موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (5-7)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

الْأَغْلَالُ: جمعُ غُلٍّ، والغُلُّ: مختصٌّ بما يُقيَّدُ به فيجعلُ الأعضاءَ وسطَه، أو: هو طوقٌ تشدُّ به اليدُ إلى العنقِ، أو حَلْقَةٌ مِنْ حديدٍ أو غيرِه تُحيطُ بالعنقِ تُناطُ بها سلسلةٌ مِنْ حديدٍ، وأصلُ (غلل): تدرُّعُ الشيءِ وتوسُّطُه .
خَلَتْ: أي: مَضَت وذَهبَت، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعرِّي الشَّيءِ مِن الشَّيءِ .
الْمَثُلَاتُ: أي: العُقوباتُ النازلةُ على أمثالِهم من المكَذِّبينَ، وأصلُ (مثل): يدلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وإن تعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عدَمِ إيمانِ قَومِك بعدَ هذه الأدلَّةِ، فالعجَبُ الأشدُّ قَولُهم: أئِذا مِتْنا وكُنَّا تُرابًا نُبعَثُ مِن جديدٍ؟! أولئك هم الكافرون برَبِّهم الذي أوجَدَهم من العَدَمِ، وأولئك تكونُ أطواقُ الحديدِ في أعناقِهم يومَ القيامةِ، وأولئك أصحابُ النَّارِ لا يَخرُجونَ منها أبدًا. ويَستعجِلُك الكُفَّارُ بالعذابِ، بدلَ العافيةِ والرَّحمةِ والإمهالِ؛ استهزاءً، وإنكارًا منهم وقوعَ ما تُنذِرُهم به، وقد مضَت عُقوباتُ المكَذِّبينَ مِن قَبلِهم، فكيف لا يَعتَبِرونَ بهم؟ وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَذو مغفرةٍ لذُنوبِ مَن تاب مِن النَّاسِ على ظُلمِهم، وإنَّ ربَّك لَشديدُ العِقابِ على مَن أصرَّ على الكُفرِ والضَّلالِ ومَعصيةِ الله. ويقولُ كُفَّارُ مكَّةَ: هلَّا جاءتْه مُعجزةٌ مِن رَبِّه، وليس ذلك بيَدِك؛ فما أنت إلَّا منذرٌ لقَومِك؛ تحذِّرُهم مِن عِقابِ اللهِ، ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يُرشِدُهم ويدعوهم إلى اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّلائِلَ القاهِرةَ على ما يُحتاجُ إليه في مَعرفةِ المَبدأِ؛ ذكَر بعدَه مَسألةَ المعادِ .
وأيضًا لما قضَى حقَّ الاستدلالِ على الوحدانيةِ؛ نقَل الكلامَ إلى الردِّ على مُنكري البعثِ، وهو غرضٌ مستقلٌّ مقصودٌ مِن هذه السورةِ، وقد أُدْمِج ابتداءً خلالَ الاستدلالِ على الوحدانيةِ، بقولِه: لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ تمهيدًا لما هنا، ثم نقَل الكلامَ إليه باستقلالِه، بمناسبةِ التدليلِ على عظيمِ القدرةِ، مستخرجًا مِن الأدلةِ السابقةِ عليه أيضًا .
وأيضًا لَمَّا ثبَتَ قَطعًا بما أقام سُبحانَه وتعالى من الدَّليلِ على عظيمِ قُدرتِه، وبما أودَعَه مِن الغرائبِ في مَلَكوتِه التي لا يَقدِرُ عليها سِواه- أنَّ هذا إنَّما هو فِعلُ واحدٍ قَهَّارٍ مُختارٍ يُوجِدُ المَعدومَ، ويُفاوِتُ بين ما تقتَضي الطَّبائِعُ اتِّحادَه؛ كان إنكارُ شَيءٍ مِن قُدرتِه عَجبًا، فقال عطفًا على قَولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ- مشيرًا إلى أنَّهم يقولونَ: إنَّ الوعدَ بالبَعثِ سِحرٌ لا حقيقةَ له -:
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
أي: وإنْ تَعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عبادةِ المُشرِكينَ آلهةً لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، بعدَما رأَوا مِن آثارِ قُدرةِ اللهِ العظيمةِ ما رأَوْا؛ مِن خَلْقِه الأشياءَ التي تقدَّمَ ذِكرُها؛ فالعجَبُ مِن إنكارِهم البعثَ بقَولِهم: أئِذا صِرْنا تُرابًا بعد مَوتِنا، أئِنَّا لمبعوثونَ خَلقًا جديدًا كما كنَّا في الدُّنيا ؟!
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ   .
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا حكَى اللَّهُ سبحانَه عنهم قَوْلَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؛ حَكَم عليهم بأمورٍ ثلاثةٍ ، فقال:
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ   .
أي: أولئك- البَعيدونَ عن كُلِّ خيرٍ ممَّن يُنكِرونَ البَعثَ بعد الموتِ- قد وقَعوا بذلك في الكُفرِ باللهِ تعالى، حيثُ أنكَروا قُدرةَ الرَّبِّ الذي خلَقَهم ويَملِكُهم، ويدَبِّرُ أمورَهم، وكذَّبوا رسلَه .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لمَّا حكَمَ عليهم بالكُفرِ في الدُّنيا ذكَرَ ما يَؤُولونَ إليه في الآخِرةِ على سبيلِ الوعيدِ .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
أي: وهم الذين في أعناقِهم أطواقٌ مِن حديدٍ، يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 70 - 72] .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
أي: وأولئك سُكَّانُ النَّارِ، هم ماكِثونَ فيها، لا يَخرُجونَ منها أبدًا .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يهَدِّدُ المشركين تارةً بعذابِ القِيامةِ، وتارةً بعذابِ الدُّنيا، والقومُ كلَّما هدَّدَهم بعذابِ القيامةِ أنكَروا القيامةَ والبعثَ، والحَشرَ والنَّشرَ، وكُلَّما هدَّدَهم بعذابِ الدُّنيا، طلَبوا منه إظهارَه وإنزالَه؛ على سبيلِ الطَّعنِ فيه، وإظهارِ أنَّ الذي يقولُه كلامٌ لا أصلَ له؛ فلهذا السَّبَبِ حكى اللهُ عنهم أنَّهم يستعجِلونَ الرَّسولَ بالسَّيِّئةِ قبلَ الحَسَنةِ .
وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَت الآيةُ السابقةُ إثباتَ القُدرةِ التَّامَّةِ، مع ما سبقَ مِن أدِلَّتِها المحسوسةِ المُشاهَدةِ؛ كان أيضًا من العجَبِ العَجيبِ والنَّبأِ الغريبِ استهزاؤُهم بها، فقال مُعَجِّبًا منهم :
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ.
أي: ويطلُبُ منك كفَّارُ قَومِك- يا محمَّدُ- استخفافًا واستهزاءً؛ أن تُعَجِّلَ لهم العذابَ قبلَ أن يَطلُبوا العافيةَ والإمهالَ، وذلك لشدَّةِ كُفرِهم وتكذيبِهم وعِنادِهم .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .
وقال سُبحانه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الحجر: 6-7] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .
وقال جلَّ ثناؤُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [هود: 7، 8].
وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ.
أي: يَستعجِلونَك بالعذابِ والحالُ أنَّهم يعلمونَ ما حلَّ بالأُمَم المكذِّبةِ مِن قَبْلِهم مِن العُقوباتِ، ولم يتَّعِظوا !
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْﭢ   .
أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- ذُو عَفْوٍ وتجاوزٍ وسَترٍ للنَّاسِ معَ أنَّهم يَظْلِمونَ ويُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وذلك إذا تابوا ورجَعوا إلى الله .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- لَشديدُ العِقابِ لمن أصرَّ على ظُلمِه، فيُعاقِبُه على ذلك في الدُّنيا أو في الآخرةِ، أو في كِلا الدَّارَينِ .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم طَعَنوا في نبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بسبَبِ طَعنِهم في الحَشرِ والنَّشرِ أوَّلًا، ثمَّ طعَنوا في نبُوَّتِه بسبَبِ طَعنِهم في صِحَّةِ ما يُنذِرُهم به مِن نُزولِ عذابِ الاستئصالِ ثانيًا، ثمَّ طعَنوا في نبوَّتِه بأن طلَبوا منه المُعجِزةَ والبيِّنةَ ثالثًا، وهو المذكورُ في هذه الآيةِ .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله سُبحانَه أنَّ المُشرِكينَ غَطَّوا آياتِ رَبِّهم المتفَضِّلِ عليهم بتلك الآياتِ وغَيرِها؛ عَجِبَ منهم عجبًا آخَرَ في طلَبِهم إنزالَ الآياتِ، مع كونِها مُتساويةَ الأقدامِ في الدَّلالةِ على الصَّانِعِ وما له من صِفاتِ الكَمالِ، فلمَّا كَفَروا بما أتاهم كانوا جديرينَ بالكُفرِ بما يأتيهم، فقال :
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.
أي: ويقولُ الكافِرونَ مِن قَومِك- يا مُحمَّدُ- عنادًا وكفرًا، واعتذارًا عن الإيمانِ بك: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه تَدُلُّ على نبُوَّتِه !
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .
وقال سُبحانه: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان: 7-8] .
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ.
أي: إنَّما عليك- يا محمَّدُ- أن تُحذِّرَ قَومَك مِن عِقابِ اللهِ إن أصَرُّوا على كُفرِهم، وليس عليك هدايتُهم، ولا إنزالُ الآياتِ التي يقتَرِحونَها .
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.
أي: ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يدعوهم إلى توحيدِ اللهِ، ويُعَلِّمُهم الخيرَ، فيَهتَدونَ به .
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يونس: 47] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

الفوائد التربوية:

- قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه ذو مَغفرةٍ للنَّاسِ على ظُلمِهم، وأنَّه شديدُ العِقابِ، فجمعَ بين الوعدِ والوعيدِ؛ ليَعظُمَ رجاءُ النَّاسِ في فَضلِه، ويشتَدَّ خَوفُهم مِن عِقابِه وعَذابِه الشَّديدِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقلاءِ مَحصورةٌ في جَلبِ النَّفعِ ودَفعِ الضُّرِّ، فاجتماعُ الخَوفِ والطَّمَعِ أدعى للطَّاعةِ، وقد بُيِّنَ هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] ، وقولِه: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] ، وقولِه جلَّ وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] ، وقولِه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ رَدٌّ على الجَهميَّةِ؛ إِذْ قد عَجِبَ- جلَّ وعلا- مِن كُفْرِ المشركينَ بالبَعثِ، والعَجَبُ عندهم مَنفيٌّ عنه؛ مِن أجلِ أنَّه مِن صِفاتِ المخلوقينَ، وقد حكاه عن نَفسِه- جلَّ وعلا- كما ترى، وليس شَيءٌ مِن صِفاتِه مَخلوقًا- وإنْ شاركَه المخلوقُ فيه بالاسمِ؛ إذ هو مِن المخلوقِ مَخلوقٌ؛ ومنه- جلَّ وعلا- غيرُ مخلوقٍ .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ دَلالةٌ على أنَّ مَن أنكرَ المعادَ؛ فإنَّه كافرٌ بربِّ العالَمينَ، وإن زعَمَ أنَّه مُقِرٌّ به .
3- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ احتُجَّ به على أنَّ العذابَ المخَلَّدَ ليس إلَّا للكُفَّارِ؛ فقَولُه: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيدُ أنَّهم هم الموصوفونَ بالخُلودِ لا غيرُهم، وذلك يدُلُّ على أنَّ أهلَ الكبائرِ لا يُخَلَّدونَ في النَّارِ .
4- قال الله تعالى: وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والأغلالُ وإن لم تكُن مُشاهَدةً الآن، فهي- لِقُدرةِ المهَدِّدِ بها على الفِعلِ- كأنَّها موجودةٌ .
5- قولُه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ- الذي فيه إثباتُ الهدايةِ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم- مع قولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] - الذي فيه نفيُ هدايتِه مَن أحَبَّ- يُبيِّنُ أنَّ الهُدى الذي أثبَتَه سُبحانَه هو البيانُ والدُّعاءُ، والأمرُ والنَّهيُ، والتعليمُ وما يَتبَعُ ذلك، وليس هو الهُدى الذي نفاه، والذي لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، وهو جَعلُ الهُدى في القلوبِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا عَطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وصِيغَ بصيغةِ التَّعجُّبِ مِن إنكارِ مُنْكري البعْثِ؛ لأنَّ الأدلَّةَ السَّالِفةَ لم تُبْقِ عُذرًا لهم في ذلك. ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ وَإِنْ تَعْجَبْ... عطفًا على جُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] ؛ فالتقديرُ: إنْ تعْجَبْ مِن عدَمِ إيمانِهم بأنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ فعَجَبٌ إنكارُهم البعْثَ، وفائدةُ هذا هو التَّشويقُ لمَعْرفةِ المُتعجَّبِ منه؛ تَهويلًا له أو نحوه، ولذلك فالتَّنكيرُ في قولِه: فَعَجَبٌ للتَّنويعِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّ قولَهم ذلك صالحٌ للتَّعجُّبِ منه، ثم هو يفيدُ معنى التَّعظيمِ في بابِه، تَبَعًا لِما أفادَه التَّعليقُ بالشَّرطِ مِن التَّشويقِ .
- قولُه: أَإِذا كُنَّا تُرابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ الاستفهامُ في أَإِذا كُنَّا تُرابًا إنكاريٌّ، وهو مُفيدٌ لكَمالِ الاستبعادِ والاستنكارِ؛ لأنَّهم مُوقِنونَ بأنَّهم لا يكونون في خَلْقٍ جديدٍ بعدَ أنْ يكونوا تُرابًا، والقولُ المَحْكِيُّ عنهم في مَعْنى الاستفهامِ عن مَجْموعِ أمْرَين، وهما: كونُهم تُرابًا، وتجْديدُ خَلْقِهم ثانِيةً، والمقصودُ مِن ذلك العَجَبُ والإحالةُ .
- وتكْريرُ الهمزةِ في قولِهم: أَئِنَّا؛ لتأْكيدِ الإنكارِ .
- والإشارةُ بقولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِيَاءُ بما سَيَرِدُ بعد اسمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ؛ لأجْلِ ما سَبَقَ اسمَ الإشارةِ مِن قولِهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بعد أنْ رأَوا دلائلَ الخَلْقِ الأوَّلِ، فحَقَّ عليهم بقولِهم ذلك حُكمانِ؛ أحدُهما: أنَّهم كفَروا بربِّهم؛ لأنَّ قولَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لا يقولُه إلَّا كافرٌ باللَّهِ، وثانيهما: استحقاقُهمُ العَذابَ .
- وعُطِفَ على هذه الجُملةِ جُملةُ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ مُفْتتحَةً باسمِ الإشارةِ لمِثْلِ الغرَضِ الَّذي افتُتِحَت به الجُملةُ قبلها؛ فإنَّ مضْمونَ الجُملتينِ اللَّتينِ قبلَها يُحَقِّقُ أنَّهم أَحْرِيَاءُ بوَضْعِ الأغْلالِ في أعناقِهم، وذلك جزاءُ الإهانةِ. وكذلك عَطْفُ جُملةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إعادةُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ للتَّهويلِ .
2- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
- قولُه: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ هذه الجُملةُ في مَوضِعِ الحالِ؛ لبَيانِ رَكاكةِ رأيِهم في الاستعجالِ بطريقِ الاستهزاءِ، أي: يستعْجِلونك بها مُستهزِئين بإنْذارِك، مُنْكرين لوُقوعِ ما أنذرْتَهم إيَّاه، والحالُ: أنَّه قد مَضَتِ العُقوباتُ النَّازِلةُ على أمثالِهم مِن المُكَذِّبين والمُستهزِئين، وهو مَحَلُّ زيادةِ التَّعجُّبِ؛ لأنَّ ذلك قد يُعْذَرون فيه لو كانوا لم يرَوا آثارَ الأُمَمِ المُعذَّبةِ مثلَ عادٍ وثمودَ .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ، جُملةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ احتِراسٌ؛ لئلا يحْسَبوا أنَّ المَغفِرةَ المَذْكورةَ مَغفِرةٌ دائمةٌ؛ تعريضًا بأنَّ العِقابَ حالٌّ بهم مِن بعدُ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
3- قولُه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
- قولُه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه العُدولُ عنِ الإضْمارِ إلى الموصولِ- حيث لم يقُلْ: (ويقولون)- فإنَّ الَّذين كفروا هم المُستعجِلون؛ لزيادةِ تسْجيلِ الكُفْرِ عليهم، ولِما يُومِئُ إليه الموصولُ مِن تعْليلِ صُدورِ قولِهم ذلك، وصِيغَةُ المُضارعِ وَيَقُولُ تدلُّ على تجدُّدِ ذلك وتكرُّرِه .
- ولكونِ اقتراحِهم آيةً يشِفُّ عن إحالتِهم حُصولَها- لِجهْلِهم بعظيمِ قُدرةِ اللَّهِ تعالى- سِيقَ هذا في عِدادِ نتائجِ عظيمِ القُدرةِ؛ فبذلك انتَظَمَ تفرُّعُ الجُمَلِ بعضِها على بعضٍ، وتفرُّعِ جميعِها على الغرَضِ الأصليِّ .
- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ فيه قصْرُ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ على صِفَةِ الإنذارِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: أنت مُنذِرٌ لا مُوجِدٌ خَوَارِقَ عادةٍ، وبهذا يظهَرُ وجْهُ قصْرِه على الإنذارِ دون البِشارَةِ؛ لأنَّه قصْرٌ إضافيٌّ بالنِّسبةِ لأحوالِه نحوَ المُشركين؛ وقد ردَّ اللَّهُ اقتراحَهم مِن أصلِه بهذا القولِ .
- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ جُملةُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ تَذْييلٌ بالأعمِّ، أي: إنَّما أنت مُنذِرٌ لهؤلاءِ؛ لهِدايتِهم، وبهذا العُمومِ الحاصِلِ بالتَّذييلِ والشَّاملِ للرَّسولِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ صارَ المعنى: إنَّما أنت مُنذِرٌ لقومِك، هادٍ إيَّاهم إلى الحقِّ؛ فإنَّ الإنذارَ والهُدى مُتلازِمانِ؛ فما مِن إنذارٍ إلَّا وهو هدايةٌ، وما مِن هدايةٍ إلَّا وفيها إنذارٌ، والهِدايةُ أعمُّ مِن الإنذارِ؛ ففي هذا احتباكٌ بديعٌ .