غريبُ الكَلِمات:
أُولِي الضَّرَرِ: أي: أصحابِ العَجزِ- بالزَّمَانةِ والمرَضِ- ونحوهم؛ يُقال: ضريرٌ بيِّنُ الضَّرر، وأصل (ضرر): خلافُ النَّفْع .
أُولِي الضَّرَرِ: أي: أصحابِ العَجزِ- بالزَّمَانةِ والمرَضِ- ونحوهم؛ يُقال: ضريرٌ بيِّنُ الضَّرر، وأصل (ضرر): خلافُ النَّفْع .
قوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ:
غَيْرُ: قُرِئت بالرَّفْع، وبالنَّصب، وبالجرِّ؛ فالرَّفْعُ على البَدلِ مِن القَاعِدُونَ؛ لأنَّ الكلامَ نفيٌ، والبَدلُ معه أرْجَحُ. والنَّصبُ على الاستثناءِ من القَاعِدُونَ؛ لأنَّهم المحدَّثُ عنهم، أو يكون النَّصْبُ على الحالِ مِن القَاعِدُونَ أيضًا، وجازُ وقوعُ (غَيْر) حالًا وإنْ كانتْ مضافةً؛ لأنَّها نكرةٌ لا تتعَرَّفُ بالإِضافةِ. والجرُّ على الصِّفة لـلِلْمُؤْمِنِينَ، وجاز ذلك وإنْ كان لا يَجوزُ اختلافُ النَّعتِ والمنعوتِ تَعريفًا وتنكيرًا، على اعتبارِ أنَّ (المؤمنين) أُريد بهم الجِنسُ؛ فأَشْبَهوا النكرةَ فَوُصِفوا كما تُوصَف، أو على أنَّ (غير) قد تَتعرَّفُ إذا وقعتْ بين ضِدَّين
.
يُخبر تعالى أنَّه لا يَستوي مِن المؤمنين مَن قعَدَ عن الجِهادِ فلمْ يخرُجْ، ومَن خرَج للجهادِ في سَبيلِ اللهِ بمالِه ونفْسِه، وأخْبَر سبحانه أنَّه فضَّلَ المجاهدينَ بأموالهم وأنفُسِهم على القاعدينَ درجةً، وكِلَا هَذَينِ الفريقينِ من المجاهدين والقاعدينَ وَعَدَهما اللهُ الجنَّةَ، ولكنْ فضَّلَ المجاهدينَ على القاعِدينَ بأجرٍ عظيمٍ، هذا الأجرُ العظيمُ هو درجاتٌ عاليةٌ يَرفعُهم اللهُ بها في الجِنانِ، ومَغفرةُ ذنوبَهم، ورَحمتُهم، وكان الله غفورًا رحيمًا.
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا عاتبَهم الله تعالى على ما صَدَر منهم مِن قَتْلِ مَن تَكلَّم بكلمةِ الشَّهادة، فلعلَّه يَقعُ في قلبِهم أنَّ الْأَوْلى الاحترازُ عن الجهادِ؛ لئلَّا يقَعَ بسببه في مِثل هذا المحذورِ، فلا جَرَمَ ذَكَرَ اللهُ تعالى في عَقيبه هذه الآيةَ، وبيَّنَ فيها فَضْلَ المجاهدِ على غيرِه؛ إزالةً لهذه الشُّبْهة، وأيضًا كيلَا يكونَ ذلك اللومُ مُوهِمًا انحطاطَ فضيلَتِهم في بعضِ أحوالِهم، على عادَةِ القُرآنِ في تعقيبِ النِّذَارة بالبِشَارة؛ دَفعًا لليأسِ مِن الرحمةِ عنْ أنفُس المسلمينَ
.
وأيضًا لَمَّا عاتَبَهم اللهُ تعالى على ما صدَرَ منهم مِنْ قتْل مَنْ تكلَّم بالشَّهادة؛ ذكَر عقيبَه فَضيلةَ الجِهاد، كأنَّه قيل: مَن أتَى بالجهادِ فقدْ فاز بهذه الدَّرَجةِ العظيمةِ عندَ اللهِ تعالى، فَلْيَحْتَرِزْ صاحبُها من تلك الْهَفْوةِ
فقال تعالى:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
سَببُ النُّزول:
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ الساعديِّ، أنَّه قال: ((رأيتُ مَرْوانَ بنَ الحَكمِ جالسًا في المسجدِ، فأقبلتُ حتَّى جلستُ إلى جَنبِه فأخْبَرَنا أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ رضِي اللهُ عنه أخْبَره أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْلى عليه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: فجاءَه ابنُ أمِّ مَكتومٍ وهو يُمِلُّها عليَّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ- وكان رجلًا أعْمَى- فأَنْزلَ اللهُ تبارَك وتَعالَى على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفَخِذُه على فَخِذي فثَقُلَتْ عليَّ حتَّى خِفْتُ أنْ تَرُضَّ فَخِذي
، ثم سُرِّي عنه
، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ))
.
وفي روايةٍ أخرى، عنِ البَرَاءِ، قال: ((لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ادعُ لي فلانًا، فجاءَه ومعه الدَّوَاةُ واللَّوْحُ، أوِ الكَتِفُ، فقال: اكتب لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ وخلْفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنا ضَريرٌ، فنزَلَتْ مَكانَها لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))
.
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
أي: لا يَستوي مَن لم يَخرُجْ للجهادِ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا- إلَّا مَن تخلَّف عن الجهادِ لعُذْر- مع مَن جاهَدَ من المؤمنين بنَفسِهِ ومالِهِ
.
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
أي: فضَّل اللهُ المجاهدين ببذْلِ أموالِهِم وأنفسِهِم على القاعدينَ بدرجةٍ رفيعةٍ
.
عن أبي هُريرَةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن آمَنَ باللهِ ورسولِه، وأقام الصَّلاةَ، وصامَ رمضانَ، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخلَه الجنَّةَ، هاجر في سبيلِ اللهِ، أو جلس في أرضِه الَّتي وُلِدَ فيها. قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفلا نُنبِّئُ النَّاسَ بذلك؟ قال: إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيلِه، كلُّ درجتيْنِ ما بينهما كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ، فإنَّهُ أوسطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقَه عرشُ الرَّحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ ))
.
وعن كَعبِ بنِ مُرَّةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن بلَغَ العدوَّ بسَهمٍ رَفَعَ اللهُ له درجةً، فقالَ له عبدُ الرَّحمنِ بنُ النَّحَّام:ِ وما الدَّرجةُ يا رسولَ الله؟ِ قال أمَا إنَّها ليستْ بعَتَبةِ أمِّك، ما بين الدَّرجتَيْن مائةُ عامٍ ))
.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
أي: وعَدَ اللهُ كُلًّا مِن المجاهِدين بأموالهم وأنفسِهم, والقاعِدين: الجنَّةَ
.
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: وفضَّل اللهُ المجاهدين بأموالهم وأنفُسِهم على القاعِدينَ جزاءً كبيرًا وثوابًا جزيلًا
.
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً
أي: إنَّ هذا الأجْرَ العظيمَ يَشملُ رَفْعَهُم دَرجاتٍ في الجِنان العالياتِ، وسَتْرًا للذنوب وتجاوزًا عن الزلَّاتِ، وحلولَ الرَّحَماتِ والبركات؛ إحسانًا منه سبحانه وتكريمًا، وفضلًا منه وتشريفًا
.
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف: 10- 12] .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الغفورُ الَّذي يَستُرُ ذُنوبَ عِبادِه، ويَتجاوزُ عن مُؤاخذتِهِم بها، وهو الَّذي يَرحَمُهم فيتفضَّلُ عليهم بنِعَمِهِ سبحانه
.
1- قولُ الله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... فيه التَّرغيبُ في الجِهاد، والحثُّ عليه
.
2- فَضْلُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى بالمالِ والنَّفس؛ ووجهُه: أنَّهم أعْلى درجةً من القاعدين الَّذين لا يُجاهدون فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
.
1- في قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ نفْيُ التَّساوي بين النَّاس، والعَجَبُ أنَّنا نسمع مَن يُدندِنُ كثيرًا فيقول: إنَّ دين الإسلام دين المساواة، وهذا غلط على دين الإسلام، فدين الإسلام ليس دينَ المساواةِ، ولكنَّه دينُ العدلِ، والعدلُ هو: إعطاءُ كلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ ولذلك تجد أكثرَ ما في القرآنِ نفيَ المساواة، وليس إثباتها؛ كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
.
2- قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فيه حِكمةُ الشَّريعةِ؛ حيث لا تُسَاوِي بين المفترقَيْنِ كما أنَّها لا تُفَرِّق بين المتساويِيَن؛ فالشَّريعة الإسلامية من لدُنْ حكيمٍ خبيرٍ، فلا يمكن أنْ تجدَ فيها حُكمَينِ متناقضينِ، ولا يمكن أنْ تجد فيها شيئينِ متساويينِ ثمَّ يختلفانِ في الحكم أبدًا، بل إذا تراءى لك أنَّ هذين الشيئين متساويانِ، وقد اختلفا في الحكم شرعًا، فأَعِدِ النَّظَرَ مرَّةً بعد أخرى حتَّى يتبيَّنَ لك، فإنْ لم يتبينْ لك فاتَّهِمْ فَهْمَك، ولا تَتَّهِمِ الأحكامَ الشَّرعيَّة5
.
3- نفيُ التساوي أيضًا في قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... يُفيدُ التَّذكيرَ بما بينهما مِن التفاوُتِ العَظيم، والبَوْنِ البَعيد؛ ليَأنفَ القاعدُ ويَترفَّعَ بنَفْسِه عن انحطاطِ منزلتِه، فيهتزَّ للجِهاد، ويَرغبَ فيه وفي ارتفاعِ طبقتِه
كذلك فهذا النفي للتساوي يقتضي العموم، فالقاعدون والمجاهدون لا يستوون مِن كلِّ وجهٍ
.
4- أنَّ مَن قعَد عن الجِهاد لضَرَرٍ، فإنَّه كالذي أتى بالجهاد؛ لقوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ استثنى فقال: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ، فأولو الضَّررِ مُساوُون للمجاهدين
.
5- البِشارةُ بالحُسنَى لعامَّة المؤمنينَ من القاعدين والمجاهدين؛ لقوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
.
6- عِظَم منَّةِ الله سبحانه على العِباد؛ حيثُ جَعَل إثابتَهُم على الأعمالِ مثلَ الأُجرة الَّتي استحقَّها الإنسان فَرْضًا على الْمُسْتَأجِر؛ لقوله: أَجْرًا عَظِيمًا، فسمَّاه أَجْرًا، كأُجرة الأجير، مع أنَّ الفضلَ للهِ تعالى أولًا وآخِرًا؛ فهو الَّذي وفقَّك للعمل، وهو الَّذي منَّ عليك بالجزاء عليه
.
7- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هذا بيانٌ لمفهوم عدمِ استواء المجاهِدين والقاعِدين غيرِ أُولي الضَّرر، وهو أنَّ الله تعالى رَفَعَ المجاهدين عليهم درجةً، وهي درجةُ العمل الَّذي يترتَّبُ عليه دفعُ شرِّ الأعداءِ عن الْمِلَّة والأمَّة والبلاد، وكُلًّا وَعَدَ الله الحُسنى
.
8- ذكَر تعالى في الآيةِ فَضْلَ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ على القاعِدين لغيرِ عَجزٍ؛ فعُلِمَ أنَّ العاجِزَ معذورٌ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
.
9- قولُ الله تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فيه دليلٌ على أنَّ فرْضَ الجِهاد على الكِفايةِ، وليس على كلِّ واحدٍ بعينه؛ لأنَّه تعالى وَعَدَ القاعدين الْحُسنى كما وعَد المجاهدينَ، ولو كان الجِهادُ واجبًا على التَّعيينِ لَمَا كان القاعدُ أهلًا لوعْدِ الله تعالى إيَّاه الحُسْنى
.
10- عِظَم دَرجاتِ المجاهدين في سَبيلِ الله، وجْهُ ذلك قولُه: دَرَجَاتٍ مِنْهُ، فأضافَها إلى نَفسِهِ، ومعلومٌ أنَّ العطاءَ يعظُم بعِظَم المُعطِي
.
11- إثباتُ الرَّحمةِ للهِ، والرَّحمةُ الَّتي أضافَها اللهُ تعالى إلى نفْسه نوعانِ: منها صِفةٌ لله، ومنها مخلوقٌ مِن مخلوقاتِ الله سَمَّاه اللهُ تعالى (رحمةً)
.
12- لَمَّا وعَد المجاهدِينَ بالمغفرةِ والرَّحمةِ الصَّادرَتَيْنِ عن اسْمَيهِ الكريمينِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ختَم هذه الآيةَ بهما، فقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
.
1- قوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ: فيه تعريضٌ بالقاعِدين، وتَشْنيعٌ بحالِهم؛ حيثُ بيَّن أنَّ القاعدَ عن الجِهاد لا يُساوي المجاهِدَ في فَضيلةِ نُصْرة الدِّين، وبهذا يَظهرُ موقعُ الاستثناءِ بقوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ؛ كيلَا يَحسبَ أصحابُ الضررِ أنَّهم مقصودونَ بالتَّحريض؛ فيَخرجوا مع المسلمين، فيُكلِّفوهم مَؤونةَ نقْلِهم وحِفظهم بلا جَدْوى، أو يَظنُّوا أنَّهم مقصودونَ بالتعريضِ فتَنكسِرَ لذلك نفوسُهم، زيادةً على انكسارِها بعَجزِهم، ولأنَّ في استثنائِهم إنصافًا لهم وعُذرًا بأنَّهم لو كانوا قادِرين لَمَا قَعَدوا؛ فذلِك الظنُّ بالمؤمِن؛ فالاستثناءُ مقصودٌ، وله موقعٌ من البلاغةِ لا يُضاعُ، ولو لم يُذكَر الاستثناءُ هنا، لكان تجاوزُ التَّعريضِ أصحابَ الضررِ معلومًا في سياقِ الكلامِ؛ فالاستثناءُ عُدولٌ عن الاعتمادِ على القَرينةِ إلى التَّصريحِ باللَّفْظِ، وهو عدولٌ عن حِراسةِ المقامِ إلى صَراحةِ الكلامِ، وهو مِن البلاغةِ ومِن مراعاةِ مقتضى الحال أيضًا؛ لأنَّ السامعينَ أصنافٌ كثيرةٌ منهم الذَّكيُّ الذي يَفْهَم بالقَرينةِ، ومنهم غيرُه الذي لا يَفْهَم إلَّا بالتَّصريحِ
.
- وفيه: تقديمُ المفضولِ الْقَاعِدُونَ في الذِّكرِ على الفاضِلِ الْمُجَاهِدُونَ؛ للإيذانِ مِن أوَّل الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي يُنْبئ عنه عدمُ الاستواءِ مِن جِهة القاعِدين وليس مِن جِهةِ المجاهِدِينَ؛ فإنَّ مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشَّيئين المتفاوتينِ زيادةً ونقصانًا، وإنْ جاز اعتبارُه بحسَب زيادةِ الزائد، لكن المتبادِر اعتبارُه بحسَب قُصورِ القاصِر، كقولِه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد: 16]
، وبيانُ ذلك أنَّ الفرقَ بين المتفاوتين في الزِّيادة والنَّقصِ، يُمكن اعتبارُ التفاوتِ بالنِّسبةِ إلى النقصِ في الناقِص، ويمكن اعتبارُه بالنسبةِ إلى الزيادةِ في الزَّائد؛ فقُدِّم الجانبُ الناقِص ليُبيِّنَ أنَّ التفاوتَ الذي حصَل بينهما، إنَّما هو بسببِ النَّقصِ الذي جاءَ منهم لا بسببِ الزيادةِ في الفريقِ الثاني، وفيه زيادةُ تأنيبٍ لجانبِ النقص
. وقدْ حَسُنَ هذا الانتقالُ مِن حالةٍ إلى أعْلى منها؛ لأنَّ هذا الانتقالَ مِن حالةٍ إلى أعلى منها عندَ التفضيل والمدْحِ أو النُّزولِ مِن حالة إلى ما دونها عندَ القدح والذم- أحسنُ لفظًا وأوقعُ في النَّفْس
.
2- قوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً: فيه التفصيلُ بعد الإجمال؛ فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتفضيلِ ما بين الفَريقينِ مِن التفاضُلِ المفهومِ مِن ذِكر عدمِ استوائِهما إجمالًا، ببيانِ كيفيَّتِه وكمِّيَّته، وهو مبنيٌّ على سؤالٍ ينساقُ إليه المقال، كأنَّه قيل: كيف وقَع ذلك؟ فقيل: فضَّلَ الله... إلخ
؛ فجملة: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بيانٌ لجُملة: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
؛ فلمَّا بيَّن أنَّ المجاهِدين والقاعِدين لا يَستويانِ، وكان عَدمُ الاستواءِ يَحتمِلُ الزِّيادةَ ويَحتملُ النُّقصانَ، وكان نَفيُ المساواةِ سببًا لترقُّبِ كلٍّ مِن الحِزبَينِ الأفضليةَ؛ لأنَّ القاعدَ وإنْ فاتَه الجهادُ، فقدْ تخلَّفَ الغازي في أَهلِه؛ إذ يُحيي الدِّينَ بالاشتغالِ بالعِلمِ ونحوِه- لا جرَمَ كشَفَ اللهُ سُبحانَه عن التَّفضيلِ فقال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
.
- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ جاءَ هنا تقديمُ الأموالِ على الأنفُس، بَيْنما في قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة: 111] جاءَ تَقديمُ الأنفسِ على الأموالِ؛ وذلِك لأنَّ النَّفْسَ أشرفُ مِن المالِ، وقد تَبايَن الغَرضانِ في الآيتينِ؛ ولَمَّا كان الكلامُ هنا في سورةِ النِّساءِ عن المجاهِدِ وهو بائعٌ، أَخَّر ذِكرَ الأَنفُس؛ تنبيهًا على أنَّ المضايقةَ فيها أشدُّ؛ فلا يَرضَى بَبذلِها إلَّا في آخِرِ المراتِبِ، وأمَّا في سورةِ التوبةِ فالكلامُ عن الذي يَشتري- وهو اللهُ سبحانه وتعالى- فقَدَّم ذِكْرَ النَّفسِ؛ تَنبيهًا على أنَّ الرَّغبةَ فيها أشدُّ، وإنَّما يرغَب أولًا في الأنفسِ الغالِي
.
3- قوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى: جُملة معترِضة؛ جيءَ بها لبيانِ سَعة فضلِ الله عزَّ وجلَّ، ولكي يَطمئنَّ الأقلُّ درجةً أنَّ له نصيبًا من الأجرِ
، وفيها حُسْنُ احتراسٍ أو احتراز؛ فإنَّه سبحانه إذا فضَّلَ شيئًا على شَيءٍ وكلٌّ منهما له فضلٌ، احترز بذِكرِ الفَضلِ الجامعِ للأمرينِ؛ لئلَّا يتوهَّم أحدٌ ذمَّ المُفضَّلِ عليه، أو القَدْح فيه
.
- وقوله: وَكُلًّا مفعولٌ أوَّلُ لـوَعَدَ؛ قُدِّم لإفادةِ القَصرِ؛ تأكيدًا للوعدِ، أي: كلَّ واحدٍ من المجاهِدين والقاعِدين
.
4- قوله: أَجْرًا عَظِيمًا: فيه التعبيرُ بالمصدر المؤكِّد لـفَضَّلَ على أنَّه بمعنى (أَجَرَ)، وإيثارٌ على ما هو مصدرٌ من فِعله؛ للإشعارِ بكون ذلك التفضيلِ أجرًا لأعمالهم
.
5- قوله: دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً: جَمَعَ دَرَجَاتٍ؛ لإفادة تعظيم الدَّرجة؛ لأنَّ الجَمْع- لِمَا فيه من معنى الكثرة- تُجعل صِيغتُه لمعنى القُوَّة
.
- وفي قولِه في الآيةِ السَّابقةِ: دَرَجَةً بالإفرادِ، ثم قولِه في هذه الآيةِ: دَرَجَاتٍ بالجمْع، مناسبةٌ حَسنةٌ؛ وذلك مِنْ وجوهٍ
:
الأوَّلُ: أنَّ قوله: دَرَجَةً جِيءَ به بصِيغةِ الإفراد، وليسَ إفرادُها للوَحْدة؛ لأنَّ دَرَجَةً هنا جِنسٌ معنويٌّ لا أفرادَ له، فالمرادُ بالدرجة ليس هو الدَّرجةَ الواحدةَ بالعَدَدِ، بل بالجنس، والواحد بالجِنْسِ يدخل تحته الكثيرُ بالنوع، وذلك هو الأجرُ العظيم، والدَّرجاتُ الرفيعةُ في الجنَّة المغفرةُ والرَّحمة؛ ولذلك أُعيد التعبيرُ عنها في الجُملة، التي جاءتْ بعدَها؛ تأكيدًا لها بصِيغة الجَمْع بقولِه: دَرَجَاتٍ مِنْهُ؛ لأنَّ الجَمْع أقوى مِن المفرد، وتنوين دَرَجَةً للتعظيم، وهو يُساوي مفاد الجمع في قوله الآتي: دَرَجَاتٍ مِنْهُ.
الوجهُ الثاني: أنَّ المرادَ بالتفضيلِ بالدرجةِ تَفضيلُهم على القاعِدينَ بعُذر؛ لأنَّ لهم أجرًا لكونهم من الغُزاة بالهمَّة والقَصْد؛ ولهذا قال وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى، أي الجنَّة. والمرادَ بالتفضيلِ بالدَّرجات تفضيلُهم على القاعِدينَ بلا عذرٍ؛ لأنهم مُقصِّرون ومُسيئونَ؛ فكان فضلُ الغزاةِ عليهم دَرجاتٍ؛ لانتفاءِ الفضلِ لهم.
الوجه الثالث: أنَّ هذا من قبيل أُسلوبِ الإبهامِ ثمَّ التَّفسيرِ، والغَرَضُ منه مزيدُ التَّحقيقِ والتقريرِ، فكأنَّه قيل: فضَّلَ اللهُ المجاهدينَ على القاعِدينَ دَرَجةً لا يُقادَر قَدرُها، ولا يُبلَغُ كُنهُها، ولَمَّا كانتْ معرفةُ هذا الفَرْقِ الواسعِ بين الفريقين تُوهِمُ حِرمانَ القاعدينَ، قيل: وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى ثم أُريدَ تفسيرُ ما أفادَه التنكيرُ بطريقِ الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوَحْدة فجيءَ بالجمع في قَوْلِه تعالى: دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً.
الوجه الرابع: أنَّ التفضيلَ بالدَّرجةِ هو ما فضَّلَ الله المجاهدين في الدُّنيا بدَرجةٍ واحدةٍ، وهي الغنيمةُ، وأما الجَمْعُ فتفضيلُهم في الآخِرَةِ بدرجاتٍ كثيرةٍ في الجنَّة بالفضلِ والرَّحمة والمغفرة.
الوجه الخامس: أنَّ المقصودَ بالمجاهِدِ الأَوَّلِ غيرُ المقصود به في الموضِعِ الثاني؛ لئلَّا يحصُلَ التَّكرارُ، فالمفضَّلون درجةً هم المجاهِدون بأموالِهم وأنفُسِهم كما نصَّت الآية، وأمَّا المرادُ بالثاني وهو المفضَّلُ بالدرجات مَن كان مجاهدًا على الإطلاقِ في كُلِّ الأمور، وهو الجهادُ بالنَّفْس والمال والقلب، وهو أشرفُ أنواعِ المجاهدةِ، وحاصِلُ هذا الجهادِ صَرْفُ القلب من الالتفاتِ إلى غير الله إلى الاستغراقِ في طاعة الله، ولَمَّا كان هذا المقامُ أعلى مما قبله؛ لا جَرَمَ جَعَل فضيلةَ الأول درجةً، وفضيلة هذا الثاني درجاتٍ.
- وقد جاءتِ اللَّفظتان: مَغْفِرَةً، ورَحْمَةً على المَصدرِ بإضمارِ فِعلَيْهما (غَفَر- رَحِم)؛ تَرغيبًا في الجِهاد
.
6- قوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا: تذييلٌ مقرِّرٌ لِمَا وعَد مِن المغفرةِ والرحمةِ
.
- وجاء لفظ غَفُورًا على هيئة صِيغة المبالغة (فعول)؛ مبالغةً في وصْفِه تعالى بالمغفرة؛ لإفادةِ أنَّه يَغفِر له ما فرَط منه من الذُّنوب التي مِن جملتِها القعودُ عن الهجرةِ إلى وقتِ الخروج، وكذَا جاءَ لفْظُ رَحِيمًا على هَيئةِ صِيغةِ المبالغةِ (فعيل) أيضًا؛ ليدلَّ على المبالغةِ في وصْفِه تعالى بالرَّحمة؛ فيَرحمه بإكمالِ ثَوابِ هِجرتِه
.