موسوعة التفسير

سُورةُ الجُمُعةِ
الآيات (9-11)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

وَذَرُوا: أي: اتْرُكوا، ودَعُوا، يُقالُ: فُلانٌ يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يَقذِفُه لقِلَّةِ اعتِدادِه به .
فَانْتَشِرُوا: أي: فتفرَّقوا لإقامةِ مَصالِحِكم، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه .
وَابْتَغُوا: أي: اطْلُبوا، مِن بغَى الشَّيءَ، أي: طَلبَه .
تُفْلِحُونَ: أي: تَفوزون بالمطلوبِ، وتَنجون مِن المرهوبِ، وأصلُ الفلاحِ: البقاءُ والفوزُ والظَّفَرُ، وإدراكُ البُغيةِ، ثمَّ قيل لكلِّ مَن عقَل وحزُمَ وتكاملتْ فيه خِلالُ الخَيرِ، والعربُ تقولُ لكلِّ مَن أصاب خيرًا: مُفلِحٌ، وأصلُ (فلح) هنا: يدُلُّ على فَوزٍ وبَقاءٍ .
لَهْوًا: اللَّهْوُ: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعْنيه ويُهِمُّه، وأصلُ (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بشَيءٍ .
انْفَضُّوا: أي: تَفرَّقوا، والفضُّ: كَسْرُ الشَّيءِ، والتَّفريقُ بيْنَ بَعضِه وبَعضِه، وأصلُ (فضض): يدُلُّ على التَّفريقِ والتَّجزئةِ .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى المؤمنينَ بالمسارعةِ إلى أداءِ فرائضِه، وألَّا تَشغلَهم الدُّنيا عن ذِكْرِه وطاعتِه، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إذا نُودِيَ للصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعةِ فامضوا إلى الخُطبةِ والصَّلاةِ، واتْرُكوا البَيعَ؛ ذلكم خَيرٌ لكم إنْ كنتُم تَعلَمونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى جانبًا مِن مَظاهِرِ التَّيسيرِ في شَرعِه، ومُراعاةِ أحوالِ عبادِه، فيقولُ: فإذا فَرَغْتُم مِن صَلاةِ الجُمُعةِ فتفرَّقوا في الأرضِ، واطْلُبوا مِن رِزقِ اللهِ إنْ شِئتُم؛ فلا حَرَجَ عليكم، واذكُروا اللهَ ذِكرًا كَثيرًا؛ لعَلَّكم تُفلِحونَ.
ثمَّ يعاتِبُ اللهُ تعالى بعضَ أصحابِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيَقولُ: وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهْوًا وَقْتَ خُطبةِ الجُمُعةِ، انصَرَفوا إليها، وتَرَكوك -يا محمَّدُ- قائِمًا على المِنبَرِ تَخطُبُ. قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: ما عِندَ اللهِ خَيرٌ مِن لذَّةِ اللَّهوِ ومِن رِبحِ التِّجارةِ، واللهُ خيرُ الرَّازِقِينَ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَبَّح اللهُ سُبحانَه المُخالَفةَ بيْن القَولِ والفِعلِ، وصوَّرَ صاحِبَها بصُورةِ الحِمارِ على الهيئةِ السَّابقةِ، وحذَّرَ مِن ذلك بما هيَّأَ به العاقِلَ للإجابةِ إلى دوامِ الطَّاعةِ بعْدَ أن بيَّنَ أنَّ جَميعَ الكائِناتِ تُسبِّحُه، وخَتَم بالتَّحذيرِ مِنَ الإخبارِ يومَ الجَمْعِ الأعظَمِ بجَميعِ الأعمالِ؛ قال على طريقِ الاستنتاجِ مِمَّا مضى مِن التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، نادبًا لهم -لِيَكونوا أولياءَ اللهِ- إلى التَّزكيةِ المذكورةِ الَّتي هي ثَمَرةُ الرِّسالةِ بما حاصِلُه الإقبالُ بالكُلِّيَّةِ على اللهِ، والإعراضُ بالكُلِّيَّةِ عن الدُّنيا؛ لِيَجمَعَ المكَلَّفُ بيْن التَّحَلِّي بالمزايا، والتَّخَلِّي عن الدَّنايا، فخَصَّ مِن المزايا أعظَمَ تَسبيحٍ يَفعَلُه العاقِلُ في أيَّامِ الأُسبوعِ، وهو الإسراعُ بالاجتِماعِ العَظيمِ في يومِ الجُمُعةِ الَّذي يُناظِرُ الاجتماعَ لإجابةِ المُنادي في يومِ الجَمعِ الأكبَرِ، ثمَّ الإقبالُ الأعظَمُ بفِعْلِ صَلاةِ الجُمُعةِ الَّتي هي سِرُّ اليومِ الَّذي ضَيَّعَه اليَهودُ، واستَبدَلوا به ما كان سَبَبَ تَعذيبِهم بعذابٍ لم يُعَذَّبْ به أحدٌ مِنَ العالَمينَ .
وأيضًا بعدَ أنْ نعَى على اليهودِ فِرارَهم مِن الموتِ حبًّا في الدُّنيا والتَّمتُّعِ بطَيِّباتِها- ذكَرَ هنا أنَّ المؤمنَ لا يُمنَعُ مِنِ اجتناءِ ثمارِ الدُّنيا وخَيراتِها مع السَّعيِ لِما يَنفَعُه في الآخرةِ، كالصَّلاةِ يومَ الجُمُعةِ في المسجدِ مع الجماعةِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إذا أذَّن المؤذِّنُ داعِيًا إلى الصَّلاةِ في يَومِ الجُمُعةِ -وذلك عندَ قُعودِ الإمامِ على المِنبَرِ للخُطبةِ-؛ فامضوا إلى خُطبة الجمعةِ وصَلاتِها مُبادِرينَ مُهْتمِّينَ، واتْرُكوا البَيعَ .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نحن الآخِرونَ السَّابِقونَ يومَ القيامةِ، بَيْدَ أنَّهم أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهم، وهذا يَومُهم الَّذي فُرِضَ عليهم، فاختَلَفوا فيه، فهَدانا اللهُ له، فهُمْ لنا فيه تَبَعٌ، فاليَهودُ غَدًا، والنَّصارى بعدَ غَدٍ)) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ اغتَسَل يومَ الجُمُعةِ غُسْلَ الجَنابةِ ثمَّ راح فكأنَّما قَرَّب بَدَنةً ، ومَن راح في السَّاعةِ الثَّانيةِ فكأنَّما قَرَّب بَقَرةً، ومَن راح في السَّاعةِ الثَّالثةِ فكأنَّما قَرَّب كَبشًا أقرَنَ ، ومَن راح في السَّاعةِ الرَّابِعةِ فكأنَّما قَرَّب دجاجةً، ومَن راح في السَّاعةِ الخامِسةِ فكأنَّما قَرَّب بَيضةً، فإذا خرجَ الإمامُ حَضَرت الملائِكةُ يَستَمِعونَ الذِّكْرَ)) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، أنَّهما سَمِعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ على أعوادِ مِنبَرِه: ((لَيَنتَهيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهمُ الجُمُعاتِ، أو لَيَختِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثمَّ لَيَكُونُنَّ مِن الغافِلينَ)) .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: السَّعيُ إلى الخُطبةِ والصَّلاةِ يَومَ الجُمُعةِ، وتَركُ البَيعِ: خَيرٌ لكم مِنَ البَيعِ والشِّراءِ في ذلك الوَقتِ إنْ كُنتُم تَعلَمونَ .
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على الصَّلاةِ، وأرشَدَ إلى أنَّ وَقتَها لا يَصلُحُ لطَلَبِ شَيءٍ غَيرِها، وأنَّه متى طُلِبَ فيه شَيءٌ مِن الدُّنيا، مُحِقَت بَرَكتُه، مع ما اكتُسِب مِن الإثمِ- بيَّن وَقْتَ المَعاشِ، فقال مُبيحًا لهم ما كان حُظِرَ عليهم :
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
أي: فإذا فَرَغْتُم مِن صَلاةِ الجُمُعةِ فتفرَّقوا في الأرضِ، واطْلُبوا مِن رِزقِ اللهِ إنْ شِئتُم؛ فلا حَرَجَ عليكم في ذلك .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الاشتِغالُ في التِّجارةِ مَظِنَّةَ الغَفْلةِ عن ذِكرِ اللهِ؛ أمرَ اللهُ بالإكثارِ مِن ذِكْرِه .
وأيضًا لَمَّا كان السَّعيُ في طَلَبِ الرِّزقِ مُلْهيًا عن الذِّكْرِ؛ بَيَّن أنَّه أعظَمُ السَّعيِ في المعاشِ، وأنَّ مَن غَفَل عنه لم يَنجَحْ له مَقصَدٌ، وإن تحايَلَ له بكُلِّ الحِيَلِ وغَيرِ ذلك .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: واذكُروا اللهَ ذِكرًا كَثيرًا في جميعِ أحوالِكم، فلا تُلْهِيَنَّكم تجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ؛ لعَلَّكم تَظفَرونَ بما تَطلُبونَه مِن الخَيرِ، وتَنجون ممَّا تَرهبون .
كما قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] .
وقال سُبحانَه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11).
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخطُبُ قائِمًا يومَ الجُمُعةِ، فجاءت عِيرٌ مِن الشَّامِ، فانفتَلَ النَّاسُ إليها، حتَّى لم يَبْقَ إلَّا اثنا عَشَرَ رَجُلًا؛ فأُنزِلَت هذه الآيةُ الَّتي في الجُمُعةِ: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.
أي: يقولُ اللهُ تعالى مُعاتِبًا بعضَ أصحابِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهْوًا وَقْتَ خُطبةِ الجُمُعةِ الَّتي هي جَديرةٌ بشِدَّةِ الإصغاءِ إليها، والاتِّعاظِ بها في صَرْفِ النَّفْسِ عن الدُّنيا، والإقبالِ على الآخِرةِ؛ انصَرَفوا إلى تلك التِّجارةِ مُسرِعينَ، وتَرَكوك -يا محمَّدُ- قائِمًا على المِنبَرِ تَخطُبُ .
قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنصَرِفينَ إلى التِّجارةِ أو اللَّهوِ: ما عِندَ اللهِ مِن الأجرِ والثَّوابِ خَيرٌ لِمَن يَسمَعُ خُطبةَ الجُمُعةِ، ويَحضُرُ صَلاتَها، مِن لذَّةِ اللَّهوِ، ومِن رِبحِ التِّجارةِ !
كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36، 37].
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
أي: واللهُ خيرُ مَن رزَق وأعطَى في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فليس الصَّبرُ على طاعةِ اللهِ مُفَوِّتًا للرِّزقِ، ومَن اتَّقى اللهَ رَزَقَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه أنَّه ينبغي للعَبدِ المُقبِلِ على عِبادةِ اللهِ، وَقتَ دَواعي النَّفْسِ لحُضورِ اللَّهوِ والتِّجاراتِ والشَّهَواتِ: أن يُذَكِّرَها بما عندَ اللهِ مِن الخَيراتِ، وما لِمُؤْثِرِ رِضاه على هَواه .
2- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أنَّ الإنسانَ يَنبغي له إذا قَضى مِن العبادةِ ألَّا يَغْفُلَ بَعْدَها عن ذِكْرِ اللهِ ؛ فلا تظُنُّوا أنَّكم إذا فَرَغْتُم مِن ذِكْرِ اللهِ في الخُطبةِ والصَّلاةِ أنَّكم انتَهَيتُم مِن ذِكْرِ اللهِ. لا؛ ذِكْرُ اللهِ في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ مَكانٍ ، فسائرُ العباداتِ تَنقضي ويُفرَغُ منها، وذِكرُ الله باقٍ لا يَنقضي ولا يُفرَغُ منه، بل هو مُستمِرٌّ للمؤمنينَ في الدُّنيا والآخرةِ .
3- تحقيقُ التَّوكُّلِ لا يُنافي السَّعْيَ في الأسبابِ الَّتي قَدَّر اللهُ سُبحانَه المَقْدوراتِ بها، وجَرَتْ سُنَّتُه في خَلْقِه بذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالَى أمَر بتعاطي الأسبابِ معَ أمْرِه بالتَّوكُّلِ، فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجَوارحِ طاعةٌ له، والتَّوكُّلُ بالقلبِ عليه إيمانٌ به، كما قال تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاءِ: 71]، وقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 60] .
4- قَولُ الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه أنَّ الإكثارَ مِن ذِكرِ اللهِ أكبَرُ أسبابِ الفَلاحِ ؛ فقد علَّق الفَلاحَ بالإكثارِ مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ... إنَّما سُمِّيَت الجُمُعةُ جُمعةً؛ لأنَّها مُشتقَّةٌ مِنَ الجَمعِ؛ فإنَّ أهلَ الإسلامِ يجتَمِعونَ فيه في كلِّ أُسبوعٍ مَرَّةً بالمعابدِ الكِبارِ، وفيه كَمَل جميعُ الخلائِقِ؛ فإنَّه اليَومُ السَّادِسُ مِن السِّتَّةِ الَّتي خَلَق اللهُ فيها السَّمَواتِ والأرضَ، وفيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدخِلَ الجنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، وفيه تقومُ السَّاعةُ ، وفيه ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مُؤمِنٌ يَسألُ اللهَ فيها خيرًا إلَّا أعطاه إيَّاه ، كما ثَبتَت بذلك الأحاديثُ الصِّحَاحُ... وثَبَت أنَّ الأُمَمَ قَبْلَنا أُمِروا به فَضَلُّوا عنه، واختار اليهودُ يومَ السَّبتِ الَّذي لم يقَعْ فيه خَلقٌ، واختار النَّصارى يومَ الأحَدِ الَّذي ابتُدِئَ فيه الخَلْقُ، واختار اللهُ لهذه الأمَّةِ يومَ الجُمُعةِ الَّذي أكمَلَ اللهُ فيه الخليقةَ .
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ خِطابُ الآيةِ لجَميعِ المؤمِنينَ؛ فدَلَّ على أنَّ الجُمُعةَ واجِبةٌ على الأعيانِ ممَّن تتحقَّقُ فيهم شُروطُها.
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ يدُلُّ على أنَّ الجُمُعةَ لا تَجِبُ إلَّا بالنِّداءِ، والنِّداءُ لا يكونُ إلَّا بدُخولِ الوَقتِ .
4- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه مَشروعيَّةُ الأذانِ لصَلاةِ الجُمُعةِ .
5- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه مَشروعيَّةُ صَلاةِ الجُمُعةِ .
6- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ استَدَلَّ به مَن قال: إنَّه يَجِبُ إتيانُ مَن هو في مكانٍ يَسمَعُ فيه النِّداءَ .
7- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ استَدَلَّ به مَن قال: لا يُحتاجُ إلى إذْنِ السُّلطانِ؛ لأنَّه تعالى أوجَبَ السَّعيَ، ولم يَشتَرِطْ إذْنَ أحَدٍ .
8- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ دَلالةٌ على اشتِراطِ تَقَدُّمِ الخُطبتَينِ على الصَّلاةِ؛ فقد أَمَرَ سُبحانَه بالسَّعيِ إلى ذِكْرِ اللهِ مِن حينِ النِّداءِ، وبالتَّواتُرِ القَطْعيِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا أَذَّنَ المؤذِّنُ يومَ الجُمُعةِ خَطَبَ؛ إذَنْ فالسَّعيُ إلى الخُطبةِ واجِبٌ، وما كان السَّعيُ إليه واجِبًا فهو واجِبٌ؛ لأنَّ السَّعيَ وسيلةٌ إلى إدراكِه وتحصيلِه، فإذا وجبتِ الوَسيلةُ وَجَبتِ الغايةُ .
9- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه أنَّ الخُطبَتَينِ يومَ الجُمُعةِ فَريضتانِ يَجِبُ حُضورُهما؛ لأنَّه فُسِّرَ (الذِّكرُ) هنا بالخُطبتَينِ -مع الصَّلاةِ-، فأمَرَ اللهُ بالمُضِيِّ إليه، والسَّعْيِ له .
10- في قَولِه تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أنَّ خُطْبةَ الجُمُعةِ هي مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى .
11- أنَّه يَكفي في عَدَدِ الجُمُعةِ ثلاثةٌ؛ فلو فُرِضَ أنَّ قريةً ليس فيها سِوى ثلاثةِ نَفَرٍ فإنَّها تُقامُ الجُمُعةُ؛ لأنَّه يَحصُلُ بهم الجَمعُ: إمامٌ يَخطبُ، ومؤذِّنٌ يَدعو، ومأمومٌ يُجيبُ، وقد قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، المنادي: المؤذِّنُ، ولا بُدَّ مِن خَطيبٍ، ولا بُدَّ مَن مَدْعُوٍّ .
12- إنْ قيل: كيف يُفسَّرُ ذِكرُ اللهِ بالخُطْبةِ -مع الصَّلاةِ-، وفي الخُطبةِ ذِكرُ غيرِ اللهِ؟
فالجوابُ: أنَّ ما كان مِن ذِكرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والثَّناءِ عليه وعلى خُلَفائِه الرَّاشِدينَ وأتْقياءِ المؤمِنينَ، والموعِظةِ والتَّذكيرِ: فهو في حُكْمِ ذِكرِ اللهِ .
13- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه النَّهيُ عن البَيعِ والشِّراءِ بعدَ نداءِ الجُمُعةِ، وتحريمُ ذلك؛ وما ذاك إلَّا لأنَّه يفوِّتُ الواجِبَ، ويَشغَلُ عنه، فدَلَّ ذلك على أنَّ كُلَّ أمرٍ ولو كان مُباحًا في الأصلِ، إذا كان يَنشَأُ عنه تفويتُ واجِبٍ؛ فإنَّه لا يجوزُ في تلك الحالِ ، وكذلك جميعُ العُقودِ، لا يُستَثنَى مِن ذلك النِّكاحُ ولا القَرْضُ ولا الرَّهنُ، ولا غيرُها، نعم، رُبَّما يقولُ قائلٌ: إنَّ عقودَ التَّبَرُّعاتِ -كالهِبَةِ- لا تَضُرُّ؛ لأنَّها لا تُلْهي ولا تُشْغِلُ، فمَثَلًا لو أنَّ رجُلَينِ أقبَلَا على المسجِدِ، وفي حال إقبالِهما أُذِّنَ لصَلاةِ الجُمُعةِ، فوَهَبَ أحدُهما الآخَرَ شيئًا، فهنا قد يُقالُ: إنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّه لَمْ يَحصُلْ بذلك إشغالٌ ولا إِلْهاءٌ، لكنَّ شيئًا يحتاجُ إلى معالجةٍ، ونقولُ: إنَّه يصحُّ مع أنَّ اللهَ نهى عن البَيعِ! هذا فيه نظرٌ .
14- إنَّ المعاملاتِ الَّتي يُكتسَبُ بها المالُ لا يُنهى عنها مُطلقًا لِكَونِها تَصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعنِ الصَّلاةِ، بل يُنهى منها عمَّا يَصُدُّ عن الواجِبِ، كما قال تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ، وقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فمَا كانَ مُلْهِيًا وشاغِلًا عمَّا أمَر اللَّهُ تعالَى به مِن ذِكْرِه والصَّلاةِ له فهو مَنْهِيٌّ عنه، وإنْ لم يَكُنْ جِنسُه مُحَرَّمًا كالبيعِ والعملِ في التِّجارةِ وغيرِ ذلك .
15- في قَولِه تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أنَّ التَّفضيلَ لا يدُلُّ على أنَّ المفضولَ جائزٌ؛ فقد جَعَلَ سُبحانَه السَّعيَ إلى الجُمُعةِ خَيرًا مِن البَيعِ. والسَّعيُ واجِبٌ، والبَيعُ حَرامٌ .
16- قَولُ الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فيه سُؤالٌ: ما الفَرقُ بيْنَ ذِكرِ اللهِ أوَّلًا، وذِكرِ اللهِ ثانيًا؟
الجوابُ: الأوَّلُ مِن جُملةِ ما لا يَجتَمِعُ مع التِّجارةِ أصلًا؛ إذ المرادُ منه الخُطبةُ والصَّلاةُ. والثَّاني: ما يجتَمِعُ، كما في قَولِه تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37].
17- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ الخَيريَّةَ تكونُ في الواجبِ وتكونُ في المستحَبِّ .
18- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ إشارةٌ إلى أنَّه لا خُطبةَ بعدَ صلاةِ الجُمُعةَ، فليس هناك خُطبةٌ ولا كلامٌ ولا مَوعِظةٌ، فإنَّه تَكفي المواعِظُ الَّتي في الخُطبةِ الَّتي قبْلَ الصَّلاةِ، والَّتي كانت مَشروعةً في هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
19- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أباح الانتِشارَ عَقِبَ الصَّلاةِ، فيُستفادُ منه تقديمُ الخُطبةِ عليها .
20- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أنَّ الفرقَ بينَ لَفْظيِ «القَضاِء» أوِ «الأداءِ» فَرقٌ اصطلاحيٌّ لا أصلَ له في كلامِ اللهِ ورَسولِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى سمَّى فِعْلَ العبادةِ في وَقتِها قَضاءً، وكما قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة: 200] ، مع أنَّ هذَينِ يُفعَلانِ في الوَقتِ، فـ «القَضاءُ» في لغةِ العربِ: هو إكمالُ الشَّيءِ وإتمامُه، كما قال تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت: 12] ، أي: أكمَلَهنَّ وأتَمَّهنَّ، فمَن فَعَلَ العبادةَ كاملةً فقد قضاها وإنْ فَعَلَها في وَقْتِها .
21- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أنَّه إذا قُضيتِ الصَّلاةُ فلا جلوسَ بعدَها مُلْزِمٌ؛ فاخرُجْ، وابتَغِ الرِّزقَ، وابتَغِ مِن فَضْلِ اللهِ .
22- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا سؤالٌ: أنَّه في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء: 103] أَمَر بذِكْرِ اللهِ بعدَ انتِهاءِ الصَّلاةِ مُباشَرةً، وهنا جَعَلَها بعدَ الانتِشارِ وابتِغاءِ الفَضلِ.
الجوابُ: هو أنَّ لكلِّ مَقامٍ مقالًا؛ ففي سورةِ «الجُمُعةِ» مَنَعَهم اللهُ مِن البَيعِ بعدَ نداءِ الجُمُعةِ حتَّى يُصَلُّوا، فكأنَّ النَّاسَ محبوسون عن البَيعِ والشِّراءِ مُدَّةَ الصَّلاةِ، فكان مِن أهمِّ ما يكونُ عندَهم أنْ يُطْلَقَ حَبْسُهم؛ ولهذا قال: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، والأمرُ في قَولِه: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ليس للوُجوبِ ولا للاستِحبابِ، ولكنَّه للإباحةِ، وأمَّا الَّذي في سورةِ «النِّساءِ» فليس هناك أمرٌ بالحُضورِ إلى الصَّلاةِ، وتَرْكِ البَيعِ والشِّراءِ؛ فلهذا بَدَأ بالذِّكْرِ .
23- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أنَّه لا يُشتَرَطُ في الذِّكْرِ خَلْفَ الصَّلَواتِ أنْ يكونَ في المكانِ، لكِنْ أهمُّ شيءٍ أنْ يكونَ القَلبُ حاضِرًا عندَ الذِّكْرِ .
24- قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وهذا وإن كان في الجُمُعةِ فمَعناه قائِمٌ في جميعِ الصَّلَواتِ؛ ولهذا -واللهُ أعلَمُ- أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي يَدخُلُ المسجِدَ أن يقولَ: ((اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحمتِك))، وإذا خرَجَ أن يقولَ: ((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك مِن فَضْلِك)) .
25- قَولُه تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ليس بأمرٍ حقيقةً، وإنَّما هو إذْنٌ وإباحةٌ؛ حيثُ كان بعدَ النَّهيِ عن البَيعِ، فهو إطلاقٌ مِن محظورٍ؛ فيفيدُ الإباحةَ خاصَّةً .
26- في قَولِه تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إجازةُ الحرَكاتِ في التِّجارةِ ولو كانت بعيدةً، خِلافًا لِمَن يَتَنَطَّعُ ولا يَحضُرُ السُّوقَ !
27- في قَولِه تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ إذا قَدَّمَ الصَّلاةَ على البَيعِ والشِّراءِ، ثُمَّ اشترى وباع بعدَ ذلك؛ فإنَّه يُرْزَقُ ، ويُبارِكُ الله له في بَيعِه، ويُوَسِّعُ له، والعَكسُ بالعَكسِ .
28- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا يدُلُّ على وُجوبِ حُضورِ الخُطبةِ في صلاةِ الجُمُعةِ؛ إذْ لم يقلْ: وتَرَكوا الصَّلاةَ . ففيه الأمرُ بحُضورِ الخُطبتَينِ يومَ الجُمُعةِ، وذَمُّ مَن لم يحضُرْهما، ومِن لازِمِ ذلك: الإنصاتُ لهما ؛ لأنَّ الحضورَ إنَّما هو للاستِماعِ .
29- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا يدُلُّ على مَشروعيَّةِ القيامِ في الخُطبتَينِ ، وأنَّ الإمامَ يَخطُبُ يومَ الجُمُعةِ قائِمًا .
30- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا فيه مَشروعيَّةُ الخُطبةِ .
31- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا فيه اشتِراطُ الجَماعةِ في صلاةِ الجُمعةِ .
32- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا أنَّ التِّجارةَ وإنْ كانت ممدوحةً باعتبارِ كَونِها مِن المكاسِبِ الحلالِ، فإنها قد تُذَمُّ إذا قُدِّمَتْ على ما يَجِبُ تقديمُه عليها .
33- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ توبيخٌ لِمَن تَرَكَ الجُمُعةَ أو اشتغلَ عنها بالتِّجارةِ أو باللَّهْوِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- قيل: هذه الآياتُ هي المقصودُ مِنَ السُّورةِ، وما قبْلَها مُقدِّماتٌ وتَوطِئاتٌ لها، ووَجْهُ اتِّصالِ هذه الآيةِ بالآياتِ الأربعِ الَّتي قبْلَها، فكُنَّ لهذه الآيةِ تمهيدًا وتوطِئةً: أنَّ اليهودَ افتخَروا على المُسلِمينَ بالسَّبتِ، فشرَعَ اللهُ للمُسلِمينَ الجُمُعةَ .
- والتَّعريفُ في الصَّلاةِ تَعريفُ العهدِ، وهي الصَّلاةُ المعروفةُ الخاصَّةُ بيومِ الجُمُعةِ .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تبعيضيَّةٌ؛ فإنَّ يومَ الجُمُعةِ زمانٌ تقَعُ فيه أعمالٌ؛ مِنْها الصَّلاةُ المعهودةُ فيه، فنُزِّلَ ما يقَعُ في الزَّمانِ بمنزلةِ أجزاءِ الشَّيءِ، ويجوزُ كَونُ (مِنْ) للظَّرفيَّةِ .
- وإيثارُ ذِكْرِ اللَّهِ هُنا دونَ أنْ يقولَ: (إلى الصَّلاةِ)، كما قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ؛ لِتَتأتَّى إرادةُ الأمْرَينِ: الخُطبةِ، والصَّلاةِ .
- والمرادُ الأمرُ بتَرْكِ ما يُذهِلُ عن ذِكْرِ اللهِ مِن شَواغلِ الدُّنيا، وكلِّ ما يَشْغَلُ عن السَّعيِ إلى الجُمُعةِ، وإنَّما خَصَّ البيعَ مِن بَيْنِها؛ لأنَّ يومَ الجُمُعةِ يومٌ يَهبِطُ النَّاسُ فيه مِن قُراهُم وبَواديهِم، ويَنصبُّونَ إلى المِصْرِ مِن كلِّ أَوْبٍ، ووقتُ هبوطِهم واجتماعِهم واغتِصاصِ الأسواقِ بهم إذا انتفَخَ النَّهارُ، وتعالى الضُّحى، ودَنا وقتُ الظَّهيرةِ، وحينَئذٍ تَشتَدُّ التِّجارةُ، ويتكاثَرُ البيعُ والشِّراءُ، فلمَّا كان ذلك الوقتُ مَظِنَّةَ الذُّهولِ بالبَيعِ عن ذِكْرِ اللهِ، والمُضِيِّ إلى المسجِدِ، قيل لهم: بادِروا تجارةَ الآخِرةِ، واترُكوا تجارةَ الدُّنيا، واسعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ الَّذي لا شيءَ أنفَعُ منه وأربَحُ، وَذَرُوا الْبَيْعَ الَّذي نفعُه يَسيرٌ، ورِبحُه مُقارِبٌ .
وقيل: خُصَّ البَيعُ مِن جَميعِ الأفعالِ؛ لأنَّه مِن أهَمِّ ما يَشتَغِلُ به المرءُ في النَّهارِ مِن أسبابِ المَعاشِ ، ولأنَّه أكثرُ ما يَقَعُ حينَئذٍ ممَّا يُلهي عن السَّعيِ، فيُشارِكُه في المعنى كلُّ شاغِلٍ ، ولأنَّ سَببَ نُزولِ الآيةِ كان لتَرْكِ فريقٍ منهم الجُمعةَ إقبالًا على عِيرِ تِجارةٍ ، ولأنَّ البيعَ والشِّراءَ في الأسواقِ غالبًا، والغفلةُ على أهلِ السُّوقِ أغلَبُ .
- ولم يَذكُرِ الشِّراءَ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ البيعَ فقد دلَّ على الشِّراءِ .
- والإشارةُ بـ ذَلِكُمْ إلى المذكورِ، أي: ما ذُكِرَ مِن أمرٍ بالسَّعيِ إليها، وأمرٍ بتَرْكِ البيعِ حينَئذٍ، أي: ذلك خَيرٌ لكم ممَّا يَحصُلُ لكم مِنَ البُيوعاتِ؛ فلَفظُ خَيْرٌ اسمُ تفضيلٍ أصلُه: أخيَرُ، حُذِفَتْ همزتُه لكثرةِ الاستِعمالِ، والمُفضَّلُ عليه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليهِ، والمُفضَّلُ: الصَّلاةُ، أي: ثوابُها، والمُفضَّلُ عليه: منافِعُ البَيعِ للبائعِ والمُشترِي .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابُ إِنْ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: إنْ كُنتُم تَعلَمونَ الخَيرَ والشَّرَّ الحقيقيَّيْنِ، أو إنْ كنتُم مِن أهلِ العِلمِ .
- وفي هذه السُّورةِ مَعانٍ لَطيفةٌ؛ حيثُ أبطَلَ اللهُ قولَ اليهودِ في ثلاثِ آياتٍ مِن هذه السُّورةِ: افتخَروا بأنَّهم أولياءُ اللهِ وأحِبَّاؤُه، فكذَّبَهم في قولِه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة: 6] ، وبأنَّهم أهلُ الكتابِ والعربُ لا كتابَ لهم، فشبَّهَهُمْ بالحِمارِ يَحمِلُ أسفارًا، وبالسَّبْتِ وأنَّه ليس للمُسلِمينَ مِثلُه، فشرَعَ اللهُ لهم الجُمُعةَ؛ فعلى هذا يكونُ في قولِه: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَعريضٌ باليهودِ، وأنَّهم ما وُفِّقوا لِمَا سُعِدَ به المؤمنونَ، ومِنْ ثَمَّ جُعِلَتِ الصِّلةُ -الَّتي هي آَمَنُوا- عِلَّةً للسَّعيِ إلى ذِكْرِ اللهِ، كما جُعِلَتِ الصِّلةُ في قولِه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ لأهلِ الكتابِ مُقرِّرًا للتَّمثيلِ في قولِه: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وكذا الصِّلةُ في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا عُدِلَ فيها مِن لفظِ (اليهودِ) إلى المَوصولِ والصِّلةِ؛ لِيَكونَ ذَريعةً إلى التَّعرُّضِ بدعواهم الكاذبةِ؛ حيثُ سَمَّوْا أنفُسَهم يَهودًا، وهُوَ مِن هادَ، أي: رجَعَ إلى اللهِ تعالَى وتابَ، وإلى تَقريرِ معنى قولِه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، كأنَّه قيل: يا أيُّها الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّهم رجَعوا إلى اللهِ وتابوا إليهِ، إنْ زعَمْتُم أنَّكم أولياءُ اللهِ؛ لأنَّ التَّائبَ إلى اللهِ ولِيُّ اللهِ، فتمَنَّوْا لقاءَ اللهِ؛ فإنَّ الحبيبَ لا يَكرَهُ لقاءَ حبيبِه، ففي كلٍّ مِنَ الأحاديثِ الثَّلاثةِ تعريضٌ في غايةِ اللُّطفِ والدِّقَّةِ .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- أُعْقِبَ قولُه تعالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ بقولِه: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ؛ تَنبيهًا على أنَّ لهم سَعةً مِنَ النَّهارِ يَجعَلونَها للبَيعِ ونَحْوِه مِنِ ابْتِغاءِ أسبابِ المَعاشِ، فلا يأخُذوا ذلك مِن وقتِ الصَّلاةِ، وذِكْرِ اللهِ .
- وقولُه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا احتِراسٌ مِنَ الانصبابِ في أشغالِ الدُّنيا انصبابًا يُنسِي ذِكْرَ اللهِ، أو يَشغَلُ عن الصَّلَواتِ؛ فإنَّ الفَلاحَ في الإقبالِ على مَرضاةِ اللهِ تعالَى .
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- عطفٌ على جُملةِ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] الآيةَ، عُطِف التَّوبيخُ على تَرْكِ المأمورِ به بعْدَ ذِكْرِ الأمرِ، وسُلِكَتْ في المعطوفةِ طَريقةُ الالتِفاتِ لخِطابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إيذانًا بأنَّهم أحرياءُ أنْ يُصْرَفَ الخِطابُ عنهم، فحُرِموا مِن عِزِّ الحُضورِ، وأُخْبِرَ عنهم بحالِ الغائبينَ، وفيه تَعريضٌ بالتَّوبيخِ .
- قيل: لعلَّ التَّقسيمَ الَّذي أفادَتْه (أَو) في قولِه: أَوْ لَهْوًا تقسيمٌ لأحوالِ المُنفضِّينَ، أي: مِنهم مَنِ انفَضَّ مِن أجْلِ التِّجارةِ، ومنهم مَنِ انفضَّ مِن أجْلِ اللَّهوِ . وقيل: التَّرديدُ بـ (أو)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الانفضاضَ إلى التِّجارةِ مع الحاجةِ إليها والانتِفاعِ بها إذا كان مذمومًا، كان الانفضاضُ إلى اللَّهوِ أَوْلَى بذلك .
- وفي قولِه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا قال: إِلَيْهَا وقد ذكَرَ شيئَيْنِ: تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا؛ لأنَّ فيه حَذفًا تقديرُه: وإذا رَأَوْا تجارةً انفضُّوا إليها، أو لَهوًا انفضُّوا إليه؛ فحذَفَ الثَّانيَ لدَلالةِ الأوَّلِ عليه . أو قال: إِلَيْهَا ولم يقُلْ: (إلَيهما) تَهمُّمًا بالأهَمِّ؛ إذ كانت سَببَ اللَّهوِ، ولم يكُنِ اللَّهوُ سَببَها؛ فالضَّميرُ لِلتِّجارةِ، وخُصَّتْ برَدِّ الضَّميرِ إليها لأنَّها كانت أهَمَّ إليهم؛ فتأنيثُ الضَّميرِ في قولِه: إِلَيْهَا تغليبٌ لِلَفْظِ تِجَارَةً؛ لأنَّ التِّجارةَ كانت الدَّاعيَ الأقوى لانفِضاضِهِم، أو لأنَّ التِّجارةَ أجذَبُ لقُلوبِ العِبادِ عن طاعةِ الله تعالى مِن اللَّهوِ .
- وكان مُقتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (وإذا رأَيْتُم تِجارةً أو لَهْوًا فلا تَنفَضُّوا إليها)، ومِن مُقتَضياتِ تَخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ هُنا: أنْ يكونَ هذا التَّوبيخُ غَيرَ شاملٍ لجميعِ المؤمنينَ؛ فإنَّ نفَرًا منهم بَقُوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ خُطبتِه، ولم يَخرُجوا للتِّجارةِ ولا لِلَّهوِ .
- جُملةُ وَتَرَكُوكَ قَائِمًا تفظيعٌ لفِعلِهِم؛ إذْ فرَّطوا في سماعِ وعْظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
- قولُه: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ أرشَدَهم بعْدَ التَّوبيخِ والتَّعييرِ إلى تحرِّي الأصوبِ، وتوَخِّي المنهجِ الأقْوَمِ على سبيلِ العُمومِ، قائلًا: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ، وقدَّمَ ما كان مؤخَّرًا وكرَّرَ الجارَّةَ لإرادةِ الإطلاقِ في كلِّ واحدٍ واستِقلالِه فيما قُصِدَ مِنه التَّخالُفُ السَّابقُ في اتِّحادِ المعنى؛ لأنَّ ذلك في قصَّةٍ مَخصوصةٍ .
- إن قيل: لِمَ قدَّم اللَّهوَ هنا على التِّجارةِ، وقدَّم التِّجارةَ قبْلَ هذا على اللَّهوِ؟
 فالجوابُ: أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الموضعَينِ جاء على ما يَنبغي فيه؛ وذلك أنَّ العربَ تارةً يَبتَدِئون بالأكثَرِ ثمَّ يَنزِلون إلى الأقَلِّ، كقَولِك: فُلانٌ يَخونُ في الكثيرِ والقليلِ، فبدَأْتَ بالكثيرِ ثمَّ أردَفْتَ عليه الخيانةَ فيما دُونَه، وتارةً يَبتَدِئون بالأقَلِّ ثمَّ يَرتَقونَ إلى الأكثَرِ، كقَولِك: فُلانٌ أمينٌ على القليلِ والكثيرِ، فبدأْتَ بالقليلِ ثمَّ أردَفْتَ عليه الأمانةَ فيما هو أكثَرُ منه، ولو عكَسْتَ في كلِّ واحدٍ مِن المِثالَينِ لم يكُنْ حسَنًا؛ فإنَّك لو قدَّمْتَ في الخيانةِ القليلَ لَعُلِم أنَّه يَخونُ في الكثيرِ مِن بابِ أَوْلى وأَحْرَى، ولو قدَّمْتَ في الأمانةِ ذِكرَ الكثيرِ لَعُلِم أنَّه أمينٌ في القليلِ مِن بابِ أَولى وأحرى، فلم يكُنْ لِذِكْرِه بعدَ ذلك فائدةٌ، وكذلك قولُه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا؛ قدَّم التِّجارةَ هنا لِيُبيِّنَ أنَّهم يَنفَضُّون إليها، وأنَّهم مع ذلك يَنفَضُّون إلى اللَّهوِ الَّذي هو دُونَها، وقولُه: خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ قدَّمَ اللَّهْوَ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ ما عندَ الله خيرٌ مِن اللَّهوِ، وأنَّه أيضًا خيرٌ مِن التِّجارةِ الَّتي هي أعظَمُ منه، ولو عُكِس كلُّ واحدٍ مِن المَوضِعَينِ لم يَحسُنْ .
وقيل: إنَّ سببَ تقديمِ التِّجارةِ على اللَّهوِ في قولِه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا أنَّها كانت سببَ ذلك الانفِضاضِ، وليس اللَّهوَ، وإنَّما كان اللَّهوُ والضَّربُ بالدُّفوفِ بسَبَبِها؛ فقدَّمها لذلك.
وأمَّا تقديمُ اللَّهْوِ عليها فيما بَعْدُ في قولِه: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ فذلك لأنَّ اللَّهوَ أعَمُّ مِن التِّجارةِ، فليس كلُّ النَّاسِ يَشتَغِلونَ في التِّجارةِ، ولكنَّ أكثَرَهم يَلْهُون، فالفقراءُ والأغنياءُ يَلْهون، فكان اللَّهوُ أعَمَّ؛ فقدَّمه لذلك إذ كان حُكمًا عامًّا، فقدَّم التِّجارةَ في الحُكمِ الخاصِّ لأنَّها في حادثةٍ مُعَيَّنةٍ، وقدَّم اللَّهوَ في الحُكمِ العامِّ لأنَّه أعَمُّ، ولأنَّها مُناسِبةٌ لقولِه: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فالتِّجارةُ مِن أسبابِ الرِّزقِ، وليس اللَّهو؛ فوضَعَها بجَنبِه .
وقيل: قُدِّمَت التِّجارةُ على اللَّهوِ في الرُّؤيةِ؛ لأنَّها أهمُّ، وأُخِّرَت مع التَّفضيلِ؛ لتَقَعَ النَّفْسُ أوَّلًا على الأبيَنِ .
- وذُيِّلَ الكلامُ بقولِه: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؛ لأنَّ اللهَ يَرزُقُ الرِّزقَ لِمَن يَرضى عنه سليمًا مِنَ الأكدارِ والآثامِ، ولأنَّه يَرزُقُ خَيرَ الدُّنيا وخَيرَ الآخِرةِ، وليس غَيرُ اللهِ قادرًا على ذلك، والنَّاسُ في هذا المَقامِ درَجاتٌ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ، وهو العالِمُ بالسَّرائِرِ .