موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (131-134)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ تعالى أنَّ له وحده جميعَ ما في السَّموات، وجميع ما في الأرض، ولقد عهِدَ سبحانه إلى أهل الكُتب السَّابقة، وإلى المسلمين أن يتَّقوه؛ بالتزامِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه، وإن يكفُروا فإنَّ الله غنيٌّ عنهم، ولن يضرُّوا اللهَ سبحانه بذلك؛ وإنَّما يضرُّون أنفسَهم؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ له جميعُ ما في السَّموات والأرضِ، وهو الغنيُّ الحميدُ.
وللهِ ما في السَّمواتِ والأرض، وكفى به قائمًا بتدبيرِ شؤونِ خَلْقِه، إنْ يشَأْ جلَّ وعلا أنْ يُذهِبَ كلَّ النَّاس بإهلاكِهم إذا ما عصَوْه، ويأتيَ بآخرينَ أكثرَ طاعةً له، وكان سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قادرًا.
ثمَّ حرَّض اللهُ تعالى النَّاس على أنْ يجعلوا مَقصَدَهم الأعظمَ: الفوزَ بنعيم الآخرة، مبيِّنًا أنَّ مَن كان يُريد ثواب الدُّنيا- كمن يُريد بجهاده الغنيمةَ والمنافع الدُّنيويَّة- فعند اللهِ ثوابُ الدُّنيا والآخرة، فلماذا قصَر الطَّلب على المنافعِ الدُّنيويَّة مع أنَّ ثوابَ الآخرة خيرٌ وأبقى؟! وكان الله سميعًا لكلِّ ما يجهَرُ به النَّاس ويُسرُّونه، بصيرًا بأحوالهم الظَّاهرة والخفيَّة، وسيُجازيهم بما يستحقُّونه من ثوابٍ أو عقابٍ.

تفسير الآيات:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ذكَر هذه الآيةَ عقِبَها ليُنبِّهَ خَلْقَه على موضعِ الرَّغبة عند فِراق أحدِهم زوجتَه؛ ليفزَعوا إليه عند الجزعِ من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفِراق سَكَنِه وزوجتِه، وتذكيرًا له بأنه الَّذي له الأشياءُ كلُّها، وأنَّ مَن كان له مُلكُ جميع الأشياء فغيرُ مُتعذِّرٍ عليه أن يُغنيَه، ويُؤنِسَ وَحشتَه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/578). .
وأيضًا لَمَّا ذكَر سبحانه أنَّه يُغْني كلًّا مِن سَعتِه، وأنَّه واسعٌ، أشار إلى ما هو كالتَّفسيرِ لكونِه واسعًا، فقال: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، يعني مَن كان كذلك، فإنَّه لا بدَّ أن يكونَ واسعَ القُدرة والعِلم والجُود والفضل والرَّحمة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/238)، ((تفسير أبي حيان)) (4/90). .
وأيضًا لَمَّا أمَر بالعدلِ والإحسانِ إلى اليتامى والمساكينِ، بَيَّن أنَّه ما أمَر بهذه الأشياءِ لاحتياجِه إلى أعمال العباد؛ لأنَّ مالكَ السَّمواتِ والأرض كيف يُعقَلُ أن يكونَ محتاجًا إلى عملِ الإنسان مع ما هو عليه من الضَّعفِ والقُصور؟! بل إنَّما أمَر بها رعايةً لِمَا هو الأحسنُ لهم في دُنياهم وأخراهم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/238). (اقتضَتْ حِكمةُ الله في ترتيب كتابِه أنْ يَجيءَ بعد تلك الأحكام العملية في شؤونِ النِّساء واليتامى أو بعدَها وبعد ما قَبلَها من الأحكام المتعلِّقة بأهل الكتاب أيضًا، أن يعقِّبَ عليها بآياتٍ في العِلم الإلهيِّ، تُذكِّرُ المخاطَبين بتِلك الأحكامِ بعظَمتِه وسَعةِ مُلكِه واستغنائِه عن خَلقِه، وقُدرتِه على ما يشاءُ من التصرُّفِ فيهم، أو إثابتِهم على طاعتِه فيما شرَعَه لهم لخيرهم ومصلحتهم؛ تُذكِّرهم بذلك ليزدادوا بتدبُّرِها إيمانًا يَحمِلهم على العملِ بها، والوقوفِ عندَ حدودها). ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (5/368). .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: وللهِ تعالى وحده مُلكُ جميع ما تَحويه السَّمواتُ السَّبعُ، والأَرَضون السَّبع، وهو الحاكمُ فيها، ومُدبِّرُها بجميع أنواع التَّدبير يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/578)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/308). .
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه ما يتعلَّقُ بالرُّبوبيَّة، وهو مُلكُه الواسعُ العامُّ، ذكَر ما يتعلَّقُ بالألوهيَّةِ والعبادة، وهي: التَّقوى، فقال يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/308). :
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
أي: ولقد عهِدْنا عهدًا مؤكَّدًا إلى أهلِ الكتب السَّابقةِ، كاليهود والنَّصارى، وإليكم- أيُّها المسلِمون- بأنْ تتَّقوا اللهَ تعالى بطاعةِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/578-579)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/308). .
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنْ تترُكوا تقوى اللهِ تعالى، وتُشرِكوا به، فإنَّكم لا تضُرُّون بذلك إلَّا أنفسَكم، ولا تضُرُّونَ اللهَ شيئًا، ولا تنقصون شيئًا من مُلكه، وله عبيدٌ خيرٌ منكم وأعظمُ وأكثرُ، مُطِيعون له خاضِعون لأمرِه، ولا يمتنعُ عليه شيءٌ أراده؛ من إعزازِ مَن أراد إعزازَه، وإذلالِ مَن أراد إذلالَه ومعاقبتَه، وغير ذلك من الأمور كلِّها؛ لأنَّ المُلكَ مُلكُه، والخَلْقَ خَلْقُه، بهم إليه الفاقةُ والحاجةُ، وبه قِوامُهم وبقاؤُهم وفَناؤُهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/579)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/310-311). .
كما قال تعالى إخبارًا عن موسى عليه السَّلام أنَّه قال لقومه: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .
وقال جلَّ وعلا: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6] .
وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا
أي: وهو الغنيُّ الَّذي له الجودُ الكامل، والإحسان الشَّامل، الصَّادر من خزائن رحمتِه، الَّتي لا ينقُصُها الإنفاقُ؛ فلا حاجةَ به إلى شيءٍ ولا لأحدٍ، ومِن تمامِ غناه كمالُ أوصافِه سبحانه، وهو المحمودُ على غِناهُ وجميعِ صفاتِه، وعلى جميع ما يُقدِّره ويشرَعُه، قد استحَقَّ منكم- أيُّها الخلقُ- الحمدَ على صنائعِه الحميدةِ إليكم، وآلائِه الجميلة الَّتي أنعَم بها عليكم، وهو الحامدُ لِمَن يستحقُّ الحمدَ مِن عباده يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/579)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207-208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/311-312). .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أعادَ تذكيرَهم بكونِه مالكَ السَّمواتِ والأرضِ؛ أي: العوالمِ كلِّها؛ ليتمثَّلوا عظمتَه، ويستحضروا الدَّليلَ على غناه وحمدِه؛ فيعلَموا أنَّه إذا كان قد توكَّل بإغناءِ كلٍّ مِن الزَّوجين إذا أقامَا حدودَه في تفرُّقِهما، فإنَّه قادرٌ على ذلك، كما أنَّه قادرٌ على إنجازِ كلِّ ما وعَد وأوعَد به، فيجبُ أن يكتفوا به في التَّوكُّلِ لهم يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (5/369). .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
أي: وللهِ تعالى مُلكُ جميعِ ما تحويه السَّمواتُ والأرض، القيِّمُ بجَميعِه، الحافظُ والمدبِّرُ له بعلمِه وقدرتِه وحكمتِه، الرَّقيبُ الشَّهيدُ على كلِّ شيءٍ سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/580-581)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/314). .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ
أي: إنْ يشَأِ اللهُ تعالى يُذهِبْكم- أيُّها النَّاس- بإهلاكِكم وإفنائِكم إذا عصَيْتموه، ويأتِ بناسٍ آخرينَ غيرِكم، هم أتْقَى وأطوعُ للهِ عزَّ وجلَّ منكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/581)، ((تفسير ابن كثير)) (2/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/315). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19-20] .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو قُدرةٍ تامَّةٍ على إهلاكِكم وإفنائِكم، واستبدالِ آخرين بكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/581)، ((تفسير ابن كثير)) (2/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/315-316). .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان شأنُ التَّقوى عظيمًا على النُّفوس؛ لأنَّها يَصرِفُها عنها استعجالُ النَّاس لمنافعِ الدُّنيا على خيراتِ الآخرة، نبَّهَهم اللهُ تعالى إلى أنَّ خيرَ الدُّنيا بيده، وخير الآخرة أيضًا، فإنِ اتَّقَوه نالُوا الخَيْرَيْنِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/223). فقال:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: مَن كانت هِمَّتُه وإرادتُه دنيَّةً غيرَ متجاوزةٍ ثوابَ الدُّنيا، وليس له إرادةٌ في الآخرة فإنَّه قد قصَر سعيَه ونظَرَه على ثواب الدُّنيا الَّتي لا يحصُل له منها سوى ما كتَبَ اللهُ له- فليعلَمْ أنَّ عند الله تعالى خيرَ الدُّنيا والآخرة، فإنَّه إذا سأَله مِن هذه وهذه أعطاه وأغناه، فلا يقتصِرَنَّ قاصرُ الهمَّةِ على السَّعيِ للدُّنيا فقط، بل ليطلُبْهما منه، ويَسْتَعِنْ به عليهما، مفتقِرًا إليه على الدَّوام يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 294)، ((تفسير ابن كثير)) (2/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208). .
كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200- 202] .
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى سامعٌ لكلِّ شيء، بصيرٌ مُطَّلِعٌ على كلِّ شيء سبحانه يُنظر ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/322-324). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208). .

الفَوائِد التربويَّة :

1- أهميةُ تقوى الله عزَّ وجل؛ لأنَّه أوصى بها الأوَّلِينَ والآخِرينَ؛ لقوله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/313). .
2- قوله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ الإخبارُ بأنَّ اللهَ أوصى الَّذين أوتوا الكتابَ من قبلُ بالتقوى: مقصودٌ منه إلهابُ هِمَمِ المسلمين للتَّهمُّمِ بتقوى الله؛ لئلَّا تفضُلَهم الأممُ الَّذين من قبلِهم مِن أهلِ الكتاب؛ فإنَّ للائتساءِ أثرًا بالغًا في النُّفوس؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/220). .
3- تكرَّرَ كثيرًا في هذه السُّورة الأمرُ بالاتِّقاءِ، وبه افتُتِحَتْ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء: 1] ، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ لكثرةِ ما يعرِضُ مِن رعيِ حظوظِ النُّفوس عند الزَّوجية ومع القرابة، ولكونه يدِقُّ ويغمُضُ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/426). .
4- قال تبارَك وتعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ: التَّقوى المأمورُ بها هنا منظورٌ فيها إلى أساسِها، وهو الإيمانُ بالله ورُسُله؛ ولذلك قُوبِلت بجملة: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وبيَّن بها عدمَ حاجته تعالى إلى تقوى النَّاس، ولكنَّها لصلاح أنفسهم؛ كما قال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/220). .
5- في قوله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ جعَل الأمر بالتَّقوى وصيَّة؛ وهي الأمرُ المؤكَّد، والشَّأنُ في الوصية إيجازُ القول؛ لأنَّها يُقصَد منها وعيُ السَّامع، واستحضارُه كلمةَ الوصيَّة في سائر أحواله، والتَّقوى تجمع الخيراتِ؛ لأنَّها امتثال الأوامر، واجتناب المناهي؛ ولذلك قالوا: ما تكرَّر لفظٌ في القرآن ما تكرَّر لفظ التَّقوى يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/220). .
6- في هذه الآيةِ كمالُ مراقبةِ الله عزَّ وجلَّ لعباده؛ لقوله: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وأنَّ فيها الكفايةَ عن كلِّ مراقب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/314). .
7- قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قوله: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تبكيتٌ لمن اقتصَر على أحدِ السُّؤالين مع كون المسؤول مالكًا للثَّوابين، وحثَّ على أن يُطلَبَ منه تعالى ما هو أكملُ وأفضل من مطلوبه؛ فمن طلب خسيسًا مع أنَّه يمكنُه أنْ يطلب نفيسًا فهو دَنيءُ الهِمَّة يُنظر: ((تفسير الراغب)) (4/190). .
8- قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يجوز أن تكونَ الآية تعليمًا للمؤمنين ألا يصُدَّهم الإيمانُ عن طلب ثوابِ الدُّنيا؛ إذ الكلُّ من فضل الله، ويجوز أن تكونَ تذكيرًا للمؤمنين بألَّا يُلهيَهم طلبُ خير الدُّنيا عن طلَب الآخرة؛ إذ الجمعُ بينهما أفضلُ، وكِلاهما من عند الله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/223). .
9- ترتيبُ الثَّوابِ والجزاء على النِّيَّة؛ لقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ، وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يصحِّحَّ نيَّتَه تمامًا، وألَّا ينويَ بعمل الآخرة إلَّا الآخرةَ، أمَّا عملُ الدُّنيا فهو للدُّنيا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/322). .
10- بيانُ انحطاطِ رُتبة الدُّنيا عند الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/322). .
11- في قوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أنَّ الَّذي يعطي الثَّوابَ هو الله عزَّ وجلَّ لا غيرُه؛ فعند الله ثواب الدُّنيا والآخرة، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة: ألَّا نعتمدَ فيما نرجوه من ثواب الدُّنيا والآخرة إلَّا على ربِّنا عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه هو الَّذي بيدِه الأمورُ سبحانه وتعالى يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/323). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ إنَّ الأمرَ بتقوى الله شريعةٌ عامَّةٌ لجميع الأُمَم، لم يلحَقْها نَسْخٌ ولا تبديلٌ، بل هو وصيَّةُ الله في الأوَّلِين والآخِرين يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/220). .
2- قال تعالى: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَنى الفِعلُ للمجهول؛ لأنَّ القصدَ بيانُ كونهم أهلَ علمٍ؛ ليُرغَبَ فيما أُوصُوْا به، وللدَّلالة على أنَّ العِلمَ في نفْسه مُهيِّئٌ للقَبول، ولإفادة أنَّ وصيَّتَهم أعمُّ مِن أن تكونَ في الكتاب، أو على لِسان الرَّسولِ من غير كتابٍ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/427). .
3- قوله تبارك وتعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، ومِن تمامِ غناه أنَّه كاملُ الأوصاف؛ إذ لو كان فيه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، لكان فيه نوعُ افتقار إلى ذلك الكمالِ، بل له كلُّ صفةِ كمالٍ، ومن تلك الصفةِ كمالُها، ومن تمام غناه أنَّه لم يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولدًا، ولا شريكًا في مُلكِه ولا ظهيرًا، ولا مُعاونًا له على شيءٍ من تدابير مُلكِه، ومن كمالِ غناه افتقارُ العالَم العُلويِّ والسُّفليِّ في جميع أحوالِهم وشؤونِهم إليه، وسؤالُهم إيَّاه جميعَ حوائجِهم الدَّقيقةِ والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلُطفِه وهداهم يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 208). .
4- قال الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا الحميدُ من أسماء الله تعالى الجليلةِ، الدَّالُّ على أنَّه هو المستحِقُّ لكلِّ حمد ومحبَّةٍ وثناء وإكرام؛ وذلك لِمَا اتَّصَف به من صفاتِ الحمد، الَّتي هي صفةُ الجمال والجلال، ولِمَا أنعَم به على خَلْقِه من النِّعمِ الجِزال؛ فهو المحمودُ على كلِّ حال يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 208). .
5- إثباتُ المشيئةِ لله، وتؤخَذُ من قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، والمشيئةُ الثَّابتة لله ليست مشيئةً مطلَقة مجرَّدة عن الحكمة، بل هي مشيئةٌ مقرونةٌ بالحكمة، فكلُّ شيءٍ علَّقه اللهُ بالمشيئة، فالمراد المشيئةُ الَّتي تقتضيها الحكمةُ، بدليلِ قول الله تبارك وتعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] ، فدلَّ ذلك على أنَّ مشيئةَ الله مقرونةٌ بالعِلم والحكمة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/316). .
6- في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا الرَّدُّ على الجبريَّة؛ وذلك بإثباتِ الإرادة للعبدِ، والجبريَّةُ يقولون: إنَّ العبدَ ليس له إرادةٌ، وأنَّه مجبَرٌ على عملِه ليس له إرادة، وهذه الآية وغيرها تردُّ عليهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/322). .
7- في قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إثباتُ اسمينِ من أسماء الله، هما (السَّميع) و(البصير)، وإثبات ما يترتَّب عليهما من وصفِ (السَّمع) و(البصر)، وإثبات ما يترتَّب عليهما من أثرٍ، وهو أنَّه يسمَعُ ويُبصِرُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/323). .
8- قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية تدلُّ على أنَّ الإسلامَ يَهدي أهلَه إلى سعادةِ الدَّارينِ، وأنْ يتذكَّروا أنَّ كلًّا من ثوابِ الدُّنيا وثواب الآخِرة من فضلِ الله ورحمتِه يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/370). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: جملةٌ مستأنَفةٌ منبِّهةٌ على كمالِ سَعتِه، وعِظَم قُدرتِه، وهي كنايةٌ عن عظيمِ سلطانه واستحقاقِه للتَّقوى يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/219-221) .
- وفيه تَكرار قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ في آيتينِ، إحداهما في إثرِ الأخرى؛ لاختلافِ معنى الخبرينِ عمَّا في السَّموات والأرض في الآيتين؛ وذلك أنَّ الخبرَ عنه في إحدى الآيتين: ذِكرُ حاجتِه إلى بارئه وغِنى بارئِه عنه، وفي الأخرى: حِفظُ بارئِه إيَّاه به وعِلمُه به وتدبيره يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/580)، ((تفسير الزمخشري)) (1/574). ، وكذلك هو تكرار مهمٌّ؛ ففي الأوَّل بيانُ غِناه عزَّ وجلَّ عن خَلقِه، وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، وفي الثَّاني: بيان مراقبتِه لخَلْقِه؛ فالآيةُ الأخيرة تتضمَّنُ التَّحذيرَ من المخالَفة، والأولى تتضمَّنُ الأمرَ بالموافقة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/314). . وفي هذا التَّكريرِ تقريرٌ لِمَا هو موجِبُ تَقْواه ليتَّقوه، فيُطيعوه ولا يعصُوه؛ لأنَّ الخشيةَ والتَّقوى أصلُ الخيرِ كلِّه يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/574). .
- ولم يقُلْ: (وكان الله غنيًّا حميدًا وكفى بالله وكيلًا)؛ لأنَّ الَّذي في الآية الَّتي قال فيها: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، ممَّا صلَح أنْ يَختِمَ ما ختَم به مِن وصْفِ الله بالغِنى، وأنَّه محمودٌ، ولم يَذكُرْ فيها ما يصلُحُ أنْ يختِمَ بوصفِه معه بالحفظ والتَّدبير؛ فلذلك كرَّر قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/580). .
2- قوله: قَدِيرًا: التَّعبير بصِيغة (فعيل)؛ للمبالغةِ وتبيينِ بليغِ القدرةِ، وأنَّه سبحانه لا يُعجِزُه مرادٌ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/574)، ((تفسير البيضاوي)) (2/102)، ((تفسير أبي حيان)) (4/93). .