موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ .
زَوْجَيْنِ: أي: صِنفَينِ ونَوعَينِ، وأصلُ (زوج): يدل على مُقارنةِ شَيءٍ لشَيءٍ .
صِنْوَانٌ: أي: مُجتمِعٌ، والصِّنوانُ مِن النَّخلِ: النَّخلتانِ والنَّخلاتُ يجمَعُهنَّ أصلٌ واحِدٌ، وتتشَعَّبُ منه رؤوسٌ فتصيرُ نخيلًا، وأصلُ (صنو): يدلُّ على تقارُبٍ بين شَيئينِ .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
بِغَيْرِ عَمَدٍ: جارٌّ ومجرورٌ، في موضِعِ نصبٍ على الحالِ مِن السَّمَوَاتِ، تقديرُه: خاليةً عن عمَدٍ. تَرَوْنَهَا: في موضِعِ نصبٍ حالٌ ثانيةٌ مِن السَّمَوَاتِ، أي: رفَعَها مرئيَّةً لكم بغيرِ عمَدٍ. أو مُستأنفةٌ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ؛ جيءَ به للاستشهادِ على كونِ السَّمواتِ مَرفوعةً كذلك، وعلى ذلك فالضَّميرُ المنصوبُ في تَرَوْنَهَا للسَّمَواتِ. وقيل: ضَميرُ النَّصبِ في تَرَوْنَهَا عائِدٌ على عَمَدٍ أي: بِغَيرِ عَمَدٍ مَرْئيَّةٍ، وعليه فجملةُ تَرَوْنَهَا في محَلِّ جَرٍّ صِفةٌ لـ  عَمَدٍ، وهذا التخريجُ يَحتَمِلُ وَجهَينِ: أحدُهما: انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جَميعًا، أي: لا عَمَدَ فلا رؤيةَ، يعني: لا عَمَدَ لها فلا تُرى. وإليه ذهب الجُمهورُ. والثاني: أنَّ لها عمَدًا ولكِنْ غيرُ مَرئيَّةٍ .

المعنى الإجمالي:

افتُتِحَت هذه السُّورةُ الكريمةُ ببَعضِ الحروفِ المقطَّعةِ، وقد سبق الكلامُ عنها في أوَّلِ سورةِ البَقَرةِ، ثُمَّ أخبَر الله تعالى أنَّ هذه الآياتِ العظيمةَ هي آياتُ القُرآنِ المُعجِزِ، العظيمِ الشَّأنِ، الذي أُنزِلَ عليك- أيُّها النَّبيُّ- بالحَقِّ الذي لا يلتَبِسُ بالباطلِ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القرآن هو الحَقُّ، مع وضوحِه وجلائِه؛ عِنادًا وتكبُّرًا، وأنَّ اللهَ تعالى الذي أنزلَ هذا الكِتابَ هو الذي رفعَ السَّمواتِ السَّبعَ بقُدرتِه مِن غيرِ عمَدٍ، كما تَرَونَها، ثمَّ علا على العرشِ عُلُوًّا يليقُ بجلالِه وعَظَمتِه، وذلَّل الشَّمسَ والقمرَ لمنافعِ العبادِ، كلٌّ منهما يدورُ في فَلَكِه إلى يومِ القيامةِ، يُدبِّرُ سُبحانَه أمورَ الدُّنيا والآخرةِ، ويُوضِّحُ لكم الآياتِ الدَّالةَ على قُدرتِه؛ لتُوقِنوا بالمعادِ إليه، وبوعدِه ووعيدِه. وهو الذي جعل الأرضَ متَّسِعةً ممتدَّةً، وهيَّأها لِمعاشِكم، وجعل فيها جِبالًا تُثبِّتُها، وأنهارًا لشُربِكم ومَنافِعِكم، وجعل فيها مِن كلِّ الثَّمَراتِ صِنفينِ اثنينِ، فكان منها الأبيضُ والأسودُ، والحُلوُ والحامِضُ، وجعل اللَّيلَ يُغطِّي النَّهارَ بظُلمتِه، إنَّ في ذلك لَعِظاتٍ لقومٍ يتفكَّرونَ فيها فيتَّعِظونَ.
وإنَّ الأرضَ ذاتَها فيها عجائِبُ؛ فيها قِطَعٌ مِن الأرضِ يُجاوِرُ بعضُها بعضًا، منها ما هو طيِّبٌ يُنبتُ ما ينفَعُ النَّاسَ، ومنها سَبِخةٌ مالِحةٌ لا تُنبِتُ شيئًا، وفي الأرضِ الطَّيِّبةِ بساتينُ مِن أعنابٍ، وزروعٌ مُختلِفةٌ، ونخيلٌ مُجتمِعٌ في منبتٍ واحدٍ، وغيرُ مجتمِعٍ فيه، كلُّ ذلك في تربةٍ واحدةٍ، ويشرَبُ مِن ماءٍ واحدٍ، ولكنَّه يختلِفُ في الثِّمارِ والحَجمِ والطَّعمِ وغيرِ ذلك؛ فهذا حُلوٌ، وهذا حامِضٌ، وبعضُها أفضَلُ مِن بعضٍ في الأكُلِ، إنَّ في ذلك لَعلاماتٍ لِمَن كان له قلبٌ يعقِلُ عن اللهِ تعالى أمْرَه ونهيَه.

تفسير الآيات:

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1).
المر.
تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ .
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ.
أي: هذه آياتُ القُرآنِ، الرَّفيعةُ الشَّأنِ العاليةُ المراتِبِ .
وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ.
أي: وهذا القرآنُ الذي أُنزِل إليك- يا مُحمَّدُ- مِن رَبِّك لا مِن غَيرِه، هو الحَقُّ؛ فاعتَصِمْ به واعمَلْ بما فيه، ووجَب لثُبوتِ حَقِّيَّتِه أن يؤمِنَ به جميعُ النَّاسِ .
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القُرآنَ هو الحَقُّ الذي جاء مِن عندِ اللهِ، مع وضوحِ ذلك وثُبوتِه؛ جهلًا منهم وإعراضًا، أو عِنادًا وظُلمًا .
كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] .
اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكر الله تعالى أنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ؛ ذكرَ عَقيبَه ما يدُلُّ على صِحَّةِ التوحيدِ والمعادِ ، فقال:
اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.
أي: اللهُ هو الذي رفعَ بقُدرتِه العظيمةِ السَّمواتِ السَّبعَ بلا أعمدةٍ، كما ترَونَها .
كما قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [لقمان: 10] .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
أي: ثمَّ علا اللهُ على عَرشِه العظيمِ عُلوًّا يليقُ بجلالِه وكَمالِه .
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى.
أي: وذلَّلَ الشَّمسَ والقمَرَ لمصالحِ خَلْقِه، كلٌّ منهما يجري في السَّماءِ إلى وقتٍ معلومٍ، وهو انتهاءُ الدُّنيا ووقوعُ يومِ القيامةِ .
يُدَبِّرُ الأَمْرَ.
أي: يُصرِّفُ أمورَ مَخلوقاتِه كما يريدُ .
يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.
أي: يبيِّنُ ويوضِّحُ لكم آياتِه الدالةَ على وحدانيتِه وقُدرتِه على البعثِ وغيرِه؛ كي تُوقِنوا بالبعثِ بعد الموتِ، وتُوقِنوا بوَعدِه ووعيدِه .
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكرَ تعالى العالَمَ العُلويَّ؛ شرعَ في ذِكرِ قُدرتِه وحِكمتِه وإحكامِه للعالَمِ السُّفليِّ، فقال :
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ .
أي: واللهُ هو الذي بسطَ لكم الأرضَ طولًا وعَرضًا، فخلَقَها متَّسِعةَ الأرجاءِ؛ لتَنتَفِعوا بها .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .
وقال سُبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا.
أي: وجعل فيها جِبالًا ثابتةً، وأنهارًا جاريةً .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [المرسلات: 27] .
وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الأنهارَ؛ ذكَرَ ما ينشأُ عن المياهِ، فقال :
وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
أي: ومِن جميعِ الثَّمَراتِ جعل اللهُ في الأرضِ صِنفَينِ اثنينِ .
كما قال الله سبحانَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه: 53] .
وقال تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] .
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ.
أي: يغطِّي اللهُ باللَّيلِ النَّهارَ، ويغَطِّي بالنَّهارِ اللَّيلَ، فيجعلُ كلًّا منهما ساتِرًا للآخَرِ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: إنَّ فيما ذكرتُه لكم من عجائبِ مَخلوقاتي لدَلالاتٍ وعَلاماتٍ لِقَومٍ يتفَكَّرونَ فيها، فيستدِلُّونَ بها على وحدانيَّةِ الله تعالى وكمالِ صِفاتِه، ومن ذلك حِكمتُه وقُدرتُه على وقوعِ البعثِ، وأنَّ العبادةَ لا تصلحُ لِغَيرِه سُبحانَه .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3 - 6] .
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4).
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ.
أي: ومِن الآياتِ على كمالِ قُدرتِه العجيبةِ وبديعِ صُنعِه وأنَّه سُبحانَه الفاعِلُ المُختارُ وَحدَه: أنْ جعَلَ في الأرضِ بقاعًا مُختلفةً في ألوانِها وأحجامِها، وأنواعِها وطبائِعِ مَنابتِها؛ فهذه- مثلًا- طَيِّبةٌ عَذبةٌ تُنبِتُ ما ينفَعُ النَّاسَ، وهذه سَبِخةٌ مالِحةٌ لا تُنبِتُ شيئًا، مع كونِ تلك البقاعِ مُتجاوِرةً مُتقارِبةً !
وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ.
أي: وفي الأرضِ بَساتينُ مِن أعنابٍ مُتنَوِّعة، وفيها زروعٌ مُختَلِفةٌ .
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ.
أي: وفي الأرضِ نَخيلٌ مُختلِفةٌ؛ فهناك نَخَلاتٌ يجمَعُهنَّ أصلٌ واحِدٌ في مَنبتٍ واحدٍ، وهناك نَخَلاتٌ مُتفَرِّقاتٌ، كلُّ نخلةٍ منها نابتةٌ مِن أصلٍ مُستقِلٍّ .
يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ.
أي: جميعُ ما ذكَرْناه من الجنَّاتِ والنَّخيلِ والزُّروعِ، يُسقى بماءٍ واحدٍ عذبٍ غيرِ مالحٍ .
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ.
أي: ونفضِّلُ بعضَ الأعنابِ والزُّروعِ والنَّخيلِ على بعضٍ في الثَّمرِ؛ طَعمًا وشَكلًا، ولونًا ورائحةً، وأوراقًا وأزهارًا ونفعًا، مع كَونِها تُسقَى بماءٍ واحدٍ !!
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّ في اختلافِ قطعِ الأرضِ المتجاوراتِ، واختلافِ ثمارِ الجنَّاتِ لعلاماتٍ واضحاتٍ ودلالاتٍ لمن كان له قلبٌ يفهمُ عن اللهِ ما أخبَر به، فمِن ذلك دلالاتُها على أنَّ الله بعلمِه وقدرتِه فاوَت بينَ الأشياءِ وخلَقها على ما يشاءُ، وكما أنَّه قادرٌ على ما يريدُ مِن ابتداءِ الخلقِ ثم تنويعِه بعد إبداعِه، فهو قادرٌ أيضًا على إعادتِه بطريقِ الأوْلَى، وأيضًا فالذي خالَف بينَ تلك الأشياءِ، هو الذي خالَف بينَ خلقِه فيما قسَم لهم مِن هدايةٍ وضلالٍ وتوفيقٍ وخذلانٍ .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فيه أنَّ كثرةَ الأدلَّةِ وبَيانَها ووضوحَها، مِن أسبابِ حُصولِ اليَقينِ في جميعِ الأمورِ الإلهيَّةِ، خُصوصًا في العقائدِ الكِبارِ، كالبَعثِ والنُّشورِ، والإخراجِ مِن القُبورِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فالدَّلائِلُ المذكورةُ كما تدُلُّ على الخالقِ الحكيمِ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه، فهي أيضًا تدُلُّ على صِحَّةِ القَولِ بالحَشرِ والنَّشرِ؛ لأنَّ مَن قدَرَ على خَلقِ هذه الأشياءِ وتَدبيرِها على عَظَمتِها وكَثرتِها، فلَأنْ يقدِرَ على الحَشرِ والنَّشرِ كان أوْلَى .
2- قول الله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، فيه دليلٌ على رؤيةِ اللهِ تعالى؛ فقد أجمَع أهلُ اللسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِب إلى الحيِّ السليمِ مِن العمَى والمانعِ اقتضَى المعاينةَ والرؤيةَ .
3- قولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ذِكرُ اللَّيلِ والنَّهارِ مع آياتِ العالَمِ السُّفليِّ في غايةِ الدِّقَّةِ العِلميَّةِ؛ لأنَّهما مِن أعراضِ الكُرةِ الأرضيَّةِ بحسَبِ اتِّجاهِها إلى الشَّمسِ، وليسا مِن أحوالِ السَّمواتِ؛ إذ الشَّمسُ والكواكبُ لا يتغيَّرُ حالُها بضياءٍ وظُلمةٍ ، وقيل: عدَّ هذا في تَضاعيفِ الآياتِ السُّفليَّةِ وإنْ كانَ تعلُّقُه بالآياتِ العُلْويَّةِ ظاهرًا، باعتبارِ أنَّ ظُهورَه في الأرضِ؛ فإنَّ اللَّيلَ إنَّما هو ظِلُّها، وفيما فوقَ مَوقِعِ ظِلِّها لا ليلٌ أصلًا، ولأنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ لهما تعلُّقٌ بالثَّمراتِ مِن حيثُ العَقْدُ والإنضاجُ، على أنَّهما أيضًا زوجانِ مُتقابِلانِ مثلَها .
4- في قول الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، هذه الآيةُ تقتضي أنَّ كلَّ ثمرةٍ موجودٌ منها نوعانِ، فإن اتَّفق أن يوجدَ في ثمرةٍ أكثرُ مِن نوعينِ فغيرُ ضارٍّ في معنى الآيةِ ، فإنْ قِيل: فلم خصَّ اثنين بالذكرِ، وإنْ كان مِن أجناسِ الثِّمارِ ما يزيدُ على ذلك؟ فالجواب: لأنَّه الأقلُ، إذ لا نوعَ تنقصُ أصنافُه عن اثنينِ .
5- قَولُ الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ قيَّدَ مِن الأرضِ في هذا المثالِ ما جاورَ وقَرُبَ بعضُه مِن بعضٍ؛ لأنَّ اختلافَ ذلك في الأكلِ أغرَبُ .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه دليلٌ على بُطلانِ قَولِ الطَّبائعيِّينَ ؛ لأنَّه لو كان حدوثُ الثَّمَرِ مِن طَبعِ الأرضِ، والهواءِ والماءِ، وجب أن يتَّفِقَ ما يحدُثُ؛ لاتِّفاقِ ما أوجبَ الحُدوثَ، فلمَّا وقع الاختلافُ، دلَّ على مدبِّرٍ قادرٍ ، فاعِلٍ مُختارٍ، يفعلُ ما يشاءُ، كيفَ يشاءُ، سبحانَه، جَلَّ وعَلَا عَنِ الشُّركاءِ والأندادِ .
7- في قَولِه تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ دَلالةٌ على تَفضيلِه سُبحانَه بعضَ المَخلوقاتِ على بعضٍ، مع استوائِها فيما تساوَت فيه مِن الأسبابِ .
8- قال الحسنُ في قولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ... إلى قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: (هذا مَثَلٌ ضرَبَه اللَّهُ تعالى لقُلوبِ بني آدمَ؛ كانتِ الأرضُ طينَةً واحدةً فسَطَحَها، فصارت قِطَعًا مُتجاوراتٍ، فنزَلَ عليها ماءٌ واحدٌ مِن السَّماءِ، فتُخرِجُ هذه زَهرةً وثمَرةً، وتُخرِجُ هذه سَبَخَةً ومِلحًا وخَبَثًا. وكذلك النَّاسُ خُلِقوا مِن آدمَ، فنزَلَتْ عليهم مِن السَّماءِ تذْكِرَةٌ، فرَقَّتْ قُلوبٌ، وخشَعَت قُلوبٌ، وقَسَت قُلوبٌ، ولَهَتْ قُلوبٌ) .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
- قولُه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ في إسنادِ الإنزالِ إليه بصِيغَةِ المَبْنيِّ للمفعولِ والتَّعرُّضِ لوصْفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إلى ضميرِه عليه السَّلامُ: دلالةٌ على فَخامةِ المُنْزَلِ التَّابعةِ لجَلالةِ شأْنِ المُنْزِلِ وتشْريفِ المُنْزَلِ إليه، وإيماءٌ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ . وقيل: الإتيانُ بـ رَبِّكَ دون اسمِ الجَلالةِ؛ للتَّلطُّفِ .
- وأخبَرَ عنِ الَّذي أُنْزِلَ بأنَّه الْحَقُّ بصيغةِ القَصْرِ، أي: هو الحقُّ لا غيرُه مِن الكُتُبِ، فالقَصْرُ إضافيٌّ بالنِّسبةِ إلى كُتُبٍ معلومةٍ عندَهم، أو القصْرُ حقيقيٌّ ادِّعائيٌّ ؛ مُبالغَةً لعَدَمِ الاعتدادِ بغيرِه مِن الكُتُبِ السَّابقةِ، أي: هو الحقُّ الكاملُ؛ لأنَّ غيرَه مِن الكُتُبِ لم يستكمِلْ مُنتهَى مُرادِ اللَّهِ مِن النَّاسِ؛ إذ كانتْ درجاتٍ مُوصِلةً إلى الدَّرجةِ العُليا .
- قولُه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ هذه الجُملةُ كالحُجَّةِ على الجُملةِ الأُولى، وتعريفُ الخبَرِ الْحَقُّ وإنْ دلَّ على اختصاصِ المُنْزَلِ بكونِه حقًّا، فهو أعمُّ مِن المُنْزَلِ صريحًا أو ضِمنًا، كالمُثْبَتِ بالقياسِ وغيرِه ممَّا نطَقَ المُنْزِلُ بحُسْنِ اتِّباعِه .
- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ استدراكٌ، وهو راجعٌ إلى ما أفادَه القَصْرُ مِن إبطالِ مُساواةِ غيرِه له في الحَقِّيَّةِ إبطالًا يقتضي ارتفاعَ النِّزاعِ في أحقِّيَّتِه، وابتداءُ السُّورةُ بهذا تنويهٌ بِما في القُرآنِ- الَّذي هذه السُّورةِ جزءٌ منه- مقصودٌ به تهيئَةُ السَّامِعِ للتَّأمُّلِ ممَّا سَيَرِدُ عليه مِن الكلامِ .
2- قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
- قولُه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ استئنافٌ ابتدائيٌّ هو ابتداءُ المقْصودِ مِن السُّورةِ، وما قبلَه بمنزِلَةِ الدِّيباجَةِ مِن الخُطبةِ؛ ولذا طالَ الكلامُ واطَّرَدَ في هذا الغَرَضِ .
- وفيه الافتِتاحُ باسمِ الجَلالةِ اللَّهُ دون الضَّميرِ الَّذي يعودُ إلى رَبِّكَ؛ لأنَّه مُعَيَّنٌ به لا يشتَبِه غيرَه مِن آلهتِهم؛ ليكونَ الخبَرُ المقصودُ جاريًا على مُعَيَّنٍ لا يحتمِلُ غيرَه؛ إبلاغًا في قطْعِ شائبةِ الإشراكِ. والَّذِي رَفَعَ هو الخبَرُ، وجُعِلَ اسمَ موصولٍ؛ لكونِ الصِّلةِ معلومةَ الدَّلالةِ على أنَّ مَن تثبُتُ له هو المُتَوحِّدُ بالرُّبوبيَّةِ؛ إذ لا يستطيعُ مثلَ تلك الصِّلةِ غيرُ المُتَوحِّدِ، ولأنَّه مُسَلَّمٌ له ذلك . وعلى القولِ بأنَّ جُمْلتي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ خَبَرانِ عن قولِه: اللَّهُ خبرًا بعد خبَرٍ؛ فالموصولُ الَّذِي صفةٌ للمُبتدأِ اللَّهُ؛ جيءَ به للدَّلالةِ على تحقيقِ الخبَرِ، وتعظيمِ شأْنِه .
- وقولُه: تَرَوْنَها استئنافٌ استُشْهِدَ به على ما ذُكِرَ مِن رفْعِ السَّمواتِ بغيرِ عَمَدٍ .
- وعلى القولِ بالاستئنافِ فيكونُ في قولِه تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا فنٌّ رفيعٌ مِن فُنونِ البَلاغةِ، وهو نَفْيُ الشَّيءِ بايجابِه، أي: رفَعَ السَّمواتِ خاليةً مِن العَمَدِ، فالوجْهُ انتِفاءُ العَمَدِ والرُّؤيةِ جميعًا؛ فلا رُؤيةَ ولا عَمَدَ .
- قولُه: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فيه التَّعبيرُ بالجَرَيانِ عنِ السَّيرِ الَّذي فيه سُرْعةٌ .
- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ (الرَّعدِ): كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، وفي سُورةِ (لُقمانَ) قال: كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ [لقمان: 29] ، فعبَّرَ بـ (إلى) ولا ثانِيَ له؛ وذلك لأنَّه يُقالُ في الزَّمانِ: جَرَى ليومِ كذا، وإلى يومِ كذا، والأكثرُ اللَّامُ، كما في هذه السُّورةِ وسُورةِ (فاطرٍ): يَجْرِي لِأَجَلٍ [فاطر: 35] ، وكذلك في (يس): تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس: 38] ؛ لأنَّه بمنزِلةِ التَّاريخِ، وأمَّا في سُورةِ (لُقمانَ) فوافَقَ ما قبلَها، وهو قولُه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ [لقمان: 22] ، والقِياسُ (للَّهِ) كما في قولِه: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، لكنَّه حُمِلَ على المعنى، أي: يقصِدُ بطاعتِه إلى اللَّهِ، وكذلك يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: 29] ، أي: يجْري إلى وقتِه المُسمَّى له .
- قولُه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ الَّذي تقْتَضيه الفَصاحةُ أنَّ هاتينِ الجُمْلتينِ استِئنافُ إخبارٍ عنِ اللَّهِ تعالى ، وجُملةُ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ تُرِكَ عطْفُها على الَّتي قبلَها؛ لتكونَ على أسلوبِ التَّعْدادِ والتَّوقيفِ؛ وذلك اهتمامٌ باستقْلالِها .
- وفيه مُناسَبة حَسَنةٌ، حيث صِيغَ يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ بالمُضارعِ، على عكْسِ قولِه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ؛ لأنَّ التَّدبيرَ والتَّفصيلَ مُتَجدِّدٌ مُتَكرِّرٌ بتجدُّدِ تعلُّقِ القُدرةِ بالمقْدوراتِ، وأمَّا رفْعُ السَّمواتِ وتسخيرُ الشَّمسِ والقمرِ فقد تمَّ واستقرَّ دُفعةً واحدةً .
- قولُه: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ مِن إدماجِ غرَضٍ في أثناءِ غرَضٍ آخرَ؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ على إثباتِ الوحدانيَّةِ، وفي أدلَّةِ الوحدانيةِ دَلالةٌ على البعْثِ أيضًا .
3- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ؛ فبيْنَ الجُملتينِ شِبْهُ التَّضادِّ؛ حيث اشتملتِ الأُولى على ذِكْرِ العَوالِمِ العُلويَّةِ وأحوالِها، واشتملتِ الثَّانيةُ على ذِكْرِ العَوالِمِ السُّفليَّةِ، والمعنى: أنَّه خالقُ جميعِ العَوالِمِ وأعراضِها .
- قولُه: وَجَعَلَ فِيهَا رَواسِيَ أي: جِبالًا ثوابتَ في أحْيازِها؛ مِن الرَّسْوِ، وهو ثباتُ الأجسامِ الثَّقيلةِ، ولم يذْكُرِ الموصوفَ (الجبالَ)؛ لظُهورِه، ولإغْناءِ غلَبَةِ الوصفِ بها عن ذلك، والتَّعبيرُ عنِ الجبالِ بهذا العُنوانِ؛ لبيانِ تفرُّعِ قَرارِ الأرضِ على ثباتِها .
- قولُه: جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فيه تنْكيرُ زَوْجَيْنِ؛ للتَّنويعِ، أي: جعَلَ زوجَينِ مِن كلِّ نوعٍ، ومعنى التَّثْنيةِ في زَوْجَيْنِ أنَّ كلَّ فرْدٍ مِن الزَّوجِ يُطْلَقُ عليه زوجٌ، والوصفُ بقولِه: اثْنَيْنِ؛ للتَّأكيدِ؛ تحقيقًا للامْتِنانِ ؛ فأكَّدَ به الزَّوجينِ لئلَّا يُفْهَمَ أنَّ المُرادَ بذلك الشَّفْعانِ؛ إذ يُطْلَقُ الزَّوجُ على المجْموعِ، ولكنِ اثْنَيْنِيَّةُ ذلك اثْنَيْنِيَّةٌ اعتِباريَّةٌ، أي: جعَلَ مِن كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الثَّمراتِ الموجودةِ في الدُّنيا ضَرْبَينِ صِنْفَينِ .
- وجيءَ بالفِعْلِ يُغْشِي بصِيغَةِ المُضارعِ؛ لِما يدُلُّ عليه مِن التَّجدُّدِ؛ لأنَّ جَعْلَ الأشياءِ المُتقدِّمِ ذِكْرُها جَعْلٌ ثابِتٌ مُستمِرٌّ، وأمَّا إغْشاءُ اللَّيلِ والنَّهارِ فهو أمْرٌ مُتجدِّدٌ كلَّ يومٍ وليلةٍ .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الإشارةِ بـ ذَلِكَ تنْبيهٌ على عِظَمِ شأْنِ المُشارِ إليه في بابِه .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ جعَلَ الأشياءَ المَذْكوراتِ ظُروفًا لـ (آيَاتٍ)؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ مِن الأمورِ المَذْكورةِ تتضمَّنُ آياتٍ عظيمةً، وأجْرى صِفَةَ التَّفكيرِ على لفظِ (قَوْمٍ)؛ إشارةً إلى أنَّ التَّفكيرَ المُتكرِّرَ المُتجدِّدَ هو صِفَةٌ راسِخةٌ فيهم، بحيث جُعِلَتْ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، أي: جِبِلَّتِهم، وجيءَ في التَّفكيرِ بالصِّيغةِ الدَّالَّةِ على التَّكلُّفِ (تَفَعَّل) وبصيغةِ المُضارعِ؛ للإشارةِ إلى تفْكيرٍ شديدٍ ومُكرَّرٍ .
- وخَصَّ المتفَكِّرينَ؛ لأنَّ ما احتوَت عليه هذه الآياتُ مِن الصَّنيعِ العَجيبِ، لا يُدرَكُ إلَّا بالتفَكُّرِ .
- وفي خِتامِ هذه الآيةِ بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، وقد ختَمَ الآيةَ الَّتي بعدَها بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في قولِه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فقال في الأُولى: يَتَفَكَّرُونَ، وفي الآيةِ الَّتي بعدَها: يَعْقِلُونَ؛ وذلك أنَّ التَّفكُّرَ هو المُؤَدِّي إلى مَعرفةِ الشَّيءِ، والعِلْمِ بالآياتِ الَّتي تدُلُّ على وَحدانيَّةِ اللَّهِ تعالى، فهو قَبْلُ؛ فإذا استُعْمِلَ على وجْهِه عقَل ما جُعِلَت هذه الأشياءُ أَمَارَةً له، ودَلالةً عليه؛ فبُدِئَ في الأوَّلِ بما يُحْتاجُ إليه أوَّلًا مِن التَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ المُفْضِيَيْنِ بصاحِبِهما إلى إدراكِ المطلوبِ، وخُصَّ الآخَرُ بما يستقِرُّ عليه آخِرُ التَّفكُّرِ مِن سُكونِ النَّفْسِ إلى عِرفانِ ما دلَّتِ الآياتُ عليه، فكان في تقْديمِ ما قُدِّمَ وتأْخيرِ ما أُخِّرَ إشارةٌ إليه ؛ فختَمَ الآيةَ هنا بـ يَتَفَكَّرُونَ، وختَمَها بعدُ بـ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ التَّفكُّرَ في الشَّيءِ سببٌ لِتعقُّلِه، والسَّببُ مُقدَّمٌ على المُسبَّبِ، فناسَبَ تقدُّمُ التَّفكُّرِ على التَّعقُّلِ . وأيضًا لمَّا كان الاستدلالُ في الآيةِ الثَّانيةِ بأشياءَ في غايَةِ الوضوحِ مِن مُشاهدَةِ تجاوُرِ القِطَعِ، والجنَّاتِ وسَقْيِها وتفْضيلِها، جاء ختْمُها بقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، بخلافِ هذه الآيةِ الَّتي قبلها؛ فإنَّ الاستدلالَ بها يَحتاجُ إلى تأمُّلٍ ومَزيدِ نظَرٍ؛ فجاءَ ختْمُها بقولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
وقيل: إنَّ مُعْتَبَراتِ الآيةِ الأُولى مِن مَدِّ الأرضِ وما ذُكِرَ بعدَ ذلك أوضحُ للاعتِبارِ، ومُعْتَبَراتِ الثَّانيةِ أغمضُ، فتجاوُرُ قِطَعِ الأرضِ وتقارُبُها في الصِّفاتِ والهيْئاتِ مِن سَهْلٍ وحَزْنٍ، ثمَّ تُخْرِجُ أنواعَ الجنَّاتِ مِن النَّخلِ والأعنابِ وضُروبِ الأشجارِ والنَّباتِ والزَّرعِ، واختلافُ الطُّعومِ في ثَمَراتِها والألوانِ والرَّوائحِ، وتفاوتُ الطِّيبِ والمنافِعِ الحاصِلةِ عن ذلك؛ مِن غِذاءٍ ودواءٍ نافعٍ وضارٍّ، مع تقارُبِ الأرضِ وتجاوُرِها وتشاكُلِها وسَقْيِها بماءٍ واحدٍ، كما قال اللَّهُ تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: 4] ، وهذا ممَّا تنقطِعُ الأفكارُ وتقصُرُ العُقولُ عن عَجيبِ الصُّنعِ الرَّبانيِّ فيه، وأمَّا مُعْتَبَراتُ الأُولى فيُتَوصَّلُ بالفِكرِ إلى الحُصولِ على الاعتِبارِ بها وتعقُّلِها وعجيبِ الحِكمةِ فيها، وغُموضُ ما في الثَّانية بادٍ، ولا يُتَوصَّلُ إلى بعضِ ذلك إلَّا بعدَ طُولِ الاعتِبارِ والتَّأْييدِ منه سبحانه والتَّوفيقِ؛ فلمَّا كان العَقلُ أشرفَ وأعلى ناسَبَه أنْ يُتْبَعَ به ما هو أغمَضُ وأخْفى، وناسَبَ الفِكرَ ما هو أظهَرُ وأجْلى؛ فقيل في عَقِبِ الآيةِ الأُولى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وفي عَقِبِ الآيةِ الثَّانيةِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، ولو ورَدَ العكْسُ لم يكُنْ ليُناسِبَ .
4- قولُه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- قولُه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ فيه إعادةُ اسمِ الأرضِ الظَّاهرِ دون ضَميرِها الَّذي هو المُقْتَضى؛ لِيستقِلَّ الكلامُ، ويتجدَّدَ الأُسلوبُ، وأصلُ انتظامِ الكلامِ أنْ يُقال: (جعَلَ فيها زوجينِ اثنينِ، وفيها قِطَعٌ مُتجاوراتٌ)؛ فعدَلَ إلى هذا تَوضيحًا وإيجازًا، والاقتِصارُ على ذِكْرِ الأرضِ وقِطَعِها يشيرُ إلى اختلافٍ حاصِلٍ فيها عن غيرِ صُنْعِ النَّاسِ؛ وذلك اختلافُ المَراعي والكلَأِ .
- قولُه: قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ليس وَصْفُ القِطَعِ بـ مُتَجَاوِرَاتٌ مقْصودًا بالذَّاتِ في هذا المَقامِ؛ إذ ليس هو مَحَلَّ العِبرَةِ بالآياتِ، بلِ المقْصودُ وَصْفُ مَحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ، تقديرُه: مُختلِفاتُ الألوانِ والمَنابِتِ، كما دلَّ عليه قولُه: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، وإنَّما وُصِفَت بـ مُتَجَاوِرَاتٌ؛ لأنَّ اختلافَ الألوانِ والمَنابِتِ مع التَّجاوُرِ أشدُّ دَلالةً على القُدرةِ العظيمةِ .
- قولُه: وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ، وَزَرْعٌ، أي: مِن كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الحُبوبِ، وإفرادُه لمُراعاةِ أصْلِه (لأنَّه مصْدرٌ في أصْلِه)، ولعلَّ تقْديمَ ذِكْرِ الجنَّاتِ عليه مع كونِه عَمودَ المَعاشِ؛ لظُهورِ حالِها في اختلافِها ومُباينَتِها لِسائرِها، ورُسوخِ ذلك فيها. وتأْخيرُ وَنَخِيلٌ؛ لئلا يقَعَ بينها وبين صِفَتِها صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ فاصِلَةٌ . وخُصَّ النَّخلُ بذِكْرِ صِفَةِ صِنْوَانٌ؛ لأنَّ العِبرَةَ بها أقْوى، ووجْهُ زيادةِ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تجْديدُ العِبرَةِ باختلافِ الأحوالِ .
- وأيضًا في قولِه: صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ النَّصُّ على الصِّنْوانِ؛ لأنَّها بمِثالِ التَّجاوُرِ في القِطَعِ، فظهَرَ فيها غَرابَةُ اختلافِ الأُكُلِ .
- قولُه: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ خُصَّ التَّفضيلُ في الأكُلِ وإن كانت متفاضِلةً في غيرِه؛ لأنَّه غالِبُ وُجوهِ الانتفاعِ مِن الثَّمَراتِ .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه الأحوالُ وإنْ كانت هي الآياتِ أنْفُسَها لا أنَّها فيها، إلَّا أنَّه قد جُرِّدَت عنها أمثالُها؛ مُبالَغةً في كونِها آيةً، فـ (في) تجْريديَّةٌ مثْلها في قولِه تعالى: لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ، وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مَدْلولاتِها أظْهَرَ ممَّا سَبَقَ، عُلِّقَ كونُها آياتٍ بمَحْضِ التَّعقُّلِ؛ ولذلك لم يُتَعَرَّضْ لغيرِ تفضيلِ بعضِها على بعضٍ في الأُكُلِ الظَّاهرِ لكلِّ عاقلٍ، مع تحقُّقِ ذلك في الخَواصِّ والكيفيَّاتِ ممَّا يتوقَّفُ العُثورُ عليه على نوعِ تأمُّلٍ وتفكُّرٍ؛ كأنَّه لا حاجةَ في ذلك إلى التَّفكُّرِ أيضًا. وفيه تعريضٌ بأنَّ المُشركينَ غيرُ عاقِلينَ ؛ فجاءت هذه الجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مَجيءَ التَّذييلِ، ووصَفَت الآياتِ بأنَّها مِن اختِصاصِ الَّذين يعقِلونَ؛ تعْريضًا بأنَّ مَن لم تُقْنِعْهم تلك الآياتُ مُنَزَّلونَ مَنزلَة مَن لا يعقِلُ، وَزِيدَ في الدَّلالةِ على أنَّ العقْلَ سَجِيَّةٌ للَّذين انتفعوا بتلك الآياتِ بإجْراءِ وَصْفِ العقْلِ على كلمةِ لِقَوْمٍ؛ إيماءً إلى أنَّ العقْلَ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم .