موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (29-35)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غَريبُ الكَلِماتِ:

تَبُورَ: أي: تَبطُلَ وتَخسَرَ، والبَوارُ: فَرطُ الكَسادِ، وأصلُ (بور): يدُلُّ على هلاكِ الشَّيءِ .
مُقْتَصِدٌ: أي: غيرُ المُبالِغِ في طاعةِ ربِّه، بل يكونُ عمَلُه قَصْدًا، وهو المستوي الحالِ بيْنَ الحالَينِ؛ فهو فوقَ الظَّالِمِ لنفْسِه، ودونَ السَّابقِ بالخَيراتِ، وأصلُ (القصد): استِقامةُ الطَّريقِ .
عَدْنٍ: أي: إِقامَةٍ وخُلدٍ، واستقرارٍ وثباتٍ، يُقال: عَدَن بالمكانِ، يَعْدِنُ عَدْنًا، إذا لَزِمه، ولم يَبْرَحْ منه، وأصلُ (عدن): يدُلُّ على الإقامةِ .
يُحَلَّوْنَ: أي: يُلْبَسون ويُزَيَّنون بالحُلِيِّ .
أَسَاوِرَ: جمعُ أَسْوِرةٍ، وأسْوِرةٌ جَمعُ سِوارٍ، والسِّوارُ: هو الَّذي يُلبَسُ في المِعصَمِ مِن ذَهَبٍ، وهو اسمٌ مُعَرَّبٌ عن الفارسيَّةِ .
أَحَلَّنَا: أي: أنزَلَنا وأدخَلَنا، وحَللْتُ: نزلْتُ، أصلُه مِن حَلِّ الأحمالِ عندَ النُّزولِ، ثمَّ جُرِّد استِعمالُه للنُّزولِ، فقيل: حَلَّ حُلُولًا، وأحَلَّه غيرُه .
الْمُقَامَةِ: أي: الإقامةِ والخُلودِ، وأصلُ (قوم) هنا: يدُلُّ على انتِصابٍ أو عَزمٍ .
نَصَبٌ: أي: تعَبٌ وعَناءٌ، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ .
لُغُوبٌ: أي: ضَعفٌ وإعياءٌ، وأصلُ (لغب): يدُلُّ على ضَعفٍ .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
قَولُه: وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ، وفيه أوجُهٌ؛ أوَّلُها: أنَّه مَعطوفٌ على مَوضِعِ الجارِّ والمجرورِ مِنْ أَسَاوِرَ؛ لأنَّ مَوضِعَهما نصبٌ. والثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه الأوَّلُ، أي: ويُحَلَّونَ لُؤلؤًا. الثَّالثُ: أنَّه مَعطوفٌ على أَسَاوِرَ و(مِنْ) زائِدةٌ فيه عندَ الأخفَشِ، ويدُلُّ عليه قولُه تعالى: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21] .
وقُرِئَ وَلُؤْلُؤٍ بالجَرِّ عَطفًا على ذَهَبٍ. وقيل: مَجرورٌ عَطفًا على لَفظِ أَسَاوِرَ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: إنَّ الَّذين يَتلُونَ القُرآنَ، وأقاموا الصَّلواتِ، وأنفَقوا ممَّا رزَقْناهم في السِّرِّ والعَلَنِ: يَرجُونَ تجارةً رابحةً لن تَخسَرَ؛ لِيُوَفِّيَهم اللهُ أجورَ أعمالِهم تامَّةً غيرَ مَنقوصةٍ، ويزَيدَهم مِن فَضلِه، إنَّ اللهَ غَفورٌ شَكورٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى مثبِّتًا قلْبَ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ومُسَلِّيًا له عمَّا أصابه: والَّذي أوحَينا إليك -يا محمَّدُ- مِن كِتابِ اللهِ تعالى هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بيْن يَدَيه مِن كُتُبِ الرُّسُلِ المتقَدِّمةِ؛ إنَّ اللهَ بعبادِه خَبيرٌ بَصيرٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أقسامَ هذه الأمَّةِ، فيقولُ: ثمَّ أورَثْنا القُرآنَ أمَّةَ مُحمَّدٍ الَّتي اختَرْناها؛ فمنهم ظالمٌ لنَفْسِه يُقَصِّرُ في أداءِ بعضِ الواجباتِ، ويقعُ في بعضِ المحرَّماتِ، ومنهم المتوسِّطُ الَّذي يؤدِّي الواجباتِ ويَترُكُ المحرَّماتِ، ومنهم مُسارِعٌ في الخَيراتِ بإذنِ اللهِ تعالى؛ يَفعلُ الواجباتِ والمُستحَبَّاتِ ويَترُكُ المُحرَّماتِ والمَكروهاتِ، ذلك العَطاءُ الَّذي فَضَّلهم اللهُ به هو الفَضلُ الكبيرُ.
ثمَّ يَذكُرُ جزاءَ الَّذين أورَثهم كتابَه، فيقولُ: جنَّاتُ عَدْنٍ يَدخُلونَها في الآخِرةِ، يُلبَسونَ فيها أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤلؤًا، ولِباسُهم فيها ثيابٌ مِن حريرٍ.
ثمَّ يحكي الله تعالى ما يَقولونَه بعدَ الفوزِ بالجنَّةِ: وقالوا: الحَمدُ لله الَّذي أذهَبَ عنَّا أحزانَنا، إنَّ ربَّنا لَغَفورٌ شَكورٌ؛ الَّذي أنزَلَنا الجنَّةَ لا يُصيبُنا فيها تَعَبٌ ولا ضَعفٌ أو فُتورٌ.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى وَصْفَهم بالخَشيةِ: وهي عمَلُ القَلبِ؛ ذكَرَ أنَّهم يَتلُون كِتابَ اللهِ: وهو عمَلُ اللِّسانِ، وأقاموا الصَّلاةَ: وهو عَمَلُ الجوارحِ، ويُنفِقونَ: وهو العَمَلُ الماليُّ .
وأيضًا لَمَّا تقرَّر هذا تشَوَّفَ السَّامعُ إلى مَعرفةِ العُلماءِ، فكان كأنَّه قيل: هم الَّذين يُحافِظونَ على كتابِ اللهِ عِلمًا وعَمَلًا .
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ.
أي: إنَّ المؤمِنينَ الَّذين يُداوِمونَ على تِلاوةِ القُرآنِ، فيَتتبَّعونَ ألفاظَه بدراستِها، ومعانيَه باستخراجِها، ويتَّبِعونَه بالعَمَلِ بأحكامِه، والتَّصديقِ بأخبارِه .
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ.
أي: وداوَموا على أداءِ الصَّلواتِ على وَجهٍ تامٍّ مُستقيمٍ كما أمَرَ اللهُ تعالى .
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
أي: وأنفَقوا ممَّا رزَقْناهم مِن الأموالِ -طَلبًا لِمَرضاةِ الله تعالى- في الخَفاءِ حيثُ لا يَراهم أحدٌ، وفي العَلَنِ بمَرْأًى مِنَ النَّاسِ .
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا حسَدَ إلَّا في اثنتَينِ: رجُلٌ آتاه اللهُ القُرآنَ، فهو يقومُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجُلٌ آتاه اللهُ مالًا، فهو يُنفِقُه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ )) .
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ.
أي: يَرجُونَ بتِلاوتِهم كتابَ اللهِ، وإقامتِهم الصَّلاةَ، وإنفاقِهم في السِّرِّ والعَلانيةِ: تجارةً رائجةً رابحةً باقيةً، لن تَخسَرَ، ولن تَكسُدَ وتَهلِكَ .
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المرادُ بعدَمِ هلاكِ هذه التِّجارةِ حِفْظَها وبقاءَها إلى يومِ لقائِه؛ علَّلَه بقَولِه :
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ.
أي: لِيُؤتيَهم اللهُ أجورَ أعمالِهم الَّتي عَمِلوها في الدُّنيا؛ مِن تلاوةِ القُرآنِ، والصَّلاةِ، والنَّفَقةِ: على وجْهٍ تامٍّ لا نَقْصَ فيه .
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ويَزيدَهم اللهُ مِن كَرمِه فوقَ ما يَستحِقُّونَ .
كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] .
وقال سُبحانَه: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 37، 38].
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت أعمالُهم لا تَنفَكُّ عن شائبةٍ ما وإن خلَصَت؛ فلم يكُنْ ثوابُها -لأنَّها مِنْ مَنِّه سُبحانَه- مُستَحَقًّا؛ علَّل توفيتَهم لها بقَولِه مؤكِّدًا؛ إعلامًا بأنَّه لا يَسَعُ النَّاسَ إلَّا عَفوُه؛ لأنَّه لن يَقدُرَ اللهَ أحَدٌ حَقَّ قَدْرِه وإن اجتهَدَ، ولو آخَذ أعْبَدَ العُبَّادِ بما يقَعُ مِن تقصيرِه أهلَكَه .
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
أي: إنَّ اللهَ غَفورٌ لِذُنوبِهم فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، وهو شَكورٌ فيَتقبَّلُ منهم أعمالَهم وإن قَلَّت، ويُثيبُهم عليها الثَّوابَ الكثيرَ .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الأصلَ الأوَّلَ، وهو وُجودُ اللهِ الواحدِ، بأنواعِ الدَّلائلِ؛ مِن قَولِه: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [فاطر: 9]، وقَولِه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ [فاطر: 11] ، وقَولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ [فاطر: 27] ؛ ذكَرَ الأصلَ الثَّانيَ، وهو الرِّسالةُ، فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ.
وأيضًا كأنَّه قد ذَكَر أنَّ الَّذين يَتلُون كِتابَ اللهِ يُوفِّيهم اللهُ، فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ؛ تقريرًا لِما بيَّن مِن الأجرِ والثَّوابِ في تلاوةِ كِتابِ اللهِ؛ فإنَّه حَقٌّ وصِدقٌ فتالِيه مُحِقٌّ ومُحَقِّقٌ .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
أي: والَّذي أوحَيْناه إليك -يا محمَّدُ- مِن كتابِ اللهِ تعالى هو الحَقُّ الكامِلُ، التَّامُّ الثَّابتُ الَّذي يجِبُ اتِّباعُه؛ مُصَدِّقًا لِما بيْنَ يديه مِن كُتُبِ الرُّسُلِ المتقَدِّمةِ .
إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ خَبيرٌ بعبادِه؛ فهو عالمٌ بدقائقِ أُمورِهم وأحوالِهم وخفاياها، بصيرٌ بهم وبأعمالِهم .
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32).
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.
أي: ثمَّ أورَثْنا القُرآنَ أُمَّةَ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّتي اختَرْناها مِنْ عِبادِنا .
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ.
أي: فمِنهم مَن هو ظالمٌ لنَفْسِه بالتَّقصيرِ والتَّفريطِ؛ يُفرِّطُ في بعضِ الواجباتِ، ويَفعلُ بعضَ المحرَّماتِ، ويُصِرُّ عليها .
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ.
أي: ومنهم مَن عمَلُه قَصْدٌ؛ يُؤدِّي الواجباتِ، ويَترُكُ المحرَّماتِ .
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
أي: ومِنهم المؤدِّي للفرائضِ والنَّوافلِ، التَّارِكُ للمُحرَّماتِ والمكروهاتِ، فسَبَق غَيْرَه بإذنِ اللهِ تعالى .
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.
أي: ذلك العَطاءُ الَّذي فضَّلَهم اللهُ به على غَيرِهم: هو الفَضلُ الكَبيرُ .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى أحوالَهم؛ بيَّن جزاءَهم ومآلَهم .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: يَدْخُلُونَهَا قراءتانِ:
1- قراءةُ يُدْخَلُونَهَا على معنى أنَّ غَيرَهم يُدخِلُهم .
2- قِراءةُ يَدْخُلُونَهَا على معنى أنَّ الدُّخولَ مِن فِعلِهم .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا.
أي: جناتُ إقامةٍ يَدخُلونَها في الآخِرةِ، فلا يَخرُجونَ منها أبدًا .
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَلُؤْلُؤًا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ على معنى: ويُحَلَّونَ لُولُؤًا .
2- قِراءةُ وَلُؤْلُؤٍ بالجَرِّ، قيل على معنى: يُحَلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ وأساوِرَ مِن لُؤلُؤٍ، أو على معنى: يُحَلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤلؤٍ، أي: يكونُ السِّوارُ الواحِدُ مُكَوَّنًا مِنَ الذَّهَبِ واللُّؤلؤِ معًا .
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.
أي: يُلبَسونَ فيها -رِجالًا ونِساءً- أساوِرَ مِن ذَهَبٍ، ويُحَلَّونَ فيها لؤلؤًا؛ زينةً لهم .
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
أي: ولِباسُهم فيها ثيابٌ مِن حريرٍ .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34).
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.
أي: وقالوا: الحَمدُ لله الَّذي أذهَبَ عنَّا أحزانَنا، فلا يكونُ لنا حَزَنٌ أبدًا .
كما قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25 - 28].
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
أي: إنَّ ربَّنا لَغَفورٌ للذُّنوبِ، فيَستُرُها ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بها؛ شَكورٌ يُثيبُ على الأعمالِ الصَّالحةِ -وإن قَلَّتْ- بالكثيرِ مِن الثَّوابِ مِن فَضلِه .
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى سُرورَهم وكرامتَهم بتَحليتِهم وإدخالِهم الجنَّاتِ؛ بيَّن سُرورَهم ببقائِهم فيها، وأعلَمَهم بدوامِها .
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ.
أي: الَّذي أنزَلَنا الجنَّةَ وأسكَنَنا فيها، فلا نَنتَقِلُ منها أبدًا، وذلك مِن فَضلِه علينا، لا بأعمالِنا .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لن يُدخِلَ أحدًا منكم عَمَلُه الجنَّةَ. قالوا: ولا أنتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا إلَّا أن يَتغَمَّدَني اللهُ منه بفَضلٍ ورَحمةٍ )) .
لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ.
أي: لا يُصيبُنا في الجنَّةِ أيُّ تَعَبٍ أو مَشَقَّةٍ، ولا يُصيبُنا فيها أيُّ ضَعفٍ أو فُتورٍ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ في الآيةِ ما يَشملُ ثوابَ قرَّاءِ القُرآنِ؛ فإنَّهم يَصدُقُ عليهم أنَّهم مِن الَّذين يَتلونَ كِتابَ اللهِ ويُقيمونَ الصَّلاةَ، ولو لم يُصاحِبْهم التَّدَبُّرُ في القُرآنِ؛ فإنَّ للتِّلاوةِ حَظَّها مِن الثَّوابِ والتَّنَوُّرِ بأنوارِ كلامِ اللهِ ، وكان مُطَرِّفٌ يقولُ في هذه الآيةِ: (هذه آيةُ القُرَّاءِ) . يُشيرُ بذلك إلى دَلالتِها على فَضلِهم، وتنويهِها بذِكرِهم ، وتِلاوةُ القرآنِ تَتناوَلُ تِلاوةَ لَفْظِه ومعناه، وتِلاوةُ لفظِه وسيلةٌ وطريقٌ، والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيَّةُ، وهي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبرِه، وائْتِمارًا بأمرِه، وانتِهاءً عن نَهْيِه، وائْتِمامًا به، حيثُ ما قادَك انقدْتَ معه، فتلاوةُ المعنَى أشرفُ مِن مجرَّدِ تلاوةِ اللَّفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآنِ الَّذين لهم الثَّناءُ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فإنَّهم أهلُ مُتابَعةٍ وتلاوةٍ حقًّا .
2- في قَولِه تعالى: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً أنَّ المُنفِقَ ليس مانًّا على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه إنَّما يُنْفِقُ ممَّا رَزَقه اللهُ، فمهما بَلَغَتْ بك نفْسُك مِن الإعجابِ والكبرياءِ على إنفاقِكَ فاذْكُرْ قولَه تعالى: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، كلُّ شيءٍ تُنْفِقُه فليس لك فيه مِنَّةٌ على اللهِ عزَّ وجلَّ، بل للهِ المِنَّةُ عليك به في إيجادِه؛ لأنَّه لولا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رَزَقكَ ما حصَلَ لك، وله المِنَّةُ عليك في إنفاقِه؛ لأنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ يَبخَلون بما آتاهم اللهُ مِن فضْلِه، قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران: 180] ، فمِن نعمةِ اللهِ عليك أنْ يَمُنَّ عليك بالإنفاقِ بعدَ أنْ مَنَّ عليك بالرزقِ والعطاءِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً حَثٌّ على الإنفاقِ كيفما يتهيَّأُ؛ فإنْ تهيَّأ سرًّا فذاك ونِعْمَ، وإلَّا فعلانيةً، ولا يَمنَعْه ظَنُّه أن يكونَ رياءً .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ أنَّ الرَّجاءَ ينبغي أن يكونَ في مَحَلِّه؛ بحيث يكونُ الإنسانُ قد عَمِلَ عَملًا يَرجو الثَّوابَ عليه، أمَّا الرَّجاءُ بدونِ عَمَلٍ فهو مِن التَّمَنِّي الَّذي لا يَنفَعُ العبدَ؛ فلا رجاءَ إلَّا بعَمَلٍ .
5- قَولُ الله تعالى: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ فيه إشارةٌ إلى الإخلاصِ، أي: يُنفِقون لا ليُقالَ: إنَّه كَريمٌ، ولا لشَيءٍ مِن الأشياءِ غيرِ وجهِ الله؛ فإنَّ غيرَ اللهِ بائرٌ، والتَّاجِرَ فيه تجارتُه بائِرةٌ ، أمَّا الَّذي يَرجو ثوابَ اللهِ ويُحْسِنُ النِّيَّةَ والقَصْدَ فهذا تجارتُه لن تَبُورَ؛ ففيه: التَّنبيهُ على الإخلاصِ، وأنَّه ينبغي على الإنسانِ أنْ يكونَ مُخْلِصًا للهِ تعالى في عَمَلِه القاصِرِ والمتعدِّي؛ فالقاصرُ كالصَّلاةِ، والمتعدِّي كالصَّدقةِ .
6- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ. قَولُه: بِإِذْنِ اللَّهِ راجِعٌ إلى السَّابقِ إلى الخَيراتِ؛ لِئَلَّا يَغترَّ بعَمَلِه، بل ما سبَقَ إلى الخَيراتِ إلَّا بتوفيقِ اللهِ تعالى ومَعونتِه؛ فيَنبغي له أن يَشتَغِلَ بشُكرِ اللهِ تعالى على ما أنعَمَ به عليه ، ويَكْبَحَ نفْسَه عن الاستعلاءِ والفَخْرِ بالطَّاعةِ .
7- قال الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ قَولُه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فيه أنَّ أجَلَّ النِّعَمِ على الإطلاقِ، وأكبَرَ الفَضلِ: وِراثةُ هذا الكِتابِ . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
8- كان الحَسَنُ يقولُ: (إنَّ المؤمِنينَ قَومٌ ذلَّت -واللهِ- منهم الأسماعُ والأبصارُ والأبدانُ، حتَّى حَسِبَهم الجاهِلُ مرضَى، وهم -واللهِ- أصِحَّاءُ القُلوبِ؛ ألَا تراه يقولُ: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، واللهِ لقد كابَدوا في الدُّنيا حَزَنًا شَديدًا، وجرَى عليهم ما جرَى على مَن كان قَبْلَهم، واللهِ ما أحزَنَهم ما أحزَنَ النَّاسَ، ولكِنْ أبكاهم وأحزَنَهم الخَوفُ مِن النَّارِ) !
9- عن إبراهيمَ التَّيميِّ، قال: (ينبغي لِمَن لم يَحزَنْ أن يخافَ أن يكونَ مِن أهلِ النَّارِ؛ لأنَّ أهلَ الجنَّةِ قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) .
10- في قَولِ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إشارةٌ إلى أنَّ الدُّنيا منزلةٌ يَنزلُها المكلَّفُ، ويَرتحِلُ عنها .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ في هذه الآيةِ والآيةِ السَّابِقةِ لها وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] حِكمةٌ بالِغةٌ؛ فقَولُه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إشارةٌ إلى عَمَلِ القَلبِ، وقَولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ إشارةٌ إلى عَمَلِ اللِّسانِ، وقَولُه: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إشارةٌ إلى عَمَلِ الجوارحِ، ثمَّ إنَّ هذه الأشياءَ الثَّلاثةَ مُتعَلِّقةٌ بجانبِ تعظيمِ اللهِ والشَّفَقةِ على خَلقِه .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ تضَمَّن هذا أنَّهم يَكتَسِبونَ مِن العِلمِ الشَّرعيِّ مِن العقائِدِ والأخلاقِ والتَّكاليفِ؛ فقد أشعَرَ الفِعلُ المضارِعُ بتجَدُّدِ تِلاوتِهم؛ فإنَّ نزولَ القُرآنِ مُتجَدِّدٌ، فكُلَّما نزَل منه مِقدارٌ، تلَقَّوه وتدارَسوه .
3- في قَولِه تعالى: لَنْ تَبُورَ أنَّ الثَّوابَ في الآخرةِ لا يَنقطِعُ، بل رُبَّما نقولُ: إنَّ هذا أعَمُّ؛ بحيث يُثابُ الإنسانُ في الدُّنيا ثوابًا مُستمِرًّا إلى الآخِرةِ؛ لأنَّ الحَسَناتِ قد يرى الإنسانُ ثوابَها في الدُّنيا، ويَستمِرُّ إلى الثَّوابِ في الآخرةِ .
4- في قَولِه تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أنَّ طَلَبَ الإنسانِ للثَّوابِ غايةٌ عظيمةٌ -بِناءً على أنَّ اللَّامَ هنا للتَّعليلِ- فعَمَلُ الإنسانِ مِن أجْلِ الأجرِ لا يُعَدُّ نقصًا، خِلافًا للصُّوفيَّةِ الَّذين يقولونَ: (لا تَعبُدِ اللهَ لثَوابِ اللهِ، ولكنِ اعبُدِ اللهَ للهِ)! فنَقولُ لهم: هذا خطأٌ؛ فاللهُ تعالى وَصَفَ أشرَفَ هذه الأُمَّةِ وخيْرَ هذه الأمَّةِ بأنَّهم يُريدونَ فَضلًا مِن اللهِ ورِضوانًا؛ قال اللهُ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29] ، ومع ذلك لا نقولُ: «لا تَعْبُد اللهَ للهِ»، بل اعْبُدِ اللهَ للهِ ولثَوابِ اللهِ؛ فإنَّك لن تَصِلَ إلى اللهِ إلَّا بعدَ وُصولِك إلى ثوابِ اللهِ؛ فإنَّ لِقاءَ اللهِ اللِّقاءَ الَّذي هو الرِّضا التامُّ: إنَّما يَحصُلُ في الجنةِ .
5- في قَولِه تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ضمانُ الثوابِ، فالثَّوابُ مَضمونٌ للعاملِ الَّذي يَتعاملُ مع اللهِ عزَّ وجلَّ -بِناءً على أنَّ اللَّامَ هنا للعاقِبةِ-، أي: أنَّ هذا العمَلَ سوف يُوَفَّى، وفيه أيضًا وجهٌ آخَرُ لِضَمانِ الثَّوابِ: أنَّ اللهَ سَمَّاه أجرًا، والأجرُ لا بُدَّ أنْ يُدفَعَ لِمَن قام بالعَمَلِ .
6- في قَولِه تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ دليلٌ على أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه يَزيدُ كلَّ عاملٍ على أجرِه؛ لأنَّه ذو فَضلٍ، فالعاملُ فائزٌ بفَضلَينِ؛ أحدُهما: الفَضلُ الأولُ، وهو جَعْلُ الحَسَنةِ عَشَرةً، والفَضلُ الثَّاني: ما يَزيدُ على العَشَرةِ، ولا يجوزُ أنْ تكونَ الزِّيادةُ مَصروفةً إلى التِّسعةِ؛ لأنَّ ذلك إنجازُ وَعدٍ في قَولِه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، فعَشْرُ أمثالِ العَمَلِ أجرُه، والزِّيادةُ تكونُ بعدَ الأجرِ .
7- في قَولِه تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ وقَولِه سُبحانَه: وَيَزِيدَهُمْ دَليلٌ على ثُبوتِ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله عزَّ وجلَّ، وهذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّهم يُثبِتونَ للهِ تعالى الأفعالَ الاختياريَّةَ -أي: الَّتي تقَعُ بمشيئتِه-؛ فإنَّه تعالى فَعَّالٌ لِمَا يريدُ .
8- قال تعالى: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ فهو سُبحانَه يَغفِرُ الكثيرَ مِن الزَّلَلِ، ويَشكُرُ القليلَ مِن العَمَلِ؛ فجَمَع لهم سُبحانَه بيْنَ الأمْرَينِ: أنْ شكَرَ سَعْيَهم، وأثابَهم عليه، واللهُ تعالى يَشكُرُ عبْدَه إذا أحسَنَ طاعتَه، ويَغفِرُ له إذا تاب إليه، فيَجمَعُ للعبدِ بيْن شُكرِه لإحسانِه، ومَغفرتِه لإساءتِه إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ .
9- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ فإذا كان هو الحَقَّ لزِمَ أنَّ كلَّ ما دلَّ عليه من المسائِلِ الإلهيَّةِ والغَيبيَّةِ وغَيرِها مطابِقٌ لِما في الواقعِ، فلا يجوزُ أن يُرادَ به ما يخالِفُ ظاهِرَه وما دَلَّ عليه .
10- في قَولِه تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ اشتِمالُ القرآنِ الكريمِ على الحقِّ في أخبارِه وفي أحكامِه؛ فأخبارُه كلُّها صِدقٌ، وأحكامُه كلُّها عَدلٌ، وما خالفَ القرآنَ فهو باطلٌ؛ فقد حَصَر الحقَّ فيه .
11- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ في قَولِه: مُصَدِّقًا تقريرٌ لِكَونِه وَحيًا؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم لَمَّا لم يكُنْ قارِئًا كاتِبًا، وأتَى ببيانِ ما في كتُبِ اللهِ؛ لا يكونُ ذلك إلَّا مِن اللهِ عالى .
12- قولُه تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فيه لطيفةٌ، وهي أنَّه تعالَى جعَل القرآنَ مُصدِّقًا لِمَا مضَى -مع أنَّ ما مضَى أيضًا مصَدِّقٌ له؛ لأنَّ الوحيَ إذا نَزَل على واحدٍ جازَ أنْ يَنزِلَ على غيرِه، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولم يَجعَلْ ما تَقَدَّم مصَدِّقًا للقرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ كونُه معجزةً يَكفي في تصديقِه بأنَّه وحيٌ، وأمَّا ما تَقَدَّم فلا بُدَّ معه مِن معجزةٍ تُصَدِّقُه .
13- في قَولِه تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ رَحمةُ اللهِ تعالى بعبادِه؛ حيثُ لم يَدَعْهم هَمَلًا، بل أنزلَ إليهم الكُتُبَ الَّتي يَستنيرونَ بها في سَيرِهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ .
14- قَولُه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فيه فَضْلُ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذه الأُمَّةِ؛ حيث أوْرَثَها هذا الكتابَ العظيمَ، وفي قولِه: الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أنَّ هذه الأُمَّةَ أفضَلُ الأُممِ، ودلَّ لذلك أيضًا قولُه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] .
15- في قَولِه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا بِشارةٌ كبيرةٌ لهذه الأُمَّةِ؛ إذ قد وُعِدوا على اختلافِ أحوالِهم، مِن الظُّلمِ والقَصْدِ والمُسابقةِ معًا: بالجنَّةِ، وفيه حُجَّةٌ على المعتزلةِ في بابِ الوعيدِ؛ لإدخالِ الظَّالمِ نفْسَه الجنَّةَ مع المقتَصِدِ والسَّابقِ بالخَيراتِ بإذنِ اللهِ. وأيضًا فيه حُجَّةٌ على الشُّراةِ -الخوارجِ-؛ فإنَّهم يَعُدُّونَ صغيرَ الذَّنْبِ وكبيرَه كُفرًا، فلو كان المصطفى لَمَّا ظَلَمَ نفْسَه كَفَرَ، لَمَا دخَل الجنَّةَ أبدًا -تابَ أو لم يَتُبْ-؛ لأنَّهم لا يَرونَ التَّوبةَ ولا يقولونَ بها !! وقد يقولُ قائِلٌ: يمكِنُ أنْ يُعَارِضَ الخوارجُ والمعتزلةُ هذا الاستِدلالَ بأنْ يقولوا بأنَّ المرادَ بالإثمِ هنا ما دونَ الكبائرِ. فيقالُ: إنَّ ما دونَ الكبائرِ يَقَعُ مَغفورًا بفعلِ الطَّاعاتِ؛ كالصَّلواتِ الخَمْسِ، والجُمُعةِ إلى الجُمُعةِ، ورمضانَ إلى رمضانَ، وحينَئذٍ يَنتفي الظُّلْمُ بمُجرَّدِ فِعلِ هذه الطَّاعاتِ .
16- في قَولِه تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أنَّه قد يُرادُ بالظُّلمِ ما لا يَنقُلُ عنِ المِلَّةِ .
17- في قَولِه تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ تفاضُلُ النَّاسِ في العَمَلِ، ويَتفرَّعُ عليه: تفاضُلُهم في الإيمانِ، والدَّليلُ على تفاضُلِهم في العمَلِ تَقسيمُهم إلى ثلاثةِ أقسامٍ، ويَلزَمُ مِن تفاضُلِهم في العَمَلِ أنْ يتفاضَلوا في الإيمانِ، فيكونُ في ذلك دليلٌ لِمَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ القائِلينَ بزيادةِ الإيمانِ ونَقصِ الإيمانِ .
18- في قَولِه تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ الرَّدُّ على القَدَريَّةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُستقِلٌّ بعَمَلِه؛ يقولُ ويَفعلُ ويَترُكُ بغيرِ إذنِ اللهِ !
19- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أنَّ أكبرَ فَضْلٍ يَتفضَّلُ اللهُ به على عبْدِه أنْ يُوَفِّقَه للقيامِ بطاعتِه، فمَن ورِثَ هذا الكتابَ عِلْمًا وعمَلًا ودعوةً، فهو الَّذي حاز الفضلَ الكبيرَ، وفي قولِه تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] إشارةٌ إلى هذا المعنى .
20- قولُه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ هذا التَّقسيمُ لأُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والظَّالِمُ لنفْسِه المرادُ به: أصحابُ الذُّنوبِ المُصِرُّونَ عليها، وقولُه بعدَ ذلك: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا فيه دَلالةٌ لأهلِ السُّنَّةِ على أنَّه لا يُخلَّدُ في النَّارِ أحدٌ مِن أهلِ التَّوحيدِ .
21- قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا، وجنَّاتُ عَدْنٍ هي وَصفٌ لجملةِ الجِنانِ -وكلُّها جنَّاتُ عَدْنٍ-، فليست اسمَ جَنَّةٍ مِن جملةِ الجنَّاتِ، والاشتِقاقُ يدُلُّ على أنَّ جميعَها جنَّاتُ عَدْنٍ؛ فإنَّه مِن الإقامةِ والدَّوامِ .
22- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الواوُ في يَدْخُلُونَهَا شامِلةٌ للظَّالمِ والمُقتصِدِ والسَّابقِ على التَّحقيقِ؛ ولذا قال بعضُ أهلِ العِلمِ: (حُقَّ لهذه الواوِ أن تُكتَبَ بماءِ العينَينِ)، فوعْدُه الصَّادِقُ بجنَّاتِ عَدْنٍ لجميعِ أقسامِ هذه الأمَّةِ -وأوَّلُهم الظَّالمُ لنفْسِه- يدُلُّ على أنَّ هذه الآيةَ مِن أرجى آياتِ القرآنِ، ولم يَبْقَ مِن المُسلمينَ أحدٌ خارِجٌ عن الأقسامِ الثَّلاثةِ، فالوعدُ الصَّادقُ بالجنَّةِ في الآيةِ شاملٌ لجميعِ المُسلمينَ؛ ولذا قال بعدَها مُتَّصلًا بها: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36، 37].
23- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ فيه إشارةٌ إلى سُرعةِ الدُّخولِ؛ فإنَّ التَّحليةَ لو وقعَتْ خارِجًا لَكان فيه تأخيرُ الدُّخولِ؛ فقال: يَدخُلونَها وفيها تقَعُ تَحليتُهم .
24- في قَولِه تعالى: يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أنَّ الجنَّةَ ليست دارَ تكليفٍ؛ يُمنَعُ منها العبدُ ممَّا يَتنعَّمُ به، بل يَتنعَّمُ بكلِّ ما شاء؛ لأنَّنا نَعلمُ جميعًا أنَّ تَحلِّيَ الرِّجالِ في الدُّنيا بالذَّهَبِ مَمنوعٌ وحرامٌ، لكنَّه في الجنَّةِ مُباحٌ وممنوحٌ، وليس بمَمنوعٍ؛ لأنَّ الجنَّةَ لهم فيها ما يَشاؤونَ، بل أكثرُ ممَّا يَشاؤونَ ويُريدونَ .
25- قال الله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ذِكرُ الأساورِ مِن بينِ سائرِ الحُليِّ في مواضِعَ كثيرةٍ -كقَولِه تعالى: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21]- يدُلُّ على كَونِ المتحَلِّي غيرَ مُبتَذَلٍ في الأشغالِ؛ لأنَّ كَثرةَ الأعمالِ باليدِ، فإذا حُلِّيَت بالأساورِ دَلَّ ذلك على الفراغِ مِن الأعمالِ .
26- قال اللهُ تعالى حِكايةً عن أهلِ الجنَّةِ قَولَهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34] ، فلمَّا صاروا إلى كرامتِه بمَغفرتِه ذُنوبَهم، وشُكرِه إحسانَهم؛ قالوا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، وفي هذا معنى التَّعليلِ، أي: بمَغفرتِه وشُكرِه وصَلْنا إلى دارِ كرامتِه؛ فإنَّه غَفَر لنا السَّيِّئاتِ، وشكَرَ لنا الحَسَناتِ .
27- في قَولِه تعالى: أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ كمالُ الفرحِ والسُّرورِ لأهلِ الجنَّةِ؛ فإنَّ هذه الصِّفةَ السَّلبيَّةَ تدُلُّ على كمالِ ضِدِّها، فإذا كان الحَزَنُ مَنفيًّا عنهم؛ كان ذلك دليلًا على كمالِ سرورِهم، وأنَّه سرورٌ لا يُشابُ بحَزَنٍ أبدًا، بخِلافِ سرورِ الدُّنيا؛ فإنَّ سرورَ الدُّنيا مهما عَظُمَ مَشوبٌ بالكَدَرِ .
28- مِن أسماءِ الجنَّةِ: دارُ المُقامةِ؛ قال تعالى حكايةً عن أهلِها: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ .
29- في قَولِه تعالى: دَارَ الْمُقَامَةِ تأبيدُ الجنَّةِ؛ لإطلاقِ قولِه تعالى: الْمُقَامَةِ، ولم تُقيَّدْ بزمنٍ .
30- قَولُ الله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ يدُلُّ على أنَّ الله تعالى يجعَلُ أبدانَهم في نشأةٍ كاملةٍ، ويُهيِّئُ لهم مِن أسبابِ الرَّاحةِ على الدَّوامِ ما يَكونون بهذه الصِّفةِ؛ بحيث لا يَمَسُّهم نَصَبٌ ولا لُغوبٌ، ولا هَمٌّ ولا حَزَنٌ. ويدُلُّ على أنَّهم لا يَنامونَ في الجنَّةِ؛ لأنَّ النَّومَ فائِدتُه زَوالُ التَّعَبِ، وحُصولُ الرَّاحةِ به، وأهلُ الجنَّةِ بخِلافِ ذلك، ولأنَّه مَوتٌ أصغَرُ، وأهلُ الجنَّةِ لا يموتونَ .
31- في قَولِه تعالى: مِنْ فَضْلِهِ أنَّ الإنسانَ لا يَدْخُلُ الجنةَ بعَمَلِه .
32- في قَولِه تعالى: لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ كمالُ الرَّاحةِ في الجنَّةِ، وكمالُ القُوَّةِ والنَّشاطِ؛ لأنَّ التَّعَبَ إنمَّا يَلحَقُ البدنَ الضَّعيفَ، فإذا قال قائلٌ: مِن أين عرَفْنا الكمالَ؟ فالجوابُ: مِن النَّفْيِ؛ لأنَّ نَفْيَ النَّقصِ إثباتٌ لكمالِ ضِدِّهِ .
33- في قَولِه تعالى: لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ أنَّ أهلَ الجنَّةِ لا يَتعَبونَ في مُزاوَلةِ الأعمالِ، ولا يَلحَقُهم إعياءٌ بعدَ ذلك، فلا يَتعَبون قَطعًا كما في الآيةِ، لكِنَّهم يَعمَلون كما في قَولِه تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 6] ، يَعمَلونَ في نعيمهم؛ يُفَجِّرونَ الأنهارَ، ويَجنونَ الثِّمارَ؛ إلَّا أنَّه بدونِ كُلْفةٍ أو مَشقَّةٍ، كما قال اللهُ تعالى: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة: 23] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ
- قَولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ استِئنافٌ لبيانِ جُملَةِ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ؛ فالَّذين يَتْلونَ كِتابَ اللهِ همُ المُرادُ بالعُلماءِ، وقد تخَلَّصَ إلى بَيانِ فَوزِ المُؤمِنينَ الَّذين اتَّبَعوا الذِّكرَ، وخَشُوا الرَّحمنَ بالغَيبِ؛ فإنَّ حالَهم مُضادٌّ لِحالِ الَّذين لم يَسمَعوا القُرآنَ، وكانوا عنْدَ تَذكيرِهم به كحالِ أهلِ القُبورِ لا يَسمَعونَ شَيئًا؛ فبَعْدَ أنْ أثْنى عليهم ثَناءً إجماليًّا بقَولِه تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، وأجمَلَ حُسْنَ جَزائِهم بذِكرِ صِفةِ غَفُورٌ [فاطر: 28] -ولذلك خُتِمَتْ هذه الآيةُ بقَولِه: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ- فُصِّلَ ذلك الثَّناءُ، وذُكِرَتْ آثارُه ومَنافِعُه .
- قَولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ فيه ثَناءٌ مِنَ اللهِ على التَّالينَ لِكِتابِه العامِلينَ بشَرائِعِه مِن بيْنِ المُكَذِّبينَ بها مِن سائِرِ الأُمَمِ، وفيه كِنايةٌ عن إيمانِ التَّالينَ له؛ لِأنَّه لا يَتلو الكِتابَ إلَّا مَن صَدَّقَ به، وتَلَقَّاه باعتِناءٍ. وكِتَابَ اللَّهِ هو القُرآنُ، وعَدَلَ عنِ اسمِه العَلَمِ إلى اسمِ الجِنسِ المُضافِ لاسمِ الجَلالةِ؛ لِما في إضافَتِه إليه مِن تَعظيمِ شَأنِه .
- وفي قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً أشعَرَ الفِعلُ المُضارِعُ يَتْلُونَ بتَجَدُّدِ تِلاوَتِهم؛ فإنَّ نُزولَ القُرآنِ مُتجَدِّدٌ، فكُلَّما نَزَلَ منه مِقدارٌ تَلَقَّوْه وتَدارَسوه. وجِيءَ في جانِبِ إقامةِ الصَّلاةِ والإنفاقِ بفِعلِ المُضِيِّ؛ لأنَّ فَرْضَ الصَّلاةِ والصَّدَقةِ قد تقرَّرَ وعَمِلوا به، فلا تَجَدُّدَ فيه، وامتِثالُ الَّذي كُلِّفوا به يَقتَضي أنَّهم مُداوِمونَ عليه ؛ فعَبَّرَ في الأوَّلِ بالمُضارِعِ؛ لِأنَّ إنزالَها كان قبْلَ التَّمامِ، وتَصريحًا بتَكرارِ التِّلاوةِ تَعبُّدًا ودِراسةً؛ لِأنَّ القُرآنَ كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِه ا ) ، وفي الثَّاني والثَّالثِ بالماضي؛ حَثًّا على المُبادَرةِ إلى الفِعلِ، وقد تحَصَّلَ مِن هذا أنَّه جَعَل لِفِعلِ القَلبِ -الَّذي هو الخَشيةُ- دليلًا باللِّسانِ، وآخَرَ بالأركانِ، وثالِثًا بالأموالِ . وقيل: عَبَّرَ في الأوَّلِ بالمُضارِعِ؛ إشارةً إلى سُهولةِ مَصدَرِه، وفي الثَّاني بالماضي؛ إشارةً إلى أنَّه مُحَقَّقٌ وُقوعُه، مع عَدَمِ سُهولَتِه .
- وفي قَولِه: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إدماجٌ لِلامتِنانِ، وإيماءٌ إلى أنَّه إنفاقُ شُكرٍ على نِعمةِ اللهِ عليهم بالرِّزقِ؛ فهم يُعطُونَ منه أهلَ الحاجةِ، ووَقَع الالتِفاتُ مِنَ الغَيبةِ مِن قَولِه: كِتَابَ اللَّهِ إلى التَّكلُّمِ في قَولِه: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ؛ لأنَّه المُناسِبُ لِلامتِنانِ .
- وفي تقديمِ السِّرِّ على العَلانيةِ في قَولِه: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً إشارةٌ إلى أنَّه أفضَلُ؛ لِانقِطاعِ شائِبةِ الرِّياءِ منه، وذَكَر العَلانيةَ؛ لِلإشارةِ إلى أنَّهم لا يَصُدُّهم مَرأى المُشرِكينَ عنِ الإنفاقِ؛ فهم قد أعلَنوا بالإيمانِ وشرائِعِه حبَّ مَن حبَّ، أو كَرِهَ مَن كَرِهَ .
- قَولُه: يَرْجُونَ تِجَارَةً قيل: خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في إنشاءِ التَّبشيرِ، كأنَّه قيلَ: لِيَرجوا تِجارةً، وزَادَه التَّعليلُ بقَولِه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ قَرينةً على إرادةِ التَّبشيرِ، والمعنى: لِيَرجوا أن تكونَ أعمالُهم -مِن تلاوةٍ وصلاةٍ وإنفاقٍ- كتجارةٍ رابحةٍ .
- قَولُه: لَنْ تَبُورَ صِفةٌ لـ تِجَارَةً، وجيءَ بهذه الجُملةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائِرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بيْنَ الرِّبحِ والخُسرانِ؛ لِأنَّه اشتِراءُ باقٍ بفانٍ، والإخبارُ برَجائِهم مِن أكرَمِ الأكرَمينَ عِدَةٌ قَطعيَّةٌ بحُصولِ مَرجُوِّه .
2- قَولُه تَعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
- قولُه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ عِلَّةٌ لِمَدلولِه، أي: يَنتَفي عنها الكَسادُ، وتَنفُقُ عنْدَ اللهِ؛ لِيُوفِّيَهم بنَفاقِها أُجورَ أعمالِهم، أو لِمَدلولِ ما عُدَّ مِنِ امتِثالِهم، نَحوَ: فَعَلوا ذلك لِيُوفِّيَهم، أو عاقِبةً لـ يَرْجُونَ .
- ووَقَعَ التِفاتٌ مِنَ التَّكلُّمِ في قَولِه: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إلى الغَيبةِ لِيُوَفِّيَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ؛ رُجوعًا إلى سِياقِ الغَيبةِ مِن قَولِه: يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، أي: لِيُوفِّيَ اللهُ الَّذين يَتلونَ كِتابَه .
- قَولُه: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ تَذييلٌ وعِلَّةٌ لِقَولِه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ؛ وذلك أنَّ الغُفرانَ والشُّكرانَ مِن شأنِ اللهِ سُبحانَه، فإنَّ مِن صِفاتِه الغَفورَ الشَّكورَ، أي: الكَثيرَ المَغفِرةِ، والشَّديدَ الشُّكرِ؛ فالغَفورُ والشَّكورُ مِن أبنِيةِ المُبالَغةِ .
- وأكَّدَ هذا الخَبَرَ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ زيادةً في تَحقيقِه، ولِما في التَّأكيدِ مِنَ الإيذانِ بكَونِ ذلك عِلَّةً لِتَوفيةِ الأُجورِ، والزِّيادةِ فيها .
3- قَولُه تَعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
- قَولُه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ... لَمَّا كان المُبدَأُ به مِن أسبابِ ثَوابِ المؤمنينَ هو تِلاوتَهم كِتابَ اللهِ، أُعقِبَ التَّنويهُ بهم بالتَّنويهِ بالقُرآنِ، ولِأنَّ في التَّذكيرِ بجَلالِ القُرآنِ وشَرَفِه إيماءً إلى عِلَّةِ استِحقاقِ الَّذين يَتلونَه ما استَحَقُّوا. وابتُدِئَ التَّنويهُ به بأنَّه وَحيٌ مِنَ اللهِ إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وناهيك بهذه الصِّلةِ تَنويهًا بالكِتابِ، وهو يَتضَمَّنُ تَنويهًا بشَأنِ الَّذي أُنزِلَ عليه مِن قَولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ؛ ففي هذا مَسَرَّةٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبِشارةٌ له بأنَّه أفضَلُ الرُّسُلِ، وأنَّ كِتابَه أفضَلُ الكُتُبِ، وهذه نُكتةُ تَعريفِ المُسنَدِ إليه باسمِ المَوصولِ (الَّذي) في قولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِنَ الإشارةِ إلى وَجْهِ كَونِه الحَقَّ الكامِلَ، دُونَ الإضمارِ الَّذي هو مُقتَضى الظَّاهِرِ بأنْ يُقالَ: (وهو الكِتابُ الحَقُّ)؛ فالتَّعريفُ في الْكِتَابِ تَعريفُ العَهدِ، ومِنَ بَيانيَّةٌ لِمَا في المَوصولِ مِنَ الإبهامِ، والتَّقديرُ: والكِتابُ الَّذي أوحَيْنا إليك هو الحَقُّ. فقُدِّمَ المَوصولُ الَّذي حَقُّه أنْ يَقَعَ صِفةً لِلكِتابِ تَقديمًا؛ لِلتَّشويقِ بالإبهامِ؛ لِيَقَعَ بعْدَه التَّفصيلُ، فيَتمَكَّنَ مِنَ الذِّهنِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ؛ فجُملةُ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ مَعطوفةٌ على جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ [فاطر: 29] ، فهي مِثلُها في حُكمِ الاستئنافِ .
- وضَميرُ (هو) في قَولِه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ضَميرُ فَصلٍ، وهو تأكيدٌ لِما أفادَه تعريفُ المُسنَدِ مِنَ القَصرِ، والتَّعريفُ في الْحَقُّ تَعريفُ الجِنسِ، وأفادَ تَعريفُ الجُزأيْنِ قَصْرَ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه، أي: قَصْرَ جِنسِ الحَقِّ على (الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ لِلمُبالَغةِ؛ لِعَدَمِ الاعتِدادِ بحَقِّيَّةِ ما عَداهُ مِنَ الكُتُبِ .
- وانتَصَبَ قَولُه: مُصَدِّقًا على الحالِ مِن الْكِتَابِ، والعاملُ في الحالِ فِعلُ أَوْحَيْنَا؛ لِيُفيدَ أنَّه مع كَونِه حَقًّا بالغًا في الحَقِّيَّةِ فهو مُصَدِّقٌ لِلكُتُبِ الحَقَّةِ، ومُقرِّرٌ لِمَا اشتَمَلَتْ عليه مِنَ الحَقِّ .
- وقَولُه: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ تَذييلٌ جامِعٌ لِمَا تَضمَّنَتْه الآياتُ قبْلَه مِن تَفضيلِ بَعضِ عِبادِ اللهِ على بعضٍ، ومِنِ انطواءِ ضَمائِرِهم على الخَشيةِ وعَدَمِها، وإقبالِ بَعضِهم على الطَّاعاتِ وإعراضِ بعضٍ، ومِن تَفضيلِ بعضِ كُتُبِ اللهِ على بعضٍ، المُقتَضي أيضًا تَفضيلَ بعضِ المُرسَلينَ بها على بعضٍ، كما أنَّ مَوقِعَ قَولِه: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ مَوقِعُ إقناعِ السَّامِعينَ بأنَّ اللهَ عَليمٌ بعِبادِه، وهو يُعامِلُهم بحَسَبِ ما يَعلَمُ منهم، ويَصطَفي منهم مَن عَلِمَ أنَّه خَلَقَه كُفْئًا لِاصطِفائِه، فألْقَمَ بهذا الَّذين قالوا: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] حَجَرًا، وكأولئك أيضًا الَّذين يُنكِرونَ القُرآنَ مِن أهلِ الكِتابِ بعِلَّةِ أنَّه جاءَ مُبطِلًا لِكِتابِهم .
- وفي قَولِه: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ تَقديمُ (الخَبيرِ) على (البَصيرِ)؛ لِأنَّه أشمَلُ، وذَكَر (البَصيرَ) عَقِبَه؛ لِلعِنايةِ بالأعمالِ الَّتي هي مِنَ المُبصَراتِ، وهي غالبُ شَرائعِ الإسلامِ. وقيل: تقديمُ (الخبيرِ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّ العُمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ .
- والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) و(اللَّامِ)؛ لِلاهتِمامِ بالمَقصودِ مِن هذا الخَبَرِ .
- وأيضًا في قَولِه: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قاله هنا بلَفظِ الجَلالةِ الصَّريحِ اللَّهَ، وبزِيادةِ اللَّامِ في لَخَبِيرٌ؛ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكرِ لَفظِ الجلالةِ؛ لِأنَّ الآيةَ المُتقدِّمةَ في هذه السُّورةِ لم يَكُنْ فيها ذِكرُ اللهِ، فصَرَّحَ باسمِه سُبحانَه. وبزِيادةِ اللَّامِ؛ مُوافَقةً لِقولِه بعْدُ: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34] . وقالَه في (الشُّورى): إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27] بالضَّميرِ؛ لِتقَدُّمِ لَفظِ (الله)، وبحَذفِ اللَّامِ؛ لِعَدَمِ ما يَقتَضي ذِكرَها؛ فهو مُتَّصِلٌ بقَولِه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ [الشورى: 27] ، فخُصَّ بالكِنايةِ .
4- قَولُه تَعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
- قولُه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ كما هو شأْنُها في عَطْفِها الجُمَلَ، فهي هنا لِعَطفِ الجُمَلِ عَطفًا ذِكريًّا، فالمُتعاطفاتُ بها بمَنزلةِ المُستأْنَفاتِ؛ فهذه الجُملةُ كالمستأْنَفةِ، و(ثُمَّ) لِلتَّرَقِّي في الاستِئنافِ، وهذا ارتِقاءٌ في التَّنويهِ بالقُرآنِ المُتضَمِّنِ التَّنويهَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعُروجٌ في مَسَرَّتِه وتَبشيرِه؛ فبَعْدَ أنْ ذُكِّر بفَضيلةِ كِتابِه -وهو أمْرٌ قد تقَرَّرَ لَدَيْه- زِيدَ تَبشيرًا بدَوامِ كِتابِه، وإيتائِه أُمَّةً هم المُصطَفَوْنَ مِن عِبادِ اللهِ تعالى، وتبشيره بأنَّهم يَعمَلونَ به، ولا يَترُكونَه كما تَرَك أُمَمُ مَنْ قَبْلَه كُتُبَهم ورُسُلَهم؛ لِقَولِه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ الآيةَ، فهذه البِشارةُ أهَمُّ عنْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الإخبارِ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ مُصَدِّقٌ لِمَا بيْنَ يَدَيْه؛ لِأنَّ هذه البِشارةَ لم تَكُنْ مَعلومةً عِندَه، فوَقْعُها أهَمُّ .
وقيل: في «ثُمَّ» -الدَّالَّةِ على التَّراخي- إشارةٌ إلى الفَترةِ بيْنَ عيسى ومحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
- قَولُه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ على القولِ بأنَّ ثُمَّ هنا تقتضي الترَّخيَ في الزَّمانِ، وأنْ يُقالَ: ثمَّ نورثُه بعدَك المُصْطَفيْن، فمجيءُ أَوْرَثْنَا ماضيًا: معناه: حَكَمْنا بتَوريثِه مِنك، أو نُورِثُه، فعَبَّرَ عنه بالماضي؛ لِتحَقُّقِه وتَقَرُّرِه، أو: أوْرَثْناه مِنَ الأُمَمِ السَّالِفةِ، أو وَضَع الماضيَ مَوضِعَ المُستَقبَلِ؛ تَنزيلًا لِمَا هو الكائِنُ بمَنزِلةِ الكائِنِ، أو لِأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلةٌ بما سبقَ مِن قَولِه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] ، أي: قَدَّم اللهُ على إرسالهِ -صَلَواتُ اللهِ عليه- إرسالَ الرُّسُلِ في كُلِّ أُمَّةٍ، وعَقَّبَه بما يُنبئُ أنَّ تلك الأُمَمَ تفرَّقَتْ حِزبَيْنِ: حِزْبًا كَذَّبوا الرُّسُلَ وما أُنْزِلَ معهم، وإليه الإشارةُ بقَولِه: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [فاطر: 25] ، وحِزْبًا صَدَّقوهم وآمَنوا وتَلَوْا كِتابَ اللهِ وعَمِلوا بمُقتضاه، وإليه الإشارةُ بقَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا [فاطر: 29] ، وعلى هذا الوَجْهِ يَكونُ أَوْرَثْنَا ماضيًا يَجْري على ظاهِرِه، والعَطفُ على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ اعتِراضٌ؛ لِبَيانِ كَيفيَّةِ التَّوريثِ .
- قَولُه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا في الإيراثِ مَعنى الإعطاءِ؛ فيَكونُ فِعلُ أَوْرَثْنَا حَقيقًا بأنْ يَنصِبَ مَفعولَيْنِ، وكان مُقتَضى الظاهِرِ أنْ يَكونَ أحَدُ المَفعولَيْنِ -الَّذي هو الآخِذُ في المَعنى- هو المَفعولَ الأوَّلَ، والآخَرُ ثانيًا، وإنَّما خُولِفَ هنا فقُدِّمَ المفعولُ الثَّاني؛ لِأمْنِ اللَّبسِ؛ قَصدًا لِلاهتِمامِ بالكِتابِ المُعطَى، وأمَّا التَّنويهُ بآخِذي الكِتابِ فقدْ حَصَل مِنَ الصِّلةِ .
- ولَمَّا أُرِيدَ تَعميمُ البِشارةِ مع بَيانِ أنَّهم مَراتبُ فيما بُشِّروا به، جِيءَ بالتَّفريعِ في قَولِه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ؛ فهو تَفصيلٌ لمَراتِبِ المُصطفَينَ؛ لِتَشملَ البِشارةُ جميعَ أصنافِهم، ولا يُظَنَّ أنَّ الظَّالِمَ لنَفْسِه مَحرومٌ منها؛ فمَناطُ الاصْطِفاءِ هو الإيمانُ والإسلامُ .
- وقُدِّمَ في التَّفْصيلِ ذِكرُ الظَّالِمِ لِنَفْسِه؛ لِدَفعِ تَوهُّمِ حِرْمانِه مِن الجَنَّةِ، وتَعْجيلًا لِمَسَرَّتِه ؛ فهذا المقامُ أظهرَ اللهُ فيه كرَمَه وشِدَّةَ رحمتِه ولُطفِه بعبادِه، وتعظيمَ هذا القرآنِ العظيمِ، وقوَّةَ آثارِه على مَن أوْرَثهم إيَّاه بدخولِ الجنَّةِ؛ فلذا قدَّم الظَّالمَ لئلَّا ييئسَ مِن رحمةِ الله، وأُخِّر السَّابقُ لئلَّا يُعجَبَ بعملِه فيَحبَطَ . وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنَّةِ الظَّالِمونَ لأنفُسِهم؛ لأنَّ الَّذين لم تقَعْ منهم معصيةٌ أقَلُّ مِن غيرِهم؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24] ، ولَمَّا كان أكثرُ أهلِ الجنَّةِ الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بدَأ بهم؛ لأكثريَّتِهم .
- وأيضًا قُدِّمَ الظَّالِمُ، ثمَّ المُقتَصِدُ، ثمَّ السَّابِقُ؛ للإيذانِ بكَثرةِ الفاسِقينَ وغَلَبَتِهم، وأنَّ المُقتَصِدينَ قَليلٌ بالإضافةِ إليهم، والسَّابِقونَ أقَلُّ مِن القَليلِ، ولأنَّ الظُّلمَ بمَعنى الجَهلِ والرُّكونِ إلى الهَوى مُقتَضى الجِبلَّةِ، والاقتِصادُ والسَّبْقُ عارِضانِ . وقيل: خَتَم بالسَّابقينَ؛ لأنَّهم الخُلاصةُ، ولِيَكونوا أقرَبَ إلى الجنَّاتِ، فهو سُبحانَه تارةً يبدأُ بالأدنى، وتارةً بالأعلى؛ بحسَبِ ما يقتَضيه الحالُ .
- وفي ذِكرِ الخَيْراتِ في قولِه: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ دَلالةٌ على أنَّها مُرادةٌ في القِسْمَينِ الأوَّلَينِ، فيَؤولُ إلى مَعْنى ظالِمٍ لنَفْسِه في الخَيراتِ، ومُقتَصِدٍ في الخَيراتِ أيضًا، ولك أنْ تَجعَلَ مَعْنى ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أنَّه ناقِصُها مِن الخَيراتِ، وفي اختِصاصِ السَّابِقينَ بعدَ التَّقْسيمِ بذِكرِ ثَوابِهِم -وذلك على قولٍ في التفسيرِ- والسُّكوتِ عن الآخَرينَ ما فيه مِن وُجوبِ الحَذَرِ. وفي قَولِه: بِإِذْنِ اللَّهِ تَنويهٌ بالسَّابِقينَ بأنَّ سَبْقَهم كان بعَونٍ مِن اللهِ وتَيْسيرٍ منه، وتَنْبيةٌ على عِزَّةِ مَنالِ هذه الرُّتْبةِ، وصُعوبةِ مَأْخَذِها .
- وفي هذه الآيةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ما يُعرَفُ بالجَمْعِ مع التَّقْسيمِ؛ وهو أنْ يَجمَعَ المُتكلِّمُ بيْنَ شَيْئَينِ أو أكثَرَ في حُكمٍ ثمَّ يَقسِمَ ما جَمَعَه، أو يَقسِمَ أوَّلًا ثمَّ يَجمَعَ .
- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ إشارةٌ إلى السَّبْقِ بالخَيْراتِ، وما فيه مِن مَعْنى البُعْدِ مع قُربِ العَهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإشْعارِ بعُلُوِّ رُتْبتِه، وبُعدِ مَنزِلَتِه في الشَّرَفِ .
- وضَميرُ الفَصْلِ هُوَ؛ لتَأكيدِ القَصْرِ الحاصِلِ مِن تَعْريفِ الجُزأَينِ، وهو حَقيقيٌّ؛ لأنَّ الفَضْلَ الكَبيرَ مُنحَصِرٌ في المُشارِ إليه بذلك؛ لأنَّ كُلَّ فَضلٍ هو غَيرُ كَبيرٍ إلَّا ذلك الفَضْلَ .
5- قَولُه تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
- قولُه: جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلُ اشتمالٍ مِن قولِه: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] ؛ فإنَّ ممَّا يَشتمِلُ عليه الفضْلُ دُخولَهم الجنَّةَ، وتَخصيصُ هذا الفضلِ مِن بيْنِ أصنافِه؛ لأنَّه أعظَمُ الفَضلِ؛ لأنَّه أمارةٌ على رِضْوانِ اللهِ عنهم حينَ إدْخالِهمُ الجَنَّةَ، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] . ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافًا بَيانيًّا؛ لِبَيانِ الفضْلِ الكبيرِ، وقد بُيِّن بأعظَمِ أصنافِه. والمعنى واحدٌ. وضميرُ الجماعةِ في يَدْخُلُونَهَا راجعٌ إلى الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا [فاطر: 32] المقسَّمِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: ظالمٍ، ومُقتَصِدٍ، وسابقٍ .
- وفي الإخبارِ بالمُسنَدِ الفِعليِّ يَدْخُلُونَهَا عن المُسنَدِ إليه جَنَّاتُ عَدْنٍ إفادةُ تَقَوِّي الحُكمِ. وصَوغُ الفِعلِ (يَدخُل) بصيغةِ المُضارِعِ؛ لأنَّه مُستَقبَلٌ، وكذلك صَوغُ يُحَلَّوْنَ .
وقدَّمَ جَنَّاتُ عَدْنٍ على الفِعلِ؛ حتَّى لا يَبقَى مُتعَلِّقَ القَلبِ بأنَّه في أيِّ المداخِلِ يكونُ، فإذا قيل له: دارُ زَيدٍ تَدخُلُها، فبِذكْرِ الدَّارِ يَعلَمُ مَدخَلَه، وبما عندَه مِن العِلمِ السَّابقِ بأنَّ له دُخولًا يَعلَمُ الدُّخولَ؛ فلا يَبقى له توقُّفٌ، ولا سيَّما الجنَّةِ والنَّارِ؛ فإنَّ بيْنَ الـمَدخَلَينِ بَوْنًا بعيدًا .
6- قَولُه تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
- لَفظُ وَقَالُوا أي: يَقولونَ، ولكنْ عُبِّرَ بصِيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .
- وقيل: جُملةُ وَقَالُوا في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ يُحَلَّوْنَ [فاطر: 33] ؛ لئلَّا يَلزَمَ تَأويلُ الماضي بتَحقيقِ الوُقوعِ، مع أنَّه لم يُقصَدُ في قولِه: يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 33] . وتلك المَقالةُ مُقارِنةٌ للتَّحْليةِ واللِّباسِ، وهو كَلامٌ يَجْري بيْنَهم ساعَتَئذٍ؛ لإنْشاءِ الثَّناءِ على اللهِ على ما خوَّلَهم مِن دُخولِ الجَنَّةِ، ولِمَا فيه مِن الكَرامةِ .
- قولُه: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ استِئْنافُ ثَناءٍ على اللهِ؛ شَكَروا به نِعْمةَ السَّلامةِ، وأثْنَوْا عليه بالمَغْفِرةِ؛ لِمَا تَجاوَزَ عمَّا اقتَرَفوهُ بالنِّسْبةِ للمُقتَصِدِينَ والسَّابِقينَ، ولِمَا تَجاوَزَ عنه مِن تَطْويلِ العَذابِ، وقَبولِ الشَّفاعةِ بالنِّسْبةِ لمُختَلِفِ أحْوالِ الظَّالِمينَ أنفُسَهم. وأثْنَوْا على اللهِ بأنَّه شَكورٌ؛ لِمَا رَأَوْا مِن إفاضَتِه الخَيْراتِ عليهم، ومُضاعَفةِ الحَسَناتِ ممَّا هو أكثَرُ مِن صالِحاتِ أعْمالِهِم .
- وقيلَ: (غَفُورٌ) فيه إشارةٌ إلى دُخولِ الظَّالِمِ لِنَفْسِه الجَنَّةَ، و(شَكورٌ) فيه إشارةٌ إلى السَّابِقِ، وأنَّه كَثيرُ الحَسَناتِ .
7- قَولُه تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ
- التَّصريحُ بنَفيِ الثَّاني وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ، مع استِلْزامِ نَفْيِ الأوَّلِ له لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ، وتَكْريرُ الفِعلِ المَنْفيِّ؛ للمُبالَغةِ في بَيانِ انتِفاءِ كُلٍّ منهما .