موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيتان (28-29)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات:

كِفْلَيْنِ: أي: ضِعْفَينِ ونَصيبَينِ وحَظَّينِ، ويُستَعمَلُ الكِفلُ في النَّصيبِ مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ، وأصلُ (كفل): يدُلُّ على تضَمُّنِ شَيءٍ لِشَيءٍ [655] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 455)، ((تفسير ابن جرير)) (22/430)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/187)، ((تفسير ابن عطية)) (2/86)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 776). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنوا برَسولِه مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، يُؤتِكم اللهُ نَصيبَينِ عَظيمَينِ مِن رَحمتِه، ويَجْعَلْ لكم نُورًا تَهتَدونَ به في الحياةِ الدُّنيا، ويَغفِرْ لكم، واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ.
يُؤتِكم اللهُ تعالى هذا الثَّوابَ؛ لِكَي يَعلَمَ اليَهودُ والنَّصارى أنَّهم لا يَقدِرونَ على شَيءٍ مِن فَضلِ اللهِ الَّذي يُريدُه لكم -أيها المُسلِمونَ-، ولِكَي يَعلَمُوا أنَّ الفَضلَ بيَدِ اللهِ يُعطيه مَن يَشاءُ، واللهُ ذو الفَضلِ العَظيمِ.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللهَ بامتِثالِ أمْرِه واجتِنابِ نَهْيِه، وحَقِّقوا الإيمانَ برَسولِه مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، واثبُتوا عليه [656] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 182)، ((تفسير ابن كثير)) (8/31، 32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/550)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 429). قيل: الخِطابُ هنا لليَهودِ والنَّصارى، وأنَّ المعنى: يا أيُّها الَّذين آمَنوا بموسى وعيسى، اتَّقوا اللهَ وآمَنوا برَسولِه مُحمَّدٍ. وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ جرير، والماوَرْديُّ، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، والنسفي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/434)، ((تفسير الماوردي)) (5/485)، ((الوسيط)) للواحدي (4/256)، ((تفسير البغوي)) (5/36)، ((تفسير القرطبي)) (17/266)، ((تفسير النسفي)) (3/443)، ((تفسير الخازن)) (4/253)، ((تفسير العليمي)) (6/548). ونقَلَ ابنُ الجوزيِّ هذا القولَ عن عامَّةِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/239). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ، وعُتْبةُ بنُ أبي حَكِيمٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/434)، ((تفسير ابن كثير)) (8/32). قال ابن جُزَي: (يؤيِّدُ هذا [أي أنَّ الخِطابَ لأهلِ الكتابِ] قولُه: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: نَصيبَينِ، وقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: «ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتَينِ: رجُلٌ مِن أهلِ الكتابِ آمَنَ بنَبِيِّه وآمَنَ بي...»). ((تفسير ابن جزي)) (2/349). قال الرَّسْعَني: (المعنى: يؤتِكم كِفْلَينِ بسببِ إيمانِكم الأوَّلِ والثَّاني. ومنه الحديثُ الصَّحيحُ: «أيُّما رجُلٍ مِن أهلِ الكتابِ آمَنَ بنَبيِّه وآمَنَ بمحمَّدٍ فله أجْرانِ». أخرجه مسلمٌ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الرسعني)) (7/658). وضعَّف هذا القَولَ ابنُ تيميَّةَ، والشنقيطيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 182)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/550)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 429). وذلك لأنَّه لا يُمكِنُ أن يُناديَ اللهُ عزَّ وجلَّ أهلَ الكتابِ وهم كَفَرةٌ بوصفِ الإيمانِ أبدًا؛ فإنَّ اللهَ لم يقُلْ قَطُّ للكفَّارِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا، فسياقُ الآيةِ في المؤمنينَ مِن هذه الأمَّةِ، وهو ظاهرُ القرآنِ المُتبادرُ الَّذي لم يَصرِفْ عنه صارِفٌ. يُنظر المصادر السَّابقة. ويُنظر أيضًا: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/163). وذكر السعديُّ أنَّ الظَّاهرَ أنَّ الأمرَ عامٌّ، يَدخُلُ فيه أهلُ الكتابِ وغيرُهم، وأنَّ اللهَ أمَرَهم بالإيمانِ والتَّقْوى الَّذي يَدخُلُ فيه جميعُ الدِّينِ، ظاهرِه وباطنِه، أُصولِه وفُروعِه. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 843). وقال ابنُ عاشور: (الأظهَرُ أنَّ هَذينِ الاحتِمالَينِ مَقصودانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/427). .
كما قال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ... [النساء: 136].
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ.
أي: يُؤتِكم اللهُ نَصيبَينِ كَبيرَينِ مِن رحمتِه [657] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/256)، ((تفسير القرطبي)) (17/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/324)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 430). قال ابن الجوزي: (وفي المرادِ بالكِفْلَينِ هاهنا قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّ أحَدَهما لإيمانِهم بمَن تقدَّم مِن الأنبياءِ، والآخَرَ لإيمانهِم بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قاله ابنُ عبَّاسٍ [وهذا على أنَّ الخِطابَ لأهلِ الكِتابِ]. والثَّاني: أنَّ أحدَهما أجرُ الدُّنيا، والثَّاني أجرُ الآخرةِ. قاله ابنُ زَيدٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/239). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص: 52 - 54].
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثَلاثةٌ يُؤتَونَ أجْرَهم مَرَّتَينِ: رجُلٌ مِن أهلِ الكِتابِ آمَنَ بنَبِيِّه، وأدرَك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فآمَنَ به واتَّبَعَه وصَدَّقَه؛ فله أجْرانِ ...)) [658] رواه البخاري (97)، ومسلم (154) واللَّفظُ له. .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَثَلُ المُسلِمينَ واليَهودِ والنَّصارى كَمَثَلِ رَجُلٍ استأجَرَ قَومًا يَعمَلونَ له عَمَلًا يومًا إلى اللَّيلِ، على أجرٍ مَعلومٍ، فعَمِلوا له إلى نِصفِ النَّهارِ، فقالوا: لا حاجةَ لنا إلى أجْرِك الَّذي شرَطْتَ لنا، وما عَمِلْنا باطِلٌ! فقال لهم: لا تَفعَلوا، أكمِلوا بَقيَّةَ عَمَلِكم، وخُذوا أجْرَكم كامِلًا، فأَبَوا، وتَرَكوا! واستأجَرَ أجيرَينِ بَعْدَهم، فقال لهما: أكمِلا بَقيَّةَ يَومِكما هذا، ولَكما الَّذي شرَطْتُ لهم مِنَ الأجرِ، فعَمِلوا حتَّى إذا كان حينُ صَلاةِ العَصرِ، قالا: لك ما عَمِلْنا باطِلٌ! ولك الأجرُ الَّذي جعَلْتَ لنا فيه، فقال لهما: أكمِلا بَقيَّةَ عَمَلِكما، ما بَقِيَ مِنَ النَّهارِ شَيءٌ يَسيرٌ، فأبَيَا! واستأجَرَ قَومًا أن يَعمَلوا له بَقيَّةَ يَومِهم، فعَمِلوا بَقيَّةَ يَومِهم حتَّى غابت الشَّمسُ، واستَكمَلوا أجرَ الفَريقَينِ كِلَيهما! فذلك مَثَلُهم ومَثَلُ ما قَبِلوا مِن هذا النُّورِ! )) [659] رواه البخاري (2271). .
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ.
أي: ويَجْعَلِ اللهُ لكم نُورًا بالقُرآنِ واتِّباعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تَهتَدونَ به في الحياةِ الدُّنيا [660] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/442)، ((تفسير القرطبي)) (17/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843). قال الواحدي: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ يعني: الصِّراطَ، كما قال: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [التحريم: 8] ، فهذا علامةُ المُؤمِنينَ في القيامةِ، وهذا قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ ومُقاتِلٍ. ويجوزُ أن يكونَ المعنى: ويجعَلْ لكم سَبيلًا واضِحًا في الدِّينِ تَهتَدونَ به، وهذا معنى قَولِ مجاهِدٍ، يعني: الهُدى والبَيانَ). ((الوسيط)) (4/256). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/271). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/247)، ((تفسير السمعاني)) (5/380). والمعنى الثَّاني: هو في الجُملةِ ظاهِرُ اختيارِ ابنِ جريرٍ، وذهب إليه القرطبيُّ، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/442)، ((تفسير القرطبي)) (17/ 267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/429)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 430، 431). وممَّن قال بأنَّ المرادَ إيتاؤُهم نُورًا مَعنويًّا في الدُّنيا، وحَقيقيًّا في الآخِرةِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/325). .
وَيَغْفِرْ لَكُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنسانُ لا يخلو مِن نُقصانٍ، فلا يَبلُغُ جَميعَ ما يَحِقُّ للرَّحمنِ؛ قال [661] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/325). :
وَيَغْفِرْ لَكُمْ.
أي: ويَستُرِ اللهُ لكم ذُنوبَكم، ويَتجاوَزْ عن مُؤاخَذتِكم [662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/442)، ((تفسير القرطبي)) (17/267)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 431). .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واللهُ هو البالِغُ المَغفِرةِ والرَّحمةِ لعِبادِه [663] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/442)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/325)، ((تفسير الشوكاني)) (5/214)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 431). .
كما قال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] .
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29).
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
أي: يُؤتِكم اللهُ تعالى هذا الثَّوابَ إنِ اتَّقَيتُموه وآمَنتُم برَسولِه؛ لِكَي يَعلَمَ اليَهودُ والنَّصارى أنَّهم لا يَقدِرونَ على شَيءٍ مِن فَضلِ اللهِ الَّذي يُريدُه للمُسلِمينَ؛ مِن تَضعيفِ الأجْرِ، والنُّورِ، والمَغفِرةِ، فلا يَملِكونَ مَنْعَه أو إعطاءَه [664] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/443)، ((تفسير ابن جزي)) (2/350)، ((تفسير ابن كثير)) (8/33)، ((تفسير الشوكاني)) (5/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 431). قال ابنُ جرير: (قِيلَ: لِئَلَّا يَعْلَمَ إنَّما هو: لِيَعلَمَ، وذُكِرَ أنَّ ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: «لِكَيْ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ»؛ لأنَّ العَرَب تَجعَلُ «لا» صِلةً في كُلِّ كَلامٍ دخَلَ في أوَّلِه أو آخِرِه جَحدٌ غَيرُ مُصرَّحٍ، كقَولِه في الجَحدِ السَّابِقِ الَّذي لم يُصَرَّحْ به: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] ، وقَولِه: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109]، وقَولِه: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء: 95] الآيةَ، ومعنى ذلك: أهلَكْناها أنَّهم يرجِعون). ((تفسير ابن جرير)) (22/444). وقال البِقاعي: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أي: لِيَعلَمَ عِلمًا عَظيمًا يَثبُتُ مَضمونُ خَبَرِه ويَنتَفي ضِدُّه، بما أفاده زيادةُ النَّافي). ((نظم الدرر)) (19/326). وقال ابنُ عاشور: (أرى أنَّ دعوى زيادةِ «لا» لا داعيَ إليها، وأنَّ بقاءَها على أصلِ معناها -وهو النَّفيُ- مُتعَيِّنٌ، وتُجعَلُ اللَّامُ للعاقبةِ، أي: أعطَيْناكم هذا الفَضلَ وحُرِمَ منه أهلُ الكتابِ، فبَقِيَ أهلُ الكتابِ في جَهْلِهم وغُرورِهم بأنَّ لهم الفَضلَ المستمِرَّ، ولا يحصُلُ لهم عِلمٌ بانتِفاءِ أن يكونوا يَملِكونَ فَضْلَ اللهِ، ولا أنَّ اللهَ قد أعطى الفضلَ قَومًا آخَرينَ وحَرَمَهم إيَّاه، فيَنسَونَ أنَّ الفَضلَ بيَدِ اللهِ، وليس أحدٌ يَستَحِقُّه بالذَّاتِ. وبهذا الغرورِ استمَرُّوا على التَّمَسُّكِ بدينِهم القديمِ... والمعنى: لا تَكتَرِثوا بعَدَمِ عِلمِ أهلِ الكتابِ بأنَّهم لا يَقدِرونَ على شَيءٍ مِن فَضلِ اللهِ، وبأنَّ الفَضلَ بيَدِ اللهِ يؤتيه مَن يشاءُ، أي: لا تَكتَرِثوا بجَهْلِهم المركَّبِ في استِمرارِهم على الاغتِرارِ بأنَّ لهم مَنزِلةً عندَ اللهِ تعالى؛ فإنَّ اللهَ عالمٌ بذلك، وهو خلَقَهم، فهم لا يُقلِعونَ عنه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/432). وقيل -بناءً على أنَّ (لا) غيرُ مزيدةٍ-: الضَّمِيرُ فِي قولِه: أَلَّا يَقْدِرُونَ عائدٌ إلى الرَّسولِ وأصحابِه، والتَّقديرُ: لِئلَّا يَعْلَمَ أهلُ الكتابِ أنَّ النَّبيَّ والمؤْمِنينَ لا يَقْدِرونَ على شيءٍ مِن فضلِ اللَّه، وأنَّهم إذا لم يَعْلَموا أنَّهم لا يَقْدِرونَ عليه فقد عَلِموا أنَّهم يَقْدِرونَ عليه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/476). وقال السمين الحلبي: (وفي «لا» هذه وجهانِ؛ أحدهما: وهو المشهورُ عندَ النُّحاةِ والمفسِّرينَ والمُعْرِبين: أنَّها مَزِيدةٌ... والتَّقديرُ: أَعْلَمَكم اللهُ بذا؛ لِيَعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قُدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللهِ، وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ اللهِ. وهذا واضِحٌ بَيِّنٌ... والثَّاني: أنَّها غيرُ مَزيدةٍ. والمعنى: لئلَّا يَعلَمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنينَ). ((الدر المصون)) (10/258). وقال الرازي: (أكثر المفسِّرينَ على أنَّ «لا» هاهنا صِلةٌ زائدةٌ، والتَّقديرُ: لِيَعلَمَ أهلُ الكتابِ). ((تفسير الرازي)) (29/475). .
وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: ولِكَي يَعلَمَ أهلُ الكِتابِ أنَّ كُلَّ الفَضلِ بيَدِ اللهِ وَحْدَه، فيُعطي فَضلَه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه وَفْقَ حِكمتِه سُبحانَه [665] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/445)، ((تفسير السمرقندي)) (3/411)، ((تفسير السمعاني)) (5/381)، ((تفسير الشوكاني)) (5/214، 215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس: 107] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِع رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما بقاؤُكم فيما سَلَف قَبْلَكم مِن الأُمَمِ كما بيْنَ صَلاةِ العَصرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، أُوتيَ أهلُ التَّوراةِ التَّوراةَ، فعَمِلوا حتَّى إذا انتَصَف النَّهارُ عَجَزوا، فأُعطُوا قِيراطًا قِيراطًا [666] القيراط: المرادُ به النَّصيبُ، وهو في الأصل نِصفُ دانقٍ، والدَّانِقُ سدسُ درهمٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/446)، ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (1/498). ، ثمَّ أُوتيَ أهلُ الإنجيلِ الإنجيلَ، فعَمِلوا إلى صَلاةِ العَصرِ، ثمَّ عَجَزوا، فأُعطُوا قِيراطًا قِيراطًا، ثمَّ أُوتِينا القُرآنَ، فعَمِلْنا إلى غُروبِ الشَّمسِ، فأُعطِينا قِيراطَينِ قِيراطَينِ، فقال أهلُ الكِتابَينِ: أيْ رَبَّنا أعطَيتَ هؤلاءِ قيراطَينِ قيراطَينِ، وأَعطَيتَنا قيراطًا قيراطًا، ونحنُ كُنَّا أكثَرَ عَمَلًا! قال: قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: هل ظَلَمْتُكم مِن أَجرِكم مِن شَيءٍ؟ قالوا: لا، قال: فهو فَضْلي أُوتِيه مَن أشا ءُ!)) [667] رواه البخاري (557). .
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان رُبَّما ظَنَّ ظانٌّ أنَّه لا يَخُصُّ بالفضلِ إلَّا لأنَّه لا يَسَعُ جَميعَ النَّاسِ، دَفَع ذلك بقَولِه تعالى [668] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/330). :
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
أي: واللهُ صاحِبُ الفَضلِ العَظيمِ، فيَتفَضَّلُ على مَن يَشاءُ بما يَشاءُ مِن نِعَمِه الكثيرةِ العَظيمةِ [669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/445)، ((البسيط)) للواحدي (21/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 432). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران: 73، 74].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أنَّ التَّقْوى هي مِن أسبابِ حُصولِ العِلمِ، وما أكثَرَ الَّذين يَنْشُدُون العِلمَ، ويَنْشُدُون الحِفظَ، ويَطلُبونَ الفَهمَ، فنقولُ: إنَّ تحصيلَه يَسيرٌ، وذلك بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، وتحقيقِ الإيمانِ -الَّذي هو مُوجَبُ العِلمِ-؛ فاعمَلْ بما عَلِمتَ يَحصُلْ لك عِلْمُ ما لم تَعلَمْ، فتَقْوى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أسبابِ زيادةِ العِلمِ ولا شَكَّ؛ ولهذا قال: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أي: تَسيرونَ بسَبَبِه سَيرًا صَحيحًا يُوصِلُكم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 430). ، فمَن عَمِلَ بما عَلِمَ أورَثَه اللهُ عِلْمَ ما لم يَعْلَمْ [671] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/10). ، فهذه التَّقوَى الَّتي يُعلِّمُ الله صاحبَها بسببِها ما لم يكُنْ يَعلَمُ: هي عمَلُه بما عَلِم مِن أمرِ الله، لا تَزيدُ على ذلك [672] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/261). .
2- النُّورُ هو مادَّةُ كلِّ خَيرٍ، وصلاحِ كلِّ شيءٍ، وهو يَنشأُ عن امتثالِ أمرِ الله واجتِنابِ نَهْيِه، وعن الصَّبرِ على ذلك؛ فإنَّه ضياءٌ، فإنَّ حِفْظَ الحُدودِ بتَقوى اللهِ يَجعَلُ اللهُ به لصاحِبِه نورًا، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [673] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/282). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أنَّ العَمَلَ بالعِلْمِ هو مِن أعظمِ أسبابِ حِفْظِه وثباتِه، وتَرْكَ العَمَلِ به إضاعةٌ له، فما استُدِرَّ العِلْمُ ولا استُجْلِبَ بمِثْلِ العَمَلِ [674] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/172). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ سُؤالٌ: كيف قال ذلك مع أنَّ المُؤمِنينَ مُؤمِنونَ برَسولِه؟!
 الجوابُ: أنَّ المُرادَ طَلَبُ الدَّوامِ على الإيمانِ. أو معناه: يا أيُّها الَّذين آمَنوا يومَ الميثاقِ، آمِنوا باللهِ ورَسولِه اليَومَ. أو: يا أيُّها الَّذين آمَنوا في العَلانِيَةِ باللِّسانِ، اتَّقُوا اللهَ وآمِنوا برَسولِه في السِّرِّ بتَصديقِ القَلبِ [675] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 553). . وقيل: معناه: يا أيُّها الَّذين آمَنوا بموسى وعيسى، آمِنوا بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَكونُ خِطابًا لأهلِ الكِتابِ خاصَّةً [676] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/427). .
2- لَفْظُ «الإيمانِ» أكثرُ ما يُذكَرُ في القُرآنِ مُقَيَّدًا؛ فلا يكونُ ذلك اللَّفظُ مُتناوِلًا لجَميعِ ما أمَرَ اللهُ به، بل يُجعَلُ مُوجِبًا لِلَوازِمِه وتَمامِ ما أُمِرَ به، وحينَئذٍ يَتناوَلُه الاسمُ المطلَقُ؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ [677] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/230). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أنَّ اللهَ تعالى قد كَفَلَ لِمَنْ آمَنَ به أنْ يَجعَلَ له نُورًا يَمشي به [678] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/58). .
4- مَنْ آمَنَ برَبِّه وأطاعه زاده رَبُّه هُدًى؛ لأنَّ الطَّاعةَ سَبَبٌ للمَزيدِ مِنَ الهُدى والإيمانِ كما بيَّن الله تعالى ذلك في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ، وفيه أنَّ الإيمانَ يَزيدُ، ومَفهومٌ مِنها أنَّه يَنقُصُ أيضًا [679] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/213، 214). .
5- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أنَّ الحَسَنةَ الثَّانيةَ قد تكونُ مِن ثَوابِ الأُولى، وكذلك السَّيِّئةُ الثَّانيةُ قد تكونُ مِن عُقوبةِ الأُولى [680] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/240). .
6- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ أنَّ مَن قام بما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ أشْرَفَ على عِلْمِ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، وأغناه اللهُ بالنُّورِ الَّذي بَعَثَ به محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عمَّا سِواه [681] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/240). .
7- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ضَمِنَ لهم سُبحانَه بالتَّقْوى ثلاثةَ أُمورٍ:
أحدُها: أعطاهم نَصيبَينِ مِن رَحمتِه؛ نصيبًا في الدُّنيا، ونَصيبًا في الآخِرةِ، وقد يُضاعَفُ لهم نَصيبُ الآخِرةِ فيَصيرُ نَصيبَينِ.
الثَّاني: أعطاهم نورًا يَمشُونَ به في الظُّلُماتِ.
الثَّالِثُ: مَغفِرةُ ذُنوبِهم، وهذا غايةُ التَّيسيرِ؛ فقد جَعَلَ سُبحانَه التَّقوى سَبَبًا لكُلِّ يُسْرٍ، وتَرْكَ التَّقوى سَبَبًا لكلِّ عُسْرٍ [682] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 58). .
8- في قَولِه تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أنَّ اللهَ تعالى ضاعَفَ لهذه الأُمَّةِ -لِكَونِها خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ- أَجْرَها مرَّتَينِ [683] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/163). ، ومِن ذلك كَونُ صَومِ يومِ عَرَفةَ بسَنَتينِ؛ فإنَّها قد وُعِدَتْ في العَمَلِ بأجْرَينِ، وأمَّا عاشوراءُ فقد كانتِ الأُمَمُ قبْلَ هذه الأُمَّةِ تَصومُه، ففُضِّلَ ما خُصَّتْ به هذه الأُمَّةُ [684] الفائدةُ لابنِ هُبَيرةَ في كتابِه ((الإفصاح))، نقَلها عنه ابنُ رجب. يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) (2/164). .
9- في قَولِه تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أنَّ ما وَعَد اللهُ به المؤمِنينَ مِن هذه الأُمَّةِ أعظَمُ مِمَّا وَعَدَ به مُؤمِني أهلِ الكِتابِ، وإيتاؤُهم أجَرْهم مرَّتَينِ هو كما قال تعالى فيهم: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص: 52-54] ، وكَونُ ما وَعَدَ به المؤمِنينَ مِن هذه الأُمَّةِ أعظَمَ: أنَّ إيتاءَ أهلِ الكِتابِ أجْرَهم مَرَّتَينِ، أعطى المؤمِنينَ مِن هذه الأُمَّةِ مِثْلَه، كما بَيَّنَه بقَولِه تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وزادهم بقَولِه: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [685] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/550). .
10- في قَولِه تعالى: تَمْشُونَ بِهِ نُكتةٌ بَديعةٌ: وهي: أنَّهم يَمشُونَ على الصِّراطِ بأنوارِهم كما يَمشُونَ بها بيْنَ النَّاسِ في الدُّنيا، ومَن لا نورَ له فإنَّه لا يَستطيعُ أنْ يَنقُلَ قَدَمًا عن قَدَمٍ على الصِّراطِ، فلا يَستطيعُ المشيَ أحْوَجَ ما يكونُ إليه [686] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/44). !
11- في قَولِه تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أنَّه سُبحانَه حَكيمٌ؛ لا يَفعَلُ شَيئًا عَبَثًا ولا لغَيرِ مَعنًى ومَصلَحةٍ [687] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 190). !
12- لَمَّا نهى اللهُ عن التَّشَبُّهِ بهؤلاء الَّذين قَسَت قلوبُهم، ذكَرَ أيضًا في آخِرِ السُّورةِ حالَ الَّذين ابتَدَعوا الرَّهبانيَّةَ، فما رعَوْها حَقَّ رعايتِها، فعَقَّبَها بقَولِه: اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 28، 29]؛ فإنَّ الإيمانَ بالرَّسولِ: تصديقُه وطاعتُه، واتِّباعُ شريعتِه، وفي ذلك مُخالَفةٌ للرَّهبانيَّةِ؛ لأنَّه لم يُبعَثْ بها، بل نهَى عنها، وأخبَرَ أنَّ مَنِ اتَّبَعه كان له أجْرانِ، وبذلك جاءت الأحاديثُ الصَّحيحةُ [688] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/295). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الغالبُ في القُرآنِ العَظيمِ أنَّ الَّذين آمَنوا لقَبٌ للمُؤمنينَ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنْ لَمَّا وقَعَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هنا عقِبَ قولِه: فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الحديد: 27] -أي: مِنَ الَّذين اتَّبعوا عِيسى عليه السَّلامُ- احتمَلَ قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أنْ يكونَ مُستعمَلًا استِعمالَه اللَّقَبِيَّ -أي: كونَه كالعَلَمِ- بالغَلَبةِ على مُؤمِني مِلَّةِ الإسلامِ. واحتمَلَ أنْ يكونَ قد استُعمِلَ استِعمالَه اللُّغويَّ الأعمَّ، أي: مَن حصَلَ منه إيمانٌ، وهو هنا مَن آمَنَ بعِيسى. أو يكونَ هذانِ الاحتِمالانِ مَقصودينِ؛ ليأخُذَ خُلَّصُ النَّصارَى مِن هذا الكلامِ حَظَّهم، وهو دَعوتُهم إلى الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليَستَكمِلوا ما سبَقَ مِن اتِّباعِهم عِيسى؛ فيكون الخِطابُ مُوجَّهًا إلى الموجودينَ ممَّن آمَنوا بعِيسى، أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إيمانًا خالِصًا بشَريعةِ عِيسى، اتَّقوا اللهَ، واخْشَوا عِقابَه، واتْرُكوا العَصبيَّةَ والحَسَدَ وسُوءَ النَّظرِ، وآمِنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وأمَّا احتمالُ أنْ يُرادَ بالَّذين آمَنوا الإطلاقُ اللَّقَبيُّ، فيَأخُذَ منه المؤمِنونَ مِن أهلِ المِلَّةِ الإسلاميَّةِ بِشارةً بأنَّهم لا يَقِلُّ أجْرُهم عن أجْرِ مُؤْمِني أهلِ الكتابِ؛ لأنَّهم لَمَّا آمَنوا بالرُّسلِ السَّابقينَ أعْطاهم اللهُ أجْرَ مُؤْمِني أهلِ مِلَلِهم، ويكون قولُه: وَآَمِنُوا مُستعمَلًا في الدَّوامِ على الإيمانِ؛ كقولِه: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في سُورةِ (النِّساءِ) [136]، ويكون إقحامُ الأمْرِ بالتَّقوى في هذا الاحتمالِ قصْدًا لأنْ يَحصُلَ في الكلامِ أمْرٌ بشَيءٍ يَتجدَّدُ ثمَّ يُردَفَ عليه أمْرٌ يُفهَمُ منه أنَّ المرادَ به طلَبُ الدَّوامِ، وهذا مِن بَديعِ نظْمِ القرآنِ [689] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/427). .
- قولُه: وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ أي: بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي إطلاقِ لَفظِ بِرَسُولِهِ إيذانٌ بأنَّه عَلَمٌ فَردٌ في الرِّسالةِ، لا يَذهَبُ الوهمُ إلى غَيرِه [690] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/214). .
- وقولُه: اتَّقُوا اللَّهَ أمْرٌ لهم بما هو وَسيلةٌ ومُقدِّمةٌ للمَقصودِ، وهو الأمْرُ بقولِه: وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ، ورُتِّبَ على هذا الأمرِ ما هو جَوابُ شَرْطٍ مَحذوفٍ، وهو جُملةُ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ... إلخ، المجزومُ في جَوابِ الأمرِ، أي: يُؤتِكُم جَزاءً في الآخِرةِ، وجَزاءً في الدُّنيا [691] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/428). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ويَتعلَّقُ مِنْ رَحْمَتِهِ بـ يُؤْتِكُمْ، و(مِن) ابتدائيَّةٌ، أي: ذلك مِن رَحمةِ اللهِ بكم. ويَجوزُ أنْ يكونَ مِنْ رَحْمَتِهِ صِفةً لـ كِفْلَيْنِ، وتكونَ (مِن) بَيانيَّةً [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/428، 429). .
2- قولُه تعالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
- قولُه: لِئَلَّا يَعْلَمَ اللَّامُ في قولِه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ تَحتمِلُ أنْ تكونَ تعليليَّةً، فيَكونَ ما بعْدَها مَعلولًا بما قبْلَها، وحرْفُ (لا) يكون زائدًا للتَّأكيدِ والتَّقويةِ، والمُعلَّلُ هو ما يَرجِعُ إلى فضْلِ اللهِ لا مَحالةَ. وقيل: تَحتمِلُ أنْ تكونَ (لا) نافيةً، وضَميرُ يَقْدِرُونَ عائدًا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والَّذين آمَنوا به -على قولٍ في التفسيرِ- على طريقِ الالْتفاتِ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، وأصْلُه: ألَّا تَقدِروا، وإذا انتَفَى عِلمُ أهلِ الكتابِ بأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمينَ لا يَقدِرون على شَيءٍ مِن فضْلِ اللهِ، ثبَتَ ضِدُّ ذلك في عِلْمِهم، أي: كيف أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمينَ يَقدِرون على فضْلِ اللهِ، ويكون يَقْدِرُونَ مُعبَّرًا به عن معْنى: يَنالُون، وأنَّ الفضلَ بيَدِ اللهِ، فهو الَّذي فضَّلَهم، ويكون ذلك كِنايةً عن انتفاءِ الفضلِ عن أهلِ الكتابِ الَّذين لم يُؤمِنوا بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وتَحتمِلُ أنْ تكونَ (لا) نافيةً، وليستْ زائدةً، واللَّامُ للعاقِبةِ [693] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/430 - 432). .
- قوله: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ لعلَّ التَّعبيرَ بالمضارعِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ هذا خاصٌّ بهذه الأمَّةِ الَّتي هي أقَلُّ عمَلًا وأكثرُ أجرًا [694] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/294). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذييلٌ، يَعُمُّ الفَضلَ الَّذي آتاهُ اللهُ أهْلَ الكِتابِ المُؤمنينَ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وغيرَه مِن الفضْلِ [695] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/433). .