موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (57-62)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مَا تُمْنُونَ: أي: ما تَقْذِفونَ وتَصبُّونَ في أرحامِ النِّساءِ مِن المَنيِّ؛ مِن قَولِك: أَمْنَى الرَّجُلُ: إذا خرَجَ منه المَنِيُّ، والمَنِيُّ: الماءُ الَّذي يُخلَقُ ويُقدَّرُ منه الوَلَدُ، وأصلُ (مني): يدُلُّ على تقديرِ شَيءٍ، وقيل: سُمِّي المنيُّ مَنِيًّا لأنَّه يُمْنَى، أي: يُراقُ [295] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 165)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/276)، ((البسيط)) للواحدي (21/246)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((تفسير الشوكاني)) (5/188). .
النَّشْأَةَ الْأُولَى: أي: ابتِداءَ الخَلْقِ، وأصلُ (نشأ): يدُلُّ على ارتِفاعِ شَيءٍ [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/347)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/429)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مقرِّرًا للمَعادِ، ردًّا على المكذِّبينَ به، ومقيمًا الأدِلَّةَ على كمالِ قدرتِه: نحن خَلَقْناكم أوَّلَ مرَّةٍ مِنَ العَدَمِ، فهَلَّا تُصَدِّقونَ خالِقَكم في إخبارِه ببَعْثِكم أحياءً يومَ القيامةِ بعْدَ مَوتِكم!
أفرأيتُم ما تَقْذِفونَ مِنَ المنيِّ في أرحامِ نِسائِكم، أأنتُم تَخلُقونَه أم نحن الخالِقونَ له؟
نحن قَضَيْنا بَيْنَكم الموتَ، وما نحن بعاجِزينَ عن تَبديلِ صُوَرِكم وأشخاصِكم، وأن نُنشِئَكم نَشأةً أُخرى في خِلْقةٍ لا تَعلَمونَها مِنَ الصُّوَرِ والهَيئاتِ، ولقد عَلِمتُم خَلْقَنا لكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فهَلَّا تَتذكَّرونَ ذلك فتَعلَموا أنَّ الَّذي خلَقكم ولم تَكونوا شَيئًا، قادرٌ على إعادتِكم أحياءً بعْدَ مَوتِكم؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنكَرَ الكُفَّارُ بَعْثَهم وآبائِهم الأوَّلِينَ، وأمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبِرَهم أنَّه تعالى باعِثٌ جَميعَ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، وذَكَر جَزاءَ مُنكِري البَعثِ بأكْلِ الزَّقُّومِ وشُربِ الحَميمِ- أتْبَع ذلك بالبَراهينِ القاطِعةِ الدَّالَّةِ على البَعثِ، فقال تعالى [297] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/527). :
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57).
أي: نحن خَلَقْناكم -أيُّها الكفرةُ المكذِّبونَ بالبعثِ [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7282)، ((تفسير الشوكاني)) (5/188)، ((تفسير الألوسي)) (14/146)، ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (14/174). - أوَّلَ مرَّةٍ مِنَ العَدَمِ، فهَلَّا تُصَدِّقونَ خالِقَكم في إخبارِه ببَعْثِكم أحياءً يومَ القيامةِ بعْدَ مَوتِكم؟ فالَّذي قَدَر على ابتِداءِ خَلْقِكم قادِرٌ على إعادتِكم بطَريقِ الأَولى [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير القرطبي)) (17/216)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/527)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 342). .
قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .
وقال الله سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58).
أي: أفرأيتُم ما تَقْذِفونَ مِنَ المَنيِّ في أرحامِ نِسائِكم [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير القرطبي)) (17/216)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/219)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/528)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 342). ؟
قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 5 - 8] .
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت العِبرةُ بالمُسَبَّبِ لا بالسَّبَبِ، نَبَّه على ذلك بتَجديدِ الإنكارِ؛ تَنبيهًا على أنَّهم وإن كانوا مُعتَرِفينَ بتفَرُّدِه بالإبداعِ، فإنَّ إنكارَهم للبَعثِ مُستلزِمٌ لإنكارِهم لذلك، فقال تعالى [301] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/219). :
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59).
أي: أأنتُم تَخلُقونَ ذلك المَنِيَّ أم نحن الخالِقونَ له [302] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/528). ؟
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تقريرٌ لما سبَق، فقال: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ [الواقعة: 57] ، ثمَّ قال: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فمَنْ قدَر على الإحياءِ والإماتةِ، وهما ضِدَّانِ ثبَت كونُه مختارًا، فيمكِنُ الإحياءُ ثانيًا منه بعدَ الإماتةِ [303] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/416). .
وأيضًا لما كان الجوابُ عن قولِه: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ: أنتَ الخالقُ وحدَك، وكان ربَّما نازَع في ذلك أهلُ الطَّبائِعِ، وكانت المفاوتةُ للآجالِ معَ المساواةِ في اسميةِ الحياةِ مِن الدَّلائلِ العظيمةِ على تمامِ القدرةِ على الإفناءِ والإبداءِ بالاختيارِ، مبطلةً لقولِ أهلِ الطَّبائعِ دافعةً لهم؛ أكَّد ذلك الدليلَ بقولِه [304] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/220). :
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ.
أي: نحن قَضَيْنا بَيْنَكم الموتَ، فما مِن إنسانٍ يُفلِتُ مِنَ الموتِ في الوَقتِ الَّذي قدَّرَه اللهُ تعالى لذلك [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير ابن عطية)) (5/248)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/220)، ((تفسير الشوكاني)) (5/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/315)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/529، 530). قال الشنقيطي: (قوله: قَدَّرْنَا فيه وجْهانِ مِن التَّفسيرِ: فقال بعضُ العلماءِ، وهو اختيارُ ابنِ جريرٍ، أنَّ قولَه: قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي: قدَّرْنا لِمَوتِكم آجالًا مُختلِفةً، وأعمارًا مُتفاوِتةً؛ فمِنكم مَن يموتُ صغيرًا، ومنكم مَن يموتُ شابًّا، ومنكم مَن يموتُ شَيخًا. وهذا المعنى دلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ مِن كتابِ الله؛ كقولِه تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] ، وقولِه تعالى: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67] ، وقولِه تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر: 11] ، وقولِه تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] ... الوجهُ الثَّاني: أنَّ قَدَّرْنَا بمعنى: قضَيْنا وكَتَبْنا، أي: كتَبْنا الموتَ وقدَّرْناه على جميعِ الخلْقِ. وهذا الوجهُ تَشهَدُ له آياتٌ مِن كتابِ الله؛ كقولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، وقولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] [الأنبياء: 35] [العنكبوت: 57] ، وقولِه تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ). ((أضواء البيان)) (7/529). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، والسمرقندي، والخازن، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/222)، ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير الثعلبي)) (9/215)، ((تفسير السمرقندي)) (3/396)، ((تفسير الخازن)) (4/239)، ((تفسير ابن جزي)) (2/337). وبنحوِ هذا القولِ قولُ مَن قال: قسَمْناه عليكم قِسمةَ الرِّزقِ على اختِلافٍ وتَفاوُتٍ كما تَقتَضيه مَشيئتُنا، ووقَّتْنا موتَ كلِّ أحدٍ بوقتٍ مُعيَّنٍ؛ فاختلفتْ أعمارُكم مِن قصيرٍ وطويلٍ ومتوسِّطٍ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/465)، ((تفسير البيضاوي)) (5/181)، ((تفسير النسفي)) (3/426)، ((تفسير أبي السعود)) (8/197)، ((تفسير الشوكاني)) (5/188)، ((تفسير الألوسي)) (14/147). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ في الجملةِ: القرطبيُّ، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/216)، ((تفسير القاسمي)) (9/125)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 342). .
كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .
وقال سُبحانَه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
...  وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61).
أي: وما نحن بمَغلوبِينَ ولا عاجِزينَ على تَبديلِ صُوَرِكم وأشخاصِكم، وأن نُنشِئَكم نَشأةً أُخرى في خِلْقةٍ لا تَعلَمونَها مِنَ الصُّوَرِ والهَيئاتِ، والأحوالِ والصِّفاتِ [306] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/216، 217)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/251، 252)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/109)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/221، 222)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 342، 343). قال ابن جُزَي: (المسبوقُ على الشَّيءِ هو المغلوبُ عليه، بحيث لا يقدِرُ عليه). ((تفسير ابن جزي)) (2/337). قال أبو حيَّان: (المعنَى: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ: أيْ: نحنُ قادِرونَ على ذلك، لا تَغْلِبونَنا عليه، إنْ أرَدْنا ذلك. وقال الطَّبَريُّ: «المعنَى: نحنُ قادِرونَ، قَدَّرْنا بَيْنَكم الموتَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أيْ: بموتِ طائفةٍ ونُبَدِّلُها بطائِفةٍ، هكَذا قَرْنًا بعدَ قَرْنٍ». انتهى. فـ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: نَحْنُ قَدَّرْنَا، وعلى القولِ الأوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْبُوقِينَ، أي: لا نُسْبَقُ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ). ((تفسير أبي حيان)) (10/88). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/346). ممَّن نصَّ على أنَّ قولَه: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ ... مُتعلِّقٌ بقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ: السمينُ الحلبي، وابنُ عادل، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/215)، ((تفسير ابن عادل)) (18/417)، ((تفسير الألوسي)) (14/147)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/316). قال الشنقيطي: (والمعنى: وما نحن بمغلوبينَ على أن نُبدِّلَ أمثالَكم إنْ أهلَكْناكم لو شِئْنا، فنحن قادِرونَ على إهلاكِكم، ولا يوجَدُ أحدٌ يَغلِبُنا ويَمنَعُنا مِن خَلقِ أمثالِكم بدَلًا منكم. وهذا المعنى تَشهدُ له آياتٌ مِن كتابِ الله؛ كقولِه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] ، وقولِه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ [الأنعام: 133] ، وقولِه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19، 20] [فاطر: 16، 17]، وقولِه تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]). ((أضواء البيان)) (7/530). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أيُّها النَّاسُ في أنفُسِكم وآجالِكم، فمُفْتاتٌ علينا فيها في الأمرِ الَّذي قدَّرْناه لها مِن حياةٍ ومَوتٍ، بل لا يَتقدَّمُ شَيءٌ مِنها أجَلَنا، ولا يَتأخَّرُ عنه). ((تفسير ابن جرير)) (22/346). قال الشنقيطي موضِّحًا هذا القولَ: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: ما نحن بمَغلوبينَ... أي: وما نحن بمغلوبينَ على ما قدَّرْنا مِن آجالِكم، وحدَّدْناه مِن أعمارِكم، فلا يَقدِرُ أحدٌ أن يُقدِّمَ أجَلًا أخَّرْناه، ولا يؤخِّرَ أجَلًا قدَّمْناه. وهذا المعنى دلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ؛ كقولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] [النحل: 61] ، وقولِه تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ [نوح: 4] ، وقولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145]، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (7/530). وقال أيضًا: (وعلى هذا القولِ، فقولُه تعالَى: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ، ليس مُتَعَلِّقًا بِـ «مَسْبُوقِينَ»، بل بقولِه تعالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، والمعنَى: نحنُ قَدَّرْنا بيْنَكم الموتَ على أنْ نُبَدِّلَ أمثالَكم، أي: نُبَدِّلَ مِن الَّذينَ ماتوا أمثالًا لهم نُوجِدُهم. وعلى هذا، فمعنَى تبديلِ أمثالِهم: إيجادُ آخَرينَ مِن ذُرِّيَّةِ أُولئكَ الَّذين ماتوا، وهذا المعنَى تشهدُ له آياتٌ مِن كتابِ اللهِ؛ كقولِه تعالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ [الأنعام: 133] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (7/530). وقال ابنُ القَيِّم: (المرادُ بتَبديلِ أمثالِهم: الخَلْقُ الجَديدُ، والنَّشأةُ الآخِرةُ الَّتي وُعِدوا بها... وكَونُهم أمثالَهم هو إنشاؤُهم خَلقًا جديدًا بعَينِه، فهم هم بأعيانِهم، وهم أمثالُهم، فهم أنفُسُهم يُعادُونَ، فإذا قُلتَ: المُعادُ هذا هو الأوَّلُ بعَينِه، صَدَقْتَ، وإنْ قُلْتَ: هو مِثلُه، صَدَقْتَ، فهو هو مُعادٌ، أو هو مِثلُ الأوَّلِ. وقد أوضَحَ هذا سُبحانَه بقَولِه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، فهذا الخَلقُ الجَديدُ هو المتضمِّنُ لكَونِهم أمثالَهم، وقد سَمَّاه اللهُ سُبحانَه وتعالى إعادةً، والمُعادُ مِثلُ المُبتَدَأِ، وسَمَّاه نشأةً أُخرى، وهي مِثلُ الأُولى، وسمَّاه خَلقًا جَديدًا، وهو مِثلُ الخَلقِ الأوَّلِ، كما قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وسَمَّاه أمثالًا، وهم هم؛ فتطابَقَت ألفاظُ القُرآنِ، وصدَّقَ بَعضُها بعضًا، وبيَّنَ بَعضُها بَعضًا، وبهذا تَزولُ إشكالاتٌ أورَدَها مَن لم يَفهَمِ المَعادَ الَّذي أخبَرَت به الرُّسُلُ عن اللهِ. ولا يُفهَمُ مِن هذا القَولِ ما قاله بَعضُ المتأخِّرينَ: إنَّهم غَيرُهم مِن كُلِّ وجْهٍ! فهذا خَطَأٌ قَطعًا -مَعاذَ اللهِ مِنِ اعتِقادِه-، بل هم أمثالُهم، وهم أعيانُهم، فإذا فُهِمَت الحقائِقُ فلا يُناقِشُ في العِبارةِ إلَّا ضَيِّقُ العَطَنِ، صَغيرُ العَقلِ، ضَعيفُ العِلمِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 198، 199). وقال الشنقيطي: (وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، فيه للعلماءِ أقوالٌ مُتقارِبةٌ: قال بعضُهم: نُنشِئَكم بعدَ إهلاكِكم فيما لا تَعلَمونه مِن الصُّوَرِ والهَيئاتِ، كأنْ نُنشِئَكم قِرَدةً وخَنازيرَ، كما فعَلْنا ببعضِ المجرمين قبْلَكم. وقال بعضُهم: نُنشِئَكم فيما لا تَعلَمونه مِن الصِّفاتِ، فنُغيِّرَ صِفاتِكم، ونُجَمِّلَ المؤمنينَ ببَياضِ الوُجوهِ، ونُقَبِّحَ الكافرين بسَوادِ الوُجوهِ وزُرقةِ العُيونِ. إلى غيرِ ذلك مِن الأقوالِ). ((أضواء البيان)) (7/531). !
كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [النجم: 45 - 47] .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62).
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى.
أي: ولقد عَلِمتُم خَلْقَنا لكم أوَّلَ مَرَّةٍ، ولم تَكونوا شَيئًا قبْلَ ذلك [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/347)، ((تفسير القرطبي)) (17/217)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 199)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). قيل: المرادُ: خلْقُهم مِن نطفةٍ ثُمَّ مِن عَلَقةٍ ثُمَّ مِن مُضْغةٍ في بُطونِ أمَّهاتِهم، ولم يَكونوا قبْلَ ذلك شيئًا. وممَّن اختار هذا القولَ في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، وابن الجوزي، والعُلَيمي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/222)، ((تفسير السمرقندي)) (3/396)، ((تفسير الثعلبي)) (9/215)، ((الوسيط)) للواحدي (4/237)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1062)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/226)، ((تفسير العليمي)) (6/515)، ((تفسير أبي السعود)) (8/197)، ((تفسير الشوكاني)) (5/189)، ((تفسير الألوسي)) (14/147)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). وقيل: المرادُ: الإحداثةُ الأُولى والخِلْقةُ الأُولى: خلْقُ آدَمَ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنين، ومكِّي، والسمعانيُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/347)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/114)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/342)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7284)، ((تفسير السمعاني)) (5/355)، ((تفسير البغوي)) (5/17)، ((تفسير الخازن)) (4/240). قال ابن عطية: (النَّشْأَةَ الْأُولَى: قال أكثرُ المفسِّرينَ: إشارةٌ إلى خلْقِ آدَمَ، ووقف عليه؛ لأنَّه لا تجِدُ أحدًا يُنكِرُ أنَّه مِن ولدِ آدَمَ، وأنَّه مِن طينٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/248). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ البِقاعي -وتبعه الشربيني-، فذكَرَا أنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى أي: التُّرابيَّةَ لأبيكم آدَمَ عليه السَّلامُ، واللَّحميَّةَ لأُمِّكم حوَّاءَ رضيَ الله عنها، والنُّطفيَّةَ لكم. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/222)، ((تفسير الشربيني)) (4/192). !
كما قال الله تبارك وتعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67] .
وقال سُبحانَه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79] .
فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ.
أي: فهَلَّا تَتذكَّرونَ ذلك؛ فتَعلَموا أنَّ الَّذي أنشَأَكم النَّشْأةَ الأُولى ولم تَكونوا شَيئًا: لا يَتعَذَّرُ عليه إعادتُكم أحياءً بعْدَ مَوتِكم [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/348)، ((تفسير القرطبي)) (17/217)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 199)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). ؟!

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ التَّحريضُ على العَمَلِ الصَّالِحِ؛ لأنَّ التَّبديلَ والإنشاءَ -وهو الموتُ والحَشرُ- إذا كان واقِعًا في زَمانٍ لا يَعلَمُه أحَدٌ، فيَنبغي ألَّا يَتَّكِلَ الإنسانُ على طُولِ المُدَّةِ، ولا يَغفُلَ عن إعدادِ العُدَّةِ [309] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/419). .
2- عن أبي جعفرٍ، قال: (كان يُقالُ: يا عجَبًا لِمَن يُكذِّبُ بالنَّشأةِ الآخرةِ وهو يرى النَّشأةَ الأُولَى! يا عجَبًا كلَّ العجَبِ لِمَن يُكَذِّبُ بالنَّشرِ بعدَ الموتِ وهو يُنْشَرُ في كلِّ يومٍ ولَيلةٍ!) [310] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (211). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ هذا البُرهانُ الدَّالُّ على البَعثِ -الَّذي هو خلْقُ الإنسانِ مِن نُطفةِ مَنِيٍّ تُمنَى- يَجِبُ على كُلِّ إنسانٍ النَّظَرُ فيه؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ وعلا وَجَّه صِفةَ الأمرِ بالنَّظَرِ فيه إلى مَنِيِّ الإنسانِ، والأصلُ في صيغةِ الأمرِ على التَّحقيقِ: الوُجوبُ إلَّا لدَليلٍ صارِفٍ عنه، وذلك في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 5، 6] الآيةَ [311] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/528). .
2- في قَولِه تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ سؤالٌ: كيف قال ذلك مع أنَّهم مُصَدِّقونَ بذلك، بدَليلِ قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87]؟
الجوابُ: هم وإنْ صَدَّقوا بألسِنَتِهم لكِنْ لَمَّا كان مَذهَبُهم خِلافَ ما يَقتَضيه التَّصديقُ، كانوا كأنَّهم مُكَذِّبونَ به، أو أنَّ ذلك تَحضيضٌ على التَّصديقِ بالبَعثِ بعدَ المَوتِ بالاستِدلالِ بالخَلْقِ الأوَّلِ، فكَأنَّه قال: هو خَلَقَكم أوَّلًا باعتِرافِكم؛ فلا يَمتَنِعُ عليه أن يُعيدَكم ثانيًا؛ فهلَّا تُصَدِّقونَ بذلك [312] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 548). ؟!
3- في قَولِه تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ فيما يَرَونَ المقتولَ مَيِّتًا بغَيرِ أَجَلِه، وهو جَهلٌ بَيِّنٌ [313] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/213). !
4- قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ قولُه: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ احتِجاجٌ عليهم، أي: إذا أقْرَرْتُم بأنَّا خالِقوه لا غيرُنا، فاعتَرِفوا بالبعثِ، وقولُه تعالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ احْتِجاجٌ أيضًا، أي: الَّذي يَقدِرُ على الإماتةِ يَقدِرُ على الخلْقِ، وإذا قَدَر على الخلقِ قَدَر على البعثِ [314] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/216). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ عُدِّيَ بـ «على» دونَ «إلى»؛ لأنَّه لَمَّا ضَمَّنَه معنى «مَغلوبِينَ ومَقهورِين» عَدَّاه بـ «على»، بخِلافِ «سَبَقَه إليه»؛ فإنَّه فَرْقٌ بيْنَ «سَبَقْتُه إليه» و«سَبَقْتُه عليه»؛ فالأوَّلُ بمعنى: غَلَبْتُه وقَهَرْتُه عليه، والثَّاني بمعنى: وصَلْتُ إليه قَبْلَه [315] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 196). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى أنَّ مَن قَدَر على النَّشْأةِ الأُولى قَدَر على الثَّانيةِ؛ فإنَّها أقَلُّ صنعًا؛ لحُصولِ المَوادِّ، وتخصيصِ الأجزاءِ، وسَبْقِ المِثالِ [316] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/192). .
7- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى دَليلٌ على صِحَّةِ القياسِ [317] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/192). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أُعقِبَ إبطالُ نفْيِهم البَعثَ بالاستِدلالِ على إمكانِه، وتَقريبِ كَيفيَّةِ الإعادةِ الَّتي أحالوها، فاستُدِلَّ على إمكانِ إعادةِ الخلْقِ بأنَّ اللهَ خَلَقَهم أوَّلَ مرَّةٍ؛ فلا يَبعُدُ أنْ يُعِيدَ خلْقَهم، قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يُنكِرون ذلك، وليس المقصودُ إثباتَ أنَّ اللهَ خلَقَهم. وهذا الكلامُ يَجوزُ أنْ يكونَ مِن تمامِ ما أُمِرَ بأنْ يَقولَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم، ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافًا مُستقلًّا. والخِطابُ على كِلا الوجهينِ مُوجَّهٌ للسَّامعينَ؛ فليس في ضَميرِ خَلَقْنَاكُمْ الْتفاتٌ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/312). . وقيل: قولُه: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ تَلوينٌ للخِطابِ، وتَوجيهٌ له إلى الكَفرةِ بطَريقِ الإلزامِ والتَّبكيتِ [319] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/196). .
- وتقديمُ المُسنَدِ إليه نَحْنُ على المُسنَدِ الفِعليِّ خَلَقْنَاكُمْ؛ لإفادةِ تَقوِّي الحُكمِ؛ ردًّا على إحالتِهم أنْ يَكونَ اللهُ قادرًا على إعادةِ خَلْقِهم بعْدَ فَناءِ مُعظَمِ أجسادِهم حِينَ يَكونونَ تُرابًا وعِظامًا، فهذا تَذكيرٌ لهم بما ذُهِلوا عنه بأنَّ اللهَ هو خلَقَهم أوَّلَ مرَّةٍ، وهو الَّذي يُعِيدُ خَلْقَهم ثانيَ مرَّةٍ؛ فإنَّهم -وإنْ كانوا يَعلَمون أنَّ اللهَ خلَقَهم- لَمَّا لم يَجْروا على مُوجَبِ ذلك العِلمِ بإحالتِهم إعادةَ الخَلْقِ؛ نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يشُكُّ في أنَّ اللهَ خلَقَهم، فالمَقصودُ بتَقوِّي الحُكْمِ الإفضاءُ إلى ما سيُفرَّعُ عنه مِن قولِه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إلى قولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/312). [الواقعة: 58- 61] .
- ومَوقعُ هذه الجُملةِ استِدلالٌ وعِلَّةٌ لمَضمونِ جُملةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة: 49، 50]؛ ولذلك لم تُعطَفْ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/312). .
- وأيضًا الفاءُ في قولِه: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ لترتيبِ التَّحضيضِ على ما قبْلَها، أي: فهلَّا تُصدِّقونَ بالخَلْقِ؟! فإنَّ ما لا يُحقِّقُه العمَلُ ولا يُساعِدُه -بلْ يُنبِئُ عن خِلافِه- ليس مِن التَّصديقِ في شَيءٍ. وقيل: التَّقديرُ: فلولا تُصدِّقونَ بالبَعثِ استِدلالًا عليه بالإنشاءِ؛ فإنَّ مَن قدَرَ عليه قدَرَ على الإعادةِ حتْمًا [322] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/196). ؛ ففُرِّعَ على التَّذكيرِ بخلْقِ اللهِ لهم في قولِه: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ تَحضيضُهم على التَّصديقِ، أي: بالخَلْقِ الثاني، وهو البَعثُ؛ فإنَّ ذلك هو الَّذي لم يُصَدِّقوا به [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/313). .
2- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ
- قولُه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ تَفريعٌ على نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 57]، أي: خلَقْناكُم الخلْقَ الَّذي لم تَرَوه، ولكنَّكم تُوقِنون بأنَّا خلَقْناكم، فتَدبَّروا في خلْقِ النَّسلِ؛ لتَعلَموا أنَّ إعادةَ الخلْقِ تُشبِهُ ابتداءَ الخلْقِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/313). .
- والاستِفهامُ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ للتَّقريرِ بتَعْيينِ خالِقِ الجَنينِ مِن النُّطفةِ؛ إذ لا يَسَعُهم إلَّا أنْ يُقِرُّوا بأنَّ اللهَ خالِقُ النَّسلِ مِن النُّطفةِ، وذلك يَستلزِمُ قُدرتَه على ما هو مِن نَوعِ إعادةِ الخلْقِ [325] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/313). .
- وإنَّما ابتُدِئَ الاستِدلالُ بتَقديمِ جُملةِ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ زِيادةً في إبطالِ شُبهتِهم؛ إذ قاسُوا الأحوالَ المَغِيبةَ على المُشاهَدةِ في قولِهم: لا نُعادُ بعْدَ أنْ كنَّا تُرابًا وعِظامًا، وكان حقُّهم أنْ يَقيسوا على تَخلُّقِ الجنينِ مِن مَبدأِ ماءِ النُّطفةِ، فيَقولوا: لا تَتخلَّقُ مِن النُّطفةِ المَيتةِ أجسامٌ حيَّةٌ، كما قالوا: لا تَصِيرُ العِظامُ الباليةُ ذواتًا حيَّةً، وإلَّا فإنَّهم لم يدَّعُوا قطُّ أنَّهم خالِقون؛ فكان قولُه: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تَمْهيدًا للاستِدلالِ على أنَّ اللهَ هو خالقُ الأجنَّةِ بقُدرتِه، وأنَّ تلك القدرةَ لا تَقصُرُ عن الخلْقِ الثَّاني عندَ البَعْثِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/313). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه أَأَنْتُمْ على المُسنَدِ الفِعليِّ تَخْلُقُونَهُ لإفادةِ التَّقوِّي؛ لأنَّهم لَمَّا نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَزعُمُ ذلك، صِيغَتْ جُملةُ نَفْيِه بصِيغةٍ دالَّةٍ على زَعْمِهم تَمكُّنَ التَّصرُّفِ في تَكوينِ النَّسْلِ [327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/314). .
- وقد حصَلَ مِن نفْيِ الخلْقِ عنهم وإثباتِه للهِ تعالَى معْنى قَصْرِ الخلْقِ على اللهِ تعالَى [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/314). .
- وأَمْ في قولِه: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ مُتَّصِلةٌ، مُعادِلةٌ للهَمزةِ، وما بعْدَها مَعطوفٌ؛ لأنَّ الغالبَ ألَّا يُذكَرَ له خبَرٌ اكتِفاءً بدَلالةِ خبَرِ المعطوفِ عليه على الخبَرِ المحذوفِ، وهاهنا أُعِيدَ الخَبرُ في قولِه: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ زِيادةً في تَقريرِ إسنادِ الخَلْقِ إلى اللهِ في المعْنى، وللإيفاءِ بالفاصِلةِ، وامتدادِ نفَسِ الوقْفِ. ويَجوزُ أنْ نَجعَلَ أَمْ مُنقطِعةً بمعْنى (بل)؛ لأنَّ الاستِفهامَ ليس بحَقيقيٍّ، فليس مِن غرَضِه طلَبُ تَعيينِ الفاعلِ، ويكونَ الكلامُ قد تمَّ عندَ قولِه: تَخْلُقُونَهُ، والمعْنى: أتظُنُّون أنفُسَكم خالِقينَ النَّسَمةَ ممَّا تُمْنون [329] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/314). ؟!
- قولُه: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ فيه احتِباكٌ [330] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذكَرَ أوَّلًا «تَخلُقُونَ» دليلًا على حَذفِ مِثْلِه له سُبحانَه ثانيًا، وذكَرَ الاسمَ ثانيًا دَليلًا على حَذفِ مِثلِه لهم أوَّلًا، وسِرُّ ذلك: أنَّه ذَكَر ما هو الأوفَقُ لأعمالِهم ممَّا يدُلُّ على وقتِ التَّجَدُّدِ ولو وقتًا ما، وما هو الأَولى بصِفاتِه سُبحانَه ممَّا يدُلُّ على الثَّباتِ والدَّوامِ [331] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/220). .
3- قولُه تعالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
- قولُه: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ استِدلالٌ بإماتةِ الأحياءِ على أنَّها مَقدورةٌ للهِ تعالَى، ضَرورةَ أنَّهم مُوقِنون بها ومُشاهِدونها، ووادُّون دفْعَها أو تأْخيرَها؛ فإنَّ الَّذي قدَرَ على خلْقِ الموتِ بعْدَ الحياةِ قادرٌ على الإحياءِ بعْدَ الموتِ؛ إذ القدرةُ على حُصولِ شَيءٍ تَقْتضي القُدرةَ على ضِدِّه، فلا جَرَمَ أنَّ القادرَ على خلْقِ حَيٍّ ممَّا ليس فيه حَياةٌ، وعلى إماتتِه بعْدَ الحياةِ، قَديرٌ على التَّصرُّفِ في حالتَيْ إحيائِه وإماتتِه، وما الإحياءُ بعْدَ الإماتةِ إلَّا حالةٌ مِن تَينِكَ الحقيقتَينِ؛ فوضَحَ دليلُ إمكانِ البَعثِ، هذا أصلُ المُفادِ مِن قولِه: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، ثمَّ هو مع ذلك تَنبيهٌ على أنَّ الموتَ جعَلَه اللهُ طَورًا مِن أطوارِ الإنسانِ؛ لحِكمةِ الانتِقالِ به إلى الحياةِ الأبَديَّةِ بعْدَ إعدادِه لها بما تُهيِّئُه له أسبابُ الكمالِ المُؤهِّلةُ لتلك الحياةِ؛ لتَتِمَّ المُناسَبةُ بيْن ذلك العالَمِ وبيْن عامِرِيه؛ فهذا وجْهُ التَّعبيرِ بقولِه: قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ دونَ: (نحن نُمِيتُكم)، أي: إنَّ الموتَ مَجعولٌ على تَقديرٍ مَعلومٍ مُرادٍ، مع ما في مادَّةِ (قدَّرْنا) مِن التَّذكيرِ بالعِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ؛ لتَتوجَّهَ أنظارُ العُقولِ إلى ما في طَيِّ ذلك مِن دَقائقَ، وهي كثيرةٌ، وخاصَّةً في تَقديرِ مَوتِ الإنسانِ الَّذي هو سَبيلٌ إلى الحياةِ الكاملةِ إنْ أُخِذَ لها أسبابُها [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/314، 315). .
- وفي كَلمةِ بَيْنَكُمُ معْنًى آخَرُ، وهو أنَّ الموتَ يأْتي على آحادِهم تَداوُلًا وتَناوُبًا، فلا يُفْلِتُ واحدٌ منهم، ولا يَتعيَّنُ لحُلولِه صِنفٌ ولا عُمُرٌ، فآذَنَ ظَرفُ (بيْن) بأنَّ الموتَ كالشَّيءِ الموضوعِ للتَّوزيعِ، لا يَدري أحدٌ متى يُصِيبُه قِسطُه منه، فالنَّاسُ كمَن دُعُوا إلى قِسمةِ مالٍ، أو ثمَرٍ، أو نَعَمٍ، لا يَدْري أحدٌ متى يُنادَى عليه ليَأخُذَ قِسمَه، أو متى يَطيرُ إليه قِطُّه -أي: نصيبُه- ولكنَّه يُوقِنُ بأنَّه نائلُه لا مَحالةَ، وفي هذا كِنايةٌ عن كَونِ الموتِ فائدةً ومَصلحةً للنَّاسِ؛ أمَّا في الدُّنيا فلئلَّا تَضيقَ بهم الأرضُ والأرزاقُ، وأمَّا في الآخرةِ فلِلْجَزاءِ الوِفاقِ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/315). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه نَحْنُ على المُسنَدِ الفِعليِّ قَدَّرْنَا؛ لإفادةِ تَقوِّي الحُكْمِ وتَحقيقِه، والتَّحقيقُ راجِعٌ إلى ما اشتَمَلَ عليه التَّركيبُ مِن فِعلِ (قدَّرْنا) وظَرفِ (بيْنكم) في دَلالتِهما على ما في خَلْقِ الموتِ مِن الحِكمةِ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/316). .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ هذا نَتيجةٌ لِما سبَقَ مِن الاستِدلالِ على أنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على الإحياءِ بعْدَ الموتِ؛ فكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُعطَفَ بفاءِ التَّفريعِ أو يُترَكَ عطْفُه، فعُدِلَ عن الأمْرَينِ، وعُطِفَ بالواوِ عَطْفَ الجُمَلِ، فيكونُ جُملةً مُستقلَّةً مَقصودًا لِذَاتِه؛ لأنَّ مَضمونَه يُفيدُ النَّتيجةَ، ويُفيدُ تَعليمًا اعتقاديًّا، فيَحصُلُ الإعلامُ به تَصريحًا وتَعريضًا؛ فالصَّريحُ منه التَّذكيرُ بتَمامِ قُدرةِ اللهِ تعالَى، وأنَّه لا يَغلِبُه غالبٌ، ولا تَضيقُ قُدرتُه عن شَيءٍ، وأنَّه يُبدِلُهم خلْقًا آخَرَ في البَعثِ مُماثِلًا لخلْقِهم في الدُّنيا، ويُفيدُ تَعريضًا بالتَّهديدِ باستئصالِهم وتَعويضِهم بأُمَّةٍ أُخرى، ولو جِيءَ بالفاءِ لَضاقتْ دَلالةُ الكَلامِ عن المعْنيَينِ الآخَرينِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/316). .
- ويَتعلَّقُ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ بـ (مَسْبُوقِينَ) -على قولٍ-؛ لأنَّه يُقالُ: غلَبَه على كذا، إذا حالَ بيْنه وبيْن نَوالِه، وأصْلُه: غلَبَه على كذا، أي: تمكَّنَ مِن كذا دُونَه؛ قال تعالى: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف: 21] ، ويكونُ الوقفُ على قولِه: أَمْثَالَكُمْ. ويَجوزُ أنْ يكونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ قَدَّرْنَا [الواقعة: 60] ، أي: قدَّرْنا الموتَ على أنْ نُحيِيَكم فيما بعْدُ، إدماجًا [336] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لإبطالِ قولِهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 47] ؛ فتَكونَ (على) بمعْنى (مع)، وتَكونَ حالًا مُقدَّرةً، وهذا كقولِ الواعظِ: «على شَرْطِ النَّقضِ رُفِعَ البُنيانُ، وعلى شَرْطِ الخُروجِ دخَلَتِ الأرواحُ للأبدانِ»، ويكونَ مُتعلِّقُ (مَسبوقين) مَحذوفًا دالًّا عليه المَقامُ، أي: ما نحن بمَغلوبينَ فيما قدَّرْناه مِن خلْقِكم وإماتتِكم، ويُجعَل الوقْفُ على (مَسبوقِين)، ويُفيدُ قولُه: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ... إلخ وراءَ ذلك عِبرةً بحالِ الموتِ بعْدَ الحياةِ؛ فإنَّ في تَقلُّبِ ذَينِكَ الحالَينِ عِبرةً وتدبُّرًا في عَظيمِ قُدرةِ اللهِ وتَصرُّفِه، ومعْنَى: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ: نُبدِّلَ بكم أمْثالَكم، أي: نَجعَلَ أمْثالَكم بدَلًا، وفِعلُ (بدَّل) يَنصِبُ مَفعولًا واحدًا، ويَتعدَّى إلى ما هو في معْنى المفعولِ الثَّاني بحرْفِ الباءِ -وهو الغالبُ- أو بـ (مِن) البَدليَّةِ؛ فإنَّ مَفعولَ (بدَّلَ) صالحٌ لأنْ يكونَ مُبدَلًا ومُبدَلًا منه، فالتَّقديرُ هنا: على أنْ نُبدِّلَ منكم أمثالَكم، فحُذِفَ مُتعلَّقُ (نُبدِّل) وأُبقِيَ المفعولُ؛ لأنَّ المجرورَ أَوْلَى بالحَذْفِ. ويجوزُ أنْ يُفيدَ معْنى التَّهديدِ بالاستِئصالِ، أي: لو شِئْنا استِئصالَكم لَما أعْجزْتُمونا؛ فيَكونَ إدماجًا للتَّهديدِ في أثناءِ الاستدلالِ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/316، 317). .
- قولُه: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ عُطِفَ بالواوِ دونَ الفاءِ؛ لأنَّه بمُفردِه تَصويرٌ لقُدرةِ اللهِ تعالى وحِكمتِه بعْدَ ما أفادَهُ قولُه: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ مِن إثباتِ أنَّ اللهَ قادرٌ على البعثِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/318). .
- و(ما) في قولِه: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ صادِقةٌ على الكَيفيَّةِ أو الهيئةِ الَّتي يَتكيَّفُ بها الإنشاءُ، أي: في كَيفيَّةٍ لا تَعلَمونها؛ إذ لم تُحِيطوا عِلمًا بخَفايا الخِلْقةِ، وهذا الإجمالُ جامِعٌ لجَميعِ الصُّوَرِ الَّتي يَفرِضُها الإمكانُ في بَعثِ الأجسادِ لإيداعِ الأرواحِ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/318). .
- والظَّرفيَّةُ المُستفادةُ مِن (في) معْناها قوَّةُ المُلابَسةِ الشَّبيهةِ بإحاطةِ الظَّرفِ بالمَظروفِ؛ كقولِه: فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/318). [الانفطار: 7، 8].
4- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أُعقِبَ دَليلُ إمكانِ البعثِ المُستنِدِ للتَّنبيهِ على صَلاحيةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ لذلك، ولسَدِّ مَنافذِ الشُّبهةِ -بدَليلٍ مِن قِياسِ التَّمثيلِ [341] قياس التَّمثيلِ: هو حمْلُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ، أو: إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما مثل: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وهو القياسُ الأُصوليُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 291، 292). ، وهو تَشبيهُ النَّشأةِ الثَّانيةِ بالنَّشأةِ الأُولى المَعلومةِ عندَهم بالضَّرورةِ، فنُبِّهوا ليَقِيسوا عليها النَّشأةَ الثَّانيةَ في أنَّها إنشاءٌ مِن أثَرِ قُدرةِ اللهِ وعِلمِه، وفي أنَّهم لا يُحيطون عِلمًا بدَقائقِ حُصولِها [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/318). .
- ولَمَّا كان عِلمُهم بالنَّشأةِ الأُولَى كافيًا لهم في إبطالِ إحالتِهم النَّشأةَ الثَّانيةَ، رُتِّبَ عليه مِن التَّوبيخِ ما لم يُرتَّبْ مِثلُه على قولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 60، 61]، فقال: فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أي: هلَّا تَذكَّرْتم بذلك، فأمسَكْتُم عن الجحْدِ؟! وهذا تَجهيلٌ لهم في تَرْكِهم قِياسَ الأشباهِ على أشْباهِها [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/319). .
- وجِيءَ بالمضارعِ في قولِه: تَذَكَّرُونَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ بابَ التَّذكُّرِ مَفتوحٌ، فإنْ فاتَهُم التَّذكُّرُ فيما مَضى فلْيَتدارَكوه الآنَ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/319). .