهذه المنفعةِ [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/259). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا فيه تفضيلُ الجِهادِ والمجاهِدينَ، على أنَّ معنَى العادياتِ خيلُهم [32] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 297). .
3- قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ في طبعِ الإنسانِ الكُنودُ لربِّه، أي: كُفرانُ نعمتِه، فالإنسانُ لا يخلو مِن أحوالٍ مآلُها إلى كُفرانِ النِّعمةِ؛ بالقولِ والقصدِ، أو بالفعلِ والغفلةِ؛ فالإشراكُ كُنودٌ، والعصيانُ كُنودٌ، وقلَّةُ مُلاحَظةِ صَرفِ النِّعمةِ فيما أُعطِيتْ مِن أجْلِه كُنودٌ، وهو مُتفاوِتٌ، فهذا خُلقٌ مُتأصِّلٌ في الإنسانِ؛ فلذلك أيقَظَ اللهُ له النَّاسَ لِيَريضوا أنفُسَهم على إماتةِ هذا الخُلقِ مِن نُفوسِهم، كما في قولِه تعالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19] ، وقولِه: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] ، وقولِه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/502، 503). [العلق: 6-7] .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فيه مَذَمَّةُ حُبِّ المالِ، وهو جِبِلَّةٌ في الإنسانِ إلَّا مَن هَذَّبه الإسلامُ، إلَّا أنَّ الذَّمَّ ينصَبُّ على شِدَّةِ الحُبِّ الَّتي تحمِلُ صاحِبَها على إضاعةِ الحُقوقِ، أو تعَدِّي الحُدودِ [34] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/67). .
5- قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، والخَيرُ: المالُ، ففيه الحَثُّ على الزُّهدِ [35] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 297). .
6- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ أنَّه يجِبُ على العبدِ أنْ يُصَحِّحَ ما في قَلبِه؛ لأنَّ المدارَ عليه [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 217). .
7- أنَّ مَن ظَنَّ أنَّ إعدادَ القبرِ وبناءَه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه، فقد تمنَّى على اللهِ الأمانيَّ الكاذبةَ، وإنَّما يكونُ في قبْرِه بحسَبِ ما في قلْبِه، وكُلَّما كان الإيمانُ في قلْبِه أعظَمَ كان في قبْرِه أَسَرَّ وأَنْعَمَ؛ قال تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ، فقد جَمَعَ سُبحانَه هنا بيْن ما في القُبورِ وما في الصُّدورِ [37] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (4/220). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أَقْسَمَ بالخَيلِ في كتابِه، وذلك يدُلُّ على شَرَفِها وفَضْلِها عِندَه [38] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 130). . عن عُروةَ البارقي رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ: الأجرُ والمغنمُ )) [39] رواه البخاري (3119)، ومسلم (1873) واللفظ له. .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ فيه سُؤالٌ: هذا يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ شاهِدٌ على كُنودِ نَفْسِه، أي: مُبالَغتِه في الكُفرِ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 104] ، وقَولِه تبارك وتعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 37] ، وقَولِه تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47] ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ شَهادةَ الإنسانِ بأنَّه كَنودٌ هي شَهادةُ حالِه بظُهورِ كُنودِه، والحالُ رُبَّما تَكفي عن المقالِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ شَهادتَه على نَفْسِه بذلك يومَ القيامةِ، كما يدُلُّ له قَولُه تعالى: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام: 130] ، وقَولُه تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 11] ، وقَولُه تعالى: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ راجِعٌ إلى رَبِّ الإنسانِ المذكورِ في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وعليه فلا إشكالَ في الآيةِ، ولكِنْ رجوعُه إلى الإنسانِ أظهَرُ؛ بدليلِ قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [40] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 283). [العاديات: 8] .
3- قولُه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19] ، وقولُه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] ، وقَولُه: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] هذا شَأْنُ الإنسانِ مِن حيثُ ذاتُه ونفْسُه، وأمَّا خروجُه عن هذه الصِّفاتِ فهو بفَضْلِ ربِّه وتوفيقِه له ومِنَّتِه عليه، لا مِن ذاتِه؛ فليس له مِن ذاتِه إلَّا هذه الصِّفاتُ، وما به مِن نعمةٍ فمِن اللهِ وَحْدَه [41] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 126). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ، فيه سُؤالٌ: لِمَ قال: بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، ولم يقلْ: (بُعْثِرَ مَن في القُبورِ)؟ ثم إنَّه لَمَّا قال: مَا فِي الْقُبُورِ، فلِمَ قال: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ، ولم يقلْ: (إنَّ رَبَّها بها يَومَئذٍ لَخَبِيرٌ)؟
الجوابُ: هو أنَّ ما في الأرضِ مِن غيرِ المُكلَّفِينَ أكثرُ، فأُخرِجَ الكلامُ على الأَغلَبِ، أو يُقالُ: إنَّهم حالَ ما يُبعَثُون لا يَكونُون أَحياءً عُقلاءَ، بل بعدَ البَعثِ يَصِيرون كذلك، فلا جَرَمَ كان الضميرُ الأوَّلُ ضميرَ غيرِ العُقلاءِ، والضَّميرُ الثَّاني ضميرَ العُقلاءِ [42] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/263). .
5- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ جمَعَ سُبحانَه بيْن القُبورِ والصُّدورِ، كما جمَعَ بيْنَهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: ((مَلَأَ اللهُ أجوافَهم وقُبورَهم نارًا)) [43] أخرجه مسلم (628) مِن حديثِ عبدِالله بنِ مَسعودٍ رضيَ الله عنه. ؛ فإنَّ الإنسانَ يُواري صدْرُه ما فيه مِن الخَيرِ والشَّرِّ، ويواري قَبْرُه جِسْمَه؛ فيُخْرِجُ الرَّبُّ جِسْمَه مِن قبْرِه، وسِرَّه مِن صدْرِه، فيَصيرُ جسْمُه بارزًا على الأرضِ، وسِرُّه باديًا على وجْهِه، كما قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن: 41]، وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] [44] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 83). . فالتَّناسُبُ بيْن الآيتَينِ ظاهِرٌ؛ فبَعْثَرةُ ما في القُبورِ إخراجٌ للأجسادِ مِن بَواطنِ الأرضِ، وتَحصِيلُ ما في الصُّدورِ إِخراجٌ لِما في الصُّدورِ، ممَّا تُكِنُّه الصُّدورُ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 294). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ يدُلُّ على أنَّ النِّيَّاتِ يُحاسَبُ بها، كما يُحاسَبُ على ما يَظهَرُ مِن آثارِها [46] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/218). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ فيه سؤالٌ: الضَّميرُ في قَولِه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ عائدٌ إلى الإنسانِ، وهو واحِدٌ؟
الجوابُ: الإنسانُ في معنى الجَمعِ، كقَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] ، ثمَّ قال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا [العصر: 3] ، ولولا أنَّه للجَمعِ وإلَّا لَمَا صَحَّ ذلك [47] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/264). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ قَيَّدَ سُبحانَه كَونَه خبيرًا بهم ذلك اليومَ، وهو خَبيرٌ بهم في كلِّ وقتٍ؛ إيذانًا بالجزاءِ، وأنَّه يُجازيهم في ذلك اليومِ بما يَعلَمُه منهم؛ فذُكِرَ العِلمُ، والمرادُ لازِمُه [48] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 83). . فالمرادُ بذلك الجزاءُ بالأعمالِ الناشئُ عن علمِ الله واطِّلاعِه [49] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 933). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ يدُلُّ على كَونِه تعالى عالِمًا بالجُزئيَّاتِ الزَّمانيَّاتِ؛ لأنَّه تعالى نَصَّ على كَونِه عالِمًا بكيفيَّةِ أحوالِهم في ذلك اليومِ [50] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/264). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا
- قولُه: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا القَدْحُ: حَكُّ جِسمٍ على آخَرَ ليَقدَحَ نارًا، وذلك كِنايةٌ عن الإمعانِ في العَدْوِ، وشِدَّةِ السُّرعةِ في السَّيرِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/500). .
- وفي قولِه: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا أسْنَدَ الإغارةَ -الَّتي هيَ مُباغَتةُ العدُوِّ للنَّهبِ، أو للقتْلِ، أو للأسْرِ- إليَها، وهيَ حالُ أهْلِها؛ إيذانًا بأنَّها العُمدةُ في إغارتِهم، أو لأنَّ الخيلَ أو إبلَ الغزْوِ أسبابٌ للإغارةِ ووَسائلُ [52] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/500). .
- وصُبْحًا ظَرفُ زَمانٍ، فإذا فُسِّرَ (المُغيرات) بخَيلِ الغُزاةِ، فتَقييدُ ذلك بوَقتِ الصُّبحِ؛ لأنَّهم كانوا إذا غَزَوا لا يُغِيرون على القومِ إلَّا بعْدَ الفَجرِ؛ ولذلك كان مُنذِرُ الحيِّ إذا أنْذَرَ قَومَه بمَجيءِ العدُوِّ، نادى: يا صَباحاهُ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/500). .
- قولُه: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا تَخصيصُ إثارةِ الغُبارِ بالصُّبحِ -وذلك على قولٍ-؛ لأنَّه لا يَثورُ أو لا يَظهَرُ ثَوَرانُه باللَّيلِ، وبهذا ظَهَرَ أنَّ الإيراءَ الَّذي لا يَظهَرُ في النَّهارِ المَذكورَ في قولِه: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا واقعٌ في اللَّيلِ، وللهِ درُّ شَأنِ التَّنزيلِ [54] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/190)، ((تفسير الألوسي)) (15/442). !
- ومِن بَديعِ النَّظمِ وإعجازِه: إيثارُ كَلِماتِ (العادياتِ وضَبْحًا، والمُورياتِ وقَدْحًا، والمُغيراتِ وصُبْحًا، ووسَطْنَ وجَمْعًا) دونَ غيرِها؛ لأنَّها بِرَشاقَتِها تَتحمَّلُ أنْ يكونَ المُقسَمُ به خَيلَ الغزْوِ ورَواحِلَ الحجِّ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/501). .
- قولُه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا عُطِفَت هذه الأوصافُ الثَّلاثةُ الأُولى بالفاءِ؛ لأنَّ أُسلوبَ العرَبِ في عطْفِ الصِّفاتِ وعطْفِ الأمكنةِ أنْ يكونَ بالفاءِ، وهي للتَّعقيبِ، والأكثَرُ أنْ تكونَ لتَعقيبِ الحُصولِ كما في هذه الآيةِ. والفاءُ العاطفةُ لقولِه: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا عاطفةٌ على وَصْفِ المُغيراتِ، والمعطوفُ بها مِن آثارِ وَصْفِ المُغيراتِ، وليستْ عاطفةً على صِفةٍ مُستقِلَّةٍ مِثلَ الصِّفاتِ الثَّلاثِ الَّتي قبْلَها؛ لأنَّ إثارةَ النَّقْعِ وتَوسُّطَ الجمْعِ مِن آثارِ الإغارةِ صُبْحًا، ولَيْسا مُقسَمًا بهما أصالةً، وإنَّما القسَمُ بالأوصافِ الثَّلاثةِ الأُولى؛ فلذلك غُيِّرَ الأُسلوبُ في قولِه: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا؛ فجِيءَ بهما فِعلَينِ ماضيَينِ، ولم يَأتِيَا على نسَقِ الأوصافِ قبْلَهما بصِيغةِ اسمِ الفاعلِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الكلامَ انتَقَلَ مِن القسَمِ إلى الحِكايةِ عن حُصولِ ما تَرتَّبَ على تلك الأوصافِ الثَّلاثةِ ما قُصِدَ منها مِن الظَّفَرِ بالمَطلوبِ الَّذي مِن أجْلِه كان العدْوُ والإيراءُ والإغارةُ عَقِبَه، وهي الحُلولُ بدارِ القَومِ الَّذين غَزَوْهم إذا كان المُرادُ بالعادياتِ الخيلَ، أو بُلوغُ تَمامِ الحجِّ بالدَّفْعِ عن عَرَفةَ إذا كان المرادُ بالعادياتِ رَواحلَ الحَجيجِ؛ فإنَّ إثارةَ النَّقعِ يَشعُرون بها عندَ الوصولِ حينَ تَقِفُ الخيلُ والإبلُ دَفْعةً، فتُثيرُ أرْجُلُها نقْعًا شَديدًا فيما بيْنَهما، وحينَئذٍ تَتوسَّطْنَ الجمْعَ مِن النَّاسِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/501، 502). .
- وأيضًا الفاءاتُ في قولِه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا للدَّلالةِ على تَرتُّبِ ما بعْدَ كُلٍّ مِنها على ما قبْلَها؛ فإنَّ تَوسُّطَ الجمْعِ مُترتِّبٌ على الإثارةِ المُترَتِّبةِ على الإيراءِ المُترتِّبِ على العَدْوِ [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/190، 191). .
- وفي المُخالَفةِ بيْن المَعطوفِ والمعطوفِ عليه في هذه الآياتِ سِرٌّ بَديعٌ، وهو تَصويرُ هذه الأفعالِ في النَّفْسِ، وتَجسيدُها أمامَ العينِ؛ فإنَّ التَّصويرَ يَحصُلُ بإيرادِ الفعلِ بعْدَ الاسمِ؛ لِما بيْنَهما مِن التَّخالُفِ، وهو أبلَغُ مِن التَّصويرِ والتَّجسيدِ بالأسماءِ المُتناسِقةِ، وكذلك التَّصويرُ بالمُضارعِ بعْدَ الماضي، وإنَّما وُصِفَت بالأوصافِ الثَّلاثِ؛ ليُرتَّبَ عليها ما قُصِدَ مِن الظَّفَرِ بالفتْحِ وغَلَبةِ العدُوِّ، فأوقَعَ الفِعلَينِ الماضيَينِ مُسبَّبَينِ عن أسماءِ الفاعِلينَ، فأفاد أنَّ تلك المُداوَمةَ إنَّما حقَّقَت هاتَينِ البُغْيتَينِ [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/786)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/550)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/559). .
- ومُناسَبةُ القَسَمِ بهذه المَوصوفاتِ دونَ غيرِها -إنْ أُرِيدَ بالعادياتِ وما عُطِفَ عليها خَيلُ الغُزاةِ-، هو التَّهويلُ والتَّرويعُ؛ لإشعارِ المشرِكين بأنَّ غارةً تَترَقَّبُهم، وهي غَزوةُ بدْرٍ، وإنْ أُرِيدَ رَواحلُ الحَجيجِ فالقسَمُ بها مِن أجْلِ أنْ يُصدِّقَ المشرِكون بوُقوعِ المقسَمِ عليه؛ لأنَّ القسَمَ بشَعائرِ الحجِّ لا يكونُ إلَّا بارًّا، حيث هم لا يُصدِّقون بأنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ، ويَزعُمونه قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/502). قال ابنُ عاشور: (وعلى وجهِ أنَّ المُقسَمَ به رَواحلُ الحجِّ، فالقسَمُ بها لتَعظيمِها بما تُعِينُ به على مَناسكِ الحجِّ، واختِيرَ القسَمُ بها؛ لأنَّ السَّامعينَ يُوقِنونَ أنَّ ما يُقسَمُ عليه بها مُحقَّقٌ؛ فهي مُعظَّمةٌ عندَ الجَميعِ مِن المشرِكين والمسلِمينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/499). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
- الألِفُ واللَّامُ في الْإِنْسَانَ للجِنسِ، وهو يُفيدُ الاستغراقَ غالبًا، أي: إنَّ في طَبْعِ الإنسانِ الكُنودَ لرَبِّه، أي: كُفرانَ نِعمتِه [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/502، 503). .
- وتَقديمُ لِرَبِّهِ لإفادةِ الاهتمامِ بمُتعلَّقِ هذا الكُنودِ؛ لتَشنيعِ هذا الكُنودِ بأنَّه كُنودٌ للرَّبِّ الَّذي هو الأحقُّ بالشُّكرِ، وأعظَمُ ذلك شِركُ المشرِكينَ، ولذلك أُكِّدَ الكلامُ بلامِ الابتداءِ الدَّاخلةِ على خبَرِ (إنَّ)؛ للتَّعجيبِ مِن هذا الخبَرِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/504). .
3- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
- قولُه: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، شَهيدٌ، أي: مُقِرٌّ، والمعْنى: أنَّ الإنسانَ مُقِرٌّ بكُنودِه لرَبِّه مِن حيث لا يَقصِدُ الإقرارَ، والمَقصودُ مِن هذه الجُملةِ تَفظيعُ كُنودِ الإنسانِ بأنَّه مَعلومٌ لصاحبِه بأدْنى تَأمُّلٍ في أقوالِه وأفعالِه. ويَجوزُ أنْ يكونَ شَهيدٌ بمعْنى عَليمٍ، ومُتعلَّقُ (شَهِيدٌ) مَحذوفًا دلَّ عليه المَقامُ، أي: عَليمٌ بأنَّ اللهَ ربُّه، أي: بدَلائلِ الرُّبوبيَّةِ، ويكونَ قولُه: عَلَى ذَلِكَ بمعْنى: مع ذلك، أي: مع ذلك الكُنودِ هو عَليمٌ بأنَّه ربُّه مُستحِقٌّ للشُّكرِ والطَّاعةِ لا للكُنودِ، والجارُّ والمَجرورُ في مَوضعِ الحالِ، وذلك زِيادةٌ في التَّعجيبِ مِن كُنودِ الإنسانِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/504، 505). .
- وقيل: ضَميرُ وَإِنَّهُ عائدٌ إلى (رَبِّهِ)، أي: وإنَّ اللهَ على ذلك لَشَهيدٌ، والمَقصودُ أنَّ اللهَ يَعلَمُ ذلك في نفْسِ الإنسانِ، وهذا تَعريضٌ بالتَّحذيرِ مِن الحِسابِ عليه [63] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/788)، ((تفسير البيضاوي)) (5/331)، ((تفسير أبي حيان)) (10/529)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/505)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/557). .
- وتَقديمُ عَلَى ذَلِكَ على (شَهِيدٌ)؛ للاهتمامِ والتَّعجيبِ، ومُراعاةِ الفاصلةِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/505). .
- قولُه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ نظْمُ الآيةِ أنْ يُقالَ: وإنَّه لشَديدُ الحُبِّ للخَيرِ، فلمَّا تقدَّمَ الحُبُّ قال: لَشَدِيدٌ، وحُذِفَ مِن آخِرِه ذِكرُ الحُبِّ؛ لأنَّه قد جَرى ذِكرُه، ولِرؤوسِ الآيِ [65] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/285، 286)، ((تفسير أبي حيان)) (10/530). .
- وتَقديمُ لِحُبِّ الْخَيْرِ على مُتعلَّقِه؛ للاهتمامِ بغَرابةِ هذا المُتعلَّقِ، ولمُراعاةِ الفاصلةِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/505). .
4- قولُه تعالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ فُرِّعَ على الإخبارِ بكُنودِ الإنْسانِ وشُحِّه استفهامٌ إنكاريٌّ عن عدَمِ عِلمِ الإنسانِ بوَقتِ بَعثرةِ ما في القبورِ، وتَحصيلِ ما في الصُّدورِ، فإنَّه أمرٌ عَجيبٌ كيف يَغفُلُ عنه الإنسانُ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/506). ؟!
- وقولُه: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ... تَهديدٌ ووَعيدٌ، والهمزةُ في أَفَلَا للإنكارِ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقتضيهِ المقامُ، أي: أيَفعَلُ ما يَفعَلُ مِن المَقابحِ، فلا يَعلَمُ، أو ألَا يُلاحِظُ فلا يَعلَمُ حالَهُ إذا بُعِثَ مَن في القُبورِ مِن المَوتى [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/191)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/558). ؟!
- ومَفْعولا يَعْلَمُ مَحذوفانِ اقتِصارًا، ولا دَليلَ في اللَّفظِ على تَعيينِ تَقديرِهما، فيُوكَلُ إلى السَّامعِ تَقديرُ ما يَقْتضيهِ المَقامُ مِن الوعيدِ والتَّهويلِ، ولِيَذهَبَ السَّامعُ في تَقديرِه كلَّ مَذهبٍ مُمكِنٍ قصْدًا للتَّهويلِ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/506). .
- وخُصَّ أعمالُ الصُّدورِ والقُلوبِ بالذِّكرِ؛ لأنَّها الأصلُ، وتُرِكَ ذِكرُ أعمالِ الجَوارحِ؛ لأنَّها تابعةٌ لأعمالِ القلوبِ؛ فإنَّه لولا تَحقُّقُ البَواعثِ والإراداتِ في القلوبِ لَما حَصَلَت أفعالُ الجَوارحِ؛ ولذلك جَعَلَها تعالَى الأصلَ في الذَّمِّ، فقال: آَثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] ، والأصْلَ في المدْحِ، فقال: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [70] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/263، 264)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/558، 559). [الأنفال: 2] .
5- قولُه تعالَى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا ناشئًا عن الإنكارِ، أي: كان شَأنُهم أنْ يَعلَموا اطِّلاعَ اللهِ عليهم إذا بُعثِرَ ما في القُبورِ، وأنْ يَذكُروه؛ لأنَّ وَراءَهم الحِسابَ المُدقَّقَ، وتُفيدُ هذه الجُملةُ مُفادَ التَّذييلِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/507)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/559). والتَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). .
- وتَقديمُ بِهِمْ على عامِلِه -وهو لَخَبِيرٌ- للاهتمامِ به؛ ليَعلَموا أنَّهم المقصودُ بذلك [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/507). .
وأيضًا قولُه: بِهِمْ ويَوْمَئِذٍ مُتعلِّقانِ بـ (خَبِيرٌ)؛ قُدِّمَا عليه لمُراعاةِ الفواصلِ [73] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/192). .
- وكَنَّى عنهم بعْدَ الإحياءِ الثَّاني بضَميرِ العُقلاءِ بِهِمْ بعْدَما عبَّرَ عنهم قبْلَ ذلك بـ مَا؛ بِناءً على تَفاوُتِهم في الحالَينِ؛ إيذانًا بصَلاحيتِهم للخِطابِ بعدَ نفْخِ الرُّوحِ، وبعَدَمِها قبْلَه [74] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/331، 332)، ((تفسير أبي السعود)) (9/191، 192). .