موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (97-100)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

حِيلَةً: الحِيلةُ ما يُتوصَّلُ به إلى حالةٍ ما في خُفيةٍ، وأكثرُ استعمالِها فيما في تَعاطِيه خُبثٌ، وقد تُستعملُ فيما فيه حِكمةٌ، وأصل الحَوْل: تغيُّرُ الشَّيءِ وانفصالُه عن غيرِه، وقيل: أصلُ (حول) تحرُّك في دَورٍ؛ لأنَّه يدورُ حوالي الشَّيءِ ليُدركَه .
مُرَاغَمًا: أي: مُتَزَحْزَحًا عمَّا يَكرَهُه، أو مُتَحوَّلًا، والمُراغَم والمُهاجَر واحدٌ، وأصل (رغم): المَذهبُ والمهرَبُ .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر اللهُ تعالى أنَّ الَّذين تَقبِض الملائكةُ أرواحَهم وهم ظالِمو أنفسِهم بمعصيةِ الله؛ حيثُ أقاموا في دار الكُفر، ولم يُهاجِروا فرارًا بدِينهم، مع أنَّهم لا يَستطيعون إقامتَه في تلك الدَّار، وهم قادِرونَ على الهِجرة، تقولُ لهم الملائكةُ حين قَبْض أرواحِهم موبخةً لهم: لِمَ بقِيتُم في هذا المكانِ وتركتُم الهِجرةَ؟ فأجابوا أنَّهم كانوا ضُعفاءَ، مقهورِين، ليس لهم القُدرةُ على الهجرةِ، فتقول لهم الملائكةُ حِينَها: قد كانتْ أرضُ اللهِ واسعةً فسيحةً، وقد كان بوُسعِكم الانتقالُ إلى أيِّ مكانٍ منها تستطيعونَ فيه عِبادةَ الله. ثمَّ يُبيِّن اللهُ تعالى أنَّ هؤلاء الَّذين ظلَموا أنفسَهم مَصيرُهم نارُ جهنَّمَ، وقَبُحتْ جهنَّمُ مآبًا ومرجعًا لهم.
واستَثْنَى اللهُ تعالى الَّذين استُضعِفوا حقًّا وقُهِروا، رِجالًا ونساءً ووِلدانًا، فلمْ يَقدِروا على الهِجرة؛ لعجزِهم عن تدبيرِ حِيلةٍ تخلِّصُهم من المشركين، ولا يَعرِفون الطَّريقَ الَّتي يَنبغي المرورُ فيها للخروجِ من دار الكُفرِ إلى دارِ الإسلام، فأولئك وعَدَهم اللهُ بأنْ يعفوَ عنهم، ويتجاوزَ عن مؤاخذتِهم بترْكِ الهجرة، وكان اللهُ عفوًّا غفورًا.
ثمَّ حثَّ اللهُ على الهِجرة ورغَّبَ بها؛ حيثُ أخبَرَ أنَّ مَن يهاجرُ في سبيلِ الله فإنَّه يجدُ في الأرض مكانًا يَتزحْزَحُ فيه عمَّا يكرَهُ، وموضعًا فيه سَعةٌ في الدِّين يمكِنُه إظهارُه فيه، وفيه سَعةٌ في الصَّدرِ، والرِّزق، وكلِّ شيء، وأخبَر تعالى أنَّ مَن يَخرج من بَيتِه مُهاجرًا قاصدًا رضَا الله، واتباعًا وحبًّا لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ يموتُ قَبلَ أنْ يَبلُغَ دارَ الإسلام الَّتي هاجَر إليها، فقد ثبَت أَجرُهُ على اللهِ، وكان اللهُ غفورًا رحيمًا.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى ثوابَ مَن أقدَمَ على الجِهاد، أتْبَعَه بعِقابِ مَن قعَدَ عن الجِهادِ وسكَن في بلادِ الكُفرِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى القاعدِينَ عن الجِهادِ من المؤمنين بعُذْرٍ وبدونه، كان حالُ القاعِدِين عن إظهارِ إسلامِهم مِن الَّذين عَزَموا عليه بمكَّةَ، أو اتَّبَعوه ثمَّ صَدَّهم أهلُ مكَّةَ عنه، وفتَنوهم حتَّى أرجَعوهم إلى عِبادةِ الأصنام بعُذرٍ وبدونه، بحيثُ يخطُرُ ببالِ السَّامع أنْ يَتساءلَ عن مَصيرِهم إنْ هم استمرُّوا على ذلك حتَّى ماتوا، فجاءتْ هذه الآيةُ مجيبةً عمَّا يَجيش بنفوسِ السَّامعين من التَّساؤلِ عن مَصيرِ أولئك .
سببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: ((أنَّ أناسًا من المسلِمين كانوا مع المُشرِكين يُكثِّرون سوادَ المُشرِكين على رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيأتي السَّهمُ يُرمى به، فيُصيبُ أحدَهم فيقتُلُه، أو يُضرَبُ فيُقتَلُ، فأنزَل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
أي: إنَّ الَّذين تَقبِضُ الملائكةُ أرواحَهم والحالُ أنَّهم اكتَسبوا غضَبَ اللهِ تعالى؛ بسببِ مَعصيتِه بإقامتِهم بينَ ظَهْرَانَيِ المشرِكين مع عدمِ تمكُّنِهم من إقامةِ الدِّين، وهم قادِرونَ على الهِجرةِ فلم يُهاجِروا حتَّى ماتوا .
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
أي: قالتِ الملائكةُ توبيخًا لهم: لماذا بقِيتُم في هذا المكانِ وترَكتُم الهِجرةَ ؟
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
أي: قال الَّذين توفَّاهم الملائكةُ ظالِمي أنفسِهم مُعتذِرين عن تَركِ الهجرةِ: كنَّا ضُعَفاءَ مَقهورينَ، ليس لنا قُدرةٌ على الخُروجِ مِن بين ظَهْرانَيِ المُشركين .
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
أي: قالتْ لهم الملائكةُ: إنَّ أرضَ اللهِ تعالى واسعةٌ، فإذا كان العبدُ في مَكانٍ لا يتمكَّنُ فيه من إظهارِ دِينِه، فإنَّ له متَّسعًا وفُسحةً من الأرضِ، بحيث ينتقلُ إلى الأرض الَّتي يتمكَّنُ فيها من عبادةِ اللهِ تعالى .
كما قال عزَّ وجلَّ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] .
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
أي: فهؤلاء الَّذين تقدَّم ذِكرُهم ووصْفُ حالِهم، مصيرُهم في الآخرةِ جهنَّمُ، وهي مسكَنُهم .
وَسَاءَتْ مَصِيرًا
أي: وساءتْ جهنَّمُ لأهلِها الَّذين صاروا إليها مرجعًا ومرَدًّا .
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
أي: أمَّا الَّذين استضعَفَهم المشركون من الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلدانِ وقهَروهم، فلم يقدِروا على الهجرةِ من بينِ أظهُرِهم؛ بسبب قلَّةِ الحِيلةِ للتَّخلُّصِ من أيدي المشركين، وعدمِ المعرفةِ بالطَّريق الَّتي ينبغي سلوكُها للخروجِ من أرضِ الشِّرك إلى أرضِ الإسلام .
عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا قال: سمِع اللهُ لِمَن حمِدَهُ في الرَّكعةِ الآخِرَةِ من صلاةِ العِشاءِ قنَت: اللَّهمَّ أَنجِ عَيَّاشَ بنَ أبي رَبيعَةَ، اللَّهمَّ أَنجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، اللَّهمَّ أَنجِ سلَمَةَ بنَ هِشامٍ، اللَّهمَّ أَنجِ المستضعَفِينَ من المؤمِنينِ، اللَّهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، اللَّهمَّ اجعَلْها عليهم سِنينَ كسِنِي يوسُفَ )) .
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ
أي: فهؤلاء مَوْعُودون بأن يصفَحَ اللهُ تعالى عنهم، ويتجاوَزَ عن مؤاخذتِهم بترك الهجرةِ؛ وذلك بمقتضى كرَمِه وإحسانِه سبحانه .
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ قال: كانت أُمِّي ممَّن عذَر اللهُ .
وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا
أي: يصفَحُ عن عبادِه، ويستُرُ عليهم ذنوبَهم، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رهَّب اللهُ تعالى مِن تركِ الهجرة، رغَّب فيها بما يُسلِّي عمَّا قد يُوسوِسُ به الشَّيطانُ مِن أنَّه لو فارَق رفاهيةَ الوطنِ، وقَع في شدَّةِ الغُربة، وأنَّه ربَّما تجشَّمَ المشقَّةَ فاختُرِمَ قبل بلوغ القصدِ، فذكر ما يترتَّب عليها من وجودِ السَّعةِ والمذاهبِ الكثيرة؛ ليذهَبَ عنه ما يتوهَّمُ فقال تعالى:
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: ومن يُفارِقْ أرضَ الشِّركِ هربًا بدِينِه إلى أرض الإسلامِ لإقامة دِينِ الله تعالى ابتغاءَ مرضاتِه سبحانه .
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
أي: فإنَّه يجدُ في الأرض مكانًا ومتزحزَحًا كثيرًا يمتنعُ فيه ، ويتحصَّنُ ممَّا يكرَهُ، ويغلِبُ فيه أهلَ الشِّرك؛ بابتعادِه عنهم، ويتمكَّنُ فيه من إغاظتِهم وجهادِهم .
وَسَعَةً
أي: سَعةً في الدِّين بإظهارِ دِينه وعبادةِ ربِّه سبحانه، وسَعةً في الصَّدرِ، وفي الرِّزقِ، وفي كلِّ شيءٍ .
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وعَد تعالى مَن يُهاجِرُ فيَصِلُ إلى دار الهجرةِ بالظَّفَرِ بما ينبغي من وُجدانِ المراغمِ والسَّعةِ، وعَد مَن يموتُ في الطَّريق قبل بلوغها بأجرٍ عظيمٍ يضمَنُه- عزَّ وجلَّ- له .
أسباب النُّزول:
خرَج ضَمْرَةُ بنُ جُنْدُبٍ مِن بيتِهِ مهاجِرًا فقال لأهلِهِ: احْمِلوني فأخرِجوني مِن أرضِ المشرِكينَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمات في الطَّريقِ قبل أنْ يصلَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنزَل الوحيُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا الآيةَ .
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي: ومَن خرَج من منزلِه وموطنِه فرارًا بدِينه ليُقيمَه، ابتغاءَ مرضاةِ الله تعالى، واتِّباعًا لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونصرًا له .
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
أي: فمات في أثناء الطَّريق بقتلٍ أو غيرِه قبل بلوغه أرضَ الإسلامِ ودارَ الهجرةِ .
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
أي: فقد ثبَت له عند اللهِ تعالى ثوابُ مَن هاجَر وبلَغ دارَ هجرتِه .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى غفورٌ يستُرُ ذنوبَ عبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها، رحيمٌ بهم، ومِن رحمته أنْ أعطاهم أجرَهم كاملًا ولو لم يُكمِلوا العملَ، وغفَر لهم ما حصَلَ منهم مِن التَّقصيرِ في الهجرةِ وغيرِها .

الفوائد التربوية:

1- أنَّ العبرةَ في الأعمالِ بالخواتيم؛ لقوله: ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، يعني: أنَّهم في وقتِ الوفاة ظالِمون لأنفُسِهم؛ فالعبرةُ بالخواتيم؛ ولهذا يجبُ على الإنسانِ أن يكونَ خائفًا من سوءِ الخاتمةِ، وأن يسأَلَ اللهَ سبحانه دائمًا حُسنَ الخاتمةِ، وألَّا يموتَ إلَّا وهو مسلِمٌ .
2- أنَّ مَن ترَك شيئًا للهِ عوَّضه اللهُ خيرًا منه، وتُؤخَذُ مِن قوله: يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً؛ فقد خرَج مِن الضِّيق فوجَد السَّعة .
3- أنَّ مَن أُذِلَّ بطاعةِ الله صار العِزُّ له في النِّهايةِ، وتُؤخَذُ مِن قوله: مُرَاغَمًا كَثِيرًا؛ فهذا الَّذي أُذِلَّ هو الآن يُذِلُّ أنوفَ الَّذين أذَلُّوه بالأمسِ .
4- الحثُّ على الهجرةِ والتَّرغيبُ فيها، وبيان ما فيها من المصالح، فوعَد الصَّادقُ في وعدِه أنَّ مَن هاجَر في سبيلِه ابتغاءَ مرضاتِه، أنَّه يجِدُ مُراغَمًا في الأرضِ وسَعةً؛ فالمُراغَمُ مشتمِلٌ على مصالحِ الدِّين، والسَّعةُ على مصالحِ الدُّنيا: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً .
5- كلُّ مَن نوى خيرًا ولم يُدرِكْه، فالله تعالى موفِّيه إيَّاه؛ نستفيدُ ذلك مِن قول الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فمن قصَد طاعةَ الله ثمَّ عجَز عن إتمامِها، كتَب اللهُ له ثوابَ تمامِ تلك الطَّاعة .

الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ للملائكةِ ذواتًا حقيقيَّةً تقبِضُ الأرواحَ، وتُخاطِب وتتكلَّم، وكلامُها مفهومٌ، خلافًا لِمن يقول: إنَّ الملائكةَ هي القُوَى الخيِّرةُ، وإنَّ الشَّياطينَ هي القُوَى الشِّرِّيرةُ، فإنَّ هذا قولٌ باطلٌ يكذِّبُه القرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ .
2- مِن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ... الآيةَ، نستفيدُ وجوبَ الهجرةِ من المَوْضِع الَّذي لا يتمكَّنُ المسلمُ فيه من إقامةِ دِينِه، وأنَّ مَن لم يهاجِرْ فإنَّه يموت وقد ظلَم نفسَه، ولكنَّ وجوبَ الهجرةِ مشروطٌ بشروطٍ؛ منها: أولًا: القُدرة؛ لقوله في الآية الكريمة الَّتي بعد هذه الآيةِ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء: 98] ؛ ولأنَّ القاعدةَ العامَّةَ العظيمةَ العميقةَ في الشَّريعة الإسلاميَّة: أنَّه لا واجبَ مع العجزِ؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: 16، فيُشترط لوجوب الهجرةِ القدرةُ .
3- أن الظَّالم يحتجُّ بأيِّ حُجَّةٍ كانت؛ لقول هؤلاء: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، والواقع أنَّهم غيرُ مستضعَفين؛ لأنَّ الملائكة قالت لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا .
4- أنَّ الشَّريعة إن منَعَتْ بابًا ضيِّقًا فتَحت بابًا أوسعَ، ويؤخَذُ هذا من قوله: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؛ فاللهُ تعالى لم يحجُرْ عليهم الأرضَ، بل جعَلها واسعةً، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا الشرح: 5- 6 .
5- أنَّ التَّخلُّفَ عن الهجرة الواجبة من كبائرِ الذُّنوبِ؛ لقوله تعالى: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، ووجهُ الدَّلالة: أنَّه ترتَّب عليها عقوبةٌ خاصَّةٌ .
6- نستفيدُ مِن قول الله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أنَّ مِن الرِّجالِ البالغين مَن لا تجبُ عليهم الهجرةُ؛ وذلك لكونهم مستضعَفين .
7- قول الله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أدخَل الوِلدانَ في جملة المُستثنَيْنَ مِن أهل الوعيد، مع أنَّ الاستثناءَ إنَّما يحسُنُ لو كانوا مستحقِّين للوعيد؛ وذلك لأنَّ سقوطَ الوعيدِ بسبب العجز، والعجزُ تارةً يحصُل بسببِ عدم الأُهْبةِ، وتارةً بسبب الصِّبا، فلا جرمَ حسُنَ هذا ، وقيل أيضًا: لَمَّا توعَّد اللهُ تعالى على ترك الهجرة، أتبَعَ ذلك بما زاد القاعدَ عنها تخويفًا بذِكْرِ مَن لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناءِ، تنبيهًا على أنَّهم جديرون بالتَّسويةِ في الحُكمِ لولا فضلُ الله عليهم .
8- أنَّ الدِّين الإسلاميَّ دِينُ اليُسر والسُّهولة، وأنَّه مع وجود المشقَّة ينتفي الحرَجُ؛ قال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ .
9- أنَّ الواجبَ الوصولُ إلى القيامِ بالواجب بأيِّ حِيلةٍ تكونُ؛ لقوله: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً .
10- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ..... وَسَاءَتْ مَصِيرًا الإيمانُ بالملائكة ومدحُهم؛ لأنَّ اللهَ ساق ذلك الخطابَ لهم على وجهِ التَّقريرِ والاستحسانِ منهم، وموافقتِه لمحلِّه .
11- أنَّه تجبُ الهجرةُ على مَن يقدر عليها من أيِّ سبيلٍ؛ لقوله: وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وسبيلًا: نكرةٌ في سياقِ النَّفي فتعمُّ .
12- في قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أنَّه يُرجَى لهؤلاء أن يعفوَ اللهُ عنهم؛ لقوله: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ؛ فالرَّجاءُ هنا باعتبارِ ما يكونُ في قلبِ المخاطَبِ، أمَّا باعتبارِه منسوبًا إلى اللهِ فقال بعضُ السَّلفِ: عَسَى مِن الله واجبةٌ، يعني: أنَّ اللهَ وعَدهم أن يعفوَ عنهم ، وقيل: إنَّ ذِكرَ لفظة (عسى) ها هنا مع أنَّ الله تعالى هو فاعلُ العفوِ، وهو عالمٌ بأنَّه يعفو عنهم، وذلك لفائدةِ الدَّلالة على أنَّ تركَ الهجرة أمرٌ مضيَّقٌ لا توسِعةَ فيه، فمثَّل حالَ العفوِ عنهم بحالِ مَن لا يقطَعُ بحصولِ العفوِ عنه، والمقصودُ من ذلك تضييقُ تحقُّقِ عُذرِهم؛ لئلَّا يتساهلوا في شروطِه اعتمادًا على عفوِ الله .
13- في قوله: عَفُوًّا غَفُورًا إثباتُ اسمينِ مِن أسماء اللهِ، هما: العفوُّ، والغفورُ، وإثباتُ الصِّفتينِ الدَّالِ عليهما هذانِ الاسمانِ، والعفوُّ هو: المتجاوزُ عن السَّيِّئات، والغفورُ: هو الماحي لها، لكن إذا اجتمع العفوُّ والغفورُ، صار المرادُ بالعفوِّ ما يقابل تركَ الواجب، والغفورِ ما يقابِلُ فِعلَ المحرَّمِ، أي: عفوٌّ عن التَّفريط في الواجبِ، غفورٌ عن فِعل المحرَّمِ .
14- قوله: مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فيه عطفُ الرَّسولِ على اسم الجلَالةِ؛ للإشارةِ إلى خصوصِ الهجرة إلى المدينةِ؛ للالتحاقِ بالرَّسولِ وتعزيزِ جانِبِه؛ لأنَّ الَّذي يُهاجِرُ إلى غير المدينة قد سلِم من إرهاقِ الكُفْر، ولم يحصُلْ على نُصرةِ الرَّسولِ؛ ولذلك بادَرَ أهلُ هجرةِ الحبَشةِ إلى اللَّحاقِ بالرَّسولِ حين بلَغَهم مُهاجَرُه إلى المدينةِ .
15- أنَّ مَن سعى في الهجرةِ وأدرَكه الموتُ، فإنَّ أجره ثابتٌ كاملٌ، وتؤخذ من قوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ويقاسُ على ذلك بقيَّةُ الأعمال؛ فمن خرَج إلى المسجد يُريدُ الصَّلاةَ فمات في أثناء الطَّريقِ، يُكتَب له أجرُ الصَّلاة .
16- قال تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ولم يقُلْ: وقَع أجرُه على الله ورسولِه، مع أنَّ الهجرةَ كانت إلى اللهِ ورسولِه؛ لأنَّ الهجرةَ إلى الرَّسولِ وسيلةٌ، والغايةُ هي: الهجرةُ إلى الله عزَّ وجل؛ فلهذا كان الَّذي يُثِيب على الهجرةِ ليس الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بل هو اللهُ عزَّ وجلَّ .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ: جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيَانيًّا لسائل متردِّدٍ؛ ولذلك فُصِلت- أي: لم تُعطَف بالواو-، وصُدِّرتْ بحرفِ التَّأكيد (إِنَّ)؛ فإنَّ حالَهم يوجِبُ شكًّا في أن يكونوا مُلحَقِينَ بالكفَّار .
- وقوله: الْمَلَائِكَةُ فيه إطلاقُ الجمعِ على الواحد، وهو مَلَكُ الموتِ- على قولِ مَن قال إنَّه مَلَكُ الموتِ وحْدَه ، وهو مفيدٌ للتَّهويل والتَّعظيمِ.
2- قوله: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ: استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ مِن حِكايةِ سُؤالِ الملائكةِ؛ كأنَّه قيل: فماذا قالوا في الجوابِ؟ فقيل: قالوا-مُتجانِفينَ عن الإقرارِ الصَّريحِ بما هُم فيه مِن التَّقصيرِ، مُتعلِّلين بما يوجِبُه على زَعْمِهم-: إنَّهم كانوا مُستضعَفين في الأرضِ .
- قوله: فِيمَ كُنْتُمْ: استفهامٌ يرادُ منه التَّوبيخُ والتَّقريعُ، والتَّقرير .
- وقوله: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ وقَعَ جوابًا عن قولهم: فِيمَ كُنْتُمْ؛ لأنَّ معنى قوله: فِيمَ كُنْتُمْ للتَّوبيخِ بأنَّهم لم يكونوا في شيءٍ مِن الدِّين؛ حيث قدَروا على المهاجَرةِ ولم يهاجِروا، فقالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعتذارًا ممَّا وُبِّخوا به، واعتلالًا بالاستضعافِ، وأنَّهم لم يتمكَّنوا من الهجرةِ حتَّى يكونوا في شيءٍ، فبكَّتَتْهم الملائكةُ بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيها .
3- قوله: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ اسمُ الإشارة فَأُولَئِكَ فيه تنبيهٌ على أنَّهم جَديرونَ بالحُكمِ الواردِ بعْد اسمِ الإشارةِ مِن أجلِ الصِّفاتِ المذكورة قَبْلَه؛ لأنَّهم كانوا قادرينَ على التَّخلُّصِ مِن فتنةِ الشِّركِ بالخروج من أرضِه .
4- قوله: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا:
- الإتيانُ باسم الإشارة فَأُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم جَديرونَ بالحُكمِ المذكور من المغفرةِ .
- وقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِمَا قبلها مِن مقدرةِ الله عزَّ وجلَّ على العفوِ عنهم ومغفرةِ ذنوبهم، مع ما فيها من التَّأكيدِ والمبالغةِ في الوَصْفِ.
5- قوله: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ كلمة يُدْرِكْهُ فيها إشعارٌ بأنَّ المهاجِرَ كالفارِّ الَّذي يريد أن يصِلَ إلى مُهاجَرِه، لكنَّ الموتَ لحِقَه فأدرَكه .