موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآية (29)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غَريبُ الكَلِماتِ:

سِيمَاهُمْ: أي: عَلاماتُهم وآثارُهم، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على الأثَرِ والمَعْلَمِ .
شَطْأَهُ: أي: فِراخَه وصِغارَه، وشَطءُ الزَّرعِ: فُروخُ الزَّرعِ، وهو ما خرَجَ منه وتفَرَّع في شاطِئَيه وجانِبَيه، وشَطءُ النَّباتِ: ما خرَجَ مِن حَولِ الأصلِ .
فَآَزَرَهُ: أي: أعانَه وقَوَّاه، وأصلُ (أزر): يدُلُّ على القُوَّةِ والشِّدَّةِ .
فَاسْتَغْلَظَ: أي: غَلُظَ وبلَغَ غايةَ قُوَّتِه، والغِلْظةُ ضِدُّ الرِّقَّةِ .
سُوقِهِ: أي: أُصولِه، جمعُ ساقٍ: وهو العُودُ والحامِلُ، وأصلُ (سوق): يدُلُّ على حَدْوِ الشَّيء، وسُمِّيَت السَّاقُ بذلك؛ لأنَّ الماشيَ يَنساقُ عليها .
لِيَغِيظَ: الغَيظُ: أشدُّ الغَضَبِ، وهو الحرارةُ الَّتي يجِدُها الإنسانُ مِن فوَرانِ دَمِ قَلبِه، وأصلُه يدُلُّ على كَربٍ يَلحَقُ الإنسانَ مِن غَيرِه .

المعنى الإجماليُّ:

يختِمُ الله تعالى السُّورةَ بالثَّناءِ على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى أصحابِه، فيقولُ: مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ، وأصحابُه الَّذين معه يُظهِرونَ لِمَن خالَفَ دِينَهم الشِّدَّةَ، ولِمَن وافَقَه الرَّحمةَ والرَّأفةَ، تَراهم -أيُّها الرَّائي- راكِعينَ وساجِدينَ، يَطلُبونَ أن يَتفَضَّلَ اللهُ عليهم برَحمتِه، فيُدخِلَهم جَنَّتَه، وأن يَرضى عنهم، عَلامتُهم في وُجوهِهم؛ مِن أثَرِ سُجُودِهم في صَلاتِهم.
هذا الَّذي وُصِفوا به هو وَصْفُهم في التَّوراةِ، وصِفَتُهم في الإنجيلِ أنَّهم كزَرعٍ أخرَجَ فِراخَه، فقوَّى الزَّرعَ فَرْخُهُ، فغَلُظَ الزَّرعُ، وبَلَغ غايةَ قُوَّتِه، وقام على أُصولِه، يُعجِبُ هذا الزَّرعُ الزُّرَّاعَ؛ لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ حينَ يَرَونَ كَثرتَهم وقُوَّتَهم.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى ما وعَدهم به، فيقولُ: وَعَد اللهُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ مِن أصحابِ نَبيِّه مَغفِرةً لِذُنوبِهم وأجرًا عَظيمًا.

تَفسيرُ الآيةِ:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن صِدقَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رُؤياه، واطمَأَنَّت نُفوسُ المُؤمِنينَ؛ أعقَبَ ذلك بتَنويهِ شَأنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والثَّناءِ على المُؤمِنينَ الَّذين معه .
وأيضًا لَمَّا ختَمَ اللهُ سُبحانَه بإحاطةِ العِلمِ بالخَفايا والظَّواهرِ في الإخبارِ بالرِّسالةِ؛ عَيَّنَها في قَولِه -جوابًا لِمَن يَقولُ: مَنِ الرَّسولُ المُنَوَّهُ باسمِه؟- :
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
محمَّدٌ  رسولُ الله حقًّا بلا رَيْبٍ .
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
أي: وأصحابُ مُحمَّدٍ الَّذين معه يُظهِرونَ لِمَن خالَفَ دِينَهم الشِّدَّةَ والصَّلابةَ، ولِمَن وافَقَه الرَّحمةَ والرَّأفةَ واللِّينَ .
كما قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المُؤمِنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)) .
وعن أبي موسى الأَشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ؛ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا. وشَبَّك بيْنَ أصابِعِه)) .
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا.
أي: تَرى أصحابَ مُحمَّدٍ مُداومِينَ على صَلاتِهم، مُكثِرينَ منها؛ فتَراهم راكِعينَ وساجِدينَ .
عن المُخارِقِ، قال: ((خَرَجْنا حُجَّاجًا، فلمَّا بَلَغْنا الرَّبَذَةَ قُلتُ لأصحابي: تقَدَّموا، وتخَلَّفْتُ، فأتيتُ أبا ذَرٍّ وهو يُصَلِّي، فرأيتُه يُطيلُ القِيامَ، ويُكثِرُ الرُّكوعَ والسُّجودَ، فذكَرتُ ذلك له، فقال: ما أَلَوتُ أن أُحسِنَ؛ إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: مَن رَكَع رَكعةً أو سَجَد سَجدةً، رُفِعَ بها دَرَجةً، وحُطَّت عنه بها خَطيئةٌ )) .
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا.
أي: يَطلُبونَ أن يَتفَضَّلَ اللهُ عليهم برَحمتِه، فيُدخِلَهم جَنَّتَه، وأن يَرضى عنهم؛ فهذا مقصودُهم .
كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 71، 72].
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
أي: عَلامةُ أصحابِ مُحمَّدٍ كائِنةٌ في وُجوهِهم؛ مِن أثَرِ سُجُودِهم في صَلاتِهم .
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.
أي: هذا الَّذي وُصِفوا به هو وَصْفُهم في التَّوراةِ .
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ.
أي: وصِفَتُهم في الإنجيلِ أنَّهم كزَرعٍ أخرَجَ فِراخَه، فنَبَتَتْ في جَوانِبِه .
فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ.
أي: فقوَّى الزَّرعَ فَرْخُه، فغَلُظَ الزَّرعُ، وتَناهَى طُولُه، وبَلَغ غايةَ قُوَّتِه، وقام على أُصولِه .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62، 63].
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ.
أي: يُثيرُ هذا الزَّرعُ الَّذي استَغلَظَ واستَوَى على سُوقِه إعجابَ الَّذين زَرَعوه .
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
أي: إنَّما جَعَل اللهُ تعالى أصحابَ نَبيِّه بتلك الصِّفةِ، فكَثَّرهم وقوَّاهم؛ لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ حينَ يَرَونَ كَثرتَهم وقُوَّتَهم .
كما قال تعالى: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران: 119].
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 51 - 54] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة: 120] .
وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا [الحج: 72] .
وقال عزَّ شأنُه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 7] .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
أي: وَعَد اللهُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ مِن أصحابِ نَبيِّه أن يَنالوا مَغفِرةً لِذُنوبِهم، فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، ووَعَدَهم أن يَنالوا أجرًا عَظيمًا .
كما قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة: 9] .
وقال سُبحانَه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بلَغَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه !)) .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ مِن حَقِّ المُسلِمينَ في كُلِّ زَمانٍ أن يُراعُوا هذا التَّذَلُّلَ وهذا التَّعَطُّفَ، فيُشَدِّدوا على مَن ليس مِن دينِهم ويَتحامَوه، ويُعاشِروا إخوانَهم المُؤمِنينَ في الإسلامِ مُتعَطِّفينَ بالبِرِّ والصِّلةِ والمعَونةِ، وكَفِّ الأذى، والاحتِمالِ منهم .
2- قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا في بابِ العِبارةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علينا أن نُفَرِّقَ بيْنَ مُخاطَبتِه وبيْنَ الإخبارِ عنه؛ فإذا خاطَبْناه كان علينا أن نتأدَّبَ بآدابِ اللهِ تعالى؛ حيثُ قال: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] ، فلا نقولُ: يا محمَّدُ، يا أحمَدُ، كما يَدعو بَعضُنا بعضًا، بل نقولُ: يا رَسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ. واللهُ سُبحانَه وتعالى خاطَبَ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأسمائِهم، فقال: يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] ، يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] ، يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 11، 12]، يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، ولَمَّا خاطَبَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم: 1] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ؛ فنَحن أحَقُّ أن نتأدَّبَ في دُعائِه وخِطابِه، وأمَّا إذا كان في مَقامِ الإخبارِ عنه قُلْنا: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، وقُلْنا: مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ وخاتَمُ النَّبيِّينَ؛ فنُخبِرُ عنه باسمِه كما أخبَرَ اللهُ سُبحانَه لَمَّا أخبَرَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح: 29] ، وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] ، وقال وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] ؛ فالفَرقُ بيْنَ مَقامِ المُخاطَبةِ ومَقامِ الإخبارِ فَرقٌ ثابِتٌ بالشَّرعِ والعَقلِ . ومِنَ النَّاسِ مَنِ احتَجَّ على تَفضيلِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على غَيرِه مِنَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بهذه الآيةِ وبغَيرِها مِن الآياتِ؛ يقولُ: ما خاطَبَ اللهُ تعالى محُمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القُرآنِ إلَّا باسْمِ الرِّسالةِ والنُّبُوَّةِ، وخاطَبَ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأسمائِهم؛ وذلك لِفَضلٍ جُعِل له دونَ غَيرِه .
3- قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا كلُّ مَنِ اقتَفَى أثَرَ الصَّحابةِ فهو في حُكْمِهم، ولهم الفَضلُ والسَّبقُ والكَمالُ الَّذي لا يَلحَقُهم فيه أحَدٌ مِن هذه الأُمَّةِ، رَضِيَ الله عنهم وأرضاهم، وجَعَل جَنَّاتِ الفِردَوسِ مَأواهم، وقد فَعَل .
4- قال الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ فمُغايَظةُ الكُفَّارِ غايةٌ مَحبوبةٌ للرَّبِّ، مَطلوبةٌ له؛ فمُوافَقتُه فيها مِن كَمالِ العُبوديَّةِ، وشَرَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُصَلِّي إذا سَها في صَلاتِه سَجدَتَينِ، وقال: ((إذا شكَّ أحدُكم في صَلاتِه فَلْيُلْقِ الشَّكَّ، ولْيَبْنِ على اليَقينِ، فإنِ استَيْقَنَ التَّمامَ سجَد سجدتَينِ، فإن كانت صَلاتُه تامَّةً كانت الرَّكعةُ نافِلةً والسَّجْدَتانِ، وإن كانت ناقِصةً كانت الرَّكعةُ تمامًا لِصَلاتِه، والسَّجْدَتانِ تُرغِمانِ أنْفَ الشَّيطانِ)) ، وفي روايةٍ ((تَرغيمًا للشَّيطانِ)) ؛ فمَن تَعَبَّدَ للهِ بمُراغَمةِ عَدُوِّه فقد أخَذَ مِن الصِّدِّيقيَّةِ بسَهمٍ وافِرٍ، وعلى قَدْرِ مَحبَّةِ العَبدِ لِرَبِّه ومُوالاتِه ومُعاداتِه لِعَدُوِّه يكونُ نَصيبُه مِن هذه المُراغَمةِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- يَشْهَدُ القرآنُ برِضا اللهِ عنِ الصَّحابةِ، وثنائِه عليهم، كقَولِه تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وقَولِه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] ، وقَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ في الجمْعِ لأصحابِ النَّبيِّ بيْنَ هاتَينِ الخَلَّتَينِ المُتضادَّتَينِ؛ الشِّدَّةِ والرَّحمةِ: إيماءٌ إلى أصالةِ آرائِهم، وحِكمةِ عُقولِهم، وأنَّهم يَتصرَّفونَ في أخلاقِهم وأعمالِهم تَصرُّفَ الحِكمةِ والرُّشدِ، فلا تَغلِبُ على نُفوسِهم مَحمَدةٌ دُونَ أُخرَى، ولا يَندَفِعونَ إلى العَملِ بالجِبِلَّةِ وعدَمِ الرَّوِيَّةِ .
المُبهَمُ لا يُقبَلُ حَديثُه حتَّى يُعلَمَ مَن هو؛ وذلك لِجَهالَتِنا بحالِه، إلَّا المُبهَمَ مِنَ الصَّحابةِ؛ فإنَّ إبهامَه لا يَضُرُّ؛ لأنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ثِقاتٌ بشَهادةِ اللهِ تعالى لهم في قَولِه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] ، وتَزكيتِه إيَّاهم في قَولِه تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وقَولِه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] ، فلا تضُرُّ الجهالةُ بعَينِ الصَّحابيِّ بعدَ ثُبوتِ صُحبتِه .
3- في قَولِه تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إلى آخِرِ السُّورةِ: رَدٌّ على الرَّافِضةِ ومَن يَنتَقِصُ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه وَصَفَهم بهذه الصِّفةِ وَصفًا عامًّا؛ فكُلُّ مَن صَحِبَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكان معه بعدَ الإسلامِ فقدِ استحَقَّها، وصار مِن أهلِها، ووَجَبَ على النَّاسِ إعظامُهم وتبجيلُهم والرَّحمةُ عليهم، وتَركُ التَّنَقُّصِ لِجَميعِهم، وإنْ فُضِّلَ بعضُهم على بَعضٍ بما فَضَّلَهم اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورحِمَهم أجمعينَ .
4- قَولُه تعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ثَناءٌ عليهم بهما، وإنْ كان ذِكرُهما مُنتظِمًا لِبَقيَّةِ أفعالِ الصَّلاةِ؛ كما في القِراءةِ والقيامِ والتَّسبيحِ والسُّجودِ المُجَرَّدِ، وهو مِن بابِ التَّعبيرِ بالبَعضِ عن الجَميعِ، وهو دَليلٌ على وُجوبِه فيه .
5- قَولُ اللهِ تعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ فيه لَطيفةٌ، وهو أنَّه تعالى قال في حَقِّ الرَّاكِعينَ والسَّاجِدينَ: إنَّهم يَبتَغونَ فَضلًا مِنَ اللهِ، وقال: لهم أجرٌ، في قَولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، ولم يَقُلْ: لهم ما يَطلُبونَه مِن ذلك الفَضلِ؛ وذلك لأنَّ المُؤمِنَ عندَ العَمَلِ لم يلتَفِتْ إلى عَمَلِه، ولم يَجعَلْ له أجرًا يَعتَدُّ به، فقال: لا أبتَغي إلَّا فَضْلَك. واللهُ تعالى آتاه ما آتاه مِنَ الفَضلِ، وسَمَّاه أجرًا؛ إشارةً إلى قَبولِ عَمَلِه، ووُقوعِه الموقِعَ، وعَدَمِ كَونِه عندَ اللهِ نَزْرًا لا يَستَحِقُّ عليه المُؤمِنُ أجرًا !
6- أنَّ مَقولةَ بَعضِهم: «إنَّ الإخلاصَ حَقيقةً أنْ تَعبُدَ اللهَ للهِ، لا لِثَوابِ اللهِ!»: خَطَأٌ؛ لأنَّه مخالِفٌ لهَدْيِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ قال اللهُ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، فهم يَبتَغونَ الفَضلَ والرِّضوانَ، لكِنَّ ذلك القَولَ المشارَ إليه هو قَولُ بَعضِ الصُّوفيَّةِ؛ يَقولونَ: إنَّك إذا لاحَظْتَ الثَّوابَ فقد أشرَكْتَ في العبادةِ! نسألُ اللهَ العافيةَ. واللهُ عزَّ وجَلَّ يُرشِدُنا إلى هذا، ويُبَيِّنُ أنَّ هذا هو طريقُ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأصحابِه .
7- عن أبي عُروةَ الزُّبَيْريِّ، قال: (كنَّا عندَ مالكٍ فذكروا رجُلًا يَنتقِصُ أصحابَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقرأ مالكٌ هذه الآيةَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فقال مالكٌ: مَن أصبَحَ وفي قلبِه غَيظٌ على أحدٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد أصابَتْهُ الآيةُ) .
8- قال اللهُ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا لِبَيانِ ترَتُّبِ المَغفِرةِ على الإيمانِ -فإنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ يُغفَرُ له، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] - وترتُّبِ الأجرِ العَظيمِ على العَمَلِ الصَّالِحِ .
9- قد اجتمَع حُروفُ المُعجَمِ التِّسعةُ والعِشرونَ في هذه الآيةِ الكريمةِ، وهي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ... إلى آخِرِ السُّورةِ، أوَّلُ حُروفِ المُعجمِ فيها (ميم) مِن مُحَمَّدٌ، وآخِرُها (صاد) مِن الصَّالِحَاتِ، فبِهِ تَكتمِلُ حُروفُ المُعجمِ فيها. وتقدَّم نظيرُ ذلك في سورةِ آلِ عِمْرانَ، في قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ... [آل عمران: 154] . وليس في القرآنِ آيَتانِ كلُّ آيةٍ حَوَتْ حُروفَ المُعجَمِ غيرهما .

بلاغةُ الآيةِ:

1- قَولُه تعالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
- قَولُه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ... ليس المقصودُ إفادةَ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وإنَّما المَقصودُ بَيانُ رسولِ اللهِ مَن هو؟ بعْدَ أنْ أجْرى عليه مِن الأخبارِ مِن قولِه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح: 27] إلى قولِه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 28] ، فيُعَدُّ السَّامعُ كالمُشتاقِ إلى بَيانِ مَن هذا المُتحدَّثُ عنه بهذه الأخبارِ، فيُقالُ له: محمَّدٌ رسولُ اللهِ، أي: هو محمَّدٌ رسولُ اللهِ، وهذا مِن العِنايةِ والاهتِمامِ بذِكْرِ مَناقبِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فتُعَدُّ الجُملةُ المَحذوفُ مُبتَدؤُها مُستأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا .
وفي هذا أيضًا نِداءٌ على إبطالِ جُحودِ المشركينَ رِسالتَه حِينَ امتَنَعوا مِن أنْ يَكتُبَ في صَحيفةِ الصُّلحِ: ((هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ، وقالوا: لو كنَّا نعلَمُ أنَّكَ رسولُ اللهِ ما صَدَدْناك عن البَيتِ)) .
- والمقصودُ مِن قَولِه: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ الثَّناءُ على أصحابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَشريفًا لهم وكَرامةً، ومعنى مَعَهُ المُصاحَبةُ الكامِلةُ بالطَّاعةِ والتَّأييدِ .
- وأيضًا قولُه: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ مِن أُسلوبِ التَّكميلِ؛ فإنَّه لو اكْتَفَى به لَأوْهَمَ الفَظاظةَ والغِلْظةَ، فكمَّلَ بقولِه: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، يعني أنَّهم معَ كونِهم أشِدَّاءَ على الأعداءِ رُحَماءُ فيما بيْنَهم، أربابُ وَقارٍ وتراحُمٍ .
- وفي تَعليقِ رُحَمَاءُ مع ظرْفِ (بيْن) المُفيدِ للمَكانِ الدَّاخلِ وسَطَ ما يُضافُ هو إليه؛ تَنْبيهٌ على انبِثاثِ التَّراحُمِ فيهم جميعًا .
- قَولُه: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا فيه إيثارُ صِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ ذلك، أي: تَراهم كُلَّما شِئتَ أنْ تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا، وهذا ثَناءٌ عليهم بشِدَّةِ إقبالِهم على أفضَلِ الأعمالِ المُزَكِّيةِ للنَّفْسِ، وهي الصَّلَواتُ مَفروضُها ونافِلتُها، وأنَّهم يَتطلَّبون بذلك رِضا اللهِ ورِضوانَه. وفي سَوقِ هذا في مَساقِ الثَّناءِ إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ حقَّقَ لهم ما يَبتَغونه .
- والإشارةُ في قَولِه: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ إلى ما سبَقَ مِن نُعوتِهم الجَليلةِ، وما في الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعنى البُعدِ، معَ قُرْبِ العَهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ بعُلوِّ شأْنِه، وبُعدِ مَنزلتِه في الفَضلِ .
- وقولُه: فِي التَّوْرَاةِ مُتعلِّقٌ بـ مَثَلُهُمْ، أو حالٌ منه؛ فيَحتمِلُ أنَّ في التَّوراةِ وصْفَ قَومٍ سيَأْتونَ، ووُصِفوا بهذه الصِّفاتِ، فبيَّنَ اللهُ بهذه الآيةِ أنَّ الَّذين معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هم المَقصودُونَ بتِلك الصِّفةِ العَجيبةِ الَّتي في التَّوراةِ، أي: إنَّ التَّوراةَ قد جاءتْ فيها بِشارةٌ بمَجيءِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصْفُ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
- قَولُه: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ هذا مثَلٌ ضرَبَه اللهُ لبَدْءِ أمْرِ الإسلامِ، وتَرقِّيه في الزِّيادةِ إلى أنْ قوِيَ واستَحْكَمَ، ومعنى هذا التَّمثيلِ تَشبيهُ حالِ بَدءِ المُسلِمينَ ونَمائِهم حتَّى كَثُروا، وذلك يَتضمَّنُ تَشبيهَ بَدْءِ دِينِ الإسلامِ ضَعيفًا، وتَقوِّيه يومًا فيومًا حتَّى استَحكَمَ أمْرُه، وتغلَّبَ على أعدائِه. وهذا التَّمثيلُ قابِلٌ لاعتِبارِ تَجزئةِ التَّشبيهِ في أجزائِه؛ بأنْ يُشبَّهَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالزَّارِعِ، ويُشبَّهَ المؤمِنونَ الأوَّلونَ بحَبَّاتِ الزَّرعِ الَّتي يَبذُرُها في الأرضِ، مِثلُ أبي بكرٍ وخديجةَ، وعليٍّ وبِلالٍ وعَمَّارٍ، والشَّطْءُ: مَن أيَّدوا المُسلِمينَ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دعا إلى اللهِ وحْدَه، وانضمَّ إليه نفَرٌ قليلٌ، ثمَّ قَوَّاه اللهُ بمَنْ آمَنَ معَه، كما يُقوِّي الطَّاقةَ الأُولى مِن الزَّرعِ ما يَحتَفُّ بها ممَّا يَتولَّدُ منها حتَّى يُعجِبَ الزُّرَّاعَ، وقولُه: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ تَحسينٌ للمُشَبَّهِ به؛ لِيُفيدَ تحسينَ المُشَبَّهِ .
- ومعنَى فَاسْتَغْلَظَ غلُظَ غِلَظًا شَديدًا في نَوعِه؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ، مِثل استجابَ .
- قَولُه: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تَعليلٌ لِمَا دلَّ عليه تَشبيهُهم بالزَّرعِ في زَكائِه واستِحكامِه، ومِن نَمائهم وقُوَّتِهم، كأنَّه قيلَ: إنَّما قوَّاهم وكثَّرَهم؛ ليَغيظَ بهم الكفَّارَ. ويجوزُ أنْ يُعلَّلَ به وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لأنَّ الكُفَّارَ إذا سمِعوا بما أُعِدَّ لهم في الآخِرةِ معَ ما يُعِزُّهم به في الدُّنيا، غاظَهم ذلك .
- وفي قَولِه في خِتامِ هذه السُّورةِ العَظيمةِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا أعقَبَ تَنويهَ شأْنِهم والثَّناءَ عليهم بوَعْدِهم بالجَزاءِ على ما اتَّصَفوا به مِن الصِّفاتِ الَّتي لها الأثرُ المَتينُ في نَشْرِ هذا الدِّينِ ونصْرِه .