موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (5-7)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

الْأَغْلَالُ: جمعُ غُلٍّ، والغُلُّ: مختصٌّ بما يُقيَّدُ به فيجعلُ الأعضاءَ وسطَه، أو: هو طوقٌ تشدُّ به اليدُ إلى العنقِ، أو حَلْقَةٌ مِنْ حديدٍ أو غيرِه تُحيطُ بالعنقِ تُناطُ بها سلسلةٌ مِنْ حديدٍ، وأصلُ (غلل): تدرُّعُ الشيءِ وتوسُّطُه [85] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/357)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((تفسير القرطبي)) (9/284)، ((تفسير ابن كثير)) (6/520)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/202). .
خَلَتْ: أي: مَضَت وذَهبَت، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعرِّي الشَّيءِ مِن الشَّيءِ [86] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .
الْمَثُلَاتُ: أي: العُقوباتُ النازلةُ على أمثالِهم من المكَذِّبينَ، وأصلُ (مثل): يدلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [87] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 418)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 178)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 250). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وإن تعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عدَمِ إيمانِ قَومِك بعدَ هذه الأدلَّةِ، فالعجَبُ الأشدُّ قَولُهم: أئِذا مِتْنا وكُنَّا تُرابًا نُبعَثُ مِن جديدٍ؟! أولئك هم الكافرون برَبِّهم الذي أوجَدَهم من العَدَمِ، وأولئك تكونُ أطواقُ الحديدِ في أعناقِهم يومَ القيامةِ، وأولئك أصحابُ النَّارِ لا يَخرُجونَ منها أبدًا. ويَستعجِلُك الكُفَّارُ بالعذابِ، بدلَ العافيةِ والرَّحمةِ والإمهالِ؛ استهزاءً، وإنكارًا منهم وقوعَ ما تُنذِرُهم به، وقد مضَت عُقوباتُ المكَذِّبينَ مِن قَبلِهم، فكيف لا يَعتَبِرونَ بهم؟ وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَذو مغفرةٍ لذُنوبِ مَن تاب مِن النَّاسِ على ظُلمِهم، وإنَّ ربَّك لَشديدُ العِقابِ على مَن أصرَّ على الكُفرِ والضَّلالِ ومَعصيةِ الله. ويقولُ كُفَّارُ مكَّةَ: هلَّا جاءتْه مُعجزةٌ مِن رَبِّه، وليس ذلك بيَدِك؛ فما أنت إلَّا منذرٌ لقَومِك؛ تحذِّرُهم مِن عِقابِ اللهِ، ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يُرشِدُهم ويدعوهم إلى اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّلائِلَ القاهِرةَ على ما يُحتاجُ إليه في مَعرفةِ المَبدأِ؛ ذكَر بعدَه مَسألةَ المعادِ [88] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/8). .
وأيضًا لما قضَى حقَّ الاستدلالِ على الوحدانيةِ؛ نقَل الكلامَ إلى الردِّ على مُنكري البعثِ، وهو غرضٌ مستقلٌّ مقصودٌ مِن هذه السورةِ، وقد أُدْمِج ابتداءً خلالَ الاستدلالِ على الوحدانيةِ، بقولِه: لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ تمهيدًا لما هنا، ثم نقَل الكلامَ إليه باستقلالِه، بمناسبةِ التدليلِ على عظيمِ القدرةِ، مستخرجًا مِن الأدلةِ السابقةِ عليه أيضًا [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/89). .
وأيضًا لَمَّا ثبَتَ قَطعًا بما أقام سُبحانَه وتعالى من الدَّليلِ على عظيمِ قُدرتِه، وبما أودَعَه مِن الغرائبِ في مَلَكوتِه التي لا يَقدِرُ عليها سِواه- أنَّ هذا إنَّما هو فِعلُ واحدٍ قَهَّارٍ مُختارٍ يُوجِدُ المَعدومَ، ويُفاوِتُ بين ما تقتَضي الطَّبائِعُ اتِّحادَه؛ كان إنكارُ شَيءٍ مِن قُدرتِه عَجبًا، فقال عطفًا على قَولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ- مشيرًا إلى أنَّهم يقولونَ: إنَّ الوعدَ بالبَعثِ سِحرٌ لا حقيقةَ له [90] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/281). -:
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
أي: وإنْ تَعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عبادةِ المُشرِكينَ آلهةً لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، بعدَما رأَوا مِن آثارِ قُدرةِ اللهِ العظيمةِ ما رأَوْا؛ مِن خَلْقِه الأشياءَ التي تقدَّمَ ذِكرُها؛ فالعجَبُ مِن إنكارِهم البعثَ بقَولِهم: أئِذا صِرْنا تُرابًا بعد مَوتِنا، أئِنَّا لمبعوثونَ خَلقًا جديدًا كما كنَّا في الدُّنيا [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/432)، ((الوسيط)) للواحدي (3/5)، (( تفسير ابن الجوزي)) (2/482). وهذا المعنى المذكورُ للتعجبِ الأولِ هو في الجملةِ اختيارُ ابنِ جريرٍ، والواحديِّ، وابنِ الجوزي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المعنى: وإن تَعجَبْ مِن قَولِهم: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فعَجَبٌ قَولُهم! كيف يُنكِرونَ هذا وقد اعتَرَفوا وشاهَدوا ما هو أعجبُ مِمَّا كَذَّبوا به، وقد عَلِمَ كُلُّ عالمٍ وعاقلٍ أنَّ خَلقَ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ مِن خَلقِ النَّاسِ، وأنَّ مَن بدأ الخلقَ فالإعادةُ سَهلةٌ عليه؟! وممَّن اختار هذا القَولَ: الزجَّاج، والزمخشري، وابن كثير. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/138)، ((تفسير الزمخشري)) (2/513)، ((تفسير ابن كثير)) (4/432). وقيل: المعنى: وإن تَعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن تَكذيبِهم لك بعد ما كنتَ عِندَهم الصَّادِقَ الأمينَ، فأعجَبُ منه تكذيبُهم بالبَعثِ. وممَّن اختار هذا المعنى: القرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/284)، ((تفسير الشوكاني)) (3/81). قال السَّعدي: (يَحتمِلُ أنَّ معنى قَولِه: وَإِنْ تَعْجَبْ مِن عَظَمةِ اللهِ تعالى، وكثرةِ أدِلَّةِ توحيدِه؛ فإنَّ العَجَبَ- مع هذا- إنكارُ المكَذِّبينَ، وتَكذيبُهم بالبَعثِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 413). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/145). وقال ابنُ عاشور: (الفِعلُ الواقِعُ في سِياقِ الشَّرطِ لا يُقصَدُ تَعلُّقُه بمعمولٍ معَيَّنٍ، فلا يُقدَّرُ: إن تعجَبْ مِن قَولٍ أو إنْ تعجَبْ مِن إنكارٍ، بل يُنزَّلُ الفِعلُ مَنزلةَ اللازمِ، ولا يُقدَّرُ له مفعولٌ، والتقديرُ: إن يكُنْ مِنك تعجُّبٌ فاعجَبْ مِن قَولِهم... إلخ، على أنَّ وقوعَ الفِعلِ في سياقِ الشَّرطِ يُشبِهُ وقوعَه في سياقِ النَّفيِ، فيكونُ لعُمومِ المفاعيلِ في المقامِ الخِطابيِّ، أي: إن تعجَبْ مِن شَيءٍ فعجَبٌ قَولُهم. ويجوزُ أن تكونَ جملةُ: وَإِنْ تَعْجَبْ... عطفًا على جملةِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] ، فالتَّقديرُ: إن تعجَبْ من عدمِ إيمانِهم بأنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ من اللهِ، فعجَبٌ إنكارُهم البعثَ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/89، 90). ؟!
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ   .
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا حكَى اللَّهُ سبحانَه عنهم قَوْلَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؛ حَكَم عليهم بأمورٍ ثلاثةٍ [92] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/81). ، فقال:
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ   .
أي: أولئك- البَعيدونَ عن كُلِّ خيرٍ ممَّن يُنكِرونَ البَعثَ بعد الموتِ- قد وقَعوا بذلك في الكُفرِ باللهِ تعالى، حيثُ أنكَروا قُدرةَ الرَّبِّ الذي خلَقَهم ويَملِكُهم، ويدَبِّرُ أمورَهم، وكذَّبوا رسلَه [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/434)، ((تفسير ابن عطية)) (3/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413). .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لمَّا حكَمَ عليهم بالكُفرِ في الدُّنيا ذكَرَ ما يَؤُولونَ إليه في الآخِرةِ على سبيلِ الوعيدِ [94] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/352- 353). .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
أي: وهم الذين في أعناقِهم أطواقٌ مِن حديدٍ، يومَ القيامةِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/434)، ((تفسير القرطبي)) (9/284)، ((تفسير الخازن)) (3/6)، ((تفسير أبي حيان)) (6/352)، ((تفسير الشوكاني)) (3/81)، ((تفسير القاسمي)) (6/259). وتفسيرُ الأغلالِ بأنَّها أغلالُ يومِ القيامةِ، نسَبه ابنُ الجوزي للأكثرين. ((تفسير ابن الجوزي)) (2/482). وقيل: المرادُ بالأغلالِ هنا: الأعمالُ. وممَّن ذهَب إلى ذلك: الزجاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن)) (3/139). وقيل: المرادُ بالأغلالِ: الأعمالُ، والتي هي أيضًا مؤديةٌ إلى كونِ الأغلالِ في أعناقِهم يومَ القيامة؛ لأنَّ قولَك للرجلِ: هذا غلٌّ في عنقِك؛ للعملِ السيئِ، معناه أنَّه لازمٌ لك، وأنَّكَ مُجازًى عليه بالعذابِ يومَ القيامةِ. ((المصدر السابق)). وقيل: المرادُ بالأغلالِ هنا: أنهم مقيَّدون بالضلالِ، ممنوعونَ مِن الإيمانِ، فلا يُرجَى خلاصُهم؛ عقوبةً لهم؛ لكونِهم لم يُؤمنوا بالحقِّ أوَّلَ مرةٍ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: البيضاويُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413). قال القاسمي: (وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ...؛ لأنهم غلُّوا أفكارَهم عن النظرِ في هذه الأمورِ، كما جعَلوا خالقَهم مغلولَ القدرةِ على ذلك). ((تفسير القاسمي)) (6/259). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 70 - 72] .
وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
أي: وأولئك سُكَّانُ النَّارِ، هم ماكِثونَ فيها، لا يَخرُجونَ منها أبدًا [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/434)، ((تفسير ابن كثير)) (4/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413). .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يهَدِّدُ المشركين تارةً بعذابِ القِيامةِ، وتارةً بعذابِ الدُّنيا، والقومُ كلَّما هدَّدَهم بعذابِ القيامةِ أنكَروا القيامةَ والبعثَ، والحَشرَ والنَّشرَ، وكُلَّما هدَّدَهم بعذابِ الدُّنيا، طلَبوا منه إظهارَه وإنزالَه؛ على سبيلِ الطَّعنِ فيه، وإظهارِ أنَّ الذي يقولُه كلامٌ لا أصلَ له؛ فلهذا السَّبَبِ حكى اللهُ عنهم أنَّهم يستعجِلونَ الرَّسولَ بالسَّيِّئةِ قبلَ الحَسَنةِ [97] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/11). .
وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَت الآيةُ السابقةُ إثباتَ القُدرةِ التَّامَّةِ، مع ما سبقَ مِن أدِلَّتِها المحسوسةِ المُشاهَدةِ؛ كان أيضًا من العجَبِ العَجيبِ والنَّبأِ الغريبِ استهزاؤُهم بها، فقال مُعَجِّبًا منهم [98] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/283). :
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ.
أي: ويطلُبُ منك كفَّارُ قَومِك- يا محمَّدُ- استخفافًا واستهزاءً؛ أن تُعَجِّلَ لهم العذابَ قبلَ أن يَطلُبوا العافيةَ والإمهالَ، وذلك لشدَّةِ كُفرِهم وتكذيبِهم وعِنادِهم [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/434، 435)، ((تفسير ابن كثير)) (4/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413). قال ابن عاشور: (والسَّيِّئة: الحالةُ السَّيِّئة. وهي هنا المصيبةُ التي تسوءُ مَن تحُلُّ به. والحسَنةُ ضِدُّها، أي: إنَّهم سألوا مِن الآياتِ ما فيه عذابٌ بسُوءٍ، كقولهم: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [الأنفال: 32] دونَ أن يسألوا آيةً مِن الحَسَناتِ؛ فهذه الآيةُ نزلت حكايةً لبعضِ أحوالِ سُؤَّالِهم الظَّانِّينَ أنَّه تعجيزٌ، والدالِّينَ به على التهكُّمِ بالعذابِ، وقبْليَّةُ السيئةِ قبْليَّةٌ اعتباريَّة، أي: مُختارينَ السَّيِّئةَ دونَ الحَسَنةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/92). وَقِيلَ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ: أي: قبلَ الإيمانِ الَّذي يُرْجَى به الأمانُ والحسناتُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/284). قال الشنقيطي: (قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: قبلَ العافيةِ، وقبلَ الإيمانِ). ((أضواء البيان)) (2/222). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .
وقال سُبحانه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الحجر: 6-7] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .
وقال جلَّ ثناؤُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [هود: 7، 8].
وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ.
أي: يَستعجِلونَك بالعذابِ والحالُ أنَّهم يعلمونَ ما حلَّ بالأُمَم المكذِّبةِ مِن قَبْلِهم مِن العُقوباتِ، ولم يتَّعِظوا [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/435)، ((تفسير ابن كثير)) (4/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/222، 223). !
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْﭢ   .
أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- ذُو عَفْوٍ وتجاوزٍ وسَترٍ للنَّاسِ معَ أنَّهم يَظْلِمونَ ويُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وذلك إذا تابوا ورجَعوا إلى الله [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/437)، ((تفسير ابن كثير)) (4/433)، ((تفسير الشوكاني)) (3/81). وممن اختار أنَّ هذه المغفرةَ لهم إذا تابوا: ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي زمنين، والقرطبي، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/437)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (2/346)، ((تفسير القرطبي)) (9/285)، ((تفسير العليمي)) (3/479)، ((تفسير الشوكاني)) (3/81). وقيل: المرادُ بالناسِ هنا المشركونَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/298). وممن اختار أنَّ المرادَ بالمغفرةِ هنا إنَّما هو سترُه في الدنيا وإمهالُه: ابنُ عطيةَ، وابنُ جزي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/296)، ((تفسير ابن جزي)) (1/400)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/93). قال ابنُ عاشور: (المَغفِرةُ هنا مُستَعملةٌ في المَغفرةِ المُوقَّتةِ، وهي التجاوُزُ عن ضراوةِ تَكذيبِهم وتأخيرُ العَذابِ إلى أجَلٍ، كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [هود: 8] وقرينةُ ذلك أنَّ الكلامَ جارٍ على عذابِ الدُّنيا وهو الذي يقبَلُ التأخيرَ، كما قال تعالى: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان: 15] ، أي: عذابِ الدُّنيا... وسياقُ الآيةِ يدُلُّ على أنَّ المرادَ بالمغفرةِ هنا التَّجاوُزُ عن المُشرِكينَ في الدُّنيا بتأخيرِ العِقابِ لهم إلى أجَلٍ أراده اللهُ، أو إلى يومِ الحِسابِ... فمَحمَلُ الظُّلمِ على ما هو المشهورُ في اصطِلاحِ القُرآنِ مِن إطلاقِه على الشِّركِ، ويجوزُ أن يُحمَلَ الظُّلمُ على ارتِكابِ الذُّنوبِ بقرينةِ السِّياقِ، كإطلاقِه في قَولِه تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ؛ فلا تعارُضَ أصلًا بين هذا المَحمَلِ وبينَ قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] كما هو ظاهِرٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/93). قال ابن جزي: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ يريدُ: سترَه وإمهالَه في الدُّنيا للكفارِ والعصاةِ، وقيل: يريدُ مغفرتَه لمن تاب، والأوَّلُ أظهرُ هنا). ((تفسير ابن جزي)) (1/400). .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- لَشديدُ العِقابِ لمن أصرَّ على ظُلمِه، فيُعاقِبُه على ذلك في الدُّنيا أو في الآخرةِ، أو في كِلا الدَّارَينِ [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/437)، ((تفسير القرطبي)) (9/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 413). قال ابنُ جريرٍ: (وهذا الكلامُ... وعيدٌ مِن الله وتهديدٌ للمشركينَ مِن قومِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إن هم لم ينيبوا ويتوبوا مِن كفرِهم قبلَ حلولِ نِقمةِ الله بهم). ((تفسير ابن جرير)) (13/437). .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم طَعَنوا في نبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بسبَبِ طَعنِهم في الحَشرِ والنَّشرِ أوَّلًا، ثمَّ طعَنوا في نبُوَّتِه بسبَبِ طَعنِهم في صِحَّةِ ما يُنذِرُهم به مِن نُزولِ عذابِ الاستئصالِ ثانيًا، ثمَّ طعَنوا في نبوَّتِه بأن طلَبوا منه المُعجِزةَ والبيِّنةَ ثالثًا، وهو المذكورُ في هذه الآيةِ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/12). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله سُبحانَه أنَّ المُشرِكينَ غَطَّوا آياتِ رَبِّهم المتفَضِّلِ عليهم بتلك الآياتِ وغَيرِها؛ عَجِبَ منهم عجبًا آخَرَ في طلَبِهم إنزالَ الآياتِ، مع كونِها مُتساويةَ الأقدامِ في الدَّلالةِ على الصَّانِعِ وما له من صِفاتِ الكَمالِ، فلمَّا كَفَروا بما أتاهم كانوا جديرينَ بالكُفرِ بما يأتيهم، فقال [104] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/285). :
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.
أي: ويقولُ الكافِرونَ مِن قَومِك- يا مُحمَّدُ- عنادًا وكفرًا، واعتذارًا عن الإيمانِ بك: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه تَدُلُّ على نبُوَّتِه [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/437)، ((تفسير ابن كثير)) (4/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 414). !
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .
وقال سُبحانه: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان: 7-8] .
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ.
أي: إنَّما عليك- يا محمَّدُ- أن تُحذِّرَ قَومَك مِن عِقابِ اللهِ إن أصَرُّوا على كُفرِهم، وليس عليك هدايتُهم، ولا إنزالُ الآياتِ التي يقتَرِحونَها [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/437، 438)، ((تفسير ابن كثير)) (4/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 414)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/223). .
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.
أي: ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يدعوهم إلى توحيدِ اللهِ، ويُعَلِّمُهم الخيرَ، فيَهتَدونَ به [107] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/581)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/99، 100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 414)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/95)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/223). .
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يونس: 47] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

الفوائد التربوية:

- قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه ذو مَغفرةٍ للنَّاسِ على ظُلمِهم، وأنَّه شديدُ العِقابِ، فجمعَ بين الوعدِ والوعيدِ؛ ليَعظُمَ رجاءُ النَّاسِ في فَضلِه، ويشتَدَّ خَوفُهم مِن عِقابِه وعَذابِه الشَّديدِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقلاءِ مَحصورةٌ في جَلبِ النَّفعِ ودَفعِ الضُّرِّ، فاجتماعُ الخَوفِ والطَّمَعِ أدعى للطَّاعةِ، وقد بُيِّنَ هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] ، وقولِه: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] ، وقولِه جلَّ وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] ، وقولِه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ [108] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/223). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ رَدٌّ على الجَهميَّةِ؛ إِذْ قد عَجِبَ- جلَّ وعلا- مِن كُفْرِ المشركينَ بالبَعثِ، والعَجَبُ عندهم مَنفيٌّ عنه؛ مِن أجلِ أنَّه مِن صِفاتِ المخلوقينَ، وقد حكاه عن نَفسِه- جلَّ وعلا- كما ترى، وليس شَيءٌ مِن صِفاتِه مَخلوقًا- وإنْ شاركَه المخلوقُ فيه بالاسمِ؛ إذ هو مِن المخلوقِ مَخلوقٌ؛ ومنه- جلَّ وعلا- غيرُ مخلوقٍ [110] يُنظر: ((النُّكتُ الدّالّة على البيان)) للقَصَّاب (1/629). .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ دَلالةٌ على أنَّ مَن أنكرَ المعادَ؛ فإنَّه كافرٌ بربِّ العالَمينَ، وإن زعَمَ أنَّه مُقِرٌّ به [111] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/114). .
3- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ احتُجَّ به على أنَّ العذابَ المخَلَّدَ ليس إلَّا للكُفَّارِ؛ فقَولُه: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيدُ أنَّهم هم الموصوفونَ بالخُلودِ لا غيرُهم، وذلك يدُلُّ على أنَّ أهلَ الكبائرِ لا يُخَلَّدونَ في النَّارِ [112] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/10). .
4- قال الله تعالى: وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والأغلالُ وإن لم تكُن مُشاهَدةً الآن، فهي- لِقُدرةِ المهَدِّدِ بها على الفِعلِ- كأنَّها موجودةٌ [113] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/283). .
5- قولُه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ- الذي فيه إثباتُ الهدايةِ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم- مع قولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] - الذي فيه نفيُ هدايتِه مَن أحَبَّ- يُبيِّنُ أنَّ الهُدى الذي أثبَتَه سُبحانَه هو البيانُ والدُّعاءُ، والأمرُ والنَّهيُ، والتعليمُ وما يَتبَعُ ذلك، وليس هو الهُدى الذي نفاه، والذي لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، وهو جَعلُ الهُدى في القلوبِ [114] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/172). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا عَطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وصِيغَ بصيغةِ التَّعجُّبِ مِن إنكارِ مُنْكري البعْثِ؛ لأنَّ الأدلَّةَ السَّالِفةَ لم تُبْقِ عُذرًا لهم في ذلك. ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ وَإِنْ تَعْجَبْ... عطفًا على جُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] ؛ فالتقديرُ: إنْ تعْجَبْ مِن عدَمِ إيمانِهم بأنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ فعَجَبٌ إنكارُهم البعْثَ، وفائدةُ هذا هو التَّشويقُ لمَعْرفةِ المُتعجَّبِ منه؛ تَهويلًا له أو نحوه، ولذلك فالتَّنكيرُ في قولِه: فَعَجَبٌ للتَّنويعِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّ قولَهم ذلك صالحٌ للتَّعجُّبِ منه، ثم هو يفيدُ معنى التَّعظيمِ في بابِه، تَبَعًا لِما أفادَه التَّعليقُ بالشَّرطِ مِن التَّشويقِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/89- 90). .
- قولُه: أَإِذا كُنَّا تُرابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ الاستفهامُ في أَإِذا كُنَّا تُرابًا إنكاريٌّ، وهو مُفيدٌ لكَمالِ الاستبعادِ والاستنكارِ؛ لأنَّهم مُوقِنونَ بأنَّهم لا يكونون في خَلْقٍ جديدٍ بعدَ أنْ يكونوا تُرابًا، والقولُ المَحْكِيُّ عنهم في مَعْنى الاستفهامِ عن مَجْموعِ أمْرَين، وهما: كونُهم تُرابًا، وتجْديدُ خَلْقِهم ثانِيةً، والمقصودُ مِن ذلك العَجَبُ والإحالةُ [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/6)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/90). .
- وتكْريرُ الهمزةِ في قولِهم: أَئِنَّا؛ لتأْكيدِ الإنكارِ [117] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/6). .
- والإشارةُ بقولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِيَاءُ بما سَيَرِدُ بعد اسمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ؛ لأجْلِ ما سَبَقَ اسمَ الإشارةِ مِن قولِهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بعد أنْ رأَوا دلائلَ الخَلْقِ الأوَّلِ، فحَقَّ عليهم بقولِهم ذلك حُكمانِ؛ أحدُهما: أنَّهم كفَروا بربِّهم؛ لأنَّ قولَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لا يقولُه إلَّا كافرٌ باللَّهِ، وثانيهما: استحقاقُهمُ العَذابَ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/90). .
- وعُطِفَ على هذه الجُملةِ جُملةُ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ مُفْتتحَةً باسمِ الإشارةِ لمِثْلِ الغرَضِ الَّذي افتُتِحَت به الجُملةُ قبلها؛ فإنَّ مضْمونَ الجُملتينِ اللَّتينِ قبلَها يُحَقِّقُ أنَّهم أَحْرِيَاءُ بوَضْعِ الأغْلالِ في أعناقِهم، وذلك جزاءُ الإهانةِ. وكذلك عَطْفُ جُملةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/91). .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إعادةُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ للتَّهويلِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/91). .
2- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
- قولُه: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ هذه الجُملةُ في مَوضِعِ الحالِ؛ لبَيانِ رَكاكةِ رأيِهم في الاستعجالِ بطريقِ الاستهزاءِ، أي: يستعْجِلونك بها مُستهزِئين بإنْذارِك، مُنْكرين لوُقوعِ ما أنذرْتَهم إيَّاه، والحالُ: أنَّه قد مَضَتِ العُقوباتُ النَّازِلةُ على أمثالِهم مِن المُكَذِّبين والمُستهزِئين، وهو مَحَلُّ زيادةِ التَّعجُّبِ؛ لأنَّ ذلك قد يُعْذَرون فيه لو كانوا لم يرَوا آثارَ الأُمَمِ المُعذَّبةِ مثلَ عادٍ وثمودَ [121] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/92). .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ، جُملةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ احتِراسٌ؛ لئلا يحْسَبوا أنَّ المَغفِرةَ المَذْكورةَ مَغفِرةٌ دائمةٌ؛ تعريضًا بأنَّ العِقابَ حالٌّ بهم مِن بعدُ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/94). ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
3- قولُه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
- قولُه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه العُدولُ عنِ الإضْمارِ إلى الموصولِ- حيث لم يقُلْ: (ويقولون)- فإنَّ الَّذين كفروا هم المُستعجِلون؛ لزيادةِ تسْجيلِ الكُفْرِ عليهم، ولِما يُومِئُ إليه الموصولُ مِن تعْليلِ صُدورِ قولِهم ذلك، وصِيغَةُ المُضارعِ وَيَقُولُ تدلُّ على تجدُّدِ ذلك وتكرُّرِه [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/94- 95). .
- ولكونِ اقتراحِهم آيةً يشِفُّ عن إحالتِهم حُصولَها- لِجهْلِهم بعظيمِ قُدرةِ اللَّهِ تعالى- سِيقَ هذا في عِدادِ نتائجِ عظيمِ القُدرةِ؛ فبذلك انتَظَمَ تفرُّعُ الجُمَلِ بعضِها على بعضٍ، وتفرُّعِ جميعِها على الغرَضِ الأصليِّ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/94). .
- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ فيه قصْرُ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ على صِفَةِ الإنذارِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: أنت مُنذِرٌ لا مُوجِدٌ خَوَارِقَ عادةٍ، وبهذا يظهَرُ وجْهُ قصْرِه على الإنذارِ دون البِشارَةِ؛ لأنَّه قصْرٌ إضافيٌّ بالنِّسبةِ لأحوالِه نحوَ المُشركين؛ وقد ردَّ اللَّهُ اقتراحَهم مِن أصلِه بهذا القولِ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/95). .
- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ جُملةُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ تَذْييلٌ بالأعمِّ، أي: إنَّما أنت مُنذِرٌ لهؤلاءِ؛ لهِدايتِهم، وبهذا العُمومِ الحاصِلِ بالتَّذييلِ والشَّاملِ للرَّسولِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ صارَ المعنى: إنَّما أنت مُنذِرٌ لقومِك، هادٍ إيَّاهم إلى الحقِّ؛ فإنَّ الإنذارَ والهُدى مُتلازِمانِ؛ فما مِن إنذارٍ إلَّا وهو هدايةٌ، وما مِن هدايةٍ إلَّا وفيها إنذارٌ، والهِدايةُ أعمُّ مِن الإنذارِ؛ ففي هذا احتباكٌ بديعٌ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/95). والاحْتِبَاك: هو الحذفُ من الأوائلِ؛ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ؛ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَعَ الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّـكَة الميداني (1/347). .