موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (37-40)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَطَرًا: أي: حاجةً، وقَضاءُ الوَطَرِ: بُلوغُ مُنتهَى ما في النَّفْسِ مِن الشَّيءِ، يُقالُ: قضَى وطَرًا منها: إذا بلَغ ما أراد مِن حاجتِه فيها .
أَدْعِيَائِهِمْ: أي: الَّذين تَبَنَّوهم، وأصلُ (دعو): يدُلُّ على إمالةِ شَيءٍ بصَوتٍ .
حَرَجٍ: أي: إثمٍ وضِيقٍ، وأصلُ الحَرَجِ: الضِّيقُ، وأصْلُ (حرج): تجمُّعُ الشَّيءِ وضِيقُه .
فَرَضَ: أي: أحَلَّ، والفَرْضُ: قطعُ الشَّيءِ الصُّلبِ، والتَّأثيرُ فيه، وأصلُ (فرض): يدُلُّ على تأثيرٍ في شَيءٍ .
سُنَّةَ اللَّهِ: السُّنَّةُ: الطَّريقةُ المُعتادةُ، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ، واطِّرادِه في سُهولٍة .
خَلَوْا: أي: مَضَوا وذَهَبوا، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعَرِّي الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ .
حَسِيبًا: أي: رقيبًا، وكَافِيًا ومُقتدِرًا، وعالِمًا ومحاسِبًا، ومنه: أحْسَبَني هذا الشَّيءُ، أي: كفاني .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
قَولُه تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ: مَنصوبٌ على المصدَرِ مَفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ محذوفٍ، أي: سنَّ اللهُ تعالى ذلك سُنَّةً، والجُملةُ مؤكِّدةٌ لِما قبْلَها مِن نَفيِ الحَرَجِ. وقيل: مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ بتقديرِ: (الزَمْ) ونحوِه .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا قصَّةَ زواجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن زينبَ بنتِ جحشٍ رضيَ الله عنها: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إذ تقولُ لزَيدِ بنِ حارِثةَ الَّذي أنعَمَ اللهُ عليه بأنْ هَداه للإسلامِ، وأنعمْتَ عليه -يا محمَّدُ- بالعِتقِ مِن رِقِّ العُبوديَّةِ: لا تُطَلِّقِ امرأتَك واصبِرْ عليها، واتَّقِ اللهَ فيها، وتُخفي -يا محمَّدُ- في قَلبِك ما أطْلَعَك اللهُ عليه مِن أنَّ زينبَ ستَكونُ مِن أزواجِك بعدَ طلاقِ زَيدٍ لها، وتخشَى أن يقولَ النَّاسُ بأنَّك تزَوَّجْتَ امرأةَ زَيدٍ الَّذي تبنَّيتَه مِن قَبْلُ وقد نَهيتَ عن التَّزَوُّجِ بنِساءِ الأبناءِ، واللهُ أحَقُّ أن تخشاه!
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه الحِكمةَ مِن زواجِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم بزينبَ، فيقولُ: فلمَّا قضى زَيدٌ حاجَتَه مِنِ امرأتِه زينبَ وطلَّقَها، زوَّجْناك بها يا محمَّدُ؛ لِكَيْلا يكونَ على المؤمِنينَ ضِيقٌ ومَشقَّةٌ في تزوُّجِهم بمُطلَّقاتِ مَن تبَنَّوهم إذا قَضَوا منهنَّ حاجاتِهم وفارَقوهنَّ، وكان قضاءُ اللهُ كائنًا لا محالةَ.
ما كان على النَّبيِّ إثمٌ أو ضِيقٌ مِمَّا قَسَمَ اللهُ له مِنَ المباحاتِ؛ سنَّ اللهُ له ذلك سُنَّةَ الأنبياءِ الماضينَ مِن قَبلِه، وكان قَدَرُ اللهِ كائنًا لا مَحالةَ.
الَّذين يُبلِّغونَ رِسالاتِ اللهِ إلى أقوامِهم، ويَخشَونَ اللهَ ويخافونَ عِقابَه، ولا يَخشَونَ أحدًا إلَّا اللهَ وَحْدَه، وكفى باللهِ حافِظًا لأعمالِ خَلْقِه، ومُحاسِبًا لهم.
ثمَّ يُثني الله تعالى على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ فيقولُ: ليس محمَّدٌ أبا أحدٍ مِن رجالِكم، ولكِنَّه رَسولُ اللهِ وآخِرُ النَّبيِّينَ، فلا نبيَّ بعْدَه، وكان اللهُ عليمًا بكُلِّ شَيءٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا مَبدأُ المقصودِ مِن الانتِقالِ إلى حُكمِ إبطالِ التَّبنِّي، ودحْضِ ما بناه المنافِقونَ على أساسِه الباطِلِ، بِناءً على كُفرِ المُنافِقينَ الَّذين غَمَزوا مَغامِزَ في قضيَّةِ تزَوُّجِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينبَ بنتَ جَحشٍ بعدَ أن طلَّقَها زيدُ بنُ حارِثةَ .
سببُ النُّزولِ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (أنَّ هذه الآيةَ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ نزلَتْ في شأنِ زَينبَ بِنتِ جَحشٍ وزَيدِ بنِ حارِثةَ) .
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ تقولُ لِزَيدِ بنِ حارِثةَ الَّذي أنعَمَ اللهُ عليه بالهِدايةِ إلى الإسلامِ، وأنعَمْتَ عليه -يا محمَّدُ- بالعِتقِ مِن رِقِّ العُبوديَّةِ .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (لو كان محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاتمًا شَيئًا ممَّا أُنزِل عليه، لَكتَمَ هذه الآيةَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) .
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.
أي: لا تُطَلِّقِ امرأتَك، واصبِرْ على عِشْرتِها، واتَّقِ اللهَ فيها .
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
أي: وتُخفي -يا محمَّدُ- في قَلبِك ما أطلَعَك اللهُ عليه مِن أنَّ زينبَ ستَكونُ مِن أزواجِك بعدَ مُفارَقةِ زيدٍ لها !
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.
أي: وتَخشَى -يا محمَّدُ- أن يقولَ النَّاسُ : إنَّك تَنهَى عن التَّزَوُّجِ بنِساءِ الأبناءِ، ثمَّ تتزوَّجُ امرأةَ زَيدٍ الَّذي تبنَّيْتَه مِن قَبْلُ. واللهُ أَولى بأن تخشاه! فلا تُبالِ بالنَّاسِ فيما أحَلَّ اللهُ لك .
فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.
أي: فلمَّا أتمَّ زَيدُ بنُ حارِثةَ حاجَتَه مِنِ امرأتِه زَينبَ بنتِ جَحشٍ، وفرَغ منها وطَلَّقها؛ زَوَّجْناك بها -يا محمَّدُ .
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا.
أي: زوَّجناك -يا محمَّدُ- بزَينبَ امرأةِ زَيدٍ؛ لِئَلَّا يبقَى ضِيقٌ ومَشقَّةٌ على المؤمِنينَ في تزَوُّجِهم بمُطلَّقاتِ مَن تَبنَّوهم إذا قَضَوا مِنهنَّ حاجاتِهم، فلم تبقَ لديهم رغبةٌ فيهنَّ وفارَقوهنَّ .
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
أي: وكان ما قَضاه اللهُ كائِنًا لا محالةَ، ومِمَّا قضى اللهُ: أن يتزوَّجَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بزَينبَ رَضِيَ اللهُ عنها .
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا نفى الحَرَجَ عن المؤمِنينَ فيما ذُكِر، واندرج الرَّسولُ فيهم؛ إذ هو سَيِّدُ المؤمِنينَ- نفى عنه الحَرَجَ بخصوصِه، وذلك على سَبيلِ التَّكريمِ والتَّشريفِ، ونفَى الحرجَ عنه مرَّتينِ؛ إحداهما بالاندراجِ في العُمومِ، والأُخرَى بالخُصوصِ .
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ.
أي: ما يَنبغي أن يكونَ على النَّبيِّ إثمٌ أو ضِيقٌ ممَّا قَسَم اللهُ له مِنَ المُباحاتِ .
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ .
أي: سَنَّ الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوسعةِ عليه في النِّكاحِ كسُنَّتِه في الأنبياءِ الماضينَ؛ فهذه عادةُ الله فيهم أن يَنالوا ما أحَلَّ الله لهم .
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
أي: وكان ما قدَّره اللهُ وقَضاه كائِنًا لا محالةَ، ولا بُدَّ مِن وُقوعِه .
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39).
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ.
أي: سُنَّةَ اللهِ في إباحةِ ما أباحه للَّذينَ مَضَوا مِنَ الرُّسَلِ الَّذين يُبَلِّغونَ رِسالاتِ اللهِ إلى أمَمِهم، ويؤَدُّونَها إليهم بأمانةٍ، فيُخبِرونَهم بكُلِّ ما أُمِروا به، ويَخشَونَ اللهَ، ويَخافونَ عِقابَه إن تَرَكوا تبليغَ الحَقِّ .
وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ.
أي: ولا يَخشَونَ أحدًا إلَّا اللهَ وَحْدَه، فلا يَمنَعُهم أحَدٌ أو شَيءٌ عن تبليغِ الحَقِّ .
كما قال تعالى: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة: 44] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] .
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا.
أي: وكفى باللهِ حافِظًا لأعمالِ خَلْقِه ومحاسِبًا لهم، وكافِيًا لعبادِه، وناصِرًا ومُعِينًا وحافِظًا .
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ ما في تَزَوُّجِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ بزينبَ مِن الفوائدِ؛ بَيَّنَ أنَّه كان خالِيًا مِن وُجوهِ المفاسِدِ؛ وذلك لأنَّ ما كان يُتوَهَّمُ مِن المفسَدةِ كان منحصِرًا في التَّزوُّجِ بزوجةِ الابنِ فإنَّه غيرُ جائزٍ، فقال اللهُ تعالَى: إنَّ زيدًا لم يَكُنِ ابنًا له، لا بلْ أحدُ الرِّجالِ لم يكُنِ ابنَ محمَّدٍ .
وأيضًا لَمَّا أفاد ما فات كُلُّه أنَّ الدَّعِيَّ ليس ابنًا، وكانوا قد قالوا لَمَّا تزوَّج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينبَ: (تزوَّج حليلةَ ابنِه!)- أخبَرَ به سُبحانَه على وَجهٍ هو مِن أعلامِ النُّبوَّةِ، وأعظَمِ دلائِلِ الرِّسالةِ، فقال :
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ.
أي: ليس محمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكم، لا زَيدِ بنِ حارِثةَ ولا غيرِه .
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ خَاتَمَ بفَتحِ التَّاءِ، بمعنى: أنَّه آخِرُ النَّبيِّينَ فلا نبيَّ بعْدَه. وقيل: بمعنى الطَّابَعِ. وقيل: مأخوذٌ مِن الخاتَمِ الملبوسِ؛ لأنَّ مُحمَّدًا كالخاتَمِ للأنبياءِ، يَتزيَّنونَ بكَونِه منهم .
2- قِراءةُ خَاتِمَ بكَسرِ التَّاءِ، اسمُ فاعلٍ، بمعنى: أنَّ مُحمَّدًا خَتَم النَّبيِّينَ بنَفْسِه، فطُبعَ على النُّبُوَّةِ فلا تُفتَحُ لأحدٍ بعْدَه. وقيل: خَتَم النَّبيِّينَ بمعنى: جاء آخِرَهم. وقيل: كَسرُ التَّاءِ وفَتحُها لُغتانِ بمعنًى واحدٍ .
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ.
أي: ولكِنَّ مُحمَّدًا هو رَسولُ اللهِ، وهو آخِرُ النَّبيِّينَ، فلا نَبيَّ بعْدَه .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ مِن قَبْلِي كمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بَيْتًا، فأحسَنَه وأجمَلَه، إلَّا مَوضِعَ لَبِنةٍ مِن زاويةٍ، فجعَل النَّاسُ يَطوفونَ به، ويَعجَبونَ له، ويقولونُ: هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ! قال: فأنا اللَّبِنةُ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ )) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كانت بنو إسرائيلَ تَسوسُهمُ الأنبياءُ، كلَّما هلَكَ نَبيٌّ خَلَفه نبيٌّ، وإنَّه لا نبيَّ بَعدي )) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بسِتٍّ: أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِمِ، ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وأُحِلَّت ليَ الغنائِمُ، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ طَهورًا ومَسجِدًا، وأُرسِلْتُ إلى الخَلقِ كافَّةً، وخُتِم بيَ النَّبيُّونَ)) .
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالعِلمِ بكُلِّ شَيءٍ، فلا يخفَى عليه شَيءٌ مِن خَلْقِه، ومِن ذلك عِلمُه بمَن يَصلُحُ منهم لرِسالتِه، وبما يَصلُحُ لهم مِنَ الأحكامِ .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فيه استِشارةُ ذَوي الرَّأيِ؛ لأنَّ زيدًا رضي اللهُ عنه استشارَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأنَّ المُستشارَ مُؤتَمَنٌ يجِبُ عليه إذا استُشيرَ في أمرٍ مِن الأمورِ أن يُشيرَ بما يَعلَمُه أصلَحَ للمُستَشيرِ، ولو كان له حَظُّ نَفْسٍ، فيُقَدِّمُ مَصلحةَ المُستشيرِ على هَوى نَفْسِه وغَرَضِه .
2- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ فيه أنَّ التَّعليمَ الفِعليَّ أبلَغُ مِن القَوليِّ، خُصوصًا إذا اقتَرَن بالقَولِ؛ فإنَّ ذلك نورٌ على نورٍ ، فاللهُ تعالى زَوَّجَ زينبَ بنتَ جحشٍ رَضِيَ اللهُ عنها رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهذا أبلَغُ في الطُّمأنينةِ، وثُبوتِ الحُكْمِ .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ وُجوبُ تقديمِ خشيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ على خشيةِ كلِّ أحدٍ، فالواجبُ على المرءِ ألَّا يَخافَ في اللهِ تعالى لَومةَ لائمٍ؛ وأنْ يتَّقيَ اللهَ عزَّ وجلَّ في بيانِ الحقِّ والعملِ به، وإنِ استَهْزَأ به النَّاسُ، وسَخِروا منه، فإنَّه لا يَزدادُ بهذه السُّخريةِ والاستِهزاءِ إلَّا رِفعةً عندَ اللهِ سبحانه وتعالى .
4- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ الثَّناءُ على مَن بَلَّغَ شَيئًا مِن شَريعةِ اللهِ تعالى مِن غيرِ الرُّسُلِ؛ وجْهُ ذلك: أنَّه إنَّما أثنى على الرُّسُلِ؛ لِكَونِهم بَلَّغوا الرِّسالةَ ولم يَخشَوا أحدًا؛ فمَن كان مِثلَهم في ذلك فهو مَحَلُّ الثَّناءِ .
5- في قَولِه تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وُجوبُ مراقبةِ العبدِ ربَّه، فالعبدُ إذا علِم أنَّ اللهَ عالِمٌ بكلِّ شَيءٍ: قولِه وفِعلِه وفِكرِه- أوجَبَ له ذلك مُراقبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وألَّا يَفقِدَه حيث أمَرَه، ولا يَراه حيثُ نَهاه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فيه الثَّناءُ على زَيدِ بنِ حارِثةَ؛ وذلك مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللهَ سَمَّاه في القُرآنِ، ولم يُسَمِّ مِن الصَّحابةِ باسمِه غَيرَه.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ اللهَ أخبَرَ أنَّه أنعَمَ عليه، أي: بنِعمةِ الإسلامِ والإيمانِ، وهذه شَهادةٌ مِن اللهِ له أنَّه مُسلِمٌ مُؤمِنٌ ظاهِرًا وباطِنًا، وإلَّا فلا وَجهَ لتَخصيصِه بالنِّعمةِ لولا أنَّ المرادَ بها النِّعمةُ الخاصَّةُ .
2- لا يُسَوَّى بيْنَ اللهِ تعالى وبيْن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالواوِ في غيرِ الأمورِ الشرعيَّةِ؛ وهنا قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فعَطَف نعمةَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على نعمةِ اللهِ تعالى بالواوِ مع أنَّها ليسَتْ مِن الأمورِ الشرعيَّةِ! والَّذي سَوَّغَ ذلك اختِلافُ النِّعمتَينِ؛ فالنِّعمةُ الأُولَى: الإسلامُ، والنِّعمةُ الثانيةُ: العِتْقُ، فإنَّه يجوزُ عَطْفُ الأمورِ غيرِ الشَّرعيَّةِ بالواوِ إذا اختلَفَ المعنَى .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فيه أنَّ المُعتَقَ في نِعمةِ المُعتِقِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ فيه أنَّ مِنَ الرَّأيِ الحَسَنِ لِمَنِ استشار في فِراقِ زَوجتِه: أن يُؤمَرَ بإمساكِها مهما أمكَنَ صَلاحُ الحالِ؛ فهو أحسَنُ مِن الفُرْقةِ .
5- قال الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ إشارةُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على زَيدٍ بإمساكِ زَوجِه -مع عِلمِه بأنَّها ستَصيرُ زَوجةً له- أداءٌ لواجِبِ أمانةِ الاستِنصاحِ والاستِشارةِ، وقد يُشيرُ المرءُ بالشَّيءِ يَعلَمُه مَصلحةً وهو يُوقِنُ أنَّ إشارتَه لا تُمتثَلُ، والتَّخليطُ بيْنَ الحالَينِ تَخليطٌ بيْن التَّصَرُّفِ المستَنِدِ لِما تقتَضيه ظواهِرُ الأحوالِ وبيْن ما في عِلمِ اللهِ في الباطِنِ، وأشْبَهُ مَقامٍ به مَقامُ موسى مع الخَضِرِ في القضايا الثَّلاثِ .
6- في قَولِه تعالى: وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ثُبوتُ رسالةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّها رِسالةُ حقٍّ؛ فلو كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كاذِبًا -وحاشاه مِن ذلك- لَكان يَكتُمُ مِثلَ هذه الأشياءِ؛ لأنَّها صَعبةٌ في حَقِّه ؛ لأنَّه أخفى في نَفْسِه ما كان يخشى قالةَ النَّاسِ في ذلك، واستحيا منهم، وفي العُرفِ أنَّ مَن أخفى شيئًا يَستحْيي مِن النَّاسِ إن ظهَرَ عندَهم: أن يَكتُمَ ذلك مِنَ النَّاسِ ولا يُظهِرَه، فإذا كان رَسولُ الله أظهَرَ ما كان يَخشى قالةَ النَّاسِ فيه، ولم يَكتُمْه منهم؛ دَلَّ أنَّه رَسولٌ؛ إذ لو كان غيرَ رَسولٍ لَكتَمَه وأخفاه ولم يُظهِرْه؛ لِما ذكَرْنا مِن العُرفِ في النَّاسِ مِن كِتمانِ ما يسَتحيُونَ منه إذا ظهَرَ ، فدلَّ على أنَّه رسولُ الله، وأنَّه لا يقولُ إلَّا ما أُوحِيَ إليه، ولا يريدُ تعظيمَ نفْسِه .
7- كان يُقالُ لزَيدٍ رضيَ الله عنه: زَيدُ بنُ مُحمَّدٍ حتَّى أنزَل الله سبحانه ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ [الأحزاب: 5] ، فقال: أنا زيدُ بنُ حارِثةَ، وحَرُمَ عليه أن يقولَ: أنا زيدُ بنُ مُحمَّدٍ، فلمَّا نُزِع عنه هذا الشَّرفُ وهذا الفَخرُ، وعَلِمَ اللهُ وَحْشَتَه من ذلك؛ شَرَّفه بخَصِيصةٍ لم يَخُصَّ بها أحدًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي أنَّه سمَّاه باسمِه في القُرآنِ، فقال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا يعني: مِن زَينبَ. ومَن ذَكَرَه اللهُ تعالى باسمِه في الذِّكرِ الحَكيمِ حتَّى صار اسمُه قُرآنًا يُتلى في المحاريبِ، نوَّهَ به غايةَ التَّنويهِ، فكان في هذا تأنيسٌ له، وعِوَضٌ مِن الفَخرِ بأبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له، ألَا ترى إلى قَولِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ حينَ قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الله أمَرني أنْ أقرأَ عليكَ القُرآنَ. قال أُبَىٌّ: آللهُ سمَّاني لك؟ قال: اللهُ سمَّاك لي. فجعَل أُبَيٌّ يَبْكي )) . وكان بُكاؤُه مِن الفَرَحِ حينَ أُخبِرَ أنَّ الله تعالى ذكَرَه، فكيف بمَن صار اسمُه قُرآنًا يُتلَى مخلَّدًا لا يَبِيدُ، يَتْلوه أهلُ الدُّنيا إذا قَرؤوا القرآنَ، وأهلُ الجنَّةِ كذلك أبدًا، لا يَزالُ على ألْسِنةِ المؤمِنينَ، كما لم يَزَلْ مذكورًا على الخُصوصِ عندَ رَبِّ العالَمينَ ؟!
8- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا دَليلٌ على أنَّ زَيدًا رَضِيَ اللهُ عنه طلَّقَها عن رَغبةٍ، وأنَّها انقَضَتْ حاجتُه منها، ولم يُطَلِّقْها عن إكراهٍ !
9- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا فيه فَضيلةُ زَينبَ رَضِيَ اللهُ عنها أُمِّ المُؤمِنينَ؛ حيثُ تولَّى اللهُ تَزويجَها مِن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن دونِ خِطبةٍ ولا شُهودٍ؛ ولهذا كانت تفتَخِرُ بذلك على أزواجِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتقولُ: (زوَّجَكُنَّ أهاليكُنَّ، وزوَّجَني اللهُ مِن فَوقِ سَبعِ سَمواتٍ) .
10- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا فيه أنَّ المرأةَ إذا كانت ذاتَ زَوجٍ، لا يجوزُ نِكاحُها ولا السَّعيُ فيه وفي أسبابِه، حتَّى يَقضِيَ زَوجُها وَطَرَه منها، ولا يَقضي وطَرَه حتَّى تنقَضيَ عِدَّتُها؛ لأنَّها قبْلَ انقِضاءِ عِدَّتِها هي في عِصمتِه، أو في حَقِّه الَّذي له وطَرٌ إليها، ولو مِن بَعضِ الوُجوهِ .
11- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا استُدِلَّ به على أنَّ لفظَ التَّزويجِ مِن ألفاظِ عقدِ النِّكاحِ، وأنَّه يقالُ: (زوَّجه إيَّاها)، لا: (زوَّجها إيَّاه) .
12- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا فيه جوازُ تزوُّجِ زَوجةِ الدَّعِيِّ، كما صَرَّح به .
13- في قَولِ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا الإبانةُ عن عِلَّةِ الحُكمِ في إباحةِ ذلك للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ ذلك قد اقتضَى إباحتَه للمُؤمِنينَ؛ فدَلَّ ذلك على إثباتِ القياسِ في الأحكامِ، واعتِبارِ المعاني في إيجابِها .
14- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ التَّزويجَ مِن النَّبيِّ عليه السَّلامُ لم يكُنْ لقضاءِ شهوةِ النَّبيِّ عليه السلامُ، بل لبيانِ الشَّريعةِ بفِعلِه؛ فإنَّ الشَّرعَ يُستفادُ مِن فِعلِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وبهذا يُعرَفُ بُطلانُ ما يُروى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتى زيدًا ذاتَ يومٍ لحاجةٍ، فرأى زينبَ فوقَعَتْ في نفْسِه، وأعجَبَه حُسنُها، فقال: «سُبحانَ اللهِ مُقَلِّبِ القُلوبِ!»، فأخبرَتْ زَينبُ زَيدًا بذلك، فَفَطِنَ له، فكرِهَها وطَلَّقَها بعدَ مُراجعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقولِه: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ؛ فهذا الأثرُ باطلٌ مُناقِضٌ لِمَا ذَكَرَ اللهُ تعالى مِن الحِكمةِ في تزويجِها إيَّاه .
15- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا فيه دَليلٌ على أنَّ الأُمَّةَ مُساويةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأحكامِ إلَّا ما قام دَليلٌ على تخصيصِه به؛ لأنَّه صرَّح بأنَّه فعَلَ ذلك لنَبيِّه؛ ليرتَفِعَ الحَرَجُ عن المؤمِنينَ في مِثلِه .
16- في قَولِه تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أنَّه لا حرجَ على الإنسانِ -غيرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما أحَلَّ اللهُ تعالى له؛ لأنَّ ما ثَبَت في حقِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثَبَت في حقِّ أُمَّتِهِ إلَّا بدليلٍ، ولكنْ يجبُ على الإنسانِ أنْ يُراعِيَ أحوالَ الناسِ وما يُسْتَنْكَرُ عليه فيهم؛ حتَّى لا يُعَرِّضَ نفْسَه للذَّمِّ والقَدْحِ! فمُراعاةُ أحوالِ النَّاسِ أمْرٌ لا بُدَّ منه إلَّا في الأمورِ الشَّرعيَّةِ؛ فإنَّ الواجبَ على المرءِ إبانتُها وإظهارُها .
17- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا فيه أنَّ النِّكاحَ مِن سُنَنِ المُرسَلينَ .
18- قال الله تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا في كَثرةِ نِساءِ الرُّسُلِ لهم آيةٌ عَظيمةٌ؛ لأنَّهم آثَروا الفَقرَ والضِّيقَ على السَّعةِ والغِنى، وكَفُّوا أنفُسَهم عن جميعِ لذَّاتِها، وحَمَلوا على أنفُسِهم الشَّدائِدَ في العباداتِ والأمورِ العِظامِ الثَّقيلةِ، وهذه الأشياءُ كُلُّها أسبابُ قَطعِ قَضاءِ الشَّهواتِ في النِّساءِ والحاجةِ فيهنَّ؛ فإذا لم تُقطَعْ تلك الأسبابُ عنهم؛ دلَّ أنَّهم باللهِ قَوُوا عليها .
19- في قَولِه تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا إذا جعَلْنا «الحسيبَ» بمعنى: «الحفيظِ الكافي» فيُؤخَذُ مِن الآيةِ أنَّ حِفظَ اللهِ سبحانَه وتعالى في غايةِ ما يكونُ مِن الحفظِ؛ لقولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] . أمَّا إذا جعَلْنا «الحسيبَ» بمعنى: «المُحَاسِبِ»؛ فإنَّه يُؤخَذُ منها فائدةٌ وهي: كمالُ محاسَبةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وأنَّه لا يَفوتُه شيءٌ، وعلى كِلا القَولينِ ففي الآيةِ إثباتُ عِلْمِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه لا مُحاسَبةَ إلَّا مِن علمٍ؛ ولا حِفظَ إلَّا بعلمٍ .
20- في قَولِه تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ إبطالُ بُنوَّةِ الأدعياءِ .
21- يُجمَعُ بينَ قَولِه تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ مع ما جاء عن بَعضِ السَّلَفِ أنَّه قَرَأ: «وهو أبٌ لهم» بأنْ يُقالَ هنا: ليس أبا أحدٍ مِن الرِّجالِ بالتَّبَنِّي، ولكِنَّه أبٌ للمُؤمِنينَ باعتبارِ التَّعليمِ والتَّوجيهِ والإرشادِ . وفي الحديثِ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما أنا لكم مثلُ الوالدِ أعلِّمُكم)) .
22- قَولُه تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ فيه أنَّه لا نبيَّ بعدَه، وأنَّ مَن ادَّعَى النُّبوَّةَ بعدَه قُطِع بكذبِه ؛ وذلك لأنَّ النَّبيِّينَ عامٌّ، فخاتمُ النَّبيِّينَ هو خاتمُهم في صِفةِ النُّبوَّةِ ، فقولُه تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ خبرٌ؛ وخبرُ اللهِ تعالى صِدْقٌ لا يُمكِنُ أنْ يَتطَرَّقَ إليه الكذبُ بوجهٍ مِن الوُجوهِ .
23- في قَولِه تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ أنَّ مَن صَدَّقَ مُدَّعي النُّبوَّةِ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهو كافِرٌ؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ للقُرآنِ؛ ومُكَذِّبُ القُرآنِ كافِرٌ .
24- قال تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ولم يَقُلْ سبحانَه: «وخاتم المرسَلينَ» مع أنَّه قال: رَسُولَ اللَّهِ؛ لأنَّه قد يكونُ نَبِيًّا ولا يكونُ رسولًا؛ ومحمَّدٌ رسولُ اللهِ صلوات اللهُ وسلامُه عليه خاتمُ الأنبياءِ .
25- قَولُ الله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ فيه سُؤالٌ: كيف قال تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وعيسى عليه السَّلامُ يَنزِلُ بعدَه، وهو نبيٌّ؟
الجوابُ: معنى كَونِه خاتَمَ النَّبيِّينَ: أنَّه لا يَتنبَّأُ أحدٌ بعدَه، وعيسى نبيٌّ قَبْلَه، وحينَ يَنزِلُ يَنزِلُ عامِلًا بشَريعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، مصَلِّيًا إلى قِبلتِه، كأنَّه بعضُ أمَّتِه .
26- قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ اختِصاصُه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بالأحمَديَّةِ والمُحمَّديَّةِ عَلَمًا وصِفةً: بُرهانٌ جلِيٌّ على خَتمِه؛ إذ الحَمدُ مَقرونٌ بانقِضاءِ الأمورِ، مَشروعٌ عِندَه؛ قال تعالى: وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] .
27- في قَولِه تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا أنَّ إقرارَ اللهِ تعالى للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتأييدَه له شاهدٌ لصِدْقِ رسالتِه؛ فلو عَلِم الله تعالى أنَّ محمَّدًا غيرُ رسولٍ لَكان كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44 - 46] -و«الوَتينُ»: عِرْقٌ في القلبِ لو قُطِعَ مات-، فكَوْنُ اللهِ تعالى يُؤيِّدُه ويَنصُرُه ويَفتَحُ على يديه وهو يقولُ: إنَّه رسولُ اللهِ تعالى، وإنَّه أذِنَ له باستِباحةِ أموالِكم، وأَخْذِ رِقابِكم إذا لم تَدخُلوا في الإسلامِ ولم تُؤَدُّوا الجِزْيةَ؛ يَكونُ هذا آيةً مِن آياتِ اللهِ تعالى له؛ ولهذا خَتَمَ الآيةَ هذه الَّتي أثبتَتْ له الرِّسالةَ بقولِه تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا .
28- في قَولِه تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا الرَّدُّ على غُلاةِ القَدَريَّةِ؛ فإنَّهم أنكروا عِلمَ اللهِ تعالى بما يَصنَعُه العِبادُ قبْلَ وُقوعِه منهم !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
- قولُه: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فيه الإتيانُ بفِعلِ القولِ بصِيغةِ المُضارعِ؛ لاستِحضارِ صُورةِ القولِ وتَكريرِه، وفي ذلك تَصويرٌ لِحَثِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زَيدًا على إمساكِ زَوجِه وألَّا يُطلِّقَها، ومُعاودتِه عليه .
- والتَّعبيرُ عن زَيدِ بنِ حارثةَ رضِيَ اللهُ عنه هنا بالمَوصولِ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ دونَ اسْمِه العلَمِ الَّذي يَأتي في قولِه: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ؛ لِمَا تُشعِرُ به الصِّلةُ المعطوفةُ -وهي وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ- مِن تَنزُّهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن استِعمالِ وَلائِه لِحَمْلِه على تَطليقِ زَوجِه؛ فالمَقصودُ هو الصِّلةُ الثَّانيةُ، وهي وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ المقصودَ منها أنَّ زيدًا أخَصُّ النَّاسِ به، وأنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحرَصُ على صَلاحِه، وأنَّه أشارَ عليه بإمْساكِ زَوجِه لِصَلاحِها به، وأمَّا صِلةُ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فهي تَوطئةٌ للثَّانيةِ .
- قولُه: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ الإمساكُ عُبِّر به هنا عن الصُّحبةِ؛ تَشبيهًا للصَّاحبِ بالشَّيءِ المُمسَكِ باليَدِ. وزِيادةُ عَلَيْكَ؛ لدَلالةِ كَلمةِ (على) على المُلازَمةِ والتَّمكُّنِ. أو لتَضْمينِ أَمْسِكْ معنى احبِسْ، أي: أبْقِ في بيتِك زوجَك .
- والإتيانُ بالفِعلِ المُضارعِ في قولِه: وَتُخْفِي؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ إخفاءِ ذلك، وعدَمِ ذِكْرِه .
- وجُملةُ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ مُعترِضةٌ؛ لِمُناسَبةِ جَرَيانِ ذِكرِ خَشيةِ النَّاسِ، وليس في قولِه: وَتَخْشَى النَّاسَ عِتابٌ ولا لَومٌ، ولكنَّه تَذكيرٌ بما حصَلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن تَوقِّيه قالةَ المنافقينَ، وتَشجيعٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَحقيرٌ لأعداءِ الدِّينِ، وتَعليمٌ له بأنْ يَمضِيَ في سَبيلِه، ويَتناوَلَ ما أباح اللهُ له ولرُسلِه؛ مِن تَناوُلِ ما هو مُباحٌ مِن مَرغوباتِهم ومحبوباتِهم إذا لم يَصُدَّهم شَيءٌ مِن ذلك عن طاعةِ ربِّهم .
- وقولُه: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ... تَفريعٌ على جُملةِ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ الآيةَ. وقد طُوِيَ كلامٌ يَدُلُّ عليه السِّياقُ، وتَقديرُه: فلمْ يَقبَلْ منك ما أشرْتَ عليه ولم يُمسِكْها .
- وذِكرُ اسمِ زَيدٍ في قولِه: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (فلمَّا قَضَى منْها وطَرًا)؛ فعُدِلَ عن مُقتضى الظَّاهرِ؛ للتَّنويهِ بشَأْنِ زَيدٍ .
- والجمْعُ بيْن اللَّامِ و(كي) في قولِه: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ ... تَوكيدٌ للتَّعليلِ، كأنَّه يقولُ: ليستِ العِلَّةُ غيرَ ذلك .
- قولُه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا اعتِراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبلَه في جُملةِ زَوَّجْنَاكَهَا، وهو مثَلٌ لِمَا أرادَ كونَه مِن تَزويجِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زينبَ، ومِن نَفْيِ الحرَجِ عن المؤمنينَ .
2- قوله تعالى: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
- قولُه: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ استئنافٌ لِزِيادةِ بَيانِ مُساواةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للأُمَّةِ في إباحةِ تَزوُّجِ مُطلَّقةِ دَعِيِّه، وبَيانِ أنَّ ذلك لا يُخِلُّ بصِفةِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّ تَناوُلَ المُباحاتِ مِن سُنَّةِ الأنبياءِ، وفي هذا الاستِئنافِ ابتداءٌ لِنَقْضِ أقوالِ المنافقينَ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَزوَّجَ امْرأةَ ابْنِه .
- ونَفى اللهُ الحرَجَ عن نَبيِّه مَرَّتينِ؛ إحداهما لَمَّا نَفى الحرَجَ عن المُؤمنينَ في قولِه: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ، واندرَجَ الرَّسولُ فيهم؛ إذ هو سيِّدُ المُؤمنينَ، والأخرى بالخُصوصِ في قولِه هنا: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ، وذلك على سَبيلِ التَّكريمِ والتَّشريفِ .
- وجُملةُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا اعتِراضٌ تَذْييليٌّ وُسِّط بيْنَ المَوصولَينِ الجاريَينِ مَجرَى الواحدِ -الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ والَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ)-؛ للمُسارعةِ إلى تَقريرِ نَفْيِ الحَرجِ وتَحقيقِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ في مَوضعَينِ، وقال في سُورةِ (الفتْحِ): سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ [الفتح: 23] ، والتَّقديرُ في الآياتِ: سُنَّةَ اللهِ الَّتي قد خلَتْ في الَّذين خَلَوا؛ فذكَرَ في كلِّ سُورةٍ الطَّرَفَ الَّذي هو أعمُّ، واكْتَفى به عن الطَّرَفِ الآخَرِ، والمُرادُ بما في أوَّلِ هذه السُّورةِ النِّكاحُ، والمُرادُ بما في آخِرِ هذه السُّورةِ القتْلُ، وما في سُورةِ (الفتْحِ) يُرِيدُ به نُصرةَ اللهِ لأنبيائِه، والعُمومُ في النُّصرةِ أبلَغُ منه في النِّكاحِ والقتْلِ، ومِثلُه في (غافرٍ): سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر: 85] ؛ فإنَّ المُرادَ بها عدَمُ الانتفاعِ بالإيمانِ عندَ البأْسِ؛ فلهذا قال: قَدْ خَلَتْ .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه قال هنا: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، وفي آخِرِ السُّورةِ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] ؛ فاختَلَفا فيما أُعقِبَت به كلُّ آيةٍ منها؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ الأُولى مُعقَّبٌ بها قِصَّةُ زَينبَ أُمِّ المؤمنينَ وزيدِ بنِ حارثةَ رضِيَ اللهُ عنهما، وما جَرى في ذلك إلى أنْ تَزوَّجَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فهذه الآيةُ تأْنيسٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَسليةٌ له عن خَوضِ المنافقينَ، وتَنزيهٌ لِقَدْرِه العَلِيِّ، وتَبرئةٌ مِن كلِّ مُتوهِّمٍ فيه أدْنى نَقْصٍ، وإعلامٌ له أنَّ تلك سُنَّتُه سُبحانه في عبادِه الَّتي شاءَها وقدَّرَها، حُكْمًا ثابتًا فيمَن تَقدَّمَ مِن الرُّسلِ والأنبياءِ ومَن اهْتَدى بهَدْيِهم. وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ؛ فإنَّه سُبحانه لمَّا قال: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60، 61]، أتبَعَ تعالى بالإخبارِ أنَّ تلك سُنَّتُه الجاريةُ في الَّذين خَلَوا مِن قبْلُ .
- وأيضًا قال اللهُ تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، ولم يقُلْ: (ولن تَجِدَ)، كما في قولِه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] ؛ لأنَّ هذه سُنَّةٌ شَرعيَّةٌ لا تُرى بالمُشاهَدةِ، بل تُعلَمُ بالوَحيِ، بخِلافِ نَصرِه للمُؤمِنينَ، وعُقوبتِه للمُنذَرينَ؛ فإنَّه أمرٌ مُشاهَدٌ، فلن يُوجَدَ مُنتَقَضًا .
- قَولُه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا عبَّرَ عن السُّنَّةِ بالأمرِ تأكيدًا؛ لأنَّه لا بُدَّ منه .
3- قوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
- قولُه: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ جِيءَ بالمَوصولِ دونَ اسمِ الإشارةِ أو الضَّميرِ؛ لِمَا في هذه الصِّلةِ مِن إيماءٍ إلى انتفاءِ الحرَجِ عن الأنبياءِ في تَناوُلِ المُباحِ؛ بأنَّ اللهَ أرادَ منهم تَبليغَ الرِّسالةِ، وخشيةَ اللهِ بتَجنُّبِ ما نَهى عنه، ولم يُكلِّفْهم إشقاقَ نُفوسِهم بتَرْكِ الطَّيِّباتِ الَّتي يُرِيدونها، ولا حجْبَ وِجْدانِهم عن إدراكِ الأشياءِ على ما هي عليه؛ مِن حُسْنِ الحَسَنِ وقُبْحِ القَبيحِ، ولا عن انصِرافِ الرَّغبةِ إلى تَناوُلِ ما حَسُنَ لَدَيهم إذا كان ذلك في حُدودِ الإباحةِ، ولا كلَّفَهم مُراعاةَ مُيولِ النَّاسِ ومُصطلحاتِهم، وعَوائدِهم الرَّاجعةِ إلى الحَيدةِ بالأُمورِ عن مناهجِها؛ فإنَّ في تَناوُلِهم رَغباتِهم المُباحةَ عَونًا لهم على النَّشاطِ في تَبليغِ رِسالاتِ اللهِ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، أي: لا يَخْشَون أحدًا خشيةً تَقْتضي فِعلَ شَيءٍ أو تَرْكَه .
- وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في مَقامِ الإضمارِ في قولِه: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا حيثُ تقدَّم ذِكْرُه؛ لِقَصْدِ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ جاريةً مَجرَى المثَلِ والحِكمةِ .
4- قوله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
- قولُه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ استِئنافٌ؛ للتَّصريحِ بإبطالِ أقوالِ المنافقينَ، والَّذين في قُلوبِهم مرَضٌ، وما يُلْقِيه اليهودُ في نُفوسِ النَّاسِ مِن الشَّكِّ .
- في قولِه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ... فيه ما يُعرَفُ بالتَّلفيفِ ؛ فإنَّ قولَه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ... جَوابٌ عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ؛ وهو قولُ قائلٍ: أليس مُحمَّدٌ أبا زَيدِ بنِ حارثةَ؟ فأتَى الجوابُ يقولُ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، وكان مُقْتضَى الجوابِ أنْ يقولَ: ما كان محمَّدٌ أبا زَيدٍ، وكان يَكْفي أنْ يقولَ ذلك، ولكنَّه عُدِلَ عنه تَرشيحًا للإخبارِ بأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتمُ النَّبيِّينَ، ولا يَتِمُّ هذا التَّرشيحُ إلَّا بنَفْيِ أُبوَّتِه لأحدٍ مِن الرِّجالِ؛ فإنَّه لا يكونُ خاتمَ النَّبيِّينَ إلَّا بشَرْطِ ألَّا يكونَ له ولدٌ قد بلَغَ، فلا يَرِدُ أنَّ له الطَّاهرَ والطَّيِّبَ والقاسمَ؛ لأنَّهم لم يَبلُغوا مَبلَغَ الرِّجالِ، ثمَّ احتاطَ لذلك بقولِه: مِنْ رِجَالِكُمْ، فأضافَ الرِّجالَ إليهم لا إليه؛ فالْتَفَّ المعنى الخاصُّ في المَعنى العامِّ، وأفادَ نَفْيَ الأُبوَّةِ الكُلِّيَّةِ لأحدٍ مِن رِجالِهم، وانْطوَى في ذلك نَفْيُ الأُبوَّةِ لِزَيدٍ. ثمَّ إنَّ هناك تَلفيفًا آخَرَ؛ وهو قولُه: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ، حيثُ عُدِلَ عن لَفظِ (نَبِيٍّ) إلى لَفظةِ (رَسولٍ)؛ لِزِيادةِ المدْحِ؛ لأنَّ كلَّ رسولٍ نَبِيٌّ، ولا عَكْس على أحدِ القولَينِ، فهذا تَلفيفٌ بعْدَ تَلفيفٍ .
- وقولُه: مِنْ رِجَالِكُمْ وَصْفٌ لـ أَحَدٍ، وهو احتراسٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبو بَناتٍ، فلم يَعِشْ أحَدٌ مِن أولادِه الذُّكورِ .
- وإضافةُ (رجال) إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ، والعُدولُ عن تَعريفِه باللَّامِ؛ لِقَصْدِ تَوجيهِ الخِطابِ إلى الخائضينَ في قَضيَّةِ تَزوُّجِ زَينبَ؛ إخراجًا للكلامِ في صِيغةِ التَّغليطِ، ولإخراجِ مَن كان مِن بَنِيه؛ لأنَّهم رِجالُه، لا رجالُ المُخاطَبينَ .
- واستِدراكُ قولِه: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ؛ لِرَفْعِ ما قد يُتوهَّمُ مِن نَفْيِ أُبوَّتِه مِنِ انفصالِ صِلَةِ التَّراحُمِ والبِرِّ بيْنَه وبيْنَ الأُمَّةِ؛ فذُكِّروا بأنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فهو كالأبِ لِجَميعِ أُمَّتِه في شَفقَتِه ورَحمتِه بهم، وفي بِرِّهم وتَوقيرِهم إيَّاه، شأْنُ كلِّ نَبيٍّ مع أُمَّتِه .
- وعَطْفُ صِفةِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ على صِفَةِ رَسُولَ اللَّهِ تَكميلٌ وزِيادةٌ في التَّنويهِ بمَقامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإيماءٌ إلى أنَّ في انتفاءِ أُبوَّتِه لأحدٍ مِن الرِّجالِ حِكمةً قدَّرَها اللهُ تعالى؛ وهي إرادةُ ألَّا يكونَ إلَّا مِثلَ الرُّسلِ، أو أفضَلَ في جَميعِ خَصائصِه .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا تَذْييلٌ حَسَنٌ؛ إذ أظهَرَ مُقْتضى حِكمتِه فيما قدَّرَه مِن الأقدارِ؛ فكَوْنُه خاتمَ النَّبيِّينَ اقْتَضى ألَّا يكونَ له أبناءٌ بعْدَ وَفاتِه؛ لأنَّهم لو كانوا أحياءً بعْدَ وَفاتِه ولم تُخلَعْ عليهم خِلْعةُ النُّبوَّةِ لأجْلِ خَتْمِ النُّبوَّةِ به، كان ذلك غضًّا فيه دونَ سائرِ الرُّسلِ، وذلك ما لا يُرِيدُه اللهُ به .