موسوعة التفسير

سورةُ المعارجِ
الآيات (36-44)

ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

قِبَلَكَ: أي في جهتِك، وما يَليك، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [215] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51)، ((المفردات)) للراغب (ص: 654)، ((تفسير ابن عطية)) (5/370)، ((تفسير ابن جزي)) (2/412). .
مُهْطِعِينَ: أي: مُسرِعينَ مُقبِلينَ، وأصلُ (هطع): يدُلُّ على إقبالٍ على الشَّيءِ، وانقيادٍ [216] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 233، 431)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 442)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/56)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 416)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 397). .
عِزِينَ: أي: جماعاتٍ مُتفَرِّقةً، واحِدُها: عِزَةٌ، وهي: العُصبةُ مِنَ النَّاسِ، وهو مِن المنقوصِ الَّذي جاز جمعُه بالواوِ والنُّونِ عِوَضًا مِنَ المحذوفِ، وأصلُها عِزْوَةٌ، وأصلُه مِن: عَزَوتُه فاعتَزَى: أي: نسَبْتُه فانتسَبَ؛ لأنَّ كُلَّ فِرقةٍ تَعتَزي -تنتَسِبُ- إلى غَيرِ ما تعتَزي إليه الفِرقةُ الأُخرى، وأصلُ (عزو): يدُلُّ على انتِماءٍ واتِّصالٍ [217] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 486)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص:347)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/309)، ((البسيط)) للواحدي (22/233)، ((المفردات)) للراغب (ص: 565)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/412). .
الْأَجْدَاثِ: أي: القُبورِ، واحِدُها: الجَدَثُ [218] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/436)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 349)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 52). .
نُصُبٍ: واحِدُ الأنصابِ: وهي حِجارةٌ كانت حوْلَ الكَعبةِ تُنصَبُ، فيُهَلُّ عليها، ويُذبَحُ عليها لغيرِ اللهِ تعالى، وقد كَثُرَ استِعمالُ هذا الاسمِ في الأصنامِ حتَّى قيلَ لها: الأنصابُ، ووَجهُ تَسميتِها نُصُبًا أنَّها تُنصَبُ للعِبادةِ، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ [219] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((تفسير البغوي)) (8/226)، ((تفسير ابن عطية)) (5/371)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 138)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/183). .
يُوفِضُونَ: أي: يُسرِعُونَ، يُقالُ: أوْفَضَ إِيفاضًا: أَسْرَع [220] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 486)، ((تفسير ابن جرير)) (23/286)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 539)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/130)، ((المفردات)) للراغب (ص: 877). .
خَاشِعَةً: أي: ذليلةً خاضِعةً، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التَّطامُنِ [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/287)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((تفسير القرطبي)) (18/250)، ((تفسير ابن كثير)) (8/230). .
تَرْهَقُهُمْ: أي: تَغشاهم وتَلحَقُهم، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ [222] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451)، ((تفسير البغوي)) (8/226). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُنْكِرًا على الكفَّارِ الَّذين كانوا في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: فما لكُفَّارِ قُرَيشٍ -يا محَمَّدُ- يُسرِعونَ نَحوَك مُتطَلِّعةً أبصارُهم إليك، مُتفَرِّقينَ عن يمينِك وعن شِمالِك؟! أيطمَعُ كلُّ واحدٍ منهم أن يُدخِلَه اللهُ جَنَّةَ نَعيمٍ؟! كلَّا! ليس الأمرُ كما يَطمَعونَ، إنَّا خلَقْناهم مِن نُطفةٍ كما يَعلَمونَ.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما يدُلُّ على كمالِ قدرتِه، مهدِّدًا الكافِرينَ، ومحقِّرًا مِن شأنِهم، فيقولُ: فلا أُقسِمُ برَبِّ المشارِقِ والمغارِبِ، إنَّا لَقادِرونَ على إهلاكِ المُشرِكينَ، والإتيانِ بقَومٍ خَيرٍ مِنهم، وما يَفوتُنا منهم أحَدٌ، فيُعجِزَنا هَرَبًا؛ فاترُكِ المُشرِكينَ -يا محَمَّدُ- يخوضُوا في باطِلِهم، ويَلعَبوا حتَّى يُلاقُوا يومَ القيامةِ الَّذي فيه عَذابُهم؛ يومَ يَخرُجونَ مِن قُبورِهم مُسرِعينَ نَحوَ مَوقِفِ الحِسابِ، كأنَّهم يَسْعَونَ مُتعَجِّلينَ إلى أصنامِهم المَنصوبةِ الَّتي كانوا يتقَرَّبونَ إليها بالعِبادةِ وغَيرِها في الدُّنيا؛ خاضِعةً ساكِنةً أبصارُهم، وتَغْشاهم ذِلَّةٌ.
ذلك اليَومُ الموصوفُ بتلك الشَّدائِدِ هو اليومُ الَّذي كانوا يُوعَدونَ به في الدُّنيا!

تفسير الآيات:

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36).
أي: فما شأنُ كُفَّارِ قُرَيشٍ -يا محَمَّدُ- يُسرِعونَ نَحوَك ويُقبِلونَ عليك وأبصارُهم مُتطَلِّعةٌ إليك [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/277، 278)، ((تفسير ابن عطية)) (5/370)، ((تفسير الشوكاني)) (5/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قيل: مُهْطِعِينَ بمعنى: مُسرِعينَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: الشوكانيُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/351)، ((تفسير القاسمي)) (9/320). وقيل: مُسرِعينَ نافِرينَ منه. وممَّن نصَّ على هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/228). وقيل المعنى: يُديمونَ النَّظرَ إليك، ويَتطَلَّعونَ نحوَك. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1133). وقيل: هذا النَّظرُ نظَرُ تعجُّبٍ. نسَب الماوَرْديُّ هذا المعنى إلى الكلبيِّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/96). وقيل: هو نظرُ عداوةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن قال بهذا: الزَّجَّاجُ، وابنُ الجَوزيِّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/223)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/339). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (22/233). قال ابن جرير: (والإهطاعُ في كلامِ العربِ بمعنَى الإسراعِ أشهَرُ منه بمعنَى إدامةِ النَّظرِ). ((تفسير ابن جرير)) (13/707). وممَّن جمَع بيْنَ معنَيَيِ السُّرعةِ وإدامةِ النَّظرِ: العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (7/164). وقال ابن عطيَّة: (المُهطِعُ: الَّذي يَمشي مُسرِعًا إلى شيءٍ، قد أقبَل عليه ببصَرِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/370). وقال الواحديُّ بعد أن ذكر أقوالَ العلماءِ: (والجامعُ لهذه الأقوالِ قولُ مَن قال: الإهطاعُ: إسراعٌ مع إدامةِ نظرٍ). ((البسيط)) (12/498). وقال ابن عاشور: (الإهطاعُ: مَدُّ العُنقِ عندَ السَّيرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/176). وممَّن جمَع بيْن المعاني الثَّلاثةِ -وهي: الإسراعُ، وتصويبُ النَّظرِ، ومَدُّ العُنُقِ-: البغويُّ، والزمخشري، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/154)، ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/412). وقال القرطبي: (المعنى: ما بالُهم يُسرِعون إليك، ويَجلِسونَ حَوَالَيْك، ولا يَعمَلونَ بما تأمُرُهم؟). ((تفسير القرطبي)) (18/293). ويُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/50). ؟!
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37).
أي: عن يمينِك وعن شِمالِك -يا محمَّدُ- مُتفَرِّقينَ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/278)، ((تفسير ابن كثير)) (8/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). عباراتُ المفسِّرينَ في تفسيرِ قولِه تعالى: عِزِينَ مُتقارِبةٌ؛ فقيل: عِزِينَ، أي: حِلَقًا حِلَقًا، فلا يَدنُونَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَنتَفِعونَ بمَجلِسِه. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/438)، ((تفسير السمرقندي)) (3/497). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (23/278)، ((تفسير القاسمي)) (9/320). وقيل: عِزِينَ أي: فِرَقًا شَتَّى. وممَّن قاله: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، والنيسابوري، والعُلَيمي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((تفسير البيضاوي)) (5/247)، ((تفسير النسفي)) (3/539)، ((تفسير النيسابوري)) (6/359)، ((تفسير العليمي)) (7/164)، ((تفسير أبي السعود)) (9/34). وقال الواحدي: (عِزِينَ جماعاتٍ حِلَقًا حِلَقًا، وذلك أنَّهم كانوا يَجتَمِعونَ عندَه، ويَستهزِئونَ به وبأصحابِه، ويقولونَ: لئنْ دخَل هؤلاء الجنَّةَ فلَندخُلَنَّها قبْلَهم). ((الوجيز)) (ص: 1134). وقال ابنُ كَثيرٍ: (عِزِينَ واحدُها عِزَةٌ، أي: مُتفرِّقينَ. وهو حالٌ مِن مُهْطِعِينَ، أي: في حالِ تَفرُّقِهم واختلافِهم، كما قال الإمامُ أحمدُ في أهلِ الأهواءِ: فهُمْ مُخالِفون للكِتابِ، مُختلِفون في الكِتابِ، متَّفِقون على مُخالَفةِ الكِتابِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/228). ويُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 56). وقال البِقاعي: (عِزِينَ أي: حالَ كَونِهم جماعاتٍ جماعاتٍ، وحِلَقًا حِلَقًا، متفرِّقينَ فِرَقًا شتَّى أفواجًا يتمهَّلونَ ليأتوا جميعًا). ((نظم الدرر)) (20/412). .
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38).
أي: أيطمَعُ كلُّ واحدٍ مِن أولئكَ المُشرِكينَ أن يُدخِلَه اللهُ جَنَّةَ نَعيمٍ يومَ القيامةِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/281)، ((تفسير ابن كثير)) (8/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). ؟!
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا احتَجَّ على صِحَّةِ البعثِ، دلَّ على أنَّهم كانوا مُنكِرين للبَعثِ، فكأنَّه قِيل لهم: كلَّا إنَّكم مُنكِرونَ للبعثِ، فمِن أينَ تَطمَعونَ في دُخولِ الجنَّةِ [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/647). ؟!
وأيضًا فإنَّ المستهزِئينَ كانوا يَستحقِرونَ المؤمنينَ، فأخبَرَ تعالَى أنَّ هؤلاء المسْتهزِئين مَخلوقونَ ممَّا خُلِقوا؛ فكيف يَليقُ بهم هذا الاحتقارُ [227] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/647). ؟!
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39).
أي: ليس الأمرُ كما يَطمَعون، فليس لهم أن يَدخُلوا الجنَّةَ مع كُفرِهم باللهِ وإشراكِهم به، إنَّا خلَقْناهم مِن نُطفةٍ كما يَعلَمونَ [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/282)، ((تفسير القرطبي)) (18/294)، ((تفسير ابن كثير)) (8/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قال ابن جُزَي: (وفي المقصودِ بهذا الكلامِ ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: تحقيرُ الإنسانِ، والرَّدُّ على المتكبِّرينَ. الثَّاني: الرَّدُّ على الكُفَّارِ في طمَعِهم أن يَدخُلوا الجنَّةَ، كأنَّه يقولُ: إنَّا خلَقْناكم ممَّا خلَقَنا منه النَّاسَ، فلا يَدخُلُ أحدٌ الجنَّةَ إلَّا بالعملِ الصَّالحِ؛ لأنَّكم سواءٌ في الخِلقةِ. الثَّالث: الاحتِجاجُ على البعثِ بأنَّ الله خلَقهم مِن ماءِ مَهينٍ، فهو قادرٌ على أن يُعيدَهم، كقولِه: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [القيامة: 37] إلى آخرِ السُّورةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/412). ممَّن قال بنحوِ القولِ الأوَّلِ: الشوكانيُّ، والسعديُّ. قال الشوكاني: (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي: مِنَ القَذَرِ الَّذين يَعلَمونَ به؛ فلا يَنبغي لهم هذا التَّكَبُّرُ!). ((تفسير الشوكاني)) (5/352). وقال السعدي: (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي: مِن ماءٍ دافِقٍ، يَخرُجُ مِن بيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائبِ، فهم ضُعفاءُ، لا يَملِكونَ لأنفُسِهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 888). وممَّن قال بمعنى القولِ الثَّاني: ابنُ جرير، والسَّمعانيُّ، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/282)، ((تفسير السمعاني)) (6/51)، ((تفسير البغوي)) (5/154)، ((تفسير ابن عطية)) (5/370)، ((تفسير القرطبي)) (18/294). وممَّن قال بمعنى القولِ الثَّالثِ: الرازيُّ، وأبو حيَّان، وابن كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/647)، ((تفسير أبي حيان)) (10/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/229)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/178). وقيل: المعنى: أنَّهم خُلِقوا مِن نُطفةٍ، فمَن قدَرَ على ذلك فلا يُعجِزُه إهلاكُهم؛ فلْيَحذَروا عاقِبةَ البَغيِ والفَسادِ. قاله القاسمي. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/320). وقيل: المعنى: إنَّا خَلَقْناهم مِن أجْلِ ما يَعلَمونَ، وهو امتِثالُ الأمرِ والنَّهيِ، وتعرُّضِهم للثَّوابِ والعِقابِ، كما في قولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/352). .
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40).
أي: فلا أُقسِمُ بخالِقِ ومُدَبِّرِ المشارِقِ والمغارِبِ، إنَّا لَقادِرونَ [229] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/295)، ((الوسيط)) للواحدي (4/355)، ((تفسير ابن كثير)) (8/229)، ((تفسير الشوكاني)) (5/353). قال ابن كثير: (وتقديرُ الكلامِ: ليسَ الأمرُ كما يَزعمونَ أنْ لا معادَ ولا حسابَ، ولا بعثَ ولا نشورَ، بل كلُّ ذلك واقعٌ وكائنٌ لا مَحالةَ. ولهذا أتى بـ «لا» في ابتداءِ القسَمِ؛ لِيدُلَّ على أنَّ المُقْسَمَ عليه نفيٌ، وهو مضمونُ الكلامِ، وهو الرَّدُّ على زعمِهم الفاسِدِ في نفْيِ يومِ القيامةِ، وقد شاهَدوا مِن عظيمِ قدرةِ اللهِ تعالَى ما هو أبلغُ مِن إقامةِ القيامةِ، وهو خلقُ السَّمواتِ والأرضِ، وتسخيرُ ما فيهما مِن المخْلوقاتِ مِن الحيواناتِ والجماداتِ، وسائرِ صنوفِ الموجوداتِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/229). وقال الشوكاني: (قولُه: فَلَا أُقْسِمُ «لا» زائدةٌ...، والمعنَى: فأُقسِمُ برَبِّ المشارِقِ والمغارِبِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/353). وقال ابنُ القيِّم: (أقسَمَ سُبحانَه برَبِّ المشارِقِ والمغارِبِ، وهي إمَّا مَشارِقُ النُّجومِ ومَغارِبُها، أو مَشارِقُ الشَّمسِ ومَغارِبُها، أو أنَّ كُلَّ مَوضعٍ مِنَ الجِهةِ مَشرِقٌ ومَغرِبٌ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 194). وممَّن قال بأنَّ المراَد: مَشارِقُ الكواكِبِ، كالشَّمسِ والقَمَرِ وغَيرِهما: ابنُ عطية، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/371)، ((تفسير ابن كثير)) (8/229)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: مَشارِقُ الشَّمسِ ومَغارِبُها: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمعانيُّ، والقرطبي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/439)، ((تفسير السمعاني)) (6/52)، ((تفسير القرطبي)) (18/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/179)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/305). وممَّن قال بمعنى هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/283)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/38)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/286). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (هو مِئةٌ وثمانون مَشرِقًا، ومِئةٌ وثمانون مَغرِبًا، في كُلِّ مَنزلةٍ تَطلُعُ يومَينِ في السَّنةِ، تطلُعُ فيها الشَّمسُ، وتَغرُبُ فيها). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/439). وقيل: المرادُ: مَشارِقُ ومغاربُ الشَّمسِ والقَمَرِ. وممَّن قال بهذا: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/224). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/284)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/286). قال ابنُ القيِّم: (أقسَمَ سُبحانَه على عُمومِ قُدرتِه وكَمالِها وصِحَّةِ تعَلُّقِها بإعادتِهم بعدَ العدَمِ، فذكرَ المَشارِقَ والمغارِبَ بلَفظِ الجَمعِ؛ إذ هو أدَلُّ على المقسَمِ عليه، سواءٌ أُريدَ مَشارِقُ النُّجومِ ومَغارِبُها، أو مَشارِقُ الشَّمسِ ومَغارِبُها، أو كُلُّ جزءٍ مِن جهتَيِ المشرِقِ والمغرِبِ؛ فكُلُّ ذلك آيةٌ ودَلالةٌ على قُدرتِه تعالى على أن يُبَدِّلَ أمثالَ هؤلاء المكَذِّبينَ، ويُنشِئَهم فيما لا يَعلَمونَ، فيأتيَ بهم في نَشأةٍ أُخرى كما يأتي بالشَّمسِ كُلَّ يومٍ مِن مَطلَعٍ، ويَذهَبُ بها في مَغرِبٍ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 195). وقيل: المرادُ: مَشارِقُ الأرضِ ومَغارِبُها. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/282). .
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41).
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ.
أي: إنَّا لَقادِرونَ على إهلاكِ المُشرِكينَ، والإتيانِ بقَومٍ خَيرٍ مِنهم يُطيعونُ رَبَّهم، ويَتَّقونَه [230] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/439)، ((تفسير ابن جرير)) (23/282)، ((الوسيط)) للواحدي (4/355)، ((تفسير القرطبي)) (18/295)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 196، 197)، ((تفسير الشوكاني)) (5/353). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، وابن القيِّم، والشوكاني. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابن كثير: (أيْ: يومَ القيامةِ نُعيدُهم بأبدانٍ خيرٍ مِن هذه، فإنَّ قدرَتَه صالِحةٌ لذلك... كما قال تعالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3، 4]، وقال تعالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 60، 61]). وذكر أنَّ هذا القولَ (أظهرُ؛ لدَلالةِ الآياتِ الأُخَرِ عليه). ((تفسير ابن كثير)) (8/229). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). وقال ابنُ عاشور: (يحتَمِلُ مَعنَيينِ؛ أوَّلُهما -وهو المناسِبُ للسِّياقِ-: أن يكونَ المعنى: على أن نُبَدِّلَهم خَيرًا منهم، أي: نُبدِّلَ ذَواتِهم خَلقًا خَيرًا مِن خَلْقِهم الَّذي هم عليه اليومَ... والمعنى الثَّاني: أن نُبدِّلَ هؤلاء بخيرٍ منهم، أي: بأمَّةٍ خَيرٍ منهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/180). .
كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133].
وقال الله سُبحانَه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.
أي: وما يَفوتُنا منهم أحَدٌ، فيُعجِزَنا هَرَبًا؛ فاللهُ تعالى قادِرٌ على الإتيانِ بخَيرٍ منهم؛ إذ لا يمتَنِعُ عليه شَيءٌ سُبحانَه [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/282)، ((تفسير القرطبي)) (18/295)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 196). .
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثبَت أنَّ لله سُبحانَه العَظَمةَ البالِغةَ الباهِرةَ، مِن شُمولِ العِلمِ، وتمامِ القُدرةِ، فأنتَج اعتِمادَ أهلِ حِزْبِه عليه، وإعراضَهم عن كلِّ ما سِواه؛ سبَّب عن ذلك قولَه تهديدًا للمُخالِفينَ، وتسليةً للمؤالِفينَ [232] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/418). :
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42).
أي: فاترُكِ المُشرِكينَ -يا محمَّدُ- يَخوضُوا في باطِلِهم، ويَلعَبوا في دُنياهم بشَهَواتِهم، إلى أن يُلاقُوا يومَ القيامةِ الَّذي فيه عَذابُهم [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/284)، ((تفسير القرطبي)) (18/296)، ((تفسير ابن كثير)) (8/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قال القرطبي: (أي: اترُكْهم يَخوضوا في باطِلِهم، ويَلعَبوا في دُنياهم، على جِهةِ الوَعيدِ، واشتَغِلْ أنت بما أُمِرْتَ به، ولا يَعظُمَنَّ عليك شِركُهم؛ فإنَّ لهم يومًا يَلقَونَ فيه ما وُعِدوا). ((تفسير القرطبي)) (18/296). وقال ابنُ عاشور: (الخَوضُ: الكلامُ الكثيرُ، والمرادُ: خَوضُهم في القرآنِ، وشأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلِمينَ. واللَّعِبُ: الهَزْلُ والهُزْءُ، وهو لَعِبُهم في تلقِّي الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، وخُروجُهم عن حدودِ التَّعَقُّلِ والجِدِّ في الأمرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/182). !
كما قال الله تبارك وتعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] .
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43).
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا.
أي: يومَ يخرُجُ المشركون مِن قُبورِهم مُسرِعينَ نَحوَ مَوقِفِ الحِسابِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/284)، ((الوسيط)) للواحدي (4/355)، ((تفسير ابن عطية)) (5/371)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 200، 201)، ((تفسير ابن كثير)) (8/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قال ابن جرير: (وقولُه: يَوْمَ يَخْرُجُونَ بيانٌ وتوجيهٌ عن اليومِ الأوَّلِ الَّذي في قولِه: يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [المعارج: 42] ، وتأويلُ الكلامِ: حتَّى يُلاقوا يومَهم الَّذي يُوعَدونَه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/284). .
كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 44] .
وقال سُبحانَه: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 7، 8].
كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: نُصُبٍ بضَمِّ النُّونِ والصَّادِ. قيل: بمعنى الأصنامِ المَنصوبةِ [235] قرأ بها ابنُ عامرٍ، وحفصٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/391). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/224)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 353)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/92)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 724، 725). .
2- قراءةُ: نَصْبٍ بفَتحِ النُّونِ. قيل: بمعنى: العَلَمِ المَنصوبِ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحِدٍ [236] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/391). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/224)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 353)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/92)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 724، 725). .
كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ.
أي: يَخرُجونَ منِ قُبورِهم كأنَّهم يَسعَونَ مُتعَجِّلينَ مُسرِعينَ إلى أصنامِهم الَّتي نصَبوها للعبادةِ يَبْتَدِرونَ، أيُّهم يَسْتَلِمُه أوَّلَ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/285)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/208)، ((تفسير ابن كثير)) (8/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/183). قال ابنُ القيِّم: (المقصودُ: أنَّ النُّصُبَ كُلُّ شَيءٍ نُصِبَ؛ مِن خَشَبةٍ، أو حَجَرٍ، أو عَلَمٍ). ((إغاثة اللهفان)) (1/208). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/421). وقال ابن عطية: (النُّصُبُ: ما نُصِبَ للإنسانِ، فهو يَقصِدُ مُسرِعًا إليه؛ مِن عَلَمٍ، أو بِناءٍ، أو صَنَمٍ لأهلِ الأصنامِ. وقد كثُر استِعمالُ هذا الاسمِ في الأصنامِ حتَّى قيل لها: الأنصابُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/371). وقال ابن كثير: (أي: كأنَّهم في إسْراعِهم إلى الموقفِ كما كانوا في الدُّنيا يُهَرْوِلونَ إلى النُّصُبِ إذا عايَنوه يُوفِضُونَ: يَبْتَدِرونَ، أيُّهم يَسْتَلِمُه أوَّلَ. وهذا مرويٌّ عن مُجاهدٍ، ويحيى بنِ أبي كثيرٍ، ومُسلمٍ البَطينِ، وقَتادةَ، والضَّحَّاكِ، والرَّبيعِ بنِ أنسٍ، وأبي صالحٍ، وعاصمِ بنِ بَهْدلةَ، وابنِ زَيدٍ، وغيرِهم). ((تفسير ابن كثير)) (8/230). .
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44).
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
أي: تكونُ أبصارُهم يومَ القيامةِ خاضِعةً ساكِنةً، وتَغْشاهم ذِلَّةٌ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/287)، ((تفسير القرطبي)) (18/297)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 201)، ((تفسير ابن كثير)) (8/230)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 888). قال السعدي: (ذلك أنَّ الذِّلَّةَ والقَلَقَ قد مَلَك قُلوبَهم، واستَولى على أفئِدتِهم؛ فخشَعَت منهم الأبصارُ، وسكَنَت منهم الحَرَكاتُ، وانقطَعَت الأصواتُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس: 27].
وقال سبحانه: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 8، 9].
ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
أي: ذلك اليَومُ الموصوفُ بتلك الشَّدائِدِ هو يومُ القيامةِ الَّذي كان الكُفَّارُ يُوعَدونَ به في الدُّنيا على ألسِنةِ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ، وكانوا به يُكذِّبونَ [239] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/439)، ((تفسير ابن جرير)) (23/287)، ((تفسير القرطبي)) (18/297)، ((تفسير الشوكاني)) (5/354). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يُوعَدُونَ فيه في الدُّنيا العَذابَ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/439). وقال ابنُ جريرٍ: (يُوعَدونَ في الدُّنيا أنَّهم لاقُوه في الآخِرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/287). !

 الفوائد التربوية:

قال تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وهذا تهديدٌ شديدٌ يتضمَّنُ: اتْرُكْ هؤلاءِ الَّذين قامَت عليهم حُجَّتي فلم يَقْبَلوها، ولم يَخافوا بَأْسي، ولا صَدَّقوا رسالاتي في خَوضِهم بالباطلِ ولَعِبِهم، فالخَوضُ بالباطلِ ضِدُّ التَّكلُّمِ بالحقِّ، واللَّعِبُ ضِدُّ السَّعْيِ الَّذي يَعودُ نَفْعُه على ساعيه، فالأوَّلُ ضِدُّ العِلمِ النَّافعِ، والثَّاني ضدُّ العملِ الصَّالحِ؛ فلا تَكَلَّمَ بالحقِّ، ولا عَمِل بالصَّوابِ! وهذا شأنُ كلِّ مَن أعرَض عمَّا جاء به الرَّسولُ، لا بُدَّ له مِن هذَينِ الأمْرَينِ [240] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 200). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ إذا تأمَّلْتَ ارتباطَ إحدى الجُملتَينِ بالأُخرى وجدْتَ تحتَها كَنزًا عظيمًا مِن كنوزِ المعرفةِ والعلمِ؛ فأشار سُبحانَه بمَبدَأِ خلْقِه ممَّا يَعلَمونَ مِن النُّطفةِ وما بعدَها إلى موضِعِ الحُجَّةِ والآيةِ الدَّالَّةِ على وُجودِه ووحدانيَّتِه وكَمالِه، وتَفَرُّدِه بالرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ، وأنَّه لا يَحْسُنُ به مع ذلك أنْ يَترُكَهم سُدًى، لا يُرسِلُ إليهم رَسولًا، ولا يُنزِلُ عليهم كِتابًا، وأنَّه لا يَعْجِزُ مع ذلك أنْ يَخْلُقَهم -بعدَ ما أماتَهم- خَلْقًا جديدًا، ويَبعَثَهم إلى دارٍ يُوَفِّيهم فيها أعمالَهم مِن الخَيرِ والشَّرِّ، فكيف يَطْمَعونَ في دُخولِ الجنَّةِ وهم يَكْذِبونَ ويُكَذِّبون رُسُلِي، ويَعْدِلُون بي خَلْقي وهم يَعلمونَ مِن أيِّ شَيءٍ خَلَقْتُهم؟! ويُشْبِهُ هذا قولَه تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] ، وهم كانوا مُصَدِّقينَ بأنَّه خالِقُهم، ولكنِ احتجَّ عليهم بخَلْقِه لهم على تَوحيدِه ومعرفتِه وصِدْقِ رُسُلِه، والإيمانِ بالمَعادِ، وهو سُبحانَه يُذَكِّرُ عبادَه بنِعَمِه عليهم، ويَدعوهم بها إلى مَعرفتِه ومحبَّتِه، وتصديقِ رُسُلِه، والإيمانِ بلِقائِه [241] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 36). .
2- في قَولِه تعالى: الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ جاء المشرقُ والمغربُ في القرآنِ: تارةً مجموعَينِ، وتارةً مُثَنَّيَينِ، وتارةً مُفرَدينِ، ووجْهُ ذلك: اختِصاصُ كلِّ محَلٍّ بما يَقتضيه مِن ذلك؛ فالأوَّلُ: كقولِه: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، والثَّاني: كقولِه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 17، 18]، والثَّالثُ: كقولِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9]، فتأمَّلْ هذه الحكمةَ البالغةَ في تغايُرِ هذه المواضعِ في الإفرادِ والجمعِ والتَّثنيةِ بحسَبِ مواردِها يُطْلِعْك على عظَمةِ القرآنِ الكريمِ وجلالتِه؛ وأنه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ، فحيثُ جُمِعَتْ كان المرادُ بها مَشارِقَ الشَّمسِ ومَغارِبَها في أيَّامِ السَّنَةِ -وهي متعدِّدةٌ-، وحيثُ أُفْرِدَتْ كان المرادُ أُفُقَيِ المشرقِ والمغربِ، وحيثُ ثُنِّيَا كان المرادُ مَشرِقَيْ صُعودِها وهُبوطِها ومَغرِبَيْهِما؛ فإنَّها تَبْتَدِئُ صاعدةً حتَّى تنتهيَ إلى غايةِ أَوْجِها وارتفاعِها؛ فهذا مَشْرِقُ صُعودِها، ويَنْشَأُ منه فصْلَا الخريفِ والشِّتاءِ؛ فجَعَلَ مَشْرِقَ صُعودِها بجملتِه مَشرِقًا واحدًا؛ ومَشرِقَ هُبوطِها بجملتِه مَشرِقًا واحدًا، ويُقابِلُها مَغْرِباها، فهذا وجهُ اختلافِ هذه في الإفرادِ والتَّثنيةِ والجمعِ [242] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/121). . وذلك على قولٍ.
3- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ مُناسَبةٌ في ذِكْرِ مجيئِهما مجموعَينِ: أنَّه لَمَّا كان هذا القَسَمُ في سياقِ سَعَةِ رُبوبيَّتِه، وإحاطةِ قدرتِه، والمُقْسَمُ عليه إذهابُ هؤلاءِ والإتيانُ بخيرٍ منهم؛ ذَكَر المَشارِقَ والمغاربَ لِتَضمُّنِهما انتِقالَ الشَّمسِ -الَّتي هي أحدُ آياتِه العظيمةِ الكبيرةِ- ونَقْلَه سُبحانَه لها وتصريفَها كلَّ يومٍ في مشرقٍ ومغربٍ -وذلك على قولٍ-؛ فمَن فَعَلَ هذا كيف يُعجِزُه أنْ يُبَدِّلَ هؤلاء، ويَنقُلَ إلى أمكنتِهم خيرًا منهم؟! وأيضًا فإنَّ تأثيرَ مَشارِقِ الشَّمسِ ومَغاربِها في اختلافِ أحوالِ النَّباتِ والحيوانِ أمْرٌ مشهودٌ؛ وقد جَعَل اللهُ تعالى ذلك بحِكمتِه سببًا لِتَبَدُّلِ أجسامِ النَّباتِ وأحوالِ الحيواناتِ، وانتقالِها مِن حالٍ إلى غيرِه، ويُبَدِّلُ الحَرَّ بالبردِ والبردَ بالحَرِّ، والصَّيفَ بالشِّتاءِ والشِّتاءَ بالصَّيفِ؛ إلى سائرِ تَبَدُّلِ أحوالِ الحيوانِ والنَّباتِ والرِّياحِ والأمطارِ والثُّلوجِ وغيرِ ذلك مِن التَّبدُّلاتِ والتَّغيُّراتِ الواقعةِ في العالَمِ بسببِ اختلافِ مَشارِقِ الشَّمسِ ومَغاربِها، كلُّ ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ؛ فكيف لا يَقدِرُ -مع ما يَشْهَدونَه مِن ذلك- على أنْ يُبَدِّلَ خيرًا منهم؟! وأَكَّدَ هذا المعنى بقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، فلا يليقُ بهذا الموضعِ سِوى لفظةِ الجَمعِ [243] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/122). .
4- قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، إنَّ تَعدُّدَ مَطالعِ الشَّمسِ ومَغارِبِها في فُصولِ السَّنةِ مَظهَرٌ عَجيبٌ مِن مَظاهرِ القُدرةِ الإلهيَّةِ والحِكمةِ الرَّبَّانيَّةِ؛ لدَلالتِه على عَظيمِ صُنعِ اللهِ مِن حيث إنَّه دالٌّ على الحرَكاتِ الحافَّةِ بالشَّمسِ الَّتي هي مِن عَظيمِ المَخلوقاتِ؛ ولذلك لم يُذكَرْ في القرآنِ قَسَمٌ بجِهةٍ غيرِ المشرِقِ والمغربِ، دونَ الشَّمالِ والجنوبِ، مع أنَّ الشَّمالَ والجنوبَ جِهتانِ مَشهورتانِ عندَ العرَبِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
5- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ سُؤالٌ: أنَّ في الآيةِ الكريمةِ أنَّهم كأنَّهم يَعرِفونَ طريقَهم بلا علاماتٍ يَذهَبونَ إليها. فما الجَمعُ مع قَولِه تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7]؟
الجوابُ: أنَّ يومَ القيامةِ خمسونَ ألْفَ سَنةٍ، وأنَّ الأحوالَ تتغيَّرُ؛ فهم كأنَّهم جرادٌ مُنتَشِرٌ، ثُمَّ بعدَ ذلك يَهتَدونَ إلى الطَّريقِ ويَسعَونَ [245] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 182). .
6- قال الله تعالى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ في خِتامِ السُّورةِ الكريمةِ بهذا الوَصفِ والوعيدِ الشَّديدِ: تأييدٌ للقَولِ بأنَّ سُؤالَهم في أوَّلِها بِعَذَابٍ وَاقِعٍ إنَّما هو استِخفافٌ واستِبعادٌ، فبيَّن لهم تعالى بعدَ عَرضِ السُّورةِ نهايةَ ما يُستَقبَلونَ به؛ لِيَأخُذوا حِذْرَهم، ويَرجِعوا إلى رَبِّهم؛ فارتبَطَ آخِرُ السُّورةِ بأوَّلِها [246] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/305). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ فُرِّعَ استِفهامٌ إنكاريٌّ وتَعجيبيٌّ مِن تَجمُّعِ المشرِكين إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُستهزِئينَ بما يَسمَعون مِن وَعْدِ المؤمِنينَ بالجنَّةِ، ووَعيدِ المشركينَ بعَذابِ جهنَّمَ؛ فُرِّعَ ذلك على ما أفادَه في قولِه: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: 35] ، والمعْنى: أنَّ الَّذين كَفَروا لا مَطمَعَ لهم في دُخولِ الجنَّةِ، فماذا يُحاوِلون بتَجمُّعِهم حولَك بمَلامحِ استِهزائِهم [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). ؟!
- وتَقديمُ الظَّرفِ قِبَلَكَ على مُهْطِعِينَ للاهتِمامِ به؛ لأنَّ التَّعجيبَ مِن حالِهم في حَضْرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقْوى؛ لِما فيهم مِن الوَقاحةِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/176). .
- والمَقصودُ مِن ذِكرِ اليمينِ الإحاطةُ بالجِهاتِ، فاكتُفِيَ بذِكرِ اليمينِ والشِّمالِ؛ لأنَّهما الجِهتانِ اللَّتانِ يَغلِبُ حُلولُهما [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/177). .
- قولُه: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ إلى قولِه: جَنَّةَ نَعِيمٍ يجوزُ أنْ يكونَ شُبِّهَ حالُهم في إسراعِهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحالِ مَن يُظَنُّ بهم الاجتِماعُ لطَلَبِ الهُدى والتَّحصيلِ على المَغفرةِ؛ ليَدخُلوا الجنَّةَ؛ لأنَّ الشَّأنَ ألَّا يَلتَفَّ حوْلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا طالِبو الاهتداءِ بهَدْيِه، والاستِفهامُ على هذا مُستعمَلٌ في أصلِ معْناهُ. ويجوزُ أنْ يكونَ الكلامُ استِفهامًا مُستعمَلًا في التَّعجيبِ مِن حالِ إسراعِهم ثمَّ تَكذيبِهم واستهزائِهم [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/177). .
- وجُملةُ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بدَلُ اشتمالٍ عن جُملةِ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الآيةَ؛ لأنَّ الْتِفافَهم حوْلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شأْنُه أنْ يكونَ لطلَبِ الهُدى والنَّجاةِ؛ فشُبِّه حالُهم بحالِ طالِبي النَّجاةِ والهُدى، فأُورِدَ استِفهامٌ عليه [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/177). .
- قولُه: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ قال المشرِكون مُستهزِئينَ: نحن نَدخُلُ الجنَّةَ قبْلَ المسلِمينَ، فجاز أنْ يكونَ الاستفهامُ إنكارًا لتَظاهُرِهم بالطَّمَعِ في الجنَّةِ بحمْلِ استهزائِهم على خِلافِ مُرادِهم، على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ [252] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مُرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأَولى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظَّاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ، أو بالتَّعبيرِ بفِعلِ (يَطمَعُ) عن التَّظاهُرِ بالطَّمَعِ [253] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/177، 178)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/218). .
- وأُسنِدَ الطمعُ إلى كُلُّ امْرِئٍ منهم دونَ أنْ يُقالَ: (أيطْمَعون أنْ يَدخُلوا الجنَّةَ؟!) تَصويرًا لحالِهم بأنَّها حالُ جَماعةٍ يُريدُ كلُّ واحدٍ منهم أنْ يَدخُلَ الجنَّةَ، لتَساويهم يَرَون أنفُسَهم سَواءً في ذلك، ففي قولِه: كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ تَقويةُ التَّهكُّمِ بهم [254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/178). .
2- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ بُنِيَ على التَّهكُّمِ في قولِه: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ما يُبطِلُ ما فُرِضَ لحالِهم بما بُنِيَ عليه بكَلمةِ الرَّدْعِ، وهي كَلَّا، أي: لا يكونُ ذلك، وذلك انتقالٌ مِن التَّهكُّمِ بهم إلى تَوبيخِهم؛ دفْعًا لتَوهُّمِ مَن يَتوهَّمُ أنَّ الكلامَ السابقَ لم يكُنْ تَهكُّمًا [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/178). .
- قولُه: كَلَّا ردْعٌ لهم عن طَمَعِهم في دُخولِ الجنَّةِ، ثم عَلَّلَ ذلك بقولِه: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ إلى آخِرِ السُّورةِ، وهو كلامٌ دالٌّ على إنكارِهم البعثَ، فكأنَّه قال: كلَّا إنَّهم مُنكِرونَ للبَعثِ والجَزاءِ، فمِن أين يَطمَعون في دُخولِ الجنَّةِ [256] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/614)، ((تفسير البيضاوي)) (5/247)، ((تفسير أبي السعود)) (9/34)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/218). ؟!
- قولُه: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ استِئنافًا ابتدائيًّا للانتقالِ مِن إثباتِ الجَزاءِ إلى الاحتجاجِ على إمكانِ البعثِ؛ إبطالًا لشُبْهتِهم الباعثةِ على إنكارِه، وهو الإنكارُ الذي ذُكِرَ إجمالًا بقولِه المتقدِّمِ آنِفًا: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج: 6، 7]، فاحتجَّ عليهم بالنَّشأةِ الأُولى، فالخبَرُ بقولِه: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ مُستعمَلٌ في لازِمِ معْناهُ، وهو إثباتُ إعادةِ خلْقِهم بعْدَ فَنائِهم، فهذا مِن تَمامِ الخِطابِ المُوجَّهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمقصودُ منه أنْ يُبلَّغَ إلى أسماعِ المشرِكينَ [257] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/34)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/178). .
- ويجوزُ أنْ يُرادَ: إنَّا خلَقْناهم ممَّا يَعلَمون، أي: مِن النُّطفةِ المَذِرةِ، وهي مَنصبُهم الذي لا مَنصِبَ أوضَعُ منه؛ ولذلك أُبهِمَ وأُخفِيَ؛ إشعارًا بأنَّه مَنصِبٌ يُسْتحيا مِن ذِكرِه، فمِن أينَ يَتشرَّفون ويدَّعون التَّقدُّمَ، ويَقولونَ: لنَدخُلَنَّ الجنَّةَ قبْلَهم [258] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/614)، ((تفسير البيضاوي)) (5/247)، ((تفسير أبي السعود)) (9/34). ؟!
- وفيه مَناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عُدِلَ هنا عن أنْ يُقالَ: (إنَّا خلَقْناهم مِن نُطفةٍ)، كما قال في آياتٍ أُخرى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 77، 78]، وغيرِها مِن آياتٍ كثيرةٍ؛ عُدِلَ عن ذلك إلى الموصولِ في قولِه: مِمَّا يَعْلَمُونَ تَوجيهًا للتَّهكُّمِ بهم؛ إذ جادَلوا وعانَدوا، وعِلْمُ ما جادَلوا فيه قائمٌ بأنفُسِهم وهم لا يَشعُرون! ومنه قولُه تعالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: 62]. وكان في قولِه تعالَى: مِمَّا يَعْلَمُونَ إيماءٌ إلى أنَّهم يُخلَقونَ الخلْقَ الثَّانيَ ممَّا لا يَعلَمونَ، كما قال في الآيةِ الأُخرى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] ، وقال: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 61] ، فكان في الخلْقِ الأوَّلِ سِرٌّ لا يَعلَمونَه [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). .
- ومَجيءُ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ مُؤكَّدًا بحرْفِ التَّأكيدِ؛ لتَنزيلِهم فيما صَدَر منهم مِن الشُّبهةِ الباطلةِ مَنزلةَ مَن لا يَعلَمون أنَّهم خُلِقوا مِن نُطفةٍ وكانوا مَعدومين؛ فكيف أحالوا إعادةَ خلْقِهم بعْدَ أنْ عُدِمَ بَعضُ أجزائِهم، وبقِيَ بَعضُها [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). ؟!
- وأُتبِعَ الكنايةُ عن إمكانِ إعادةِ الخلْقِ بالتَّصريحِ بذلك بقولِه: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مُفرَّعًا على قولِه: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ، والتَّقديرُ: فإنَّا لَقادِرون... الآيةَ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). .
3- قولُه تعالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
- قولُه: (لَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) مُعترِضٌ بيْنَ الفاءِ وما عطَفَتْه، والقسَمُ باللهِ بعُنوانِ رُبوبيَّتِه المَشارقَ والمغاربَ معْناه: رُبوبيَّتُه العالَمَ كلَّه؛ لأنَّ العالَمَ مُنحصِرٌ في جِهاتِ شُروقِ الشَّمسِ وغُروبِها [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). .
- وفي إيثارِ المشارقِ والمغاربِ بالقسَمِ بربِّها رَعْيٌ لمُناسَبةِ طُلوعِ الشَّمسِ بعْدَ غُروبِها؛ لتَمثيلِ الإحياءِ بعْدَ الموتِ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/179). .
- وقولُه: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ يَحتمِلُ مَعنيينِ؛ أوَّلُهما: أنْ يكونَ المعْنى: على أنْ نُبدِّلَهم خيرًا منهم، أي: نُبدِّلَ ذَواتِهم خلْقًا خيرًا مِن خلْقِهم الَّذي هم عليه اليومَ. والخيريَّةُ في الإتقانِ والسُّرعةِ ونحْوِهما، وإنَّما كان خلْقًا أتقَنَ مِن النَّشأةِ الأُولى؛ لأنَّه خلْقٌ مُناسِبٌ لعالَمِ الخُلودِ، وكان الخلْقُ الأوَّلُ مُناسِبًا لعالَمِ التَّغيُّرِ والفَناءِ، وعلى هذا الوجْهِ يكونُ نُبَدِّلَ مُضمَّنًا معْنى: نُعوِّضُ، ويكونُ المفعولُ الأوَّلُ لـ نُبَدِّلَ ضَميرًا مِثلَ ضَميرِ مِنْهُمْ، أي: نُبدِّلَهم، والمفعولُ الثَّاني خَيْرًا مِنْهُمْ، و(مِن) تَفضيليَّةً، أي: خيرًا في الخِلْقةِ، والتَّفضيلُ باعتبارِ اختلافِ زَمانَيِ الخلْقِ الأوَّلِ والخلْقِ الثَّاني، أو اختلافِ عالَمَيْهما. والمعْنى الثَّاني: أنْ نُبدِّلَ هؤلاء بخَيرٍ منهم، أي: بأُمَّةٍ خيرٍ منهم، والخيريَّةُ في الإيمانِ، فيكونُ (نُبدِّل) على أصلِ معْناهُ، ويكونُ مفعولُه مَحذوفًا مِثلَ ما في المعْنى الأوَّلِ، ويكونُ خَيْرًا مَنصوبًا على نَزْعِ الخافضِ، وهو باءُ البَدليَّةِ، ويكونُ هذا تَهديدًا لهم بأنْ سيَستَأْصِلَهم، ويأتِيَ بقومٍ آخَرَينَ، وفي هذا تَثبيتٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَذكيرٌ بأنَّ اللهَ عالِمٌ بحالِهِم [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/180). .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ تَذييلٌ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/180). .
4- قولُه تعالَى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ تَفريعٌ على ما تَضمَّنَه قولُه: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ [المعارج: 36] مِن إرادتِهم بفِعلِهم ذلك وقولِهم: إنَّنا نَدخُلُ الجنَّةَ، الاستهزاءَ بالقُرآنِ والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وبعْدَ إبطالِه إجْمالًا وتَفصيلًا فُرِّعَ عن ذلك أمْرُ اللهِ رسولَه بتَرْكِهم؛ للعِلمِ بأنَّهم لم يُجْدِ فيهم الهدْيُ والاستِدلالُ، وأنَّهم مُصِرُّون على العِنادِ والمُناوأةِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/181). .
- ومعْنى الأمْرِ بالتَّركِ في قولِه: فَذَرْهُمْ أنَّه أمْرٌ بتَرْكِ ما أهمَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عِنادِهم وإصرارِهم على الكُفْرِ معَ وُضوحِ الحُجَجِ على إثباتِ البعثِ، ولَمَّا كان أكبَرُ أسبابِ إعراضِهم وإصرارِهم على كُفْرِهم هو خَوضَهم ولَعِبَهم؛ كُنِّيَ به عن الإعراضِ بقولِه: يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/181). .
- وتَعديةُ فِعلِ (ذَرْ) إلى ضَميرِهم مِن قَبيلِ تَوجُّهِ الفِعلِ إلى الذَّاتِ، والمرادُ تَوجُّهُه إلى بَعضِ أحوالِها الَّتي لها اختصاصٌ بذلك الفِعلِ، وقد يُتوسَّلُ مِن الأمْرِ بالتَّركِ إلى الكِنايةِ عن التَّحقيرِ، وقِلَّةِ الاكتِراثِ، وما في هذه الآيةِ مِن ذلك الأُسلوبِ، أي: لا تَكترِثْ بهم؛ فإنَّهم دونَ أنْ تَصرِفَ هِمَّتَك في شأْنِهم [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/181، 182). .
- وجُزِمَ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا في جَوابِ الأمْرِ للمُبالَغةِ في ارتباطِ خَوضِهم ولَعِبِهم بقِلَّةِ الاكتراثِ بهم؛ إذْ مُقْتضى جَزْمِه في الجوابِ أنْ يُقدَّرَ: إنْ تَذَرْهم يَخوضوا ويَلْعَبوا، أي: يَستمِرُّوا في خَوضِهم ولَعِبِهم، وذلك لا يَضِيرُك [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/182). .
- و(حتَّى) مُتعلِّقةٌ بـ (ذَرْهُم) لِما فيه مِن معْنى: أمْهِلْهم وانتظِرْهم؛ فإنَّ اليومَ الَّذي وُعِدوه هو يومُ النُّشورِ حينَ يُجازَون على استهزائِهم وكُفْرِهم، فلا يكونُ غايةً لـ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا، والغايةُ هنا كِنايةٌ عن دَوامِ تَرْكِهم [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/183). .
5- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
- لَفظُ يُوفِضُونَ مُضارِعُ (أوفَضَ)؛ إذا أسرَعَ وعَدَا في سَيرِه، أي: كأنَّهم ذاهِبون إلى صَنَمٍ، شُبِّه إسراعُهم يومَ القِيامةِ إلى الحشرِ بإسراعِهم في الدُّنيا إلى الأصنامِ لزِيارِتها؛ لأنَّ لهذا الإسراعِ اختصاصًا بهم، وفي هذا التَّشبيهِ إدماجٌ [271] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لتَفظيعِ حالِهم في عِبادةِ الأصنامِ، وإيماءٌ إلى أنَّ إسراعَهم يومَ القيامةِ إسراعُ دَعٍّ ودفْعٍ؛ جَزاءً على إسراعِهم للأصنامِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/183). .
6- قولُه تعالَى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
- قولُه: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ وُصِفَتْ أبصارُهم بالخُشوعِ معَ أنَّه وَصْفُ الكلِّ؛ لغايةِ ظُهورِ آثارِه فيها [273] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/18). .
- وجُملةُ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ فَذْلَكةٌ [274] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلَكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤه، والفراغُ منه. يُنظر: ((تاج العروس)) (27/293) للزَّبِيدي، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما تَضمَّنتْه السُّورةُ في أوَّلِ أغراضِها مِن قولِه: بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج: 1] إلى قولِه: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الآياتِ [المعارج: 1- 4] ، وهي مُفيدةٌ معَ ذلك تأْكيدَ جُملةِ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [المعارج: 42] . وفيها مُحسِّنُ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/184). رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166]، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). .