موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (19-26)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْحَرُورُ: أي: الرِّيحُ الحارَّةُ، والنَّارُ، وأصلُه يدُلُّ على خِلافِ البَردِ والظِّلِّ .
خَلَا: أي: سلَفَ ومضَى، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تَعرِّي الشيءِ مِن الشيءِ .
وَبِالزُّبُرِ: أي: الكُتُبِ، جمْعُ زَبورٍ، وهو: كُلُّ كِتابٍ ذي حِكمةٍ، وأصلُه يدُلُّ على قِراءةٍ وكِتابةٍ .
نَكِيرِ: أي: إنكاري، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرِفةِ .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ اللهُ تعالَى الفَرْقَ الكَبيرَ بيْنَ المُؤمِنِ والكافِرِ، وبيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وبيْنَ العِلمِ والجَهلِ؛ فالأضدادُ لا تَتساوَى، فيقولُ: ولا يَستوي الأعمى والبَصيرُ في إدراكِ المُبصَراتِ، ولا تَستوي الظُّلُماتُ والنُّورُ، ولا يَستوي الظِّلُّ ولا حَرُّ الشَّمسِ، ولا يَستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ، إنَّ اللهَ يُسمِعُ مَن يَشاءُ إسماعَه، وما أنتَ -يا محمَّدُ- بمُسمِعٍ الأمواتَ في قُبورِهم؛ ما أنت إلَّا نذيرٌ.
ثم يقول تعالى: إنَّا أرسَلْناك -يا محمَّدُ- بالحَقِّ بَشيرًا لِمَن أطاعَك، ونذيرًا لِمَن عصاك، وما مِن أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ الماضيةِ إلَّا بعَثْنا فيهم رَسولًا يُنذِرُهم عذابَ اللهِ.
ثُمَّ يقولُ تعالَى مُسلِّيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وإنْ يُكَذِّبْك -يا محمَّدُ- كفَّارُ قَومِك، فقدْ كذَّبَ الذين مِن قَبلِهم رُسُلَهم، وقد جاؤُوهم بالأدِلَّةِ الظَّاهِرةِ وبالكُتُبِ الإلهيَّةِ وبالكِتابِ المنيرِ، ثمَّ أهلَكْتُ الذين كَفَروا، فكيف كان إنكاري وعِقابي؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالَى الهُدى والضَّلالةَ، ولم يَهتَدِ الكافِرُ، وهَدَى اللهُ المؤمِنَ؛ ضَرَب لهم مَثَلًا بالبَصيرِ والأعمَى؛ فالمؤمِنُ بصيرٌ حيثُ أبصَرَ الطَّريقَ الواضِحَ، والكافِرُ أعمَى .
وأيضًا بَعدَ أنْ بيَّنَ قِلَّةَ نَفعِ النِّذارةِ للكافِرينَ، وأنَّها لا يَنتفِعُ بها غَيرُ المُؤمِنينَ؛ ضرَبَ للفَريقَينِ أمثالًا كاشِفةً عن اختِلافِ حالَيْهما، فقال :
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19).
أي: ولا يَستوي الأعمَى والبصيرُ في إدراكِ المُبصَراتِ، وكذا لا يَستوي الكافِرُ والمؤمِنُ، والجاهلُ والعالمُ .
كما قال تعالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58].
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20).
أي: ولا تَستوي الظُّلُماتُ معَ النُّورِ، وكذا لا تَستوي ظُلماتُ الكُفرِ ونُورُ الإيمانِ .
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21).
أي: ولا يَستوي الظِّلُّ ولا شِدةُ الحَرِّ، وكذا لا تَستوي الجَنَّةُ والنارُ .
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّها مَثَلٌ آخَرُ في حَقِّ المؤمِنِ والكافِرِ، كأنَّه قال تعالى: حالُ المؤمِنِ والكافِرِ فوقَ حالِ الأعمَى والبَصيرِ؛ فإنَّ الأعمَى يُشارِكُ البَصيرَ في إدراكٍ ما، والكافِرَ غيرُ مُدركٍ إدراكًا نافِعًا، فهو كالمَيِّت؛ ولذلك أعاد الفِعلَ، فقال :
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ.
أي: ولا يَستوي الأحياءُ مع الأمواتِ، وكذا لا يَستوي المؤمِنونَ مع الكُفَّارِ .
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: إنَّ اللهَ يُسمِعُ مَن يَشاءُ إسماعَه .
وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
أي: وليس في مَقدورِك -يا محمَّدُ- أن تُسمِعَ الأمواتَ في قُبورِهم، وكذا ليس في مَقدورِك هِدايةُ مَن لم يَشأِ اللهُ هِدايتَه .
كما قال اللهُ تعالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 80، 81].
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23).
أي: ما أنت -يا محمَّدُ- إلَّا نذيرٌ تُبلِّغُ رِسالةَ اللهِ سُبحانَه، سواءٌ أَستجابَ لك النَّاسُ أم لم يَستَجيبوا؛ فإنَّما جعَلَ اللهُ لك الاستِطاعةَ على الإنذارِ الذي كلَّفَك به، لا على إسماعِ مَن لم يَشَأِ اللهُ إسماعَه، أو على هِدايةِ مَن لم يَشأِ اللهُ هدايتَه .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نبيَّ الرَّحمةِ، وكان الاقتِصارُ على وَصفِ النِّذارةِ رُبَّما أوهَمَ غيرَ ذلك؛ أتبَعَه قَولَه :
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.
أي: إنَّا أرسَلْناك -يا محمَّدُ- بالحَقِّ بشيرًا لِمَن أطاعَك، ونَذيرًا لِمَن عَصاك .
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ.
أي: وما مِن أُمَّةٍ من الأُمَمِ الماضيةِ إلَّا بعَثْنا فيهم رَسولًا يُنذِرُهم عذابَ اللهِ تعالَى .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه أعْقَبَ الثَّناءَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَسليتِه على تَكذيبِ قَومِه، وتأنيسِه بأنَّ تلك سُنَّةُ الرُّسُلِ معَ أُمَمِهم .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: وإنْ يُكَذِّبْك -يا مُحمَّدُ- كُفَّارُ قَومِك، فقد كَذَّب الذين مِن قَبلِهم مِنَ الأُمَمِ الماضِيةِ رُسُلَهم؛ فلسْتَ بأوَّلِ رَسولٍ كذَّبَه قَومُه؛ فلا تحزَنْ !
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ.
أي: جاءتْ تلك الأُمَمَ الماضيةَ رسُلُهم بالأدِلَّةِ الظَّاهِرةِ، وبالكُتُبِ الإلهيَّةِ، وبالكِتابِ المُنيرِ .
كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران: 184].
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا سلَّى اللهُ تعالَى نبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ هدَّد مَن خالَفَه وعصاه، بما فعَلَ في تِلك الأمَمِ، فقالَ تعالَى :
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: ثمَّ أهلَكْتُ أولئك الذين كَفَروا بي وبما جاءَتْهم به رسُلُهم .
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ.
أي: فكيفَ كان إنكاري على تِلك الأُمَمِ المكَذِّبةِ وعِقابي ؟

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قَولُ الله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ فكما أنَّه مِن المتقَرِّرِ الذي لا يقبَلُ الشَّكَّ أنَّ هذه المذكوراتِ لا تتساوَى، فكذلك عدَمُ تَساوي المتضادَّاتِ المعنويَّةِ أَوْلَى وأَوْلى؛ فلا يَستوي المؤمِنُ والكافِرُ، ولا المُهتدي والضَّالُّ، ولا العالِمُ والجاهِلُ، ولا أصحابُ الجنَّةِ وأصحابُ النَّارِ، ولا أحياءُ القُلوبِ وأمواتُها؛ فبَينَ هذه الأشياءِ مِن التفاوُتِ والفَرقِ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالَى، فإذا عُلِمَت المراتِبُ، ومُيِّزَت الأشياءُ، وبان الذي يَنبغي أنْ يُتنافَسَ في تَحصيلِه مِن ضِدِّه؛ فلْيَخترِ الحازِمُ لِنَفسِه ما هو أَوْلَى به وأحقُّه بالإيثارِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- نَفيُ التَّساوي في كِتابِ اللهِ تعالَى قدْ يأتي بيْنَ الفِعلَينِ، كقَولِه تعالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] ، وقد يأتي بين الفاعِلَينِ، نحو: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] ، وقد يأتي بين الجَزاءَينِ، كقَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقد جمَع اللهُ بيْن الثَّلاثةِ في آيةٍ واحِدةٍ، وهي قَولُه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ؛ فالأعمى والبصيرُ: الجاهِلُ والعالِمُ، والظُّلُماتُ والنُّورُ: الكُفرُ والإيمانُ، والظِّلُّ والحَرورُ: الجنَّةُ والنَّارُ، والأحياءُ والأمواتُ: المؤمِنون والكُفَّارُ ، وذلك على قَوْلٍ في التفسيرِ فيها.
2- قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ جِيءَ بلَفظِ الظُّلُمَاتُ جَمْعًا مع إفْرادِ النُّورُ؛ لتَعدُّدِ فُنونِ الباطِلِ، واتِّحادِ الحقِّ . وقيلَ: جِيءَ في الظُّلُمَاتُ بلَفظِ الجمْعِ؛ لأنَّه الأغلبُ في الاستِعْمالِ؛ فهُم لا يَذكُرونَ الظُّلْمةَ إلَّا بصِيغةِ الجَمعِ .
3- في قَولِه تعالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والجَهميَّةِ؛ لأنَّا لا نَشُكُّ أنَّ اللهَ جَلَّ وتعالَى ضَرَبَ هذه الأمثالَ للكافِرِ والمؤمِنِ، وأنَّ الحيَّ هو المؤمِنُ، والميِّتَ هو الكافِرُ؛ فإذا كان المُسمِعُ هو اللهُ جلَّ وعلا، ولا يَستطيعُ ذو سَمعٍ أنْ يَسمَعَ بسَمعِه حتى يُسمِعَه اللهُ، وكلاهما -مِن المؤمنِ والكافرِ- ذو سَمْعٍ: عَلِمْنا أنَّ المؤمِنَ سَمِع بتوفيقِ اللهِ الموعِظةَ، فوَعاها سَمعُه، وأوصلَها إلى قَلبِه بمَشيئتِه في نجاتِه، وأنَّ الكافِرَ صَمَّ عنها بخِذلانِ اللهِ، وزَوالِ توفيقِه عنه؛ فلم تَعِها أُذنُه، ولم يَقبَلْها قلبُه؛ لخُلُوِّه مِن مَشيئةِ اللهِ في المؤمِنِ، ودُخولِه في إضلالِه .
4- قولُه تعالَى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وقولُه في الآيةِ الأخرى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] فيه الجَزْمُ بنفْيِ سَماعِ الأمواتِ، ويُجْعَلُ ما ثَبَتَ فيه الحديثُ مِن السَّمَاعِ مُخَصِّصًا .
5- قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ في قَولِه تعالَى: مَنْ يَشَاءُ رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ الذين يُنكِرونَ أنْ تكونَ أفعالُ العِبادِ بمَشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
6- في قَولِه تعالَى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَصْفُ الكافرِ بأنَّه مَيِّتٌ، وأنَّه بمنزلةِ أصحابِ القُبورِ؛ وذلك: أنَّ القَلبَ الحيَّ هو الذي يَعرِفُ الحقَّ ويَقبَلُه، ويُحِبُّه ويُؤثِرُه على غَيرِه، فإذا ماتَ القَلبُ لم يَبقَ فيه إحساسٌ ولا تمييزٌ بينَ الحقِّ والباطلِ، ولا إرادةٌ للحَقِّ وكراهةٌ للباطِلِ، بمنزلةِ الجَسَدِ الميِّتِ الذي لا يُحِسُّ بلذَّةِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وألَمِ فَقدِهما .
7- في قَولِه تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بيانُ ما يَشتَمِلُ عليه دِينُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الحقِّ الذي ضِدُّه الباطِلُ، والباطِلُ إنْ كان في الأخبارِ فهو الكَذِبُ، وإنْ كان في الأحكامِ فهو الجَورُ والظُّلمُ؛ وعليه فرِسالةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتضَمِّنةٌ للحَقِّ في الأخبارِ والأحكامِ؛ ففيه بيانُ فَضيلةِ هذه الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ التي جاء بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ كلَّ ما كان حقًّا فإنَّ الشَّريعةَ جاءتْ به، سواءٌ نَصَّتْ عليه بمعناه الخاصِّ أو بالمعنى العامِّ .
8- في قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ بُطلانُ الاحتِجاجِ بالقَدَرِ على مَعصيةِ اللهِ، ولو كان الاحتِجاجُ بالقَدَرِ على المعاصي والمخالَفاتِ ثابتًا لم يَرتفِعْ بإرسالِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ القَدَرَ لا يَرتفعُ بإرسالِ الرُّسُلِ؛ فالرُّسُلُ أرسلَهم اللهُ سُبحانَه وتعالَى إقامةً للحُجَّةِ على الخَلْقِ، ورحمةً بهم أيضًا .
9- في قَولِه تعالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ بيانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس ببِدْعٍ مِن الرُّسُلِ حتى تُنكَرَ رِسالتُه ويُقالَ: كيف جاء هذا الرجُلُ برسالةٍ مِن عِندِ اللهِ؟! ويَشهَدُ لهذا قولُه تعالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] .
10- بُطلانُ ما ذَهَبَ إليه المتكَلِّمون مِن أهلِ البِدَعِ، الذين بَنَوا عَقيدتَهم على ما يَقتضيه العَقلُ، وقالوا: ما اقتضَى العقلُ إثباتَه لله أثبتْناه، سواءٌ كان مذكورًا في الكِتاب والسُّنَّةِ أم لم يُذْكَرْ، وما نفاه العَقلُ وَجَبَ علينا نفيُه وإنْ ذُكِرَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ! وما لم يَدُلَّ العَقلُ على نفيِه وإثباتِه فإنَّنا نتوقَّفُ فيه، وأكثرُهم قالوا: نَنفيه! لأنَّه لا بُدَّ مِن دَلالةِ العَقلِ على إثباتِه، فإذا لم يَدُلَّ على إثباتِه وَجَبَ نفيُه؛ لعدمِ وُجودِ الدَّليل!! والرَّدُّ على ذلك يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، ووجهُ ذلك: أنَّه لو كانتِ العُقولُ هي المرجِعَ ما احتِيجَ إلى إرسالِ الرُّسُلِ !
11- في قَولِه تعالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَكذيبِ قَومِه، وتَأنيسُه بأنَّ تلك سُنَّةُ الرُّسُلِ معَ أُمَمِهِم ، وفيه عِنايةُ اللهِ تعالى بالرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، بذِكْرِ ما يُسَلِّيه ويُهَوِّنُ عليه الأمرَ؛ وذِكرُ المُصيبةِ المُماثِلةِ يَقتضي تَسليةَ الإنسانِ وتَهوينَ الأمْرِ عليه .
12- في قَولِه تعالَى: جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يَترُكِ الرُّسُلَ هَمَلًا، بل آتاهم مِن البَيِّناتِ ما يُؤمِنُ على مِثلِه البَشَرُ .
13- في قَولِه تعالى: وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ أنَّ الكُتُبَ السَّماويَّةَ مُتضمِّنَةٌ للنُّورِ؛ وأنَّ كلَّ مَن أخَذ بها فقدْ أخَذَ بنورٍ يَمشي به في الظُّلماتِ ، وذلك على قَولٍ في تَفسيرِ الآيةِ.

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
- في هذه الآياتِ أرْبعةُ أمْثالٍ للمُؤمِنينَ والكافِرينَ، وللإيمانِ والكُفْرِ؛ شبَّهَ الكافِرَ بالأعْمى، والكُفْرَ بالظُّلُماتِ والحَرورِ، والكافِرَ بالمَيِّتِ، وشبَّهَ المُؤمِنَ بالبَصيرِ، وشبَّهَ الإيمانَ بالنُّورِ والظِّلِّ، وشبَّهَ المُؤمِنَ بالحَيِّ -وذلك على قَولٍ في تفسيرِها- تَشبيهَ المَعْقولِ بالمَحْسوسِ، ورُوعيَ في هذه الأشْباهِ تَوزيعُها على صِفةِ الكافِرِ والمُؤمِنِ، وعلى حالةِ الكُفرِ والإيمانِ، وعلى أثَرِ الإيمانِ وأثَرِ الكُفرِ، وقُدِّمَ تَشبيهُ حالِ الكافِرِ وكُفرِه على تَشْبيهِ حالِ المُؤمِنِ وإيمانِه ابتِداءً؛ لأنَّ الغَرَضَ الأهمَّ مِن هذا التَّشبيهِ هو تَفْظيعُ حالِ الكافِرِ، ثمَّ الانتِقالُ إلى حُسنِ حالِ ضِدِّه؛ لأنَّ هذا التَّشبيهَ جاءَ لإيضاحِ ما أفادَه القَصْرُ في قَولِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] مِن أنَّه قَصْرٌ إضافيٌّ قَصرُ قَلْبٍ؛ فالكافِرُ شَبيهٌ بالأعْمى في اختِلاطِ أمْرِه بيْنَ عَقلٍ وجَهالةٍ كاختِلاطِ أمْرِ الأعْمى بيْنَ إدْراكٍ وعَدَمِه .
- قولُه: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ شُبِّهَ الكُفرُ بالظُّلُماتِ في أنَّه يُجعَلُ الذي أحاطَ هو به غَيرَ مُتبيِّنٍ للأشْياءِ؛ فإنَّ من خَصائِصِ الظُّلْمةِ إخْفاءَ الأشْياءِ، والكافِرُ خَفِيَتْ عنه الحَقائِقُ الاعتِقاديَّةُ، وكُلَّما بيَّنَها له القُرآنُ لم يَنتقِلْ إلى أجْلَى، كما لو وَصَفتَ الطَّريقَ للسَّائِرِ في الظَّلامِ .
- قولُه: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ فيه إدْخالُ (لا) على المُتَقابِلَينِ؛ لتَذْكيرِ نَفيِ الاستواءِ، وتَوسيطُها بيْنَهما للتَّأْكيدِ .
- قولُه: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ضُرِبَ الظِّلُّ مَثَلًا لأثَرِ الإيمانِ، وضِدُّه -وهو الحَرورُ- مَثَلًا لأثَرِ الكُفرِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فالظِّلُّ مَكانُ نَعيمٍ في عُرفِ السَّامِعينَ الأوَّلينَ، وهُمُ العَرَبُ أهْلُ البِلادِ الحارَّةِ التي تَتطلَّبُ الظِّلَّ للنَّعيمِ غالبًا إلَّا في بَعضِ فَصلِ الشِّتاءِ، وقُوبِلَ بالحَرورِ؛ لأنَّه مُؤلِمٌ ومُعذِّبٌ في عُرفِهم. وفي مُقابَلَتِه بالحَرورِ إيذانٌ بأنَّ المُرادَ تَشْبيهُهُ بالظِّلِّ في حالةِ استِطابَتِهِ؛ فحالُ المُؤمِنِ يُشبِهُ حالَ الظِّلِّ تَطمئِنُّ فيه المَشاعِرُ، وتَصدُرُ فيه الأعْمالُ عن تَبصُّرٍ وتَريُّثٍ وإتْقانٍ. وحالُ الكافِرِ يُشبِهُ الحَرورَ تَضطرِبُ فيه النُّفوسُ، ولا تتمكَّنُ معه العُقولُ من التَّأمُّلِ والتَّبصُّرِ، وتَصدُرُ فيها الآراءُ والمَساعي مُعجَّلةً مُتفكِّكةً .
- قولُه: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ قُدِّم في هذه الفِقْرةِ ما هو مِن حالِ المُؤمِنينَ على عَكسِ الفِقْراتِ الثَّلاثِ التي قَبلَها؛ لأجْلِ الرِّعايةِ على الفاصِلةِ بكَلِمةِ الْحَرُورُ، وفَواصِلُ القُرآنِ من مُتمِّماتِ فَصاحَتِه؛ فلها حظٌّ من الإعْجازِ .
وقيل: قُدِّم الأشرَفُ في مَثَلينِ -وهو الظِّلُّ والحَرورُ-، وأُخِّرَ في مَثَلينِ -وهما البَصيرُ والنُّورُ- وذلك لأنَّهم كانوا قبلَ المَبعَثِ في ضَلالةٍ؛ فكانوا كالعُمْيِ، وطَريقُهم الظُّلْمةُ، فلمَّا جاء الرَّسولُ، واهْتَدى به قَومٌ، صاروا بَصيرينَ، وطَريقُهم النُّور، وقُدِّم ما كان مُتقدِّمًا من المُتَّصِفِ بالكُفرِ وطَريقَتِهِ على ما كان مُتأخِّرًا من المُتَّصِفِ بالإيمانِ وطَريقتِهِ. ثم لَمَّا ذُكِرَ المآلُ والمَرجِعُ، قُدِّم ما يَتعلَّقُ بالرَّحْمةِ على ما يَتعلَّقُ بالغَضَبِ، كما جاءَ في الحديثِ القدسيِّ: ((سَبَقَتْ رَحْمتي غَضَبي )) ؛ فقُدِّم الظِّلُّ على الحَرورِ. ثم إنَّ الكافِرَ المُصِرَّ بعدَ البَعْثةِ صارَ أضَلَّ مِن الأعْمَى، وشابَهَ الأمْواتَ في عَدَمِ إدْراكِ الحقِّ، فقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ: الذين آمَنوا بما أنزَلَ اللهُ، وَلَا الْأَمْوَاتُ: الذين تُلِيَت عليهمُ الآياتُ البيِّناتُ، ولم يَنتَفِعوا بها. وهؤلاء كانوا بعدَ إيمانِ مَن آمَنَ، فأخَّرَهم لوُجودِ حَياةِ المُؤمِنينَ قَبلَ مَماتِ الكافِرِ .
وقيل: لَمَّا ضُرِبَ الأعمَى والبصيرُ مَثلَينِ للمُؤمِنِ والكافِرِ، عَقَّب بما كُلٌّ منهما فيه، والكافِرُ في ظُلمةٍ، والمؤمِنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ البصَرِ لا بدَّ له من ضوءٍ يُبصِرُ فيه، وقَدَّم الأعمى؛ لأنَّ البصيرَ فاصِلةٌ، فحَسُنَ تأخيرُه، ولَمَّا تقدَّم الأعمى في الذِّكرِ ناسَبَ تقديمَ ما فيه؛ فلذلك قُدِّمَت الظُّلمةُ على النُّورِ، ولأنَّ النُّورَ فاصِلةٌ، ثمَّ ذكَرَ ما لكُلٍّ منهما؛ فللمُؤمِنِ الظِّلُّ، وللكافِرِ الحَرورُ، وأخَّرَ الحَرورَ؛ لأجلِ الفاصِلةِ .
- وأفرَدَ الأعْمى والبَصيرَ؛ لأنَّه قابَلَ الجِنْسَ بالجِنْسِ؛ إذ قد يُوجَدُ في أفْرادِ العُمْيانِ ما يُساوي به بعضَ أفْرادِ البُصَراءِ، كأعْمى عِندَه مِن الذَّكاءِ ما يُساوي به البَصيرَ البَليدَ؛ فالتَّفاوُتُ بيْنَ الجِنْسَينِ مَقطوعٌ به، لا بيْنَ الأفْرادِ. وأمَّا الأحياءُ والأمْواتُ، فالتَّفاوُتُ بيْنَهما أكثَرُ؛ إذ ما مِن ميِّتٍ يُساوي في الإدْراكِ حيًّا، فذُكِر أنَّ الأحياءَ لا يُساوونَ الأمْواتَ، سواءً قابَلتَ الجِنْسَ بالجِنْسِ، أمْ قابَلتَ الفَرْدَ بالفَرْدِ .
- وجُعِل كُلٌّ من التَّمْثيلَينِ تَمْهيدًا وتَوطِئةً لقَولِه: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ؛ لأنَّ المُرادَ بالأحياءِ: المُؤمِنونَ الذي دَخَلوا في دارِ السَّلامِ، وانْتَفَعوا بدَعْوةِ نَبيِّ الرَّحْمةِ صَلَواتُ اللهِ عليه، وبالأمْواتِ: الذين بَقَوْا خارِجينَ عن دارِ أمانِ الدَّعْوةِ، ولم يَرفَعوا لها رأسًا، وأصَرُّوا واسْتَكْبَروا .
- وتَركيبُ هذه الآياتِ عَجيبٌ؛ فقد احْتَوَتْ على واواتِ عَطفٍ، وأدواتِ نَفيٍ؛ فكُلٌّ مِنَ الوَاوَينِ اللَّذينِ في قَولِه: وَلَا الظُّلُمَاتُ ... إلخ، وقَولِه: وَلَا الظِّلُّ ... إلخ عاطِفُ جُمْلةٍ على جُمْلةٍ، وعاطِفُ تَشْبيهاتٍ ثَلاثةٍ، بل تَشْبيهٌ منها يَجمَعُ الفَريقَينِ، والتَّقْديرُ: ولا تَسْتوي الظُّلُماتُ والنُّورُ، ولا يَسْتوي الظِّلُّ والحَرورُ، وقد صُرِّح بالمُقدَّرِ أخيرًا في قَولِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ، وأمَّا الواواتُ الثَّلاثةُ في قَولِهِ: وَالْبَصِيرُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الْحَرُورُ؛ فكُلُّ واوٍ عاطِفٌ مُفردًا على مُفرَدٍ؛ فهي سِتَّةُ تَشْبيهاتٍ مُوزَّعةٍ على كُلِّ فَريقٍ فـ (الْبَصِيرُ) عَطفٌ على الأعْمى، والنُّورُ عَطفٌ على الظُّلُماتِ، والْحَرُورُ عَطفٌ على الظِّلُّ؛ ولذلك أُعيدَ حَرفُ النَّفيِ. وأمَّا أدواتُ النَّفيِ فاثْنانِ منها مُؤكِّدانِ للتَّغلُّبِ المُوجَّهِ إلى الجُمْلَتينِ المَعْطوفَتَينِ المَحذوفِ فِعْلاهما وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا الظِّلُّ، واثْنانِ مُؤكِّدانِ لِتوجُّهِ النَّفيِ إلى المُفرَدَينِ المَعْطوفَينِ على مُفرَدَينِ في سياقِ نَفيِ التَّسْويةِ بيْنَهما وبيْنَ ما عُطِفا عليهما، وهُما واوُ وَلَا النُّور، وواوُ وَلَا الْحَرُور، والتَّوكيدُ بعضُه بالمِثلِ، وهو حَرفُ (لا) وبَعضُه بالمُرادِفِ، وهو حَرفُ (ما)، ولم يُؤتَ بأداةِ نَفيٍ في نَفيِ الاستِواءِ الأوَّلِ؛ لأنَّه الذي ابتُدِئَ به نَفيُ الاستِواءِ المُؤكَّدِ من بعدُ؛ فهو كُلُّه تَأْييسٌ. وهو استِعْمالٌ قُرآنيٌّ بَديعٌ في عَطفِ المَنْفِيَّاتِ من المُفْرداتِ والجُمَلِ .
- وقولُه: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ تَمثيلٌ آخَرُ للمُؤمِنينَ والكافِرينَ أبلَغُ مِن الأوَّلِ؛ ولذلك كُرِّر الفِعلُ يَسْتَوِي، وأُوثرَ صِيغةُ الجَمعِ في الطَّرَفينِ؛ تَحْقيقًا للتَّبايُنِ بيْنَ أفْرادِ الفَريقَينِ. وقيلَ: هو تَمْثيلٌ للعُلَماءِ والجَهَلةِ .
- وفي هذه الجُمْلةِ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ أُظهِرَ الفِعلُ الذي قُدِّر في الجُمْلتَينِ اللَّتَينِ قَبلَها، وهو فِعلُ يَسْتَوِي؛ لأنَّ التَّمثيلَ هنا عادَ إلى تَشْبيهِ حالِ المُسلِمينَ والكافِرينَ؛ إذ شُبِّهَ حالُ المُسلِمِ بحالِ الأحياءِ، وحالُ الكافِرينَ بحالِ الأمْواتِ، فهذا ارْتِقاءٌ في تَشْبيهِ الحالَينِ من تَشبيهِ المُؤمِنِ بالبَصيرِ، والكافِرِ بالأعْمى إلى تَشبيهِ المُؤمِنِ بالحيِّ، والكافِرِ بالميِّتِ، فلمَّا كانتِ الحياةُ هي مَبعَثَ المَدارِكِ والمَساعي كَلِّها، وكان المَوتُ قاطِعًا للمَدارِكِ والمَساعي، شُبِّه الإيمانُ بالحَياةِ في انْبِعاثِ خَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ منه، وفي تلقِّي ذلك وفَهمِه، وشُبِّهَ الكُفرُ بالمَوتِ في الانْقِطاعِ عن الأعْمالِ والمُدرَكاتِ النَّافِعةِ كُلِّها، وفي عَدَمِ تلقِّي ما يُلْقى إلى صاحِبِهِ؛ فصار المُؤمِنُ شَبيهًا بالحيِّ مُشابَهةً كامِلةً لَمَّا خَرَج من الكُفرِ إلى الإيمانِ، فكأنَّه بالإيمانِ نُفِخَت فيه الحَياةُ بعدَ المَوتِ، كما أشارَ إليه قَولُه تعالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام: 122] ، وكان الكافِرُ شَبيهًا بالميِّتِ ما دام على كُفرِهِ. واكتُفِيَ بتَشبيهِ الكافِرِ والمُؤمِنِ في مَوضِعَينِ عن تَشْبيهِ الكُفرِ والإيمانِ وبالعَكسِ لتَلازُمِهِما، وأُوتيَ تَشبيهُ الكافِرِ والمُؤمِنِ في مَوضِعَينِ لكَونِ وَجهِ الشَّبَهِ في الكافِرِ والمُؤمِنِ أوضَحَ، وعُكِسَ ذلك في مَوضِعَينِ؛ لأنَّ وَجهَ الشَّبَهِ أوضَحُ في المَوضِعَينِ الآخَرَينِ .
وقيل: كُرِّر الفِعلُ يَسْتَوِي مبالغةً في المنافاةِ؛ لأنَّ المنافاةَ بينَ الحياةِ والموتِ أتمُّ مِن المنافاةِ المتقدِّمةِ .
- وكرَّر كَلِمةَ النَّفيِ بين الظُّلماتِ والنُّورِ، والظِّلِّ والحَرورِ، والأحياءِ والأمواتِ، ولم يكرِّرْ بين الأعمى والبصيرِ؛ وذلك لأنَّ التكريرَ للتأكيدِ، والمنافاةُ بين الظُّلمةِ والنُّورِ، والظِّلِّ والحَرورِ مُضادَّةٌ؛ فالظُّلمةُ تُنافي النُّورَ وتُضادُّه، والعمَى والبصَرُ كذلك، أمَّا الأعمى والبصيرُ فليسَا كذلك، بل الشَّخصُ الواحِدُ قد يكونُ بصيرًا، وهو بعينِه يَصيرُ أعمَى؛ فالأعمَى والبصيرُ لا مُنافاةَ بيْنَهما إلَّا مِن حيثُ الوَصفُ، والظِّلُّ والحَرورُ المنافاةُ بيْنهما ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ المرادَ مِن الظِّلِّ عدمُ الحَرِّ والبردِ، فلمَّا كانت المنافاةُ هناك أتمَّ، أكَّدَ بالتَّكرارِ، وأمَّا الأحياءُ والأمواتُ وإنْ كانوا كالأعمَى والبَصيرِ مِن حيثُ إنَّ الجِسمَ الواحِدَ يكونُ حَيًّا محلًّا للحياةِ، فيَصيرُ مَيْتًا محلًّا للموتِ، ولكِنَّ المنافاةَ بين الحيِّ والميِّتِ أتمُّ مِن المنافاةِ بين الأعمَى والبصيرِ؛ فالأعمَى والبصيرُ يَشتركانِ في إدراكِ أشياءَ، ولا كذلك الحيُّ والميِّتُ، كيف والميِّتُ يُخالِفُ الحيَّ في الحَقيقةِ لا في الوَصفِ ؟!
- قَولُه: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ؛ قُدِّم الأحياءُ؛ لشرفِ الحياةِ .
- وأيضًا جِيءَ بصِيغةِ الجَمعِ في (الْأحياءُ والأمْواتُ) تفنُّنًا في الكَلامِ بعدَ أنْ أورَدَ (الأعْمى والبَصيرُ) بالإفْرادِ؛ لأنَّ المُفرَدَ والجَمعَ في المُعرَّفِ بلامِ الجِنْسِ سَواءٌ إذا كان اسْمًا له أفْرادٌ، بخِلافِ النُّورِ والظِّلِّ والحَرورِ .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ تَعليلٌ؛ تَسليةً لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإقْناطًا له من إيمانِ المُصرِّينَ، وإيذانًا بأنَّ الهاديَ والمُضِلَّ هو اللهُ سُبْحانَهُ .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أُعقِبَ تَمثيلُ حالِ المُؤمِنينَ والكافِرينَ بحالِ الأحياءِ والأمْواتِ بتَوجيهِ الخِطابِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَعذِرةً له في التَّبليغِ للفَريقَينِ، وفي عَدَمِ قَبولِ تَبْليغِه لدى أحَدِ الفَريقَينِ، وتَسلِيةً له عن ضَياعِ وابِلِ نُصحِه في سِباخِ قُلوبِ الكافِرينَ، فقيلَ له: إنَّ قَبولَ الذين قَبِلوا الهُدَى واسْتَمَعوا إليه كان بتَهيئةِ اللهِ تَعالى نُفوسَهم لقَبولِ الذِّكْرِ والعِلمِ، وإنَّ عَدَمَ انْتِفاعِ المُعرِضينَ بذلك هو بسَبَبِ مَوتِ قُلوبِهِم، فكأنَّهم الأمواتُ في القُبورِ، وأنتَ لا تَستطيعُ أنْ تُسمِعَ الأمْواتَ، فجاءَ قَولُه: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ على مُقابَلةِ قَولِه: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ مُقابَلةَ اللَّفِّ بالنَّشْرِ المُرتَّبِ ؛ فجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ تَعليلٌ لجُمْلةِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] ؛ لأنَّ مَعْنى القَصرِ يَنحَلُّ إلى إثْباتٍ ونَفيٍ؛ فكان مُفيدًا فَريقَينِ: فَريقًا انْتَفَعَ بالإنْذارِ، وفَريقًا لم يَنتفِعْ؛ فعُلِّلَ ذلك بـ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ .
- وقَولُه: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إشارةٌ إلى الذين لم يَشَأِ اللهُ أنْ يُسمِعَهم إنْذارَك. وعُبِّرَ بـ مَنْ فِي الْقُبُورِ عن الذين لم تَنفَعْ فيهم النُّذُرُ، وعُبِّرَ عن الأمْواتِ بـ مَنْ فِي الْقُبُورِ؛ لأنَّ مَن في القُبورِ أعرَقُ في الابتِعادِ عن بُلوغِ الأصْواتِ؛ لأنَّ بيْنَهم وبيْنَ المُنادي حاجِزَ الأرْضِ؛ فهذا إطْنابٌ أفاد مَعنًى لا يُفيدُه الإيجازُ، بأنْ يُقالَ: وما أنتَ بمُسْمِعِ الموتَى .
- وأيضًا في قوله: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ شبَّه سُبحانَه مَن لا يَستجيبُ لِرَسولِه بأصحابِ القُبورِ، وهذا مِن أحسَنِ التشبيهِ؛ فإنَّ أبدانَهم قُبورٌ لقُلوبِهم؛ فقدْ ماتتْ قلوبُهم وقُبِرت فى أبدانِهم .
2- قَولُه تعالَى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أفادَ قَصْرًا إضافيًّا بالنِّسْبةِ إلى مُعالَجةِ تَسْميعِهم الحقَّ، أي: أنتَ نَذيرٌ للمُشابِهينَ مَن في القُبورِ، ولستَ بمُدخِلٍ الإيمانَ في قُلوبِهِم، وهذا مَسوقٌ مَساقَ المَعذِرةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَسليتِهِ؛ إذ كان مُهتَمًّا من عَدَمِ إيمانِهم. واقتُصِرَ على وَصفِه بالنَّذيرِ؛ لأنَّ مَساقَ الكَلامِ على المُصمِّمينَ على الكُفرِ .
3- قَولُه تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ
- قولُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا استِئْنافُ ثَناءٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَنويهٌ به وبالإسْلامِ، وهو تَوطِئةٌ لقَولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، وفيه دَفعُ تَوهُّمٍ أنْ يكونَ قَصرُه على النِّذارةِ قَصْرًا حقيقيًّا؛ لِتَبيُّنِ أنَّ قَصرَه على النِّذارةِ بالنِّسْبةِ للمُشرِكينَ الذين شابَهَ حالُهم حالَ أصْحابِ القُبورِ، أي: إنَّ رِسالَتَك تَجمَعُ بِشارةً ونِذارةً؛ فالبِشارةُ لِمَن قَبِلَ الهُدى، والنَّذارةُ لِمَن أعرَضَ عنه، وكُلُّ ذلك حَقٌّ؛ لأنَّ الجَزاءَ على حَسَبِ القَبولِ؛ فهي رِسالةٌ مُلابِسةٌ للحَقِّ، ووَضْعِ الأشياءِ مَواضِعَها .
- قولُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ إبطالٌ لاستِبْعادِ المُشرِكينَ أنْ يُرسِلَ اللهُ إلى النَّاسِ بَشَرًا منهم؛ فإنَّ تلك الشُّبْهةَ كانتْ من أعظَمِ ما صدَّهُم عن التَّصْديقِ به؛ فلذلك أُتبِعَتْ دَلائلُ الرِّسالةِ بإبْطالِ الشُّبْهةِ الحاجِبةِ. وأيضًا في ذلك تَسْفيهٌ لأحْلامِهِم؛ إذ رَضُوا أنْ يكونوا دون غَيرِهم مِن الأُمَمِ التي شَرُفَتْ بالرِّسالةِ .
- ووَجهُ الاقتِصارِ على وَصْفِ النَّذيرِ هنا في قولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، حيثُ اكتفَى بذِكرِ النَّذيرِ عنِ البَشيرِ في آخِرِ الآيةِ بَعدَ ذِكرِهما، دُونَ الجَمعِ بيْنَه وبيْنَ وَصفِ البَشيرِ: أنَّه لَمَّا كانتِ النِّذارةُ مَشفوعةً بالبِشارةِ لا مَحالةَ، وعُلِمَ أنَّ النِّذارةَ قَرينةُ البِشارةِ، دلَّ ذِكرُها على ذِكرِها، لا سيَّما وقدِ اشتملتِ الآيةُ على ذِكرِهما واقترنَا مِن قَبْلُ. أو لأنَّ الإنذارَ هو الأهمُّ المَقْصودُ مِن البَعْثةِ؛ فعَدَمُ ذِكرِ وَصفِ البِشارةِ؛ للاكتِفاءِ بذِكْرِ القَرينةِ اكتِفاءً بدَلالةِ ما قَبلَه عليه، وأُوثِرَ وَصفُ النَّذيرِ بالذِّكرِ؛ لأنَّه أشدُّ مُناسَبةً لمَقامِ خِطابِ المُكذِّبينَ. وقيل: وجْهُ الاقتصارِ على وَصْفِ النَّذيرِ هنا هو مُراعاةُ العُمومِ الذي في قَولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ؛ فإنَّ من الأُمَمِ مَن لم تَحصُلْ لها بِشارةٌ؛ لأنَّها لم يُؤمِنْ منها أحَدٌ .
4- قَولُه تعالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
- جوابُ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ مَحذوفٌ دلَّتْ عليه عِلَّتُه، وهي قَولُه: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] ، والتَّقديرُ: إنْ يُكذِّبوكَ فلا تَحْزَنْ، ولا تَحسَبْهم مُفلَتينَ من العِقابِ على ذلك؛ إذ قدْ كذَّبَ الأقْوامُ الذين جاءَتْهم رُسُلٌ من قَبلِ هؤلاء، وقدْ عاقَبْناهم على تَكْذيبِهِم؛ فالفاءُ في قَولِه: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاءٌ فَصيحةٌ، أو تَفريعٌ على المَحْذوفِ .
- وأيضًا في قولِه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ إذ قدْ كان سِياقُ الحَديثِ في شَأنِ الأُمَمِ؛ فجُعِلَتِ التَّسْليةُ في هذه الآيةِ بحالِ الأُمَمِ مع رُسُلِهم عَكسَ ما في آيةِ (آلِ عمرانَ)، حيثُ قال: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آلِ عمرانَ: 184]؛ لأنَّ سِياقَ آيةِ (آلِ عِمْرانَ) كان في ردِّ مُحاوَلةِ أهْلِ الكِتابِ إفحامَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ قَبلَها: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران: 183] . وقد خُولِفَ أيضًا في هذه الآيةِ: جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ أُسلوبُ آيةِ (آلِ عِمْرانَ): فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران: 184] ؛ إذ قُرِن كُلٌّ من (الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) هنا بالباءِ، وجُرِّدا منها في آيةِ (آلِ عِمْرانَ)؛ وذلك لأنَّ آيةَ (آلِ عِمْرانَ) جَرَتْ في سِياقِ زَعمِ اليَهودِ ألَّا تُقبَلَ مُعجِزةُ رَسولٍ إلَّا مُعجِزةَ قُربانٍ تَأكُلُه النَّارُ، فقيلَ في التَّفرُّدِ ببُهتانِهِم: قد كُذِّبت الرُّسُلُ الذين جاء الواحِدُ منهم بأصْنافِ المُعجِزاتِ، مِثلُ عيسى عليه السَّلامُ، ومِن مُعجِزاتِهِم: قَرابينُ تَأكُلُها النَّارُ فكَذَّبتُموهُم، فتَرْكُ إعادةِ الباءِ هُنالك إشارةٌ إلى أنَّ الرُّسُلَ جاؤوا بالأنْواعِ الثَّلاثةِ. ولَمَّا كان المَقامُ هنا لِتَسْليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ناسَبَ أنْ يُذكَرَ ابتِلاءُ الرُّسُلِ بتَكذيبِ أُمُمِهم على اختِلافِ أحْوالِ الرُّسُلِ، فمنهم الذين أتَوْا بآياتٍ، أي: خَوارِقِ عاداتٍ فقط، مِثلُ صالِحٍ وهُودٍ ولُوطٍ، ومنهم مَن أتَوْا بالزُّبُرِ وهي المَواعِظُ التي يُؤمَرُ بكِتابَتِها وزَبْرِها، أي: تَخْطيطِها؛ لِتكونَ مَحفوظةً، وتُردَّدَ على الألسُنِ، كزَبورِ داودَ وكُتُبِ أصْحابِ الكُتُبِ من أنْبِياءِ بَني إسرائيلَ، ومنهم مَن جاؤوا بالكِتابِ المُنيرِ -يَعْني كِتابَ الشَّرائِعِ، وذلك على قولٍ في تَفسيرِها- مِثلُ إبراهيمَ وموسى وعيسى؛ فذِكرُ الباءِ مُشيرٌ إلى تَوزيعِ أصْنافِ المُعجِزاتِ على أصْنافِ الرُّسُلِ، فزَبورُ إبراهيمَ صُحُفُه المَذكورةُ في قَولِه تَعالى: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 19] ، وزَبورُ موسى كَلامُه في المَواعِظِ الذي ليس فيه تَبليغٌ عن اللهِ، وزَبورُ عيسى أقوالُهُ المَأْثورةُ في الأناجيلِ ممَّا لم يكُنْ مَنسوبًا إلى الوَحيِ؛ فالضَّميرُ في جَاءُوا للرُّسُلِ، وهو على التَّوزيعِ، أي: جاء مَجْموعُهم بهذه الأصْنافِ من الآياتِ، ولا يَلزَمُ أنْ يجيءَ كُلُّ فَردٍ منهم بجميعِها كما يُقالُ: بَنو فُلانٍ قَتَلوا فُلانًا .
- قَولُه: وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (الكتاب) مُفردٌ أُريدَ به الجنسُ، فصار عامًّا؛ فالكتُبُ التي جاؤُوا بها كُتُبٌ كثيرةٌ بحسَبِ الرُّسُلِ .
5- قَولُه تعالَى: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ثُمَّ عاطِفةُ جُمْلةِ: أَخَذْتُ على جُمْلةِ: جَاءَتْهُمْ، أي: ثُمَّ أخَذتُهم، وأظْهَر الَّذِينَ كَفَرُوا في مَوضِعِ ضَميرِ الغَيْبةِ؛ لذَمِّهم بما في حَيِّزِ الصَّلةِ، والإشعارِ والإيماءِ إلى أنَّ أخْذَهم لأجْلِ ما تَضمَّنَتْه صِلةُ المَوْصولِ من أنَّهم كَفُروا .
- والأخْذُ مُعبِّرٌ به هنا عنِ الاستِئْصالِ والإفْناءِ؛ فشبَّهَ إهْلاكَهُم جَزاءً على تَكذيبِهم بإتْلافِ المُغيرينَ على عَدُوِّهم، يَقتُلونَهم ويَغنَمون أمْوالَهم، فتَبْقَى دِيارُهُم بَلْقَعًا، كأنَّهم أُخِذوا منها .
- قولُه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استِفْهامٌ مُستَعمَلٌ في التَّعجُّبِ من حالِهم، وهو مُفرَّعٌ بالفاءِ على أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، والمَعْنى: أخَذتُهُم أخْذًا عَجيبًا؛ كيف تَرَونَ أُعْجوبَتَه ؟!
- وأيضًا قولُه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فيه مَزيدُ تَشْديدٍ وتَهْويلٍ . والنَّكيرُ: اسمٌ لشِدَّةِ الإنْكارِ، وهو هنا كِنايةٌ عن شِدَّةِ العِقابِ؛ لأنَّ الإنكارَ يَستلزِمُ الجَزاءَ على الفِعلِ المُنكَرِ بالعِقابِ، وحُذِفتْ ياءُ المُتكلِّمِ -فأصله: (نَكيري)- تَخْفيفًا؛ ولرِعايةِ الفَواصِلِ في الوَقفِ؛ لأنَّ الفَواصِلَ يُعتبَرُ فيها الوَقْفُ .