موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (41-44)

ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النَّهارِ، وأصلُ (بكر): يدُلُّ على أوَّلِ الشَّيءِ وبَدئِه [842] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/124)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140)، ((تفسير القرطبي)) (14/198). .
وَأَصِيلًا: أي: آخِرَ النَّهارِ، وأصلُ (أصل) هنا: يدُلُّ على ما كان مِنَ النَّهارِ بعدَ العَشِيِّ [843] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 78)، ((تفسير القرطبي)) (14/198)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى آمِرًا بالإكثارِ مِن ذِكرِه: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، ونَزِّهوه تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه؛ هو الَّذي يُثْني عليكم، ومَلائكتُه يَدْعُونَ ويَستَغفِرونَ لكم؛ لِيُخرِجَكم مِن ظُلُماتِ الضَّلالِ والكُفرِ إلى نورِ الطَّاعةِ والإيمانِ، وكان اللهُ بعبادِه المؤمِنينَ رَحيمًا. تحيَّةُ المؤمِنينَ يومَ يَلْقَونَ رَبَّهم: سلامٌ، وأعَدَّ اللهُ لهم أجرًا حَسَنًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَرَ ما يَنبغي أن يكونَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع رَبِّه؛ مِن تَقْواه وإخلاصِه له فى السِّرِّ والعَلَنِ، وما ينبغي أن يكونَ عليه مع أهلِه وأقارِبِه؛ مِن راحتِهم وإيثارِهم على نَفْسِه فيما يَطلُبونَ- أرشَدَ عِبادَه إلى تعظيمِه تعالى وإجلالِه بذِكرِه، والتَّسبيحِ له بُكرةً وأصيلًا [844] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (22/17). .
وأيضًا فقد أمَر الله تعالى المؤمنينَ أنْ يُمسِكوا عن مُماراةِ المنافقينَ أو عن سَبِّهم فيما يُرْجِفون به في قَضيَّةِ تَزوُّجِ زَينبَ، بأنْ يَشغَلوا ألْسِنتَهم بذِكرِ اللهِ وتَسبيحِه، ويتجنَّبوا ما عَسى أنْ يُوقِعَ في مَضرَّةٍ [845] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/47). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بطاعةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتقدَّمَ بالوَصيَّةِ التَّامَّةِ في تعظيمِه، إلى أن أنهى الأمرَ في إجلالِه، وكانت طاعةُ العبدِ لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن كُلِّ وجْهٍ حتَّى يكونَ مَسلوبَ الاختيارِ معه، فيَكونَ بذلك مُسلِمًا: لا يَحمِلُ عليها إلَّا طاعةُ اللهِ، وكانت طاعةُ اللهِ كذلك لا يَحمِلُ عليها إلَّا دوامُ ذِكرِه- قال بعدَ تأكيدِ زَواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزينبَ رَضِيَ اللهُ عنها، بأنَّه هو سُبحانَه زَوَّجَه إيَّاها [846] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/369، 370). :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41).
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا اللهَ ذِكرًا كَثيرًا في جميعِ أوقاتِكم [847] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 868)، ((تفسير القرطبي)) (14/197)، ((تفسير ابن كثير)) (6/431). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] .
وقال تبارك وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10] .
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42).
أي: ونَزِّهوا اللهَ عن النَّقائِصِ والعُيوبِ، بالتَّسبيحِ أوَّلَ النَّهارِ بينَ الصُّبحِ وطُلوعِ الشَّمسِ، وآخِرَ النَّهارِ بينَ العَصرِ وغُروبِ الشَّمسِ [848] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 93)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/48). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ: التَّسبيحُ باللِّسانِ، والتَّنزيهُ لله: ابنُ جُزَي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ القيِّمِ، وابنِ رجبٍ، وابنِ كثيرٍ، واختاره الشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/154)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 93)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/525)، ((تفسير ابن كثير)) (6/436)، ((تفسير الشوكاني)) (4/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ: الصَّلاةُ: ابنُ جرير، والسمعاني، والرَّسْعَني، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((تفسير السمعاني)) (4/292)، ((تفسير الرسعني)) (6/170)، ((تفسير العليمي)) (5/371). واختار ابنُ جريرٍ والعُلَيميُّ أنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ بُكرةً وأصيلًا: صلاةُ الفَجرِ، وصلاةُ العصرِ. وقيل: بُكْرَةً: صلاة الفَجرِ، وَأَصِيلًا: صلاة الظُّهرِ والعصرِ والمغربِ والعِشاءِ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/171). وقال ابنُ عاشور: (التَّسبيحُ: يجوزُ أن يُرادَ به الصَّلواتُ النَّوافِلُ؛ ... ويجوزُ أن يكونَ المأمورُ به مِنَ التَّسبيحِ قَولَ: سُبحانَ اللهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/48). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/369). وقيل: أراد بقولِه: بُكْرَةً وَأَصِيلًا: كلَّ الأوقاتِ. وممَّن اختاره: ابنُ عطيَّةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/388). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قال حينَ يُصبِحُ وحينَ يُمسي: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه مئةَ مَرَّةٍ، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامةِ بأفضَلَ مِمَّا جاء به، إلَّا أحدٌ قال مِثلَ ما قال، أو زاد عليه )) [849] رواه مسلم (2692). .
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى بالذِّكرِ والتَّسبيحِ؛ ذكَرَ إحسانَه تعالى بصَلاتِه عليهم هو وملائِكتِه [850] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/486). .
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أي: هو الَّذي يُثني عليكم، ومَلائِكتُه يَدْعُونَ ويَستَغفِرونَ لكم؛ فيُخرِجُكم اللهُ -بسَبَبِ صَلاتِه وصلاةِ ملائكتِه- مِن ظُلُماتِ الجَهلِ والضَّلالِ والكُفرِ والعِصيانِ، إلى نورِ العِلمِ والطَّاعةِ والإيمانِ [851] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((تفسير القرطبي)) (14/198، 199)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/525)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 72)، ((تفسير ابن كثير)) (6/436)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/49، 50)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 327-329). وقال ابنُ عاشور: (اللَّامُ في قَولِه: لِيُخْرِجَكُمْ مُتعَلِّقةٌ بـ يُصَلِّي؛ فعُلِمَ أنَّ هذه الصَّلاةَ جزاءٌ عاجِلٌ حاصِلٌ وَقتَ ذِكرِهم وتَسبيحِهم. والمرادُ بـ الظُّلُمَاتِ: الضَّلالةُ، وبـ النُّورِ: الهُدى، وبإخراجِهم مِنَ الظُّلُماتِ: دوامُ ذلك، والاستزادةُ منه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/50). .
كما قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] .
وقال سُبحانَه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر: 7 - 9] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الملائِكةُ يُصَلُّونَ على أحَدِكم ما دام في مَجلِسِه الَّذي صلَّى فيه؛ يقولونَ: اللَّهُمَّ ارحَمْه، اللَّهُمَّ اغفِرْ له، اللَّهُمَّ تُبْ عليه، ما لم يُؤذِ فيه، ما لم يُحدِثْ فيه [852] ما لم يُحْدِثْ فيه: أي: ما لم يأتِ بناقضٍ للوُضوءِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (1/459). ) [853] رواه البخاري (2119)، ومسلم (649) (1/459) واللفظ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا خرَجَتْ رُوحُ المؤمِنِ تلقَّاها ملَكانِ يُصعِدانِها، ويقولُ أهلُ السَّماءِ: رُوحٌ طَيِّبةٌ جاءت مِن قِبَلِ الأرضِ، صلَّى اللهُ عليكِ وعلى جَسَدٍ كُنتِ تَعمُرينَه )) [854] رواه مسلم (2872). .
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ بعِبادِه المُؤمِنينَ رَحيمٌ؛ يهديهم في الدُّنيا، ويَلطُفُ بهم، ولا يُعَذِّبُهم في الآخِرةِ، ويُثيبُهم [855] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/124، 125)، ((تفسير ابن كثير)) (6/436)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/370، 371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 329). .
عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ مِن السَّبيِ قد تحلَّبَ [856] تحلَّبَ: أي: تهيَّأَ لأن يحلبَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/430). ثَدْيُها تَسْقي، إذا وجَدَت صَبِيًّا في السَّبيِ أخذَتْه فألصَقَتْه ببَطنِها وأرضعَتْه، فقال لنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتُرَونَ [857] أتُرَونَ: أي: أتظنُّون. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/431). هذه طارِحةً ولَدَها في النَّارِ؟! قُلنا: لا، وهي تقدِرُ على ألَّا تَطرَحَه، فقال: للهُ أرحَمُ بعِبادِه مِن هذه بوَلَدِها )) [858] رواه البخاري (5999) واللفظ له، ومسلم (2754). .
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن الله عنايتَه في الأولَى؛ بيَّن عنايتَه في الآخرةِ [859] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/172). .
وأيضًا أعقَبَ الجَزاءَ العاجِلَ الَّذي أنبأَ عنه قَولُه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ بذِكرِ جَزاءٍ آجِلٍ، وهو ظُهورُ أثَرِ الأعمالِ الَّتي عَمِلوها في الدُّنيا، وأثَرِ الجزاءِ الَّذي عُجِّل لهم عليها مِن اللهِ في كرامتِهم يومَ يَلقَونَ رَبَّهم [860] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/50، 51). .
وأيضًا لَمَّا كان أظهَرُ الأوقاتِ في ثمرةِ هذا الوصفِ ما بعدَ الموتِ؛ قال تعالى مبَيِّنًا لرحمتِهم [861] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/371). :
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ.
أي: تحيَّةُ المؤمِنينَ يومَ القيامةِ حينَ يَلقَونَ رَبَّهم: سلامٌ، فيُسلِّمُ اللهُ عليهم، ويُسلِّمُهم مِن الآفاتِ [862] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/141)، ((تفسير ابن كثير)) (6/436)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 332، 333). قال أحمدُ بنُ يحيى الملَقَّبُ بِثَعْلب في قَولِه تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ: (أجمَع أهلُ اللُّغةِ أنَّ اللِّقاءَ هاهنا لا يكونُ إلَّا مُعاينةً ونَظَرًا بالأبصارِ). يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (7/62)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 288). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقَولِه تعالى: تَحِيَّتُهُمْ ... أي: تحيَّةُ اللهِ تعالى للمُؤمِنينَ بقَولِه لهم: سلامٌ: ابنُ القيم، واستظهره ابنُ كثير، واختاره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/141)، ((تفسير ابن كثير)) (6/437)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 332، 333). وقيل: المرادُ: تحيَّةُ بَعضِ المؤمنينَ لبعضٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/124)، ((تفسير القرطبي)) (14/199). واختار مقاتل أنَّ المرادَ بقولِه: سَلَامٌ أي: تسليمُ الملائكةِ عليهم. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/499). .
كما قال تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] .
وقال سُبحانَه: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [يونس: 10] .
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا.
أي: وأعدَّ اللهُ للمُؤمِنينَ أجرًا حَسَنًا نَفيسًا [863] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/125)، ((تفسير ابن كثير)) (6/437)، ((تفسير الألوسي)) (11/222)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/51)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 334، 336). وممَّن قال بأنَّ الأجرَ الكريمَ هنا هو الجنَّةُ: ابنُ جرير، والثعلبي، والبغوي، والبيضاوي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/125)، ((تفسير الثعلبي)) (8/52)، ((تفسير البغوي)) (3/648)، ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير ابن كثير)) (6/437)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 556)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/51). وممَّن قال بهذا القول مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/125). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، وقال -في الحديثِ القُدسيِّ-: ((مَن ذَكَرَني في نَفْسِه ذكَرْتُه في نفْسي، ومَن ذكَرَني في مَلأٍ ذكَرْتُه في مَلأٍ خيرٍ منهم )) [864] رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
وذِكرُ الله بأوصافِ الجَمالِ موجِبٌ للمحَبَّةِ، وبأوصافِ الكمالِ موجِبٌ للمَهابةِ، وبالتَّوَحُّدِ بالأفعالِ موجِبٌ لِلتَّوكُّلِ، وبسَعةِ الرَّحمةِ موجِبٌ للرَّجاءِ، وبشِدَّةِ النِّقمةِ موجِبٌ للخَوفِ، وبالتَّفرُّدِ بالإنعامِ موجِبٌ للشُّكرِ؛ ولذلك قال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا.
فذِكرُ الله أصلُ العباداتِ، وأُسُّ المعاملاتِ؛ لأنَّ ذِكرَ هذه الأوصافِ موجِبٌ للأحوالِ السَّنيَّةِ، والأقوالِ والأعمالِ المَرْضيَّةِ، وذلك موجِبٌ للدَّرَجاتِ في جِوارِ خالقِ البَريَّةِ، في العيشةِ الهَنيَّةِ [865] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز ابن عبد السلام (ص: 74). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا يأمُرُ تعالى المؤمِنينَ بذِكرِه ذِكرًا كَثيرًا؛ مِن تهليلٍ وتحميدٍ، وتسبيحٍ وتكبيرٍ، وغَيرِ ذلك مِن كُلِّ قَولٍ فيه قُربةٌ إلى اللهِ؛ وأقَلُّ ذلك أن يلازِمَ الإنسانُ أورادَ الصَّباحِ والمساءِ وأدبارِ الصَّلواتِ الخَمسِ، وعندَ العوارِضِ والأسبابِ. ويَنبغي مداومةُ ذلك في جميعِ الأوقاتِ على جميعِ الأحوالِ؛ فإنَّ ذلك عبادةٌ يَسبِقُ بها العامِلُ وهو مُستريحٌ، وداعٍ إلى محبَّةِ اللهِ ومَعرفتِه، وعَونٌ على الخيرِ وكفِّ اللَّسانِ عن الكلامِ القَبيحِ [866] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 667). .
3- إن قيل: إنَّ العَبدَ في بعضِ الأحيانِ قد لا يكونُ عِندَه محبَّةٌ تَبعَثُه على طلَبِ محبوبِه، فأيُّ شَيءٍ يُحَرِّكُ القُلوبَ؟
قُلْنا: يحَرِّكُها شيئانِ:
 أحدُهما: كَثرةُ الذِّكرِ للمَحبوبِ؛ لأنَّ كَثرةَ ذِكرِه تُعَلِّقُ القلوبَ به؛ ولهذا أمَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بالذِّكرِ الكثيرِ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
 والثَّاني: مُطالعةُ آلائِه ونَعْمائِه؛ قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [867] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/95). [الأعراف: 69] .
4- قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ هذا تهييجٌ إلى الذِّكرِ، أي: إنَّه سُبحانَه يَذكُرُكم فاذكُروه أنتم [868] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/436). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا أنَّ الذِّكْرَ مِن الإيمانِ بالله تعالى ومِن مقتضياتِه؛ لأنَّ الله إذا خاطَب المؤمنينَ بوصفِ الإيمانِ كان ذلك دليلًا على أنَّ ما خُوطِبوا به مِن مقتضياتِ الإيمانِ، وأنَّ مخالفتَه نقصٌ في الإيمانِ [869] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 324، 325). .
2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا اشتَرَط اللهُ الكَثرةَ في الذِّكرِ حيثما أَمَر به، بخِلافِ سائِرِ الأعمالِ. والذِّكرُ يكونُ بالقَلبِ وباللِّسانِ، وهو على أنواعٍ كَثيرةٍ؛ مِنَ التَّهليلِ والتَّسبيحِ، والحَمدِ والتَّكبيرِ، وذِكرِ أسماءِ اللهِ تعالى [870] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/154). إلى غيرِ ذلك.
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا أنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالذِّكرِ؛ وجْهُه: أنَّ كلَّ ما كان مِن مُقتَضياتِ الشَّيءِ فإنَّه يَزدادُ به، كما أنَّ نَقصَ الذِّكرِ نَقصٌ في الإيمانِ [871] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 325). .
4- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ أنَّ ذِكرَه سُبحانَه سَبَبٌ لصَلاتِه على عَبدِه وذِكرِه له [872] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1481). وصلاةِ ملائكتِه عليه، ومَن صلَّى الله تعالى عليه وملائكتُه فقد أفلَح كلَّ الفلاحِ، وفاز كلَّ الفوزِ، وهذه الصَّلاةُ منه تبارَك وتعالى ومِن ملائكتِه إنَّما هي سببُ الإخراجِ لهم مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ [873] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 72) .
5- أوَّلُ مَنازِلِ القَومِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وأوسَطُها: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وآخِرُها: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [874] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 34). .
6- في قَولِه تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا مَشروعيَّةُ التَّسبيحِ في الغُدُوِّ والآصالِ، ولا شَكَّ أنَّ التَّسبيحَ في كلِّ وقتٍ، لكنْ كثرةُ التَّسبيحِ في أوَّلِ اليَومِ وآخِرِه [875] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 326). .
7- في قَولِه تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أنَّ وقتَ الفجرِ ووقتَ العصرِ هما أفضلُ أوقاتِ النَّهارِ للذِّكْرِ؛ ولهذا أمَرَ اللهُ تعالى بذكرِه فيهما [876] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/525). .
8- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي إثباتُ الكلامِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الصَّلاةَ منه تعالى هي: الثَّناءُ على العَبدِ في الملأِ الأعلى [877] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 330). .
9- في قَولِه تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إثباتُ العِلَلِ والحِكَمِ لأفعالِ اللهِ تعالى [878] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 330). .
10- في قَولِه تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا الرَّدُّ على الأشعريَّةِ ونَحوِهم ممَّن يُنكِرونَ وَصفَ اللهِ تعالى بالرَّحمةِ [879] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 331). .
11- في قَولِه تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا أنَّ الإيمانَ هو مِن أسبابِ رحمةِ اللهِ، وكلَّما كان الإيمانُ أقوَى؛ كانتِ الرَّحمةُ إلى صاحبِه أقرَبَ، بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ [880] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/215). .
12- قَولُه تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ مُتعَلِّقٌ بـ رَحِيمًا، وتقديمُ المعمولِ يدُلُّ على الحَصرِ؛ فيكونُ معنى الآيةِ: وكان بالمؤمِنينَ -لا غَيرِهم- رَحيمًا، ولكنْ كيف نَجمَعُ بيْنَ هذه الآيةِ وبينَ قَولِه تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7] ؟
والجوابُ: أنَّ الرَّحمةَ التي هنا غيرُ الرَّحمةِ الَّتي هناك؛ هذه رحمةٌ خاصَّةٌ متَّصِلةٌ برَحمةِ الآخرةِ لا يَنالُها الكُفَّارُ، بخِلافِ الأُولى، هذا هو الجَمعُ بيْنَهما، وإلَّا فكلٌّ مَرحومٌ، لكنْ فَرقٌ بينَ الرَّحمةِ الخاصَّةِ والرَّحمةِ العامَّةِ [881] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/208). .
13- قَولُ الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ، ذكَرَ السَّلامَ؛ لأنَّه هو الدَّليلُ على الخَيراتِ؛ فإنَّ مَن لَقِيَ غيرَه، وسلَّم عليه، دلَّ على المُصافاةِ بيْنَهما، وإن لم يُسَلِّمْ دلَّ على المُنافاةِ [882] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/172). .
14- في قَولِه تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ إثباتُ كلامِ اللهِ تعالى؛ وأنَّه يتكلَّمُ، ويؤيِّدُه قولُه تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ؛ لأنَّه يَتكلَّمُ به تعالى، ويقولُه قولًا [883] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 335). .
15- قَولُ الله تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا فيه سؤالٌ: لو قال قائِلٌ: الإعدادُ إنَّما يكونُ ممَّن لا يَقدِرُ عندَ الحاجةِ إلى الشَّيءِ عليه، وأمَّا اللهُ تعالى فلا حاجةَ ولا عجزَ؛ فحيث يَلْقاه اللهُ يؤتيه ما يَرضى به وزيادةً، فما معنى الإعدادِ مِن قَبْلُ؟
الجوابُ: الإعدادُ للإكرامِ لا للحاجةِ، وهذا كما أنَّ المَلِكَ إذا قيل له: فلانٌ واصِلٌ، فإذا أراد إكرامَه يُهيِّئُ له بيتًا وأنواعًا مِن الإكرامِ، ولا يقولُ بأنَّه إذا وصَل نفتَحُ بابَ الخِزانةِ، ونؤتيه ما يُرضيه؛ فلِكَمالِ الإكرامِ أعدَّ اللهُ للذَّاكِرِ أجرًا كريمًا [884] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/172، 173). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا استِئنافٌ ابتدائيٌّ مُتَّصِلٌ بما قبْلَه؛ فالجُملةُ إقبالٌ على مُخاطَبةِ المؤمنينَ بأنْ يَشغَلوا ألْسِنتَهم بذِكرِ اللهِ وتَسبيحِه، أي: أنْ يُمسِكوا عن مُماراةِ المنافقينَ أو عن سَبِّهم فيما يُرْجِفون به في قَضيَّةِ تَزوُّجِ زَينبَ، فأُمِروا بتَشغيلِ ألْسِنتِهم وأوقاتِهم بما يَعودُ بنَفْعِهم، وتَجنُّبِ ما عَسى أنْ يُوقِعَ في مَضرَّةٍ. وفيه تَسجيلٌ على المنافقينَ بأنَّ خَوضَهم في ذلك بعْدَ هذه الآيةِ علامةٌ على النِّفاقِ؛ لأنَّ المؤمنينَ لا يُخالِفون أمْرَ ربِّهم [885] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/47). .
2- قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إذا كان المأمورُ به مِن التَّسبيحِ قولَ: (سُبحانَ اللهِ)؛ فيكونُ عطْفُ وَسَبِّحُوهُ على اذْكُرُوا اللَّهَ مِن عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ؛ اهتمامًا بالخاصِّ؛ لأنَّ معنى التَّسبيحِ التَّنزيهُ عمَّا لا يجوزُ على اللهِ مِن النَّقائصِ، فهو مِن أكمَلِ الذِّكرِ؛ لاشتِمالِه على جَوامعِ الثَّناءِ والتَّمجيدِ، ولأنَّ في التَّسبيحِ إيماءً إلى التَّبرُّؤِ ممَّا يقولُه المُنافقون في حقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [886] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/545)، ((تفسير البيضاوي)) (4/233)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/441)، ((تفسير أبي حيان)) (8/486)، ((تفسير أبي السعود)) (7/106)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/48). .
- قولُه: بُكْرَةً وَأَصِيلًا المَقصودُ مِن البُكرةِ والأصيلِ إعمارُ أجْزاءِ النَّهارِ بالذِّكرِ والتَّسبيحِ بقَدْرِ المُكنةِ؛ لأنَّ ذِكرَ طَرَفَيِ الشَّيءِ يكونُ كِنايةً عن استِيعابِه [887] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/48). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وقُدِّمَ البُكرةُ على الأصيلِ؛ لأنَّ البُكرةَ أسبَقُ مِن الأصيلِ لا مَحالةَ. وليس الأصيلُ جَديرًا بالتَّقديمِ في الذِّكرِ كما قُدِّمَ لَفظُ تُمْسُونَ في قولِه في سُورةِ (الرُّومِ): فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] ؛ لأنَّ كلمةَ (المساءِ) تَشمَلُ أوَّلَ اللَّيلِ؛ فقُدِّمَ لفظُ تُمْسُونَ هنالك رَعيًا لاعتبارِ أنَّ اللَّيلَ أسبَقُ في حِسابِ أيَّامِ الشَّهرِ عندَ العرَبِ وفي الإسلامِ، وليست كذلك كلمةُ (الأصيلِ) [888] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/48). .
3- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
- قولُه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ استِئنافٌ جارٍ مَجرى التَّعليلِ لِمَا قبْلَه مِن الأمْرينِ بذِكرِ اللهِ وتَسبيحِه؛ بأنَّ ذلك مَجْلَبةٌ لانتفاعِ المؤمنينَ بجَزاءِ اللهِ على ذلك بأفضَلَ منه مِن جِنسِه، وهو صَلاتُه وصَلاةُ ملائكتِه [889] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/49). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه هُوَ الَّذِي على الخبَرِ الفِعليِّ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ؛ لإفادةِ التَّقَوِّي وتَحقيقِ الحُكمِ، والمقصودُ تَحقيقُ ما تَعلَّقَ بفِعلِ يُصَلِّي مِن قولِ: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [890] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/49). .
- واجتِلابُ يُصَلِّي بصِيغةِ المُضارعِ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ الصَّلاةِ وتَجدُّدِها كلَّما تَجدَّدَ الذِّكرُ والتَّسبيحُ، أو إفادةِ تَجدُّدِها بحَسَبِ أسبابٍ أُخرى مِن أعمالِ المؤمنينَ، ومُلاحظةِ إيمانِهم [891] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/49). .
- وأيضًا في إيرادِ الموصولِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إشارةٌ إلى أنَّه تعالى مَعروفٌ عِندَهم بمَضمونِ الصِّلةِ: فإمَّا لأنَّ المسلمينَ يَعلَمون على وَجهِ الإجمالِ أنَّهم لا يَأْتيهم خيرٌ إلَّا مِن جانبِ اللهِ تعالى؛ فكلُّ تَفصيلٍ لذلك الإجمالِ دخَلَ في عِلمِهم، ومنه أنَّه يُصلِّي عليهم، ويَأمُرُ ملائكتَه بذلك، وإمَّا أنْ يكونَ قد سبَقَ لهم عِلمٌ بذلك تَفصيلًا مِن قبْلُ في بعضِ آياتِ القرآنِ، كقولِه تعالَى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [892] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/49، 50). [الشورى: 5] .
- والإضافةُ في قَولِه: وَالْمَلَائِكَةُ للتَّشريفِ والتَّكريمِ [893] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 330). .
- وجُملةُ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قبْلَه. ودلَّ الإخبارُ عن رَحمتِه بالمؤمنينَ بإقحامِ فِعلِ (كان) وخَبرِها؛ لِمَا تَقْتضيهِ (كان) مِن ثُبوتِ ذلك الخبَرِ له تعالى، وتَحقُّقِه، وأنَّه شأنٌ مِن شُؤونِه المعروفِ بها في آياتٍ كثيرةٍ [894] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/50). .
- وقولُه: (الْمُؤْمِنِينَ) مُظهَرٌ وُضِعَ مَوضعَ المُضمَرِ؛ مَدْحًا لهم، وإشعارًا بعِلَّةِ الرَّحمةِ [895] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/107). .
4- قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا
- قولُه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ بَيانٌ للأحكامِ الآجِلةِ لِرَحمةِ اللهِ تعالى بهم بعدَ بَيانِ آثارِها العاجلةِ الَّتي هي الاعتناءُ بأمْرِهم، وهِدايتُهم إلى الطَّاعةِ؛ فالجُملةُ تَكملةٌ للَّتي قبْلَها؛ لإفادةِ أنَّ صلاةَ اللهِ وملائكتِه واقعةٌ في الحياةِ الدُّنيا وفي الدَّارِ الآخرةِ [896] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/50، 51). .
- وقولُه: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا التَّهيئةُ واقِعةٌ قبْلَ دُخولِ الجنَّةِ، والتَّحيةِ؛ ولذا لم تخرُجِ الجُملةُ مَخرَجَ ما قَبْلَها، بأن يقالَ: وأجرُهم أجرٌ كريمٌ، أو: ولهم أجرٌ كريمٌ. وقيل: هي بعدَ الدُّخولِ والتَّحيَّةِ؛ فالكلامُ لِبَيانِ آثارِ رحمتِه تعالى الفائِضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عَقيبَ بَيانِ آثارِ رحمتِه الواصِلةِ إليهم قبْلَ ذلك [897] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/222). .
- ولعلَّ إيثارَ الجُملةِ الفِعليَّةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا على الاسميَّةِ المُناسِبةِ لِمَا قبْلَها -بأنْ يُقالَ مثَلًا: (وأجْرُهم أجْرٌ كريمٌ)، أو (ولهمْ أجْرٌ كريمٌ)-؛ للمُبالَغةِ في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببَيانِ أنَّ الأجرَ -الَّذي هُو المقصدُ الأقصى مِن بَيْنِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ- مَوجودٌ بالفِعلِ، مُهيَّأٌ لهم، مع ما فيه مِن مُراعاةِ الفواصلِ [898] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير أبي السعود)) (7/107). .