موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (36-38)

ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غريب الكلمات:

فَيُحْفِكُمْ: أي: يُجهِدْكم بمَسألةِ أموالِكم، والإحفاءُ في السُّؤالِ: الإلحاحُ في المُطالَبةِ، وهو مِثلُ الإلحافِ سَواءً؛ فإنَّ الإحفاءَ والإلحافَ: المُبالَغةُ وبُلوغُ الغايةِ في كُلِّ شَيءٍ، وأصلُه يدُلُّ على الاستِقصاءِ [574] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/231)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/83)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (20/272)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 989)، ((تفسير الألوسي)) (13/ 235). .
تَتَوَلَّوْا: أي: تُعرِضوا؛ فالفِعلُ (ولَّى) إذا عُدِّي بـ (عن) لَفظًا أو تقديرًا -كما هنا- اقتَضى معنى الإعراضِ والتَّركِ، وإذا عُدِّي بنَفْسِه اقتَضَى مَعنى الوِلايةِ والقُرْبِ [575] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 886)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 951). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا حقيقةَ الدُّنيا، ومُزهِّدًا فيها: إنَّما حَقيقةُ الحياةِ الدُّنيا أنَّها لَعِبٌ لا فائِدةَ فيه، ولَهوٌ يَتلهَّى النَّاسُ به؛ فلا تَضعُفوا عن الجِهادِ بسَبَبِها، وإنْ تُؤمِنوا وتَتَّقوا اللهَ بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه، يُعْطِكم ثوابَ إيمانِكم، ولا يَسْألْكم أموالَكم؛ إنْ يَسأَلْكم اللهُ أموالَكم، ويُجهِدْكم بمَسألةِ  أموالِكم في سَبيلِه تعالى؛ تَمتَنِعوا مِن إخراجِها بُخلًا بها، ويُظهِرِ اللهُ ما في بواطِنِكم مِن أحقادٍ!
ثمَّ يَدعو اللهُ تعالى إلى الإنفاقِ في سبيلِه، فيقولُ: ها أنتم هؤلاء تُدْعَونَ لِتُنفِقوا أموالَكم في جِهادِ أعداءِ اللهِ، ونُصرةِ دينِه؛ فمِنكم مَن يَبخَلُ بمالِه، ومَن يَبخَلْ بمالِه فإنَّما يُمسِكُ عن نَفْسِه الثَّوابَ والخَيرَ الجَزيلَ، واللهُ الغنيُّ عن كُلِّ ما سِواه، وأنتم الفُقَراءُ إليه، وإنْ تُعرِضوا -أيُّها النَّاسُ- عمَّا أمَرَكم اللهُ تعالى به، يَستبدِلْ بكم قَومًا غَيرَكم، ثمَّ لا يَكونوا أمثالَكم في الإعراضِ عن دينِ اللهِ، والبُخلِ بالأموالِ، بل يَكونونَ أطْوَعَ للهِ منكم!

تفسير الآيات:

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ أمَر المُؤمِنينَ بتَركِ المعاصي لأنَّها مُحبِطةٌ لثَوابِ الأعمالِ الصَّالِحةِ، وأمَرَهم بالتَّشميرِ عن ساعِدِ الجِدِّ للجِهادِ ومُقاتَلةِ الأعداءِ نُصرةً لدِينِه، ووعَدَهم بأنَّ اللهَ ناصِرُهم وهم الأعلَوْنَ، فلا يَنْبَغي لهم أن يَطلُبوا المُهادَنةَ مِن العُدُوِّ خَوَرًا وجُبنًا خَوفًا على الحياةِ ولَذَّاتِها - أكَّدَ هذا المعنى فأبانَ أنَّه لا يَنبَغي لكم -أيُّها المُؤمِنون- الحِرصُ على الدُّنيا؛ فإنَّها ظلٌّ زائلٌ، وعَرَضٌ غيرُ باٍق [576] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/77). .
وأيضًا لَمَّا أتمَّ العِلَّةَ الأُولى الصَّادَّةَ عن الطَّاعةِ، أقْبَلَ على الثَّانيةِ القائدةِ إلى المعصيةِ، المُلائمةِ للشَّهوةِ، المُبطِلةِ للأعمالِ، المُوجِبةِ للتَّهاوُنِ المُؤدِّي إلى عَدَمِ المَغفِرةِ؛ فقال [577] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/263). :
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
أي: إنَّما حَقيقةُ الحياةِ الدُّنيا أنَّها لَعِبٌ لا فائدةَ منه، ولَهوٌ يَتلهَّى النَّاسُ به؛ فلا تَضعُفوا عن الجِهادِ بسَبَبِها [578] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/230)، ((تفسير ابن عطية)) (5/123)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/264، 265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790). قال الرازيُّ: (اللَّعِبُ: ما تَشتَغِلُ به ولا يكونُ فيه ضَرورةٌ في الحالِ، ولا مَنفعةٌ في المآلِ، ثمَّ إنِ استَعمَلَه الإنسانُ، ولم يَشغَلْه عن غيرِه، ولم يَثْنِه عن أشغالِه المُهِمَّةِ؛ فهو لَعِبٌ، وإن شَغَلَه ودَهَشَه عن مُهِمَّاتِه فهو لَهوٌ، ولهذا يُقالُ: مَلاهٍ لآلاتِ الملاهي؛ لأنَّها مَشْغلةٌ عن الغيرِ، ويقالُ لِما دونَه لَعِبٌ، كاللَّعِبِ بالشِّطْرَنجِ والحَمامِ). ((تفسير الرازي)) (28/62). وقال أبو هلالٍ العسكريُّ: (الفرقُ بيْنَ اللَّهْوِ واللَّعِبِ: أنَّه لا لَهْوَ إلَّا لَعِبٌ، وقد يكونُ لَعِبٌ ليس بِلَهْوٍ...، وإنَّما اللَّهوُ لَعِبٌ لا يُعقِبُ نفعًا. وسُمِّيَ لَهْوًا؛ لأنَّه يَشغَلُ عما يَعني، مِن قولِهم: ألْهاني الشَّيءُ، أي: شغَلَني، ومنه قولُه تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] ). ((الفروق اللغوية)) (ص: 254). وقال السعديُّ: (لَعِبٌ في الأبدانِ، ولهوٌ في القُلوبِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 790). وقال ابنُ عاشور: (اللَّعِبُ: الفِعلُ الَّذي يريدُ به فاعِلُه الهَزْلَ دونَ اجتِناءِ فائدةٍ، كأفعالِ الصِّبيانِ في مَرَحِهم. واللَّهوُ: العمَلُ الَّذي يُعمَلُ لِصَرفِ العَقلِ عن تَعَبِ الجِدِّ في الأُمورِ، فيَلهو عمَّا يَهتَمُّ له، ويَكِدُّ عَقْلَه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). وقيل: اللَّهوُ واللَّعبُ يَشترِكانِ في أنَّهما اشتِغالٌ بما لا يَعني، مِن هوًى أو طرَبٍ، حرامًا أو لا. قيل: واللَّهوُ أعَمُّ مُطلَقًا، فاستِماعُ الملاهي لَهْوٌ لا لَعِبٌ. وقيل: اللَّعِبُ ما قُصِد به تعجيلُ المسَرَّةِ والاستِرواحُ به، واللَّهوُ ما شغَل مِن هوًى وطرَبٍ وإن لم يُقصَدْ به ذلك. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 799)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (39/497). .
كما قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] .
وقال سُبحانَه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ.
أي: وإنْ تُؤمِنوا وتَتَّقوا اللهَ بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه، ومِن ذلك القيامُ بجِهادِ أعدائِه؛ يُعْطِكم ثوابَ إيمانِكم وتَقواكم بما هو خيرٌ لكم مِن لَعِبِ الدُّنيا ولَهْوِها [579] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/230)، ((تفسير السمرقندي)) (3/307)، ((البسيط)) للواحدي (20/272)، ((تفسير الزمخشري)) (4/330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). قال البقاعيُّ: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا أي: تَخافوا فتَجعَلوا بيْنَكم وبيْنَ غَضَبِه سُبحانَه وقايةً؛ مِن جهادِ أعدائِه، ومُقاساةِ لَفحِ إيقادِ الحُروبِ، وحَرِّ الأمرِ بالمعروفِ، وإنفاقِ الأموالِ في ذلك؛ فتَكونوا جادِّينَ فتَترُكوا اللَّهْوَ واللَّعِبَ القائِدَينِ إلى الكُفرِ يُؤْتِكُمْ أي: اللهُ الَّذي فعَلْتُم ذلك مِن أجْلِه في الدَّارِ الآخرةِ أُجُورَكُمْ). ((نظم الدرر)) (18/265). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28] .
وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ.
أي: وإنْ تُؤمِنوا وتَتَّقوا فإنَّ اللهَ لا يَسْألُكم أموالَكم [580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/230، 231)، ((تفسير ابن عطية)) (5/123)، ((تفسير القرطبي)) (16/257)، ((تفسير ابن كثير)) (7/323، 324)، ((تفسير الشوكاني)) (5/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/134، 135). قيل: المرادُ: لا يَسألكم رَبُّكم أموالَكم، ولكِنَّه يُكَلِّفُكم توحيدَه، ويَطلُبُ منكم الإيمانَ به، وجهادَ عدوِّه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/230، 231)، ((الهداية)) لمكي (11/6921). وقيل: المعنى: لا يَسألكم مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أموالَكم أجرًا على تبليغِ الرِّسالةِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/246)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1005). وقيل: المعنى: لا يأمُركم بإخراجِ جميعِ أموالِكم، بل يأمُرُ ببَعضِها. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: القرطبيُّ، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/257)، ((تفسير الشوكاني)) (5/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790). وقيل: المعنى: أنَّ اللهَ تعالى غَنيٌّ عنكم، لا يَطلُبُ منكم شيئًا، وإنَّما فرَضَ عليكم الصَّدَقاتِ مِن الأموالِ مُواساةً لإخوانِكم الفُقَراءِ؛ لِيَعودَ نَفعُ ذلك عليكم، ويَرجِعَ ثَوابُه إليكم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/323، 324). وممَّن جمَع بيْنَ القولَينِ الأخيرَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/266). وقيل: المعنى: لا يسألكم أموالَكم، وإنَّما يَسألُكم أموالَه؛ لأنَّه أَملَكُ لها، وهو المُنعِمُ بإعطائِها. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/307). وقال ابنُ عاشور: (عَطفُ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لِمُناسَبةِ قَولِه: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ، أي: إنَّ اللهَ يتفَضَّلُ عليكم بالخَيراتِ، ولا يحتاجُ إلى أموالِكم... فقَولُه: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ يفيدُ بعُمومِه وسِياقِه معنى: لا يَسألْكم جميعَ أموالِكم، أي: إنَّما يَسألُكم ما لا يُجحِفُ بكم... ويجوزُ أن يُفيدَ أيضًا معنى: أنَّه لا يُطالِبُكم بإعطاءِ مالٍ لِذَاتِه؛ فإنَّه غنيٌّ عنكم، وإنَّما يأمُرُكم بإنفاقِ المالِ لِصالِحِكم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/134، 135). .
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37).
أي: إنْ يَسأَلْكم اللهُ أموالَكم، ويُجهِدْكم بمسألتِها، ويُلِحَّ عليكم؛ تَمتَنِعوا مِن إخراجِها بُخلًا بها، ويُظهِرِ اللهُ حينَئذٍ ما في بواطِنِكم مِن أحقادٍ [581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/231)، ((تفسير السمعاني)) (5/186)، ((الوسيط)) للواحدي (4/130)، ((تفسير ابن عطية)) (5/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790). قال ابنُ عاشور: (الإحفاءُ... عَبَّرَ به هنا عن الجَزمِ في الطَّلَبِ، وهو الإيجابُ، أي: فيُوجِبْ عليكم بَذْلَ المالِ، ويَجعَلْ على مَنْعِه عُقوبةً). ((تفسير ابن عاشور)) (26/135). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ: يُظهِرْ بُغضَكم وعَداوتَكم لله تعالى، ولِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمؤمنينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: السمرقنديُّ، والواحدي، والبغوي، وابنُ الجوزي، والخازن. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/307)، ((الوسيط)) للواحدي (4/130)، ((تفسير البغوي)) (4/219)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/123)، ((تفسير الخازن)) (4/151). وقيل: المرادُ: يُظهِرِ الإحفاءُ ما في بواطِنِكم مِن البُخلِ والإمساكِ، والنِّفاقِ والشَّكِّ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/186). ويُنظر أيضًا: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/54). قال الرازي: (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني: بسَبَبِه؛ فإنَّ الطَّالِبَ -وهو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابَه يَطلُبونَكم، وأنتم لِمَحبَّةِ المالِ وشُحِّ الأنفُسِ تَمتَنِعونَ، فيُفضي إلى القِتالِ، وتَظهَرُ به الضَّغائِنُ). ((تفسير الرازي)) (28/63). .
هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ تعالى ببُخْلِهم لو سُئِلوا أموالَهم، دَلَّ عليه بمَن يَبخَلُ منهم عَمَّا سألَه منهم، وهو جزءٌ يَسيرٌ جِدًّا مِن أموالِهم [582] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/267). !
هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ.
أي: إنَّكم تُدْعَونَ لِتُنفِقوا أموالَكم في جِهادِ أعداءِ اللهِ، ونُصرةِ دينِه؛ فمِنكم مَن يَبخَلُ بمالِه فلا يُنفِقُه في سَبيلِ اللهِ، كما أمَرَه اللهُ تعالى [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/231)، ((تفسير القرطبي)) (16/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/268، 269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 790). قال الرازي: (يعني: قد طلبتُ منكم اليسيرَ فبَخِلْتُم، فكيف لو طلَبْتُ منكم الكُلَّ؟!). ((تفسير الرازي)) (28/63). وقال السعدي: (والدَّليلُ على أنَّ اللهَ لو طلَبَ منكم أموالَكم وأحفاكم بسُؤالِها أنَّكم تَمتَنِعونَ منها: أنَّكم تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ على هذا الوَجهِ الَّذي فيه مَصلحتُكم الدِّينيَّةُ والدُّنيويَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 790). .
كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 254] .
وقال عزَّ وجلَّ: آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 10] .
وقال جلَّ شأنُه: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] .
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ.
أي: ومَن يَبخَلْ بمالِه فلا يُنفِقْه في سَبيلِ اللهِ، فإنَّما يَحرِمُ نَفْسَه مِنَ الثَّوابِ والخَيرِ الجَزيلِ [584] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/54)، ((تفسير ابن جرير)) (21/232)، ((تفسير الزمخشري)) (4/330)، ((تفسير القرطبي)) (16/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). قال ابنُ عطية: (قَولُه: عَنْ نَفْسِهِ يَحتَمِلُ مَعنَيينِ: أحدُهما: فإنَّما يَبخَلُ عن شُحِّ نَفْسِه. والآخَرُ: أن يكونَ بمنزلةِ «على»؛ لأنَّك تقولُ: بَخِلتُ عليك وبَخِلتُ عنك، بمعنى: أمسَكْتُ عنك). ((تفسير ابن عطية)) (5/123). وقال الألوسي: (يُقالُ: بَخِلتُ عليه وبَخِلتُ عنه؛ لأنَّ البُخلَ فيه معنى المَنعِ، ومعنى التَّضييقِ على مَن مُنِعَ عنه المعروفُ، والإضرارِ؛ فناسَبَ أن يُعَدَّى بـ «عن» للأوَّلِ، وبـ «على»: للثَّاني، وظاهِرٌ أنَّ مَن مَنَع المعروفَ عن نَفْسِه فإضرارُه عليها؛ فلا فَرْقَ بيْنَ اللَّفظَينِ في الحاصِلِ). ((تفسير الألوسي)) (13/236). وممَّن ذهب إلى الاحتمالِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/269). وممَّن ذهب إلى الاحتمالِ الثَّاني: الزمخشريُّ، والقرطبي، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/330)، ((تفسير القرطبي)) (16/258)، ((تفسير ابن كثير)) (7/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5 - 7] .
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ.
أي: واللهُ الغنيُّ عن كُلِّ ما سِواه، وأنتم الفُقَراءُ إليه دائِمًا في جميعِ أحوالِكم؛ فلا حاجةَ له إلى أموالِكم، وإنَّما أمَرَكم بالنَّفَقةِ في سَبيلِه؛ لِيَعودَ نَفعُ ذلك إليكم [585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/232)، ((تفسير ابن كثير)) (7/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.
أي: وإنْ تُعرِضوا -أيُّها النَّاسُ- عمَّا أمَرَكم اللهُ تعالى به، يَجئْ بقَومٍ غَيرِكم [586] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/232)، ((تفسير القرطبي)) (16/258)، ((تفسير ابن كثير)) (7/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/271)، ((تفسير الشوكاني)) (5/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/139). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38، 39].
ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ.
أي: ثمَّ لا يَكُنِ الَّذينَ نأتي بهم أمثالَكم في الإعراضِ عن دينِ اللهِ، والبُخلِ بالأموالِ، بل يَكونونَ أطوَعَ للهِ منكم [587] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/232)، ((تفسير ابن عطية)) (5/124)، ((تفسير ابن كثير)) (7/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ هذا تزهيدٌ منه تعالى لعِبادِه في الحياةِ الدُّنيا، بإخبارِهم عن حقيقةِ أمْرِها بأنَّها لَعِبٌ ولَهوٌ، فلا يزالُ العَبدُ لاهِيًا في مالِه وأولادِه وزِينتِه، ولَذَّاتِه مِنَ النِّساءِ والمآكِلِ والمَشارِبِ، والمساكِنِ والمجالِسِ، والمناظِرِ والرِّياساتِ، لاعِبًا في كُلِّ عمَلٍ لا فائِدةَ فيه، بل هو دائِرٌ بيْنَ البَطالةِ والغَفلةِ والمعاصي، حتَّى يَستكمِلَ دُنياه، ويَحضُرَه أجَلُه، فإذا هذه الأمورُ قد وَلَّت وفارَقَت، ولم يَحصُلِ العَبدُ منها على طائِلٍ! بل قد تَبَيَّنَ له خُسرانُه وحِرمانُه، وحضَرَ عذابُه، فهذا مُوجِبٌ للعاقِلِ الزُّهْدَ فيها، وعَدَمَ الرَّغبةِ فيها والاهتِمامِ بشَأنِها، وإنَّما الذي ينبغي أن يَهتَمَّ به ما ذَكَرَه بقَولِه تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا بأنْ تُؤمِنوا باللهِ وملائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتَقوموا بتَقواه الَّتي هي مِن لوازِمِ الإيمانِ ومُقتَضَياتِه، وهي العَمَلُ بمَرْضاتِه على الدَّوامِ، مع تَرْكِ مَعاصيه؛ فهذا الَّذي يَنفَعُ العبدَ، وهو الَّذي يَنبغي أن يُتنافَسَ فيه، وتُبذَلَ الهِمَمُ والأعمالُ في طلَبِه، وهو مقصودُ اللهِ تعالى مِن عِبادِه؛ رَحمةً بهم ولُطفًا؛ لِيُثيبَهم الثَّوابَ الجَزيلَ [588] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 790). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يُبَيِّنُ أنَّ ذلك البُخلَ ضَرَرُه عائِدٌ إليه؛ فلا تَظُنُّوا أنَّهم لا يُنفِقونَه على غَيرِهم، بل لا يُنفِقونَه على أنفُسِهم! فإنَّ مَن يَبخَلُ بأُجرةِ الطَّبيبِ وثَمَنِ الدَّواءِ وهو مريضٌ، لا يَبخَلُ إلَّا على نَفْسِه [589] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/63). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تَحذيرٌ مِن أنْ يَحمِلَهم حُبُّ لَذائذِ العَيشِ على الزَّهادةِ في مُقابَلةِ العَدُوِّ، والدَّعوةِ إلى مُسالَمتِه؛ فإنَّ ذلك يُغْري العَدُوَّ بهم [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). .
2- قال الله تعالى: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَصْفُها باللَّعِبِ واللَّهوِ هو على أنَّها وما فيها مِمَّا يَختَصُّ بها: لَعِبٌ، وإلَّا ففي الدُّنيا ما ليس بلَعِبٍ ولا لَهوٍ، وهو الطَّاعةُ، وأمرُ الآخِرةِ وما جرى مَجراه [591] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/123). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ دَلَّت إضافةُ الأضغانِ إلى ضَميرِهم على أنَّ كُلَّ إنسانٍ يَنطوي بما له مِنَ النُّقصانِ على ما جُبِلَ عليه مِن الأضغانِ، إلَّا مَن عَصَم الرَّحيمُ الرَّحمنُ [592] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/267). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هذا دليلٌ على أنَّ العَبدَ إذا مَنَع في مواسِمِ الخَيراتِ سِوى الزَّكاةِ: لم يَخرُجْ مِن البُخلِ؛ فحَدُّ البُخلِ: مَنعُ ما يَرتَضيه الشَّرعُ والمروءةُ؛ فلا بُدَّ مِن مُراعاةِ المُروءةِ، ورَفعِ قُبحِ الأُحدُوثةِ [593] الأُحْدُوثة: ما يُتحدَّثُ به. ويُقالُ: صار فُلانٌ أُحْدوثةً، أي: أكثَروا فيه الأحاديثَ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (4/234)، ((الصحاح)) للجوهري (1/279). ، وذلك يختَلِفُ باختِلافِ الأشخاصِ [594] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/267). .
5- قال اللهُ تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ، وهذا مُراعاةٌ لحالِ كثيرٍ يومَئذٍ بالمدينةِ كانوا حَديثي عَهدٍ بالإسلامِ، وكانوا قد بَذَلوا مِن أموالِهِم للمُهاجِرين فيسَّرَ اللهُ عليهم بأنْ لم يَسأَلْهم زِيادةً على ذلك، وكان بيْنَهم كثيرٌ مِن أهلِ النِّفاقِ يَترصَّدونَ الفُرَصَ لفِتنَتِهم... وهذا يُشيرُ إليه عَطفُ قَولِه: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ؛ أي: تَحدُثُ فيكم أضغانٌ؛ فيكونُ سُؤالُه أموالَكم سببًا في ظُهورِها، فكأنَّه أظهَرَها، وهذه الآيةُ أصلٌ في سَدِّ ذَريعةِ الفَسادِ [595] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/135). .
6- قال اللهُ تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ قَولُه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا إلخ. كيف مَوقِعُه بعدَ قَولِه: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ؛ فإنَّ الدَّعوةَ للإنفاقِ عَينُ سُؤالِ الأموالِ؟ فكيف يُجمَعُ بيْنَ ما هنا وبيْنَ قَولِه آنِفًا: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ؟
الجوابُ: يجوزُ أن يكونَ المعنى: تُدْعَونَ لِتُنفِقوا في سَبيلِ اللهِ؛ لِتَدفَعوا أعداءَكم عنكم، وليس ذلك لِيَنتفِعَ به اللهُ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد: 38] ، ونَظمُ الكَلامِ يَقتَضي أنَّ هذه دَعوةٌ للإنفاقِ في الحالِ، وليس إعلامًا لهم بأنَّهم سيُدْعَونَ للإنفاقِ، فهو طَلَبٌ حاصِلٌ، ويُحمَلُ تُدْعَوْنَ على معنى: تُؤمَرونَ، أي: أمْرَ إيجابٍ.
ويجوزُ أن يُحمَلَ تُدْعَوْنَ على دَعوةِ التَّرغيبِ، فتَكونَ الآيةُ تَمهيدًا للآياتِ المُقتَضيةِ إيجابَ الإنفاقِ في المُستقبَلِ، مِثلُ آيةِ: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41] ونحوِها.
ويجوزُ أن يكونَ إعلامًا بأنَّهم سيُدعَونَ إلى الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ فيما بعدَ هذا الوَقتِ، فيكونَ المضارِعُ مُستَعمَلًا في زَمَنِ الاستِقبالِ، والمضارِعُ يحتَمِلُه في أصلِ وَضْعِه [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/136). .
7- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ أنَّ اللهَ غنيٌّ عن العِبادِ، فلو ارتدَّ قَومٌ جاء اللهُ بقَومٍ آخَرينَ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/34). .
8- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ تهديدٌ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُخالِفَ أوامِرَه أحَدٌ [598] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/315). .
9- قد وقَعَ الإخبارُ مِن اللهِ تعالى عن قُدرَتِه سُبحانَه على تَبديلِهم بخَيرٍ منهم، وفي بعضِها تبديلُ أمثالِهم، وفي بعضِها استِبدالُه قومًا غيرَهم، ثمَّ لا يَكونوا أمثالَهم؛ فهذه ثلاثةُ أُمورٍ يجِبُ مَعرِفةُ ما بيْنَها مِن الجَمعِ والفَرقِ.
 فحيث وقَعَ التَّبديلُ بخَيرٍ منهم فهو إخبارٌ عن قُدرَتِه على أن يَذهَبَ بهم ويأتِيَ بأطوَعَ وأتْقى له منهم في الدُّنيا، وذلك قَولُه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ؛ يعني: بل يَكونوا خيرًا منكم. قال مُجاهِدٌ: (يَستبدِلُ بهم مَن شاء مِن عِبادِه فيَجعَلُهم خَيرًا من هؤلاءِ، فلم يَتوَلَّوْا بحمدِ اللهِ ولم يَستبدِلْ بهم).
 وأمَّا ذِكرُه تَبديلَ أمثالِهم ففي سورةِ (الواقِعةِ) وسورةِ (الإنسانِ)؛ فقال في (الواقِعةِ): نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 60، 61]، وقال في سورةِ (الإنسانِ): نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا [الإنسان: 28]؛ قال كثيرٌ مِن المُفسِّرينَ: المعنى: أنَّا إذا أرَدْنا أن نَخلُقَ خَلقًا غَيرَكم لم يَسبِقْنا سابِقٌ، ولم يَفُتْنا ذلك، وفي قَولِه: وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا إذا شِئْنا أهْلَكْناهم وأتَيْنا بأشْباهِهم فجَعلْناهُم بَدلًا منهم، قيلَ: قَومًا مُوافِقينَ لهم في الخَلقِ مُخالِفين لهم في العَمَلِ؛ وعلى هذا فتَكونُ هذه الآياتُ نظيرَ قولِه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ [النساء: 133] ، فيكونُ استِدلالًا بقُدرتِه على إذهابِهم والإتيانِ بأمثالِهم على إتْيانِه بهم أنفُسِهم إذا ماتوا [599] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 196-198). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
- قولُه: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تَعليلٌ لِمَضمونِ قَولِه: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ... [محمد: 35] الآيةَ. وافْتِتاحُها بـ (إنَّ) مُغْنٍ عن افتِتاحِها بِفاءِ التَّسبُّبِ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/132). .
- والمُرادُ بـ الْحَيَاةُ أحوالُ مُدَّةِ الحَياةِ؛ فهو على حَذْفِ مُضافَينِ [601] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). .
- والإخبارُ عن الحياةِ بأنَّها لَعِبٌ وَلَهْوٌ على مَعنَى التَّشبيهِ البَليغِ؛ شُبِّهَت أحْوالُ الحياةِ الدُّنيا باللَّعِبِ واللَّهوِ في عَدَمِ تَرتُّبِ الفائدةِ عليها؛ لأنَّها فانيةٌ مُنْقضيةٌ، والآخِرةَ هي دارُ القَرارِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). .
- قولُه: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ عطف على قَولِه: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: 35] ؛ تَذْكيرًا بأنَّ امتِثالَ هذا النَّهيِ هو التَّقْوى المَحمودةُ، ولأنَّ الدُّعاءَ إلى السَّلْمِ قدْ يكونُ الباعثُ عليه حُبَّ إبقاءِ المالِ الَّذي يُنفَقُ في الغَزْوِ، فذُكِّروا هنا بالإيمانِ والتَّقوى؛ لِيَخْلَعوا عن أنفُسِهم الوَهنَ؛ لأنَّهم نُهُوا عنْه وعن الدُّعاءِ إلى السَّلْمِ؛ فكان الكفُّ عن ذلك مِن التَّقوى، وعُطِفَ عليه أنَّ اللهَ لا يَسْأَلُهم أمْوالَهم إلَّا لِفائدتِهم وإصلاحِ أُمورِهم؛ ولذلك وقَعَ بعْدَه قَولُه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [603] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/133). [محمد: 38] .
- والمَقصودُ مِن الجُملةِ قَولُه: وَتَتَّقُوا، وأمَّا ذِكْرُ تُؤْمِنُوا؛ فللِاهتِمامِ بأمْرِ الإيمانِ. ووُقوعُ تُؤْمِنُوا في حيِّزِ الشَّرْطِ مع كَونِ إيمانِهم حاصِلًا يُعَيِّنُ صَرْفَ مَعنى التَّعليقِ بالشَّرْطِ فيه إلى إرادةِ الدَّوامِ على الإيمانِ؛ إذ لا تَتقوَّمُ حَقيقةُ التَّقْوى إلَّا مع سَبْقِ الإيمانِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/134). .
- والظَّاهرُ أنَّ جُملةَ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إدْماجٌ [605]  الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، وأنَّ المَقصودَ مِن جَوابِ الشَّرْطِ هو جُملةُ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وعُطِفَ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لِمُناسَبةِ قَولِه: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ، أي: إنَّ اللهَ يَتفضَّلُ عليكم بالخَيراتِ، ولا يَحتاجُ إلى أمْوالِكم، وكانتْ هذه المُناسباتُ أحسَنَ رَوابطَ لِنَظْمِ المَقصودِ مِن هذه المَواعِظِ؛ لأنَّ البُخْلَ بالمالِ مِن بَواعِثِ الدُّعاءِ إلى السَّلْمِ [606] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/134). .
- وقولُه: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ يُفِيدُ بِعُمومِه وسِياقِه معنَى: لا يَسْأَلْكم جَميعَ أمْوالِكم -على قولٍ-، أي: إنَّما يَسأَلُكم ما لا يُجحِفُ بكم؛ فإضافةُ (أمْوالٍ) -وهو جمْعٌ- إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ تُفِيدُ العُمومَ؛ فالمَنفِيُّ سُؤالُ إنفاقِ جَميعِ الأمْوالِ، فالكَلامُ مِن نَفْيِ العُمومِ لا مِن عُمومِ النَّفْيِ [607] نفيُ العُمومِ: هو نفْيُ الشُّمولِ والعُمومِ، أي: الكُلِّيَّة، وهو يَصدُقُ بنفيِ واحدٍ، وقد يكونُ بالثُّبوتِ في البعضِ، تقولُ: لم أفعَلْ كلَّ ذلك؛ فتُفيدُ أنَّك نفَيْتَ عن نفْسِك فِعلَ الجميعِ، وهذا لا يَلزَمُ منه نفْيُ البعض. بخِلافِ عُمومِ النَّفيِ؛ فإنَّ النَّفيَ فيه يَلزَمُ منه نفْيُ الكلِّ والبعضِ، كقولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّها نفْيٌ لجميعِ الآلِهةِ سِوى اللهِ تعالَى؛ فعُمومُ النَّفيِ إنَّما يَصدُقُ بنَفْي الجميعِ. يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/343)، ((تلقيح المفهوم في تنقيح صيغ العموم)) للعلائيِّ (ص: 62)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 124)، ((خصائص التراكيب دراسة تحليلية لمسائل علم المعاني)) لمحمد محمد أبو موسى (ص: 236). بقَرينةِ السِّياقِ، وما يَأْتي بعْدَه مِن قَولِه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآيةَ. ويَجوزُ أنْ يُفيدَ أيضًا معنَى: أنَّه لا يُطالِبُكم بإعْطاءِ مالٍ لِذَاتِه؛ فإنَّه غَنِيٌّ عنكم، وإنَّما يَأمُرُكم بإنفاقِ المالِ لِصالِحِكم، كما قال: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد: 38] . وهذا تَوطِئةٌ لِقَولِه بعْدَه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قَولِه: فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: 38] ، أي: ما يكونُ طَلَبُ بَذْلِ المالِ إلَّا لِمَصْلحةِ الأُمَّةِ، وأيَّةُ مَصلحةٍ أعظَمُ مِن دَفْعِها العَدُوَّ عن نفْسِها؛ لئلَّا يُفسِدَ فيها ويَستعبِدَها [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/134، 135). ؟!
- والآيةُ مِن الاحتِباكِ [609] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذِكرُ الحَياةِ الدُّنيا واللَّهوِ واللَّعِبِ أوَّلًا دالٌّ على ذِكرِ الآخِرةِ والجِدِّ ثانيًا، وذِكرُ الإيمانِ والتَّقْوى ثانيًا دالٌّ على حَذفِ ضِدِّهما: الكُفرانِ والجُرأةِ أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّ تَصويرَ الشَّيءِ بحالِ الصَّبيِّ والسَّفيهِ أشدُّ في الزَّجرِ عنه عندَ ذَوي الهِمَمِ العالِيةِ، وذِكرُ الأجرِ المُرتَّبِ على الخَوفِ -الَّذي هو فِعلُ الحَزَمةِ- أعْوَنُ على تَركِه [610] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/266). .
2- قَولُه تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ تَعْليلٌ لِنَفْيِ سُؤالِه إيَّاهم أمْوالَهم [611] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/135). .
3- قَولُه تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ
- قولُه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ مُركَّبٌ مِن كَلمةِ (ها)؛ تَنبيهٌ في ابتِداءِ الجُملةِ، ومِن ضَميرِ الخِطابِ، ثُمَّ مِن (ها) التَّنبيهِ الدَّاخلةِ على اسْمِ الإشارةِ المُفيدةِ تَأْكيدَ مَدلولِ الضَّميرِ. وكَرَّرَ هاءَ التَّنبيهِ للتأكيدِ [612] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/478)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/137). .
- وقولُه: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... استِئنافٌ مُقرِّرٌ ومُؤكِّدٌ لِمَا سبَقَ؛ لاتِّحادِ مُحصِّلِ مَعناهما؛ فإنَّ دعوتَهم للإنفاقِ هو سُؤلُ الأموالِ منهم، وبُخْلَ ناسٍ منهم هو معنَى عدمِ الإعطاءِ المذكورِ مُجمَلًا أوَّلًا. أو صِلةٌ لـ هَؤُلَاءِ على أنَّه بمعنَى (الذين) [613] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/125)، ((تفسير الألوسي)) (13/236). .
- وقَولُه: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إمَّا مَسوقٌ مَساقَ التَّوبيخِ، أو مَساقَ التَّنبيهِ على الخطَأِ في الشُّحِّ ببَذْلِ المالِ في الجِهادِ الَّذي هو مَحَلُّ السِّياقِ؛ لأنَّ المرْءَ قد يَبخَلُ بُخلًا ليس عائدًا بُخْلُه عن نفْسِه [614] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/136، 137). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن (إِنَّمَا) قَصْرُ قَلْبٍ [615] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). باعتبارِ لازِمِ بُخْلِه؛ لأنَّ الباخلَ اعتقَدَ أنَّه مَنَع مَن دَعاهُ إلى الإنفاقِ، ولكنَّ لازِمَ بُخْلِه عاد عليه بحِرْمانِ نَفْسِه مِن مَنافِعِ ذلك الإنفاقِ [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/137). .
- قَولُه: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ هو كالدَّليلِ على الآيةِ المُتقدِّمةِ [617] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/125)، ((تفسير الألوسي)) (13/236). .
- وفي قَولِه: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ حَذَف القِسمَ الآخَرَ وهو (وَمِنْكُمْ مَنْ يَجودُ)؛ لأنَّ المُرادَ الاستِدلالُ على ما قبْلَه مِن البُخلِ [618] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/269). .
- ولإرادةِ التَّوكيدِ ذَيَّلَ الكلامَ بقولِه: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ، وجعَلَه كالاعتِراضِ بيْنَ المتقابِلَينِ، وهُما قولُه: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا وقولُه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [619] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/366)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/138). .
- والتَّعريفُ باللَّامِ في الْغَنِيُّ والْفُقَرَاءُ تَعريفُ الجِنْسِ، وهو فيهما مُؤذِنٌ بِكَمالِ الغِنى ونِهايةِ الفقْرِ، ولَمَّا وقعَا خبَرَينِ وهما مَعرِفتانِ أفادَا الحصرَ، أي: قَصْرَ الصِّفةِ على المَوصوفِ، أي: قَصْرَ جِنسِ الغنيِّ على اللهِ، وقصْرَ جِنسِ الفُقراءِ على المُخاطَبين بـ (أَنْتُمْ) وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ [620] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). فيهما، مُرتَّبٌ على دَلالةِ (أل) على معنَى كمال الجِنسِ؛ فإنَّ كمالَ الغِنَى للهِ لا محالةَ لعُمومِه ودوامِه، وإنْ كان يَثبُتُ بعضُ جِنسِ الغِنَى لغيرِه. وأمَّا كمالُ الفَقرِ للنَّاسِ فبِالنِّسبةِ إلى غِنَى اللهِ تعالَى وإنْ كانوا قد يَغنُونَ في بعضِ الأحوالِ، لكن ذلك غِنًى قليلٌ وغيرُ دائمٍ [621] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/366)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/138). .
- والاسْتِبْدالُ: التَّبديلُ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمبالَغةِ. ومَفعولُ الاستِبْدالِ قَوْمًا، أو المُستبدَلُ به مَحذوفٌ، دلَّ على تَقديرِه قَولُه: غَيْرَكُمْ؛ فعُلِمَ أنَّ المُستبدَلَ به هو ما أُضِيفَ إليه (غَير)؛ لِتَعيُّنِ انْحصارِ الاستِبدالِ في شَيئينِ، فإذا ذُكِرَ أحدُهما عُلِمَ الآخَرُ، والتَّقديرُ: يَستبدِلْ قومًا بكم؛ لأنَّ المُستعمَلَ في فِعلِ الاستِبدالِ والتَّبديلِ أنْ يكونَ المَفعولُ هو المُعوَّضَ، ومَجرورُ الباءِ هو العِوَضَ، وعُدِلَ في هذه الآيةِ عن ذِكرِ المَجرورِ بالباءِ مع مَفعولِ الاستِبْدالِ؛ لِلإيجازِ، والمعنى: يَتَّخِذ قَومًا غَيرَكم لِلإيمانِ والتَّقْوى، وهذا لا يَقْتضي أنَّ اللهَ لا يُوجِدُ قَومًا آخَرينَ إلَّا عِندَ ارتدادِ المُخاطَبينَ، بلِ المُرادُ: أنَّكم إنِ ارْتَددْتُم عن الدِّينِ كان للهِ قَومٌ مِن المؤمنينَ لا يَرْتَدُّون، وكان للهِ قَومٌ يَدْخُلون في الإيمانِ ولا يَرتَدُّون [622] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/138، 139). .
- وحَرْفُ (ثُمَّ) في قَولِه: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ لِلتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لإفادةِ الاهتِمامِ بصِفةِ الثَّباتِ على الإيمانِ وعُلُوِّها على مُجرَّدِ الإيمانِ، أي: ولا يَكونوا أمْثالَكم في التَّولِّي [623] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/139). .
- وهذه الجُملةُ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ مَعطوفةٌ بـ (ثُمَّ) على جُملةِ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ؛ فهي في حَيِّزِ جَوابِ الشَّرطِ، والمَعطوفُ على جَوابِ الشَّرطِ بحَرْفٍ مِن حُروفِ التَّشريكِ يَجوزُ جَزْمُه على العطْفِ، ويَجوزُ رَفْعُه على الاسْتِئنافِ. وقد جاء في هذه الآيةِ على الجزْمِ، وجاء في قَولِه تعالى: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران: 111] على الرَّفْعِ. وإيثارُ الجَزْمِ هنا وإيثارُ الاستِئنافِ هنالك لِمُناسَبةٍ حَسَنةٍ؛ وهي أنَّ هاهنا لا يَكونُ مُتعلِّقًا بالتَّولِّي؛ لأنَّهم إنْ لم يَتولَّوا يَكونونَ ممَّن يأْتِي اللهُ بهم على الطَّاعةِ، وإنْ تَولَّوا لا يَكونونَ مِثلَهم؛ لِكَونِهم عاصِينَ، وكَونِ مَن يَأْتي اللهُ بهم مُطِيعينَ، وأمَّا هنالك فسواءٌ قاتَلوا أو لمْ يُقاتِلوا لا يُنصَرون؛ فلمْ يكُنْ لِلتَّعليقِ -أي: بالشَّرْطِ- هُنالك وَجْهٌ، فرُفِعَ بالابتِداءِ، وهاهنا جُزِمَ لِلتَّعليقِ. ويُزادُ أنَّ الفِعلَ المَعطوفَ على الجزاءِ في آيةِ (آل عِمْرانَ) وقَعَ في آخِرِ الفاصِلةِ الَّتي جَرَتْ أخَواتُها على حَرْفِ الواوِ والنُّونِ، فلو أُوثِرَ جَزْمُ الفِعلِ لَأُزِيلَت النُّونُ، فاختَلَّت الفاصِلةُ [624] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/139، 140). .