موسوعة التفسير

سُورةُ الجُمُعةِ
الآيات (9-11)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

وَذَرُوا: أي: اتْرُكوا، ودَعُوا، يُقالُ: فُلانٌ يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يَقذِفُه لقِلَّةِ اعتِدادِه به [136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/49)، ((المفردات)) للراغب (ص: 862)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 989). .
فَانْتَشِرُوا: أي: فتفرَّقوا لإقامةِ مَصالِحِكم، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه [137] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 805، 806)، ((تفسير أبي السعود)) (8/250). .
وَابْتَغُوا: أي: اطْلُبوا، مِن بغَى الشَّيءَ، أي: طَلبَه [138] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 247). .
تُفْلِحُونَ: أي: تَفوزون بالمطلوبِ، وتَنجون مِن المرهوبِ، وأصلُ الفلاحِ: البقاءُ والفوزُ والظَّفَرُ، وإدراكُ البُغيةِ، ثمَّ قيل لكلِّ مَن عقَل وحزُمَ وتكاملتْ فيه خِلالُ الخَيرِ، والعربُ تقولُ لكلِّ مَن أصاب خيرًا: مُفلِحٌ، وأصلُ (فلح) هنا: يدُلُّ على فَوزٍ وبَقاءٍ [139] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/29)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 39)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/450)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 644)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 697)، ((تفسير السعدي)) (ص: 294). .
لَهْوًا: اللَّهْوُ: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعْنيه ويُهِمُّه، وأصلُ (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بشَيءٍ [140] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 748)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 778). .
انْفَضُّوا: أي: تَفرَّقوا، والفضُّ: كَسْرُ الشَّيءِ، والتَّفريقُ بيْنَ بَعضِه وبَعضِه، وأصلُ (فضض): يدُلُّ على التَّفريقِ والتَّجزئةِ [141] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 114)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 638)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى المؤمنينَ بالمسارعةِ إلى أداءِ فرائضِه، وألَّا تَشغلَهم الدُّنيا عن ذِكْرِه وطاعتِه، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إذا نُودِيَ للصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعةِ فامضوا إلى الخُطبةِ والصَّلاةِ، واتْرُكوا البَيعَ؛ ذلكم خَيرٌ لكم إنْ كنتُم تَعلَمونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى جانبًا مِن مَظاهِرِ التَّيسيرِ في شَرعِه، ومُراعاةِ أحوالِ عبادِه، فيقولُ: فإذا فَرَغْتُم مِن صَلاةِ الجُمُعةِ فتفرَّقوا في الأرضِ، واطْلُبوا مِن رِزقِ اللهِ إنْ شِئتُم؛ فلا حَرَجَ عليكم، واذكُروا اللهَ ذِكرًا كَثيرًا؛ لعَلَّكم تُفلِحونَ.
ثمَّ يعاتِبُ اللهُ تعالى بعضَ أصحابِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيَقولُ: وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهْوًا وَقْتَ خُطبةِ الجُمُعةِ، انصَرَفوا إليها، وتَرَكوك -يا محمَّدُ- قائِمًا على المِنبَرِ تَخطُبُ. قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: ما عِندَ اللهِ خَيرٌ مِن لذَّةِ اللَّهوِ ومِن رِبحِ التِّجارةِ، واللهُ خيرُ الرَّازِقِينَ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَبَّح اللهُ سُبحانَه المُخالَفةَ بيْن القَولِ والفِعلِ، وصوَّرَ صاحِبَها بصُورةِ الحِمارِ على الهيئةِ السَّابقةِ، وحذَّرَ مِن ذلك بما هيَّأَ به العاقِلَ للإجابةِ إلى دوامِ الطَّاعةِ بعْدَ أن بيَّنَ أنَّ جَميعَ الكائِناتِ تُسبِّحُه، وخَتَم بالتَّحذيرِ مِنَ الإخبارِ يومَ الجَمْعِ الأعظَمِ بجَميعِ الأعمالِ؛ قال على طريقِ الاستنتاجِ مِمَّا مضى مِن التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، نادبًا لهم -لِيَكونوا أولياءَ اللهِ- إلى التَّزكيةِ المذكورةِ الَّتي هي ثَمَرةُ الرِّسالةِ بما حاصِلُه الإقبالُ بالكُلِّيَّةِ على اللهِ، والإعراضُ بالكُلِّيَّةِ عن الدُّنيا؛ لِيَجمَعَ المكَلَّفُ بيْن التَّحَلِّي بالمزايا، والتَّخَلِّي عن الدَّنايا، فخَصَّ مِن المزايا أعظَمَ تَسبيحٍ يَفعَلُه العاقِلُ في أيَّامِ الأُسبوعِ، وهو الإسراعُ بالاجتِماعِ العَظيمِ في يومِ الجُمُعةِ الَّذي يُناظِرُ الاجتماعَ لإجابةِ المُنادي في يومِ الجَمعِ الأكبَرِ، ثمَّ الإقبالُ الأعظَمُ بفِعْلِ صَلاةِ الجُمُعةِ الَّتي هي سِرُّ اليومِ الَّذي ضَيَّعَه اليَهودُ، واستَبدَلوا به ما كان سَبَبَ تَعذيبِهم بعذابٍ لم يُعَذَّبْ به أحدٌ مِنَ العالَمينَ [142] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/62، 63). .
وأيضًا بعدَ أنْ نعَى على اليهودِ فِرارَهم مِن الموتِ حبًّا في الدُّنيا والتَّمتُّعِ بطَيِّباتِها- ذكَرَ هنا أنَّ المؤمنَ لا يُمنَعُ مِنِ اجتناءِ ثمارِ الدُّنيا وخَيراتِها مع السَّعيِ لِما يَنفَعُه في الآخرةِ، كالصَّلاةِ يومَ الجُمُعةِ في المسجدِ مع الجماعةِ [143] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/101). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا [144] قال القرطبي: (قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خِطابٌ للمُكَلَّفينَ بإجماعٍ، ويَخرُجُ منه المَرْضى والزَّمْنى والمسافِرونَ والعَبيدُ والنِّساءُ؛ بالدَّليلِ، والعُمْيانُ والشَّيخُ الَّذي لا يَمشي إلَّا بقائدٍ عندَ أبي حنيفةَ). ((تفسير القرطبي)) (18/103). إذا أذَّن المؤذِّنُ داعِيًا إلى الصَّلاةِ في يَومِ الجُمُعةِ [145] قال الجَصَّاصُ: (قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... الآيةَ... اتَّفَق المسلمونَ على أنَّ المرادَ الصَّلاةُ الَّتي إذا فعَلَها مع الإمامِ جُمُعةً لم يَلزَمْه فِعلُ الظُّهرِ معها، وهي ركعتانِ بعدَ الزَّوالِ على شرائطِ الجُمُعةِ، واتَّفَق الجميعُ أيضًا على أنَّ المرادَ بهذا النِّداءِ هو الأذانُ). ((أحكام القرآن)) (3/594). وقال الواحدي: (يعني: النِّداءَ إذا جلس الإمامُ على المِنبَرِ يومَ الجُمُعةِ؛ لأنَّه لم يكُنْ على عهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نداءٌ سِواه). ((الوسيط)) (4/296). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/122). -وذلك عندَ قُعودِ الإمامِ على المِنبَرِ للخُطبةِ-؛ فامضوا إلى خُطبة الجمعةِ وصَلاتِها مُبادِرينَ مُهْتمِّينَ، واتْرُكوا البَيعَ [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/637، 641)، ((تفسير القرطبي)) (18/97، 107)، ((تفسير الخازن)) (4/290)، ((تفسير ابن كثير)) (8/120)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/62-65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال ابن عطية: (السَّعيُ في الآيةِ ليس الإسراعَ في المشيِ كالسَّعيِ بيْنَ الصَّفا والمروةِ، وإنَّما هو بمعنى قَولِه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]، فالقيامُ والوُضوءُ ولُبسُ الثَّوبِ والمَشيُ: سَعيٌ كُلُّه إلى ذِكرِ اللهِ تعالى، قال الحسَنُ وقَتادةُ ومالِكٌ وغيرُهم: إنَّما تُؤتَى الصَّلاةُ بالسَّكينةِ. فالسَّعيُ هو بالنِّيَّةِ والإرادةِ والعمَلِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/309). وقال ابن رجب: (المرادُ بالسَّعيِ: شِدَّةُ الاهتمامِ بإتيانِها، والمُبادَرةُ إليها؛ فهو مِن سَعيِ القُلوبِ، لا مِن سعيِ الأبدانِ). ((فتح الباري)) (8/59). وقال ابن تيميَّةَ: (ليس المرادُ بالسَّعيِ المأمورِ به العَدْوَ؛ فإنَّه قد ثبَتَ في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَأتوها وأنتم تَسعَونَ، وأْتُوها وأنتم تَمشُونَ وعليكم السَّكِينةُ؛ فما أدرَكْتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأَتِمُّوا»[البخاري «908»، ومسلم «602»]، ورُوِيَ: «فاقْضُوا»[أحمد «7250»، النسائي«861»]، ولكنْ قال الأئمَّةُ: السَّعْيُ في كتابِ اللهِ هو العمَلُ والفِعلُ، كما قال تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]، وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] ). ((مجموع الفتاوى)) (22/259). وأمَّا سببُ تسميةِ هذا اليَومِ بالجُمُعةِ فقد قال فيه البَغَويُّ: (واختلَفوا في تسميةِ هذا اليَومِ جُمُعةً؛ منهم مَن قال: لأنَّ اللهَ تعالى جمَع فيه خَلْقَ آدَمَ عليه السَّلامُ. وقيل: لأنَّ اللهَ تعالى فرَغ فيه مِن خَلقِ الأشياءِ، فاجتمعتْ فيه المخلوقاتُ. وقيل: لاجتماعِ الجماعاتِ فيها. وقيل: لاجتماعِ النَّاسِ فيها للصَّلاةِ. وقيل: أوَّلُ مَن سَمَّاها جُمُعةً كعبُ بنُ لُؤَيٍّ...، وكان يُقالُ له: يومُ العَرُوبةِ). ((تفسير البغوي)) (5/84). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/308)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/353). وقال ابن رجب: (أوَّلُ جُمُعةٍ جُمِّعتْ بالمدينةِ في نَقِيعِ الخَضِماتِ، قبْلَ أن يَقْدَمَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ المدينةَ، وقبْلَ أن يَبنيَ مَسجِدَه. يدُلُّ على ذلك: حديثُ كعبِ بنِ مالكٍ، أنَّه كان كلَّما سمِع أذانَ الجُمعةِ استَغفَرَ لِأَسْعَدَ بنِ زُرارةَ، فسأله ابنُه عن ذلك، فقال: كان أوَّلَ مَن صلَّى بنا صلاةَ الجُمعةِ قبْلَ مَقدَمِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن مكَّةَ في نَقيعِ الخَضِماتِ، في هَزْمِ النَّبيتِ، مِن حَرَّةِ بَني بَياضةَ. قيل له: كم كنتُم يَومَئذٍ؟ قال: أربعين رجُلًا. خرَّجه... أبو داودَ [1069] وابنُ ماجَة مُطوَّلًا [1082]). ((فتح الباري)) (8/63). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نحن الآخِرونَ السَّابِقونَ يومَ القيامةِ، بَيْدَ [147] بَيْدَ: أي: غَيْرَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1008). أنَّهم أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهم، وهذا يَومُهم الَّذي فُرِضَ عليهم، فاختَلَفوا فيه، فهَدانا اللهُ له، فهُمْ لنا فيه تَبَعٌ، فاليَهودُ غَدًا، والنَّصارى بعدَ غَدٍ)) [148] رواه البخاريُّ (876)، ومسلمٌ (855) واللَّفظُ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ اغتَسَل يومَ الجُمُعةِ غُسْلَ الجَنابةِ ثمَّ راح فكأنَّما قَرَّب بَدَنةً [149] البَدَنةُ هنا: مِن الإبلِ، ذكرًا أمْ أنثى، والتَّاءُ للوحدةِ لا للتَّأنيثِ، والمرادُ: تصَدَّقُ بها مُتقَرِّبًا إلى الله تعالى. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (2/159). ، ومَن راح في السَّاعةِ الثَّانيةِ فكأنَّما قَرَّب بَقَرةً، ومَن راح في السَّاعةِ الثَّالثةِ فكأنَّما قَرَّب كَبشًا أقرَنَ [150] الأقرَن مِن الكِباشِ: الَّذي له قَرْنٌ، ووصَفَه بالأقرَنِ؛ لأنَّه أكمَلُ وأحسَنُ صورةً، ولأنَّ قَرنَه يُنتفَعُ به. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/137)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/172). ، ومَن راح في السَّاعةِ الرَّابِعةِ فكأنَّما قَرَّب دجاجةً، ومَن راح في السَّاعةِ الخامِسةِ فكأنَّما قَرَّب بَيضةً، فإذا خرجَ الإمامُ حَضَرت الملائِكةُ يَستَمِعونَ الذِّكْرَ)) [151] رواه البخاريُّ (881)، ومسلمٌ (850). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، أنَّهما سَمِعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ على أعوادِ مِنبَرِه: ((لَيَنتَهيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهمُ [152] وَدْعِهم: أي: تَرْكِهم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/152). الجُمُعاتِ، أو لَيَختِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثمَّ لَيَكُونُنَّ مِن الغافِلينَ)) [153] رواه مسلم (865). .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: السَّعيُ إلى الخُطبةِ والصَّلاةِ يَومَ الجُمُعةِ، وتَركُ البَيعِ: خَيرٌ لكم مِنَ البَيعِ والشِّراءِ في ذلك الوَقتِ إنْ كُنتُم تَعلَمونَ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/643)، ((تفسير ابن كثير)) (8/122)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال ابنُ جرير: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَصالِحَ أنفُسِكم ومَضارَّها). ((تفسير ابن جرير)) (22/643). وقال البِقاعي: (أي: يتجَدَّدُ لكم عِلْمٌ في يومٍ مِنَ الأيامِ، فأنتم تَرَونَ ذلك خيرًا، فإذا عَلِمتُموه خيرًا أقبَلْتُم عليه، فكان ذلك لكم خيرًا... وإنَّما عَبَّرَ عنها بهذا؛ إشارةً إلى أنَّ عاقِلًا لا يَسَعُه أن يَترُكَ ما يَعلَمُ أنَّه أعلى وُجوهِ الخَيرِ). ((نظم الدرر)) (20/66). وقال السعدي: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ ما عِندَ اللهِ خَيرٌ وأبقى، وأنَّ مَن آثَرَ الدُّنيا على الدِّينِ فقدْ خَسِرَ الخَسارةَ الحقيقيَّةَ؛ مِن حيثُ ظَنَّ أنَّه يَربَحُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على الصَّلاةِ، وأرشَدَ إلى أنَّ وَقتَها لا يَصلُحُ لطَلَبِ شَيءٍ غَيرِها، وأنَّه متى طُلِبَ فيه شَيءٌ مِن الدُّنيا، مُحِقَت بَرَكتُه، مع ما اكتُسِب مِن الإثمِ- بيَّن وَقْتَ المَعاشِ، فقال مُبيحًا لهم ما كان حُظِرَ عليهم [155] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/67). :
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
أي: فإذا فَرَغْتُم مِن صَلاةِ الجُمُعةِ فتفرَّقوا في الأرضِ، واطْلُبوا مِن رِزقِ اللهِ إنْ شِئتُم؛ فلا حَرَجَ عليكم في ذلك [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/643، 644)، ((تفسير السمرقندي)) (3/448)، ((تفسير الرازي)) (30/542)، ((تفسير القرطبي)) (18/108)، ((تفسير ابن كثير)) (8/122)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال ابنُ عطية: (قوله: فَانْتَشِرُوا أجمَعَ النَّاسُ على أنَّ مُقتضى هذا الأمرِ الإباحةُ، وكذلك قَولُه تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أنَّه الإباحةُ في طَلَبِ المَعاشِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/309). وقال ابن الفَرَسِ: (أمْرُ إباحةٍ باتِّفاقٍ). ((أحكام القرآن)) (3/563). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/375). وقال ابن حجر -بعدَ أن ذكَرَ الإجماعَ على أنَّ الأمرَ المذكورَ للإباحةِ-: (وقد جنَح الدَّاوديُّ إلى أنَّه على الوُجوبِ في حقِّ مَن يَقدِرُ على الكسبِ، وهو قولٌ شاذٌّ نُقِل عن بعضِ الظَّاهريَّةِ). ((فتح الباري)) (2/427). وذكَرَ ابنُ رجب أنَّ بعضَهم قد ذهب إلى أنَّ الأمرَ بالانتشارِ بعدَ الصَّلاةِ للاستِحبابِ، وذكر منهم عِرَاكَ بنَ مالكٍ، وعِمْرانَ بنَ قَيسٍ. ونسَبَ إلى الأكثَرينَ أنَّه ليس بأمرٍ حقيقةً، وإنَّما هو إذْنٌ وإباحةٌ، وذكَرَ منهم عَطاءً، ومُجاهِدًا، والضَّحَّاكَ، ومُقاتِلَ بنَ حَيَّانَ، وابنَ زيدٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/337). وقيل: قولُه: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ليس لطلَبِ الدُّنيا، ولكنْ لعيادةِ مريضٍ، وحُضورِ جنازةٍ، وزيارةِ أخٍ في الله. وممَّن رُويَ عنه هذا القولُ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/93)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/165). وقال الحسَنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومكحولٌ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: هو طلَبُ العِلمِ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/93)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/284). .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الاشتِغالُ في التِّجارةِ مَظِنَّةَ الغَفْلةِ عن ذِكرِ اللهِ؛ أمرَ اللهُ بالإكثارِ مِن ذِكْرِه [157] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
وأيضًا لَمَّا كان السَّعيُ في طَلَبِ الرِّزقِ مُلْهيًا عن الذِّكْرِ؛ بَيَّن أنَّه أعظَمُ السَّعيِ في المعاشِ، وأنَّ مَن غَفَل عنه لم يَنجَحْ له مَقصَدٌ، وإن تحايَلَ له بكُلِّ الحِيَلِ وغَيرِ ذلك [158] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/67). .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: واذكُروا اللهَ ذِكرًا كَثيرًا في جميعِ أحوالِكم، فلا تُلْهِيَنَّكم تجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ؛ لعَلَّكم تَظفَرونَ بما تَطلُبونَه مِن الخَيرِ، وتَنجون ممَّا تَرهبون [159] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/109)، ((تفسير ابن كثير)) (8/123)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/67، 68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863)، ((تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن)) للسعدي (1/87). .
كما قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] .
وقال سُبحانَه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11).
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخطُبُ قائِمًا يومَ الجُمُعةِ، فجاءت عِيرٌ [160] العِيرُ: الإبلُ بأحْمالِها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/329). مِن الشَّامِ، فانفتَلَ [161] انفَتَل: أي: انصَرَف. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/770). النَّاسُ إليها، حتَّى لم يَبْقَ إلَّا اثنا عَشَرَ رَجُلًا؛ فأُنزِلَت هذه الآيةُ الَّتي في الجُمُعةِ: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) [162] رواه البخاريُّ (936)، ومسلمٌ (863) واللَّفظُ له. قال ابن الجوزي: (قال المفسِّرونَ: كان الَّذي قَدِم بالتِّجارةِ دِحْيةَ بنَ خَليفةَ الكَلْبيَّ، قال مقاتلٌ: وذلك قبْلَ أن يُسْلِمَ. قالوا: قَدِمَ بها مِن الشَّامِ، وضُرِب لها طبلٌ يُؤْذِنُ النَّاسَ بقُدومِها. وهذه كانت عادتُهم إذا قَدِمَتْ عِيرٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/284). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/328). وقال العُلَيمي: (كان قد أصاب المدينةَ قَحطٌ شديدٌ، وكان دِحْيةُ بنُ خليفةَ الكَلبيُّ يأتيهم بكلِّ ما يَحتاجون إليه مِن بُرٍّ وشَعيرٍ وغيرِهما مِن الشَّامِ، وكان إذا قَدِمَ ضُرِب الطَّبلُ؛ لِيُعلَمَ به، فقَدِمَ يومَ الجُمعةِ -وذلك قبْلَ إسلامِه- والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يَخطُبُ، فضُرِب الطَّبلُ، فخرَج النَّاسُ إليه ومَن في المسجدِ؛ خوفًا أن يُسبَقوا، ولم يَبْقَ عِندَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ غيرُ اثنَيْ عَشَرَ رجُلًا وامرأةً). ((تفسير العليمي)) (7/54). .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.
أي: يقولُ اللهُ تعالى مُعاتِبًا بعضَ أصحابِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهْوًا وَقْتَ خُطبةِ الجُمُعةِ الَّتي هي جَديرةٌ بشِدَّةِ الإصغاءِ إليها، والاتِّعاظِ بها في صَرْفِ النَّفْسِ عن الدُّنيا، والإقبالِ على الآخِرةِ؛ انصَرَفوا إلى تلك التِّجارةِ مُسرِعينَ، وتَرَكوك -يا محمَّدُ- قائِمًا على المِنبَرِ تَخطُبُ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/644)، ((تفسير ابن كثير)) (8/123)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/69، 70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قيل: المرادُ باللَّهوِ: الطَّبلُ. وممَّن اختاره: الفَرَّاءُ، والواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والرازي، والبيضاوي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/157)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 301)، ((تفسير البغوي)) (5/95)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/285)، ((تفسير الرازي)) (30/544)، ((تفسير البيضاوي)) (5/212)، ((تفسير العليمي)) (7/54). قال ابن عثيمين: (اللَّهوُ: هو الَّذي كان يَصحَبُ التِّجارةَ، وهو أنَّه جرَتِ العادةُ أنَّ الرَّكْبَ إذا جاؤوا وأقْبَلوا إلى المدينةِ جعَلوا يَضرِبون بالدُّفِّ؛ لأجْلِ أن يُفزعوا النَّاسَ ويُنَبِّهوهم على أنَّه قد جاءت عِيرٌ، فلمَّا سمِعوا هذا خرَجوا؛ لأنَّهم في حاجةٍ شديدةٍ، خرَجوا يُريدونَ التِّجارةَ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (2/86) بتصرُّف. وممَّن قال: هو الطَّبلُ، وزاد معه التَّصفيقَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، والرَّسْعَني، والنسفي، والخازن، والنيسابوري، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/328)، ((تفسير الزمخشري)) (4/536)، ((تفسير الرسعني)) (8/135)، ((تفسير النسفي)) (3/483)، ((تفسير الخازن)) (4/294)، ((تفسير النيسابوري)) (6/302)، ((تفسير أبي السعود)) (8/250). قال الزمخشري: (وكانوا إذا أقبلَتِ العِيرُ استَقبَلوها بالطَّبلِ والتَّصفيقِ، فهو المرادُ باللَّهوِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/536). وقال الزَّجَّاجُ: (واللَّهوُ هاهنا قيل: الطَّبلُ، وهو -واللهُ أعلَمُ- كلُّ ما يُلْهَى به). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/173). وقال القاسمي: (أَوْ لَهْوًا أي: ما تَلهو به النَّفْسُ عن الحقِّ والجِدِّ والنَّافعِ). ((تفسير القاسمي)) (9/231). وأمَّا قولُه تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا فقد قال فيه الواحديُّ: (أجمَعوا على أنَّ هذا القيامَ كان في الخُطبةِ). ((الوسيط)) (4/301). .
قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنصَرِفينَ إلى التِّجارةِ أو اللَّهوِ: ما عِندَ اللهِ مِن الأجرِ والثَّوابِ خَيرٌ لِمَن يَسمَعُ خُطبةَ الجُمُعةِ، ويَحضُرُ صَلاتَها، مِن لذَّةِ اللَّهوِ، ومِن رِبحِ التِّجارةِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/649)، ((تفسير ابن كثير)) (8/124). وممَّن ذهب في الجُملةِ إلى أنَّ المراد به الثَّوابُ: ابنُ جرير، وابن كثير، والعُلَيمي، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/649)، ((تفسير ابن كثير)) (8/124)، ((تفسير العليمي)) (7/55)، ((تفسير القاسمي)) (9/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال القاسمي: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ أي: مِن الثَّوابِ المَرجُوِّ بسَماعِ الخُطبةِ، والعِظَةِ بها). ((تفسير القاسمي)) (9/231). وقال الرَّسْعَني: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِن ثَوابِ الصَّلاةِ، والثَّباتِ مع نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الرسعني)) (8/136). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/97)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/285). وقال السعدي: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِن الأجرِ والثَّوابِ، لِمَن لازَمَ الخيرَ، وصبر نفْسَه على عبادةِ الله). ((تفسير السعدي)) (ص: 863). وقال السمعاني: (أي: ذِكرُ اللهِ تعالى والاشتِغالُ في الصَّلاةِ خيرٌ مِن اللَّهوِ والتِّجارةِ). ((تفسير السمعاني)) (5/437). !
كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36، 37].
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
أي: واللهُ خيرُ مَن رزَق وأعطَى في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فليس الصَّبرُ على طاعةِ اللهِ مُفَوِّتًا للرِّزقِ، ومَن اتَّقى اللهَ رَزَقَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/649)، ((تفسير القرطبي)) (18/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/230). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه أنَّه ينبغي للعَبدِ المُقبِلِ على عِبادةِ اللهِ، وَقتَ دَواعي النَّفْسِ لحُضورِ اللَّهوِ والتِّجاراتِ والشَّهَواتِ: أن يُذَكِّرَها بما عندَ اللهِ مِن الخَيراتِ، وما لِمُؤْثِرِ رِضاه على هَواه [166] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
2- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أنَّ الإنسانَ يَنبغي له إذا قَضى مِن العبادةِ ألَّا يَغْفُلَ بَعْدَها عن ذِكْرِ اللهِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/434). ؛ فلا تظُنُّوا أنَّكم إذا فَرَغْتُم مِن ذِكْرِ اللهِ في الخُطبةِ والصَّلاةِ أنَّكم انتَهَيتُم مِن ذِكْرِ اللهِ. لا؛ ذِكْرُ اللهِ في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ مَكانٍ [168] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/161). ، فسائرُ العباداتِ تَنقضي ويُفرَغُ منها، وذِكرُ الله باقٍ لا يَنقضي ولا يُفرَغُ منه، بل هو مُستمِرٌّ للمؤمنينَ في الدُّنيا والآخرةِ [169] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 290). .
3- تحقيقُ التَّوكُّلِ لا يُنافي السَّعْيَ في الأسبابِ الَّتي قَدَّر اللهُ سُبحانَه المَقْدوراتِ بها، وجَرَتْ سُنَّتُه في خَلْقِه بذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالَى أمَر بتعاطي الأسبابِ معَ أمْرِه بالتَّوكُّلِ، فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجَوارحِ طاعةٌ له، والتَّوكُّلُ بالقلبِ عليه إيمانٌ به، كما قال تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاءِ: 71]، وقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [170] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/498). [الأنفال: 60] .
4- قَولُ الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه أنَّ الإكثارَ مِن ذِكرِ اللهِ أكبَرُ أسبابِ الفَلاحِ [171] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). ؛ فقد علَّق الفَلاحَ بالإكثارِ مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى [172] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/397). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ... إنَّما سُمِّيَت الجُمُعةُ جُمعةً؛ لأنَّها مُشتقَّةٌ مِنَ الجَمعِ؛ فإنَّ أهلَ الإسلامِ يجتَمِعونَ فيه في كلِّ أُسبوعٍ مَرَّةً بالمعابدِ الكِبارِ، وفيه كَمَل جميعُ الخلائِقِ؛ فإنَّه اليَومُ السَّادِسُ مِن السِّتَّةِ الَّتي خَلَق اللهُ فيها السَّمَواتِ والأرضَ، وفيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدخِلَ الجنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، وفيه تقومُ السَّاعةُ [173] عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيْرُ يَومٍ طَلَعَتْ عليه الشَّمسُ يَومُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تَقومُ السَّاعةُ إلَّا في يَومِ الجُمُعةِ)). رواه مسلم (854). ، وفيه ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مُؤمِنٌ يَسألُ اللهَ فيها خيرًا إلَّا أعطاه إيَّاه [174] عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَرَ يومَ الجُمُعةِ، فقال: فيه ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مسلمٌ وهو قائمٌ يُصلِّي يَسألُ اللهَ شيئًا إلَّا أعطاه إيَّاه، وأشار بيدِه يُقلِّلها)). رواه البخاري (935)، ومسلم (852). ، كما ثَبتَت بذلك الأحاديثُ الصِّحَاحُ... وثَبَت أنَّ الأُمَمَ قَبْلَنا أُمِروا به فَضَلُّوا عنه، واختار اليهودُ يومَ السَّبتِ الَّذي لم يقَعْ فيه خَلقٌ، واختار النَّصارى يومَ الأحَدِ الَّذي ابتُدِئَ فيه الخَلْقُ، واختار اللهُ لهذه الأمَّةِ يومَ الجُمُعةِ الَّذي أكمَلَ اللهُ فيه الخليقةَ [175] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/119). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ خِطابُ الآيةِ لجَميعِ المؤمِنينَ؛ فدَلَّ على أنَّ الجُمُعةَ واجِبةٌ على الأعيانِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/226). وممَّن حكى الإجماعَ على فرضيَّةِ الجُمُعةِ: الكاساني، وابن قدامة، وابن تيميَّة. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/256)، ((المغني)) لابن قدامة (2/218)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/339). قال ابنُ القيِّم: (أجمَعَ المسلمونَ على أنَّ الجمعةَ فرضُ عَينٍ، إلَّا قولًا يُحكَى عن الشَّافعيِّ أنَّها فرضُ كفايةٍ، وهذا غلَطٌ عليه). ((زاد المعاد)) (1/385، 386). ممَّن تتحقَّقُ فيهم شُروطُها.
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ يدُلُّ على أنَّ الجُمُعةَ لا تَجِبُ إلَّا بالنِّداءِ، والنِّداءُ لا يكونُ إلَّا بدُخولِ الوَقتِ [177] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (19/88). مذهبُ الجمهورِ مِن الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ: أنَّ وقتَ صلاةِ الجُمعةِ هو وقتُ صلاةِ الظُّهرِ، ولا تصحُّ قبْلَ الزَّوالِ، واختارَه ابنُ حزمٍ، وبه قال أكثرُ العلماءِ. يُنظر: ((مختصر القدوري)) (ص: 39)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/250)، ((المجموع)) للنووي (4/511)، ((المحلى)) لابن حزم (3/244)، ((فتح الباري)) لابن رجب (8/170). وذهب الحنابلةُ إلى جوازِ صلاةِ الجُمُعةِ قبْلَ الزَّوالِ، واختاره الشَّوكانيُّ، وابنُ باز. يُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (2/263)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/309، 310)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/391، 392). قال الزَّرْكَشيُّ: (قال أحمدُ: رُويَ عن ابنِ مسعودٍ، وجابرٍ، وسعدٍ، ومُعاويةَ: أنَّهم صلَّوْا قبْلَ الزَّوالِ، وإذا صلَّى هؤلاء مع مَن يَحضُرُهم مِن الصَّحابةِ ولم يُنكَرْ، فهو إجماعٌ). ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/210). .
4- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه مَشروعيَّةُ الأذانِ لصَلاةِ الجُمُعةِ [178] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). وممَّن نقَل الإجماعَ على مشروعيَّةِ الأذانِ عَقِيبَ صعودِ الإمامِ على المِنبَرِ: ابنُ قُدامةَ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/220). .
5- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه مَشروعيَّةُ صَلاةِ الجُمُعةِ [179] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). قال ابن جُزَي: (حضورُ الجُمعةِ واجبٌ؛ لِحَملِ الأمرِ الَّذي في الآيةِ على الوُجوبِ باتِّفاقٍ، إلَّا أنَّها لا تجبُ على المرأةِ ولا على الصَّبيِّ ولا على المريضِ باتِّفاقٍ، ولا على العبدِ والمسافرِ عندَ مالكٍ والجمهورِ، خِلافًا للظَّاهريَّةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/374). وممَّن نقَل الإجماعَ على عدَمِ وُجوبِ الجُمعةِ على المرأةِ: ابنُ المُنذِرِ، والخَطَّابي، وابن قُدامة. يُنظر: ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 40)، ((معالم السنن)) للخطابي (1/243)، (المغني)) لابن قدامة (2/250). وممَّن نقَل الإجماعَ على عدمِ وُجوبِ الجُمعةِ على الصَّبيِّ: ابنُ المنذِر، وابنُ بَطَّال. يُنظر: ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 40)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/478). لكن قال ابنُ قُدامةَ: (أمَّا البُلوغُ فهو شرطٌ أيضًا لوُجوبِ الجُمعةِ وانعِقادِها، في الصَّحيحِ مِن المذهَبِ، وقولِ أكثَرِ أهلِ العِلمِ؛ لأنَّه مِن شرائطِ التَّكليفِ...، وذكَرَ بعضُ أصحابِنا في الصَّبيِّ المُميِّزِ روايةً أخرى: أنَّها واجبةٌ عليه؛ بِناءً على تكليفِه، ولا مُعوَّلَ عليه). ((المغني)) (2/243). وأمَّا المريضُ فقال ابنُ قُدامةَ: (ويُعذَرُ في تَركِهما [أي: الجُمعةِ والجَماعةِ] المريضُ في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلمِ). ((المغني)) (1/451). وقال ابن المنذر: (لا أعلَمُ اختلافًا بيْن أهلِ العِلمِ على أنَّ للمريضِ أن يَتخلَّفَ عن الجَماعاتِ مِن أجْلِ المرَضِ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (2/126). ولا تجبُ الجُمعةُ على المسافرِ باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (1/221)، ((التاج والإكليل)) للمَوَّاق (2/166)، ((المجموع)) للنووي (4/485)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (1/310). .
6- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ استَدَلَّ به مَن قال: إنَّه يَجِبُ إتيانُ مَن هو في مكانٍ يَسمَعُ فيه النِّداءَ [180] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). ووُجوبُ الجُمُعةِ على مَن يَسمَعُ النِّداءَ ولو كان خارجَ البَلدِ هو مذهبُ الجمهورِ؛ مِن المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ، لكنْ حدَّه المالكيَّةُ والحنابلةُ بمسافةِ فَرسَخٍ [ثلاثةِ أميالٍ، قرابة خمسة كيلو متر]. يُنظر: ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البَرِّ (1/248)، ((المجموع)) للنووي (4/488)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (2/22). .
7- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ استَدَلَّ به مَن قال: لا يُحتاجُ إلى إذْنِ السُّلطانِ؛ لأنَّه تعالى أوجَبَ السَّعيَ، ولم يَشتَرِطْ إذْنَ أحَدٍ [181] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). وصِحَّةُ الجُمعةِ بغيرِ إذْنِ السُّلطانِ وحُضورِه، سواءٌ أكان السُّلطانُ في البَلدِ أم لا، هو مذهبُ الجمهورِ؛ مِن المالِكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحَنابِلَةِ. يُنظر: ((الكافي)) لابن عبد البر (1/249)، ((المجموع)) للنووي (4/509)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (2/279). .
8- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ دَلالةٌ على اشتِراطِ تَقَدُّمِ الخُطبتَينِ على الصَّلاةِ؛ فقد أَمَرَ سُبحانَه بالسَّعيِ إلى ذِكْرِ اللهِ مِن حينِ النِّداءِ، وبالتَّواتُرِ القَطْعيِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا أَذَّنَ المؤذِّنُ يومَ الجُمُعةِ خَطَبَ؛ إذَنْ فالسَّعيُ إلى الخُطبةِ واجِبٌ، وما كان السَّعيُ إليه واجِبًا فهو واجِبٌ؛ لأنَّ السَّعيَ وسيلةٌ إلى إدراكِه وتحصيلِه، فإذا وجبتِ الوَسيلةُ وَجَبتِ الغايةُ [182] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (5/51). واشتراطُ تَقَدُّمِ الخُطبتَينِ على الصَّلاةِ متَّفَقٌ عليه بيْن المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي مع ((حاشية الشِّلْبِي)) (1/219)، ((الشرح الكبير)) للدَّرْدِير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/378)، ((المجموع)) للنووي (4/514)، ((الإنصاف)) للمَرْادوي (2/273). قال الشربينيُّ: (كَوْنُهما قبْلَ الصَّلاةِ بالإجماعِ، إلَّا مَن شَذَّ). ((مغني المحتاج)) (1/285). .
9- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه أنَّ الخُطبَتَينِ يومَ الجُمُعةِ فَريضتانِ يَجِبُ حُضورُهما؛ لأنَّه فُسِّرَ (الذِّكرُ) هنا بالخُطبتَينِ -مع الصَّلاةِ-، فأمَرَ اللهُ بالمُضِيِّ إليه، والسَّعْيِ له [183] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (28/226). وكون الخُطبة شرطًا في الجُمُعةِ لا تصحُّ بدونِها فذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (1/219)، ((التاج والإكليل)) للمَوَّاق (2/157)، ((المجموع)) للنَّووي (4/514)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (2/31). وأمَّا اشتراطُ كَونِهما خُطبتَينِ فهو مذهبُ الجمهورِ من المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ. يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (1/378)، ((المجموع)) للنووي (4/513)، ((المغني)) لابن قدامة (2/225). .
10- في قَولِه تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أنَّ خُطْبةَ الجُمُعةِ هي مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى [184] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 169). .
11- أنَّه يَكفي في عَدَدِ الجُمُعةِ ثلاثةٌ؛ فلو فُرِضَ أنَّ قريةً ليس فيها سِوى ثلاثةِ نَفَرٍ فإنَّها تُقامُ الجُمُعةُ؛ لأنَّه يَحصُلُ بهم الجَمعُ: إمامٌ يَخطبُ، ومؤذِّنٌ يَدعو، ومأمومٌ يُجيبُ، وقد قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، المنادي: المؤذِّنُ، ولا بُدَّ مِن خَطيبٍ، ولا بُدَّ مَن مَدْعُوٍّ [185] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/13). وهذا القولُ هو روايةٌ عن أحمدَ، وبه قال أبو يُوسُفَ وطائفةٌ مِن السَّلَفِ، واختارَه ابنُ تيميَّةَ وابنُ باز. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/243)، ((المبسوط)) للسرخسي (2/43)، ((المجموع)) للنووي (4/504)، ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيمية (ص: 439)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/332). ومذهبُ أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ أنَّ أقَلَّ الجماعةِ فيها ثلاثةٌ سِوى الإمامِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبي)) (1/220). ومذهبُ الشَّافعيَّةِ والحنابلةِ أنَّه يُشترَطُ أن يكونَ العددُ أربعينَ. يُنظر: ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/282)، ((شرح منتهي الإرادات)) للبُهُوتي (1/313). ومذهَبُ المالكيَّةِ أنَّه يشترطُ حُضورُ اثنَيْ عشَرَ رجُلًا. يُنظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/497). .
12- إنْ قيل: كيف يُفسَّرُ ذِكرُ اللهِ بالخُطْبةِ -مع الصَّلاةِ-، وفي الخُطبةِ ذِكرُ غيرِ اللهِ؟
فالجوابُ: أنَّ ما كان مِن ذِكرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والثَّناءِ عليه وعلى خُلَفائِه الرَّاشِدينَ وأتْقياءِ المؤمِنينَ، والموعِظةِ والتَّذكيرِ: فهو في حُكْمِ ذِكرِ اللهِ [186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/535). .
13- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فيه النَّهيُ عن البَيعِ والشِّراءِ بعدَ نداءِ الجُمُعةِ، وتحريمُ ذلك؛ وما ذاك إلَّا لأنَّه يفوِّتُ الواجِبَ، ويَشغَلُ عنه، فدَلَّ ذلك على أنَّ كُلَّ أمرٍ ولو كان مُباحًا في الأصلِ، إذا كان يَنشَأُ عنه تفويتُ واجِبٍ؛ فإنَّه لا يجوزُ في تلك الحالِ [187] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). ، وكذلك جميعُ العُقودِ، لا يُستَثنَى مِن ذلك النِّكاحُ ولا القَرْضُ ولا الرَّهنُ، ولا غيرُها، نعم، رُبَّما يقولُ قائلٌ: إنَّ عقودَ التَّبَرُّعاتِ -كالهِبَةِ- لا تَضُرُّ؛ لأنَّها لا تُلْهي ولا تُشْغِلُ، فمَثَلًا لو أنَّ رجُلَينِ أقبَلَا على المسجِدِ، وفي حال إقبالِهما أُذِّنَ لصَلاةِ الجُمُعةِ، فوَهَبَ أحدُهما الآخَرَ شيئًا، فهنا قد يُقالُ: إنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّه لَمْ يَحصُلْ بذلك إشغالٌ ولا إِلْهاءٌ، لكنَّ شيئًا يحتاجُ إلى معالجةٍ، ونقولُ: إنَّه يصحُّ مع أنَّ اللهَ نهى عن البَيعِ! هذا فيه نظرٌ [188] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (8/192). قال ابنُ كثير: (اتَّفَق العُلَماءُ رَضِيَ اللهُ عنهم على تحريمِ البَيعِ بعدَ النِّداءِ الثَّاني. واختلَفوا: هل يَصِحُّ إذا تعاطاه مُتعاطٍ أم لا؟ على قولَينِ، وظاهِرُ الآيةِ عدَمُ الصِّحَّةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/122). ممَّن نقَل الإجماعَ على تحريمِ البَيعِ بعدَ النِّداءِ: إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ، وابنُ حزمٍ، وابنُ العربي، وابنُ رُشْد. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/194)، ((المحلى)) لابن حزم (7/519)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/249)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (3/186). وأمَّا انعقادُ البيعِ فذهَبَ الحَنَفيَّةُ، والشَّافعيَّةُ، -وهو قولٌ للمالكيَّةِ- إلى أنَّ البيعَ يَنعقِدُ مع كَونِه يَحرُمُ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (5/49)، ((المجموع)) للنووي (4/501)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (2/169). وذهَب المالكيَّةُ والحنابلةُ إلى أنَّه يَحرُمُ، ولا يَنعقِدُ البيعُ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحَطَّاب (2/553)، ((الإقناع)) للحَجَّاوي (2/74). .
14- إنَّ المعاملاتِ الَّتي يُكتسَبُ بها المالُ لا يُنهى عنها مُطلقًا لِكَونِها تَصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعنِ الصَّلاةِ، بل يُنهى منها عمَّا يَصُدُّ عن الواجِبِ، كما قال تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ، وقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فمَا كانَ مُلْهِيًا وشاغِلًا عمَّا أمَر اللَّهُ تعالَى به مِن ذِكْرِه والصَّلاةِ له فهو مَنْهِيٌّ عنه، وإنْ لم يَكُنْ جِنسُه مُحَرَّمًا كالبيعِ والعملِ في التِّجارةِ وغيرِ ذلك [189] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (4/470). .
15- في قَولِه تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أنَّ التَّفضيلَ لا يدُلُّ على أنَّ المفضولَ جائزٌ؛ فقد جَعَلَ سُبحانَه السَّعيَ إلى الجُمُعةِ خَيرًا مِن البَيعِ. والسَّعيُ واجِبٌ، والبَيعُ حَرامٌ [190] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/274). .
16- قَولُ الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فيه سُؤالٌ: ما الفَرقُ بيْنَ ذِكرِ اللهِ أوَّلًا، وذِكرِ اللهِ ثانيًا؟
الجوابُ: الأوَّلُ مِن جُملةِ ما لا يَجتَمِعُ مع التِّجارةِ أصلًا؛ إذ المرادُ منه الخُطبةُ والصَّلاةُ. والثَّاني: ما يجتَمِعُ، كما في قَولِه تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [191] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/543). [النور: 37].
17- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ الخَيريَّةَ تكونُ في الواجبِ وتكونُ في المستحَبِّ [192] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/178). .
18- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ إشارةٌ إلى أنَّه لا خُطبةَ بعدَ صلاةِ الجُمُعةَ، فليس هناك خُطبةٌ ولا كلامٌ ولا مَوعِظةٌ، فإنَّه تَكفي المواعِظُ الَّتي في الخُطبةِ الَّتي قبْلَ الصَّلاةِ، والَّتي كانت مَشروعةً في هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [193] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/162). .
19- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أباح الانتِشارَ عَقِبَ الصَّلاةِ، فيُستفادُ منه تقديمُ الخُطبةِ عليها [194] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 263). .
20- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أنَّ الفرقَ بينَ لَفْظيِ «القَضاِء» أوِ «الأداءِ» فَرقٌ اصطلاحيٌّ [195] قال ابن تيميَّةَ: (لفظُ «القضاءِ» فإنَّه في كلامِ الله وكلامِ الرَّسولِ المرادُ به إتمامُ العبادةِ وإن كان ذلك في وقتِها، كما قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وقوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة: 200] ، ثمَّ اصطَلَح طائفةٌ مِن الفُقهاءِ فجعَلوا لفظَ القضاءِ مُختَصًّا بفِعلِها في غيرِ وقتِها، ولَفْظَ الأداءِ مُختصًّا بما يُفعلُ في الوقتِ، وهذا التَّفريقُ لا يُعرَفُ قَطُّ في كلامِ الرَّسولِ، ثمَّ يَقولون: قد يُستعمَلُ لفظُ القضاءِ في الأداءِ، فيَجعلون اللُّغةَ الَّتي نزَل القرآنُ بها مِن النَّادِرِ!). ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/82). يُنظر: ((قواعد الأصول ومعاقد الفصول)) للقَطِيعي (ص: 61)، ((تحفة المسؤول)) للرُّهُوني (2/26). لا أصلَ له في كلامِ اللهِ ورَسولِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى سمَّى فِعْلَ العبادةِ في وَقتِها قَضاءً، وكما قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة: 200] ، مع أنَّ هذَينِ يُفعَلانِ في الوَقتِ، فـ «القَضاءُ» في لغةِ العربِ: هو إكمالُ الشَّيءِ وإتمامُه، كما قال تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت: 12] ، أي: أكمَلَهنَّ وأتَمَّهنَّ، فمَن فَعَلَ العبادةَ كاملةً فقد قضاها وإنْ فَعَلَها في وَقْتِها [196] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/15). .
21- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أنَّه إذا قُضيتِ الصَّلاةُ فلا جلوسَ بعدَها مُلْزِمٌ؛ فاخرُجْ، وابتَغِ الرِّزقَ، وابتَغِ مِن فَضْلِ اللهِ [197] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/161). .
22- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا سؤالٌ: أنَّه في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء: 103] أَمَر بذِكْرِ اللهِ بعدَ انتِهاءِ الصَّلاةِ مُباشَرةً، وهنا جَعَلَها بعدَ الانتِشارِ وابتِغاءِ الفَضلِ.
الجوابُ: هو أنَّ لكلِّ مَقامٍ مقالًا؛ ففي سورةِ «الجُمُعةِ» مَنَعَهم اللهُ مِن البَيعِ بعدَ نداءِ الجُمُعةِ حتَّى يُصَلُّوا، فكأنَّ النَّاسَ محبوسون عن البَيعِ والشِّراءِ مُدَّةَ الصَّلاةِ، فكان مِن أهمِّ ما يكونُ عندَهم أنْ يُطْلَقَ حَبْسُهم؛ ولهذا قال: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، والأمرُ في قَولِه: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ليس للوُجوبِ ولا للاستِحبابِ، ولكنَّه للإباحةِ، وأمَّا الَّذي في سورةِ «النِّساءِ» فليس هناك أمرٌ بالحُضورِ إلى الصَّلاةِ، وتَرْكِ البَيعِ والشِّراءِ؛ فلهذا بَدَأ بالذِّكْرِ [198] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/155). .
23- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أنَّه لا يُشتَرَطُ في الذِّكْرِ خَلْفَ الصَّلَواتِ أنْ يكونَ في المكانِ، لكِنْ أهمُّ شيءٍ أنْ يكونَ القَلبُ حاضِرًا عندَ الذِّكْرِ [199] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (4/527). .
24- قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وهذا وإن كان في الجُمُعةِ فمَعناه قائِمٌ في جميعِ الصَّلَواتِ؛ ولهذا -واللهُ أعلَمُ- أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي يَدخُلُ المسجِدَ أن يقولَ: ((اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحمتِك))، وإذا خرَجَ أن يقولَ: ((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك مِن فَضْلِك)) [200] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/662). والحديث أخرجه مسلم (713). .
25- قَولُه تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ليس بأمرٍ حقيقةً، وإنَّما هو إذْنٌ وإباحةٌ؛ حيثُ كان بعدَ النَّهيِ عن البَيعِ، فهو إطلاقٌ مِن محظورٍ؛ فيفيدُ الإباحةَ خاصَّةً [201] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/337). قال الشنقيطي: (الَّذي يَظهَرُ لي في هذه المسألةِ هو ما يَشهَدُ له القرآنُ العظيمُ، وهو أنَّ الأمرَ بعدَ الحَظرِ يدُلُّ على رُجوعِ الفِعلِ إلى ما كان عليه قبْلَ الحَظرِ؛ فإن كان قبْلَه جائزًا رجَع إلى الجَوازِ، وإن كان قبْلَه واجبًا رجَع إلى الوُجوبِ). ((مذكرة في أصول الفقه)) (ص: 231). وقال ابن كثير: (والَّذي يَنهضُ عليه الدَّليلُ أنَّه يُرَدُّ الحُكمُ إلى ما كان عليه الأمرُ قبْلَ النَّهيِ؛ فإن كان واجبًا فواجبٌ، كقولِه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ، أو مُباحًا فمُباحٌ، كقولِه تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2] ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وعلى هذا القولِ تجتمِعُ الأدِلَّةُ، وقد حكاه الغزاليُّ وغيرُه، واختاره بعضُ أئمَّةِ المتأخِّرينَ، وهو الصَّحيحُ). ((تفسير ابن كثير)) (1/587). .
26- في قَولِه تعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إجازةُ الحرَكاتِ في التِّجارةِ ولو كانت بعيدةً، خِلافًا لِمَن يَتَنَطَّعُ ولا يَحضُرُ السُّوقَ [202] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/298). !
27- في قَولِه تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ إذا قَدَّمَ الصَّلاةَ على البَيعِ والشِّراءِ، ثُمَّ اشترى وباع بعدَ ذلك؛ فإنَّه يُرْزَقُ [203] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/161). ، ويُبارِكُ الله له في بَيعِه، ويُوَسِّعُ له، والعَكسُ بالعَكسِ [204] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 69). .
28- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا يدُلُّ على وُجوبِ حُضورِ الخُطبةِ في صلاةِ الجُمُعةِ؛ إذْ لم يقلْ: وتَرَكوا الصَّلاةَ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/229). . ففيه الأمرُ بحُضورِ الخُطبتَينِ يومَ الجُمُعةِ، وذَمُّ مَن لم يحضُرْهما، ومِن لازِمِ ذلك: الإنصاتُ لهما [206] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 863). ؛ لأنَّ الحضورَ إنَّما هو للاستِماعِ [207] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (2/328). .
29- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا يدُلُّ على مَشروعيَّةِ القيامِ في الخُطبتَينِ [208] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/70)، ((تفسير الشربيني)) (4/291). ، وأنَّ الإمامَ يَخطُبُ يومَ الجُمُعةِ قائِمًا [209] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/124). ويُنظر أيضًا: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/301). اختُلِف في حُكمِ خُطبةِ الإمامِ قائمًا؛ على أقوالٍ: منها: أنَّ قِيامَ الخطيبِ حالَ الخُطبةِ شَرطٌ مع القُدرةِ عليه، وهو مذهبُ الشَّافعيَّةِ، وقولُ الأكثَرِ مِن المالكيَّةِ، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/514، 515)، ((مواهب الجليل)) للحَطَّاب (2/531)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/148). ومنها: أنَّه يُسنُّ أن يَخطُبَ قائمًا، وهو مذهبُ الحَنَفيَّةِ، والحَنابِلَةِ، وقولٌ للمالِكيَّةِ. يُنظر: ((البناية)) للعَيْني (3/56)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/148)، ((شرح مختصر خليل)) للخرَشي (2/79). .
30- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا فيه مَشروعيَّةُ الخُطبةِ [210] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). .
31- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا فيه اشتِراطُ الجَماعةِ في صلاةِ الجُمعةِ [211] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). وقد نقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحد؛ منهم: ابنُ رُشْدٍ، والكاسانيُّ، والنوويُّ. يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/158)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/266)، ((المجموع)) للنووي (4/508). ويُنظر الخلافُ في العددِ المجزئِ (ص: 290). .
32- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا أنَّ التِّجارةَ وإنْ كانت ممدوحةً باعتبارِ كَونِها مِن المكاسِبِ الحلالِ، فإنها قد تُذَمُّ إذا قُدِّمَتْ على ما يَجِبُ تقديمُه عليها [212] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/296). .
33- في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ توبيخٌ لِمَن تَرَكَ الجُمُعةَ أو اشتغلَ عنها بالتِّجارةِ أو باللَّهْوِ [213] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (5/453). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- قيل: هذه الآياتُ هي المقصودُ مِنَ السُّورةِ، وما قبْلَها مُقدِّماتٌ وتَوطِئاتٌ لها، ووَجْهُ اتِّصالِ هذه الآيةِ بالآياتِ الأربعِ الَّتي قبْلَها، فكُنَّ لهذه الآيةِ تمهيدًا وتوطِئةً: أنَّ اليهودَ افتخَروا على المُسلِمينَ بالسَّبتِ، فشرَعَ اللهُ للمُسلِمينَ الجُمُعةَ [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/219). .
- والتَّعريفُ في الصَّلاةِ تَعريفُ العهدِ، وهي الصَّلاةُ المعروفةُ الخاصَّةُ بيومِ الجُمُعةِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/219). .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تبعيضيَّةٌ؛ فإنَّ يومَ الجُمُعةِ زمانٌ تقَعُ فيه أعمالٌ؛ مِنْها الصَّلاةُ المعهودةُ فيه، فنُزِّلَ ما يقَعُ في الزَّمانِ بمنزلةِ أجزاءِ الشَّيءِ، ويجوزُ كَونُ (مِنْ) للظَّرفيَّةِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/226، 227). .
- وإيثارُ ذِكْرِ اللَّهِ هُنا دونَ أنْ يقولَ: (إلى الصَّلاةِ)، كما قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ؛ لِتَتأتَّى إرادةُ الأمْرَينِ: الخُطبةِ، والصَّلاةِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/225، 226). .
- والمرادُ الأمرُ بتَرْكِ ما يُذهِلُ عن ذِكْرِ اللهِ مِن شَواغلِ الدُّنيا، وكلِّ ما يَشْغَلُ عن السَّعيِ إلى الجُمُعةِ، وإنَّما خَصَّ البيعَ مِن بَيْنِها؛ لأنَّ يومَ الجُمُعةِ يومٌ يَهبِطُ النَّاسُ فيه مِن قُراهُم وبَواديهِم، ويَنصبُّونَ إلى المِصْرِ مِن كلِّ أَوْبٍ، ووقتُ هبوطِهم واجتماعِهم واغتِصاصِ الأسواقِ بهم إذا انتفَخَ النَّهارُ، وتعالى الضُّحى، ودَنا وقتُ الظَّهيرةِ، وحينَئذٍ تَشتَدُّ التِّجارةُ، ويتكاثَرُ البيعُ والشِّراءُ، فلمَّا كان ذلك الوقتُ مَظِنَّةَ الذُّهولِ بالبَيعِ عن ذِكْرِ اللهِ، والمُضِيِّ إلى المسجِدِ، قيل لهم: بادِروا تجارةَ الآخِرةِ، واترُكوا تجارةَ الدُّنيا، واسعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ الَّذي لا شيءَ أنفَعُ منه وأربَحُ، وَذَرُوا الْبَيْعَ الَّذي نفعُه يَسيرٌ، ورِبحُه مُقارِبٌ [218] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/535، 536). .
وقيل: خُصَّ البَيعُ مِن جَميعِ الأفعالِ؛ لأنَّه مِن أهَمِّ ما يَشتَغِلُ به المرءُ في النَّهارِ مِن أسبابِ المَعاشِ [219] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/543). ، ولأنَّه أكثرُ ما يَقَعُ حينَئذٍ ممَّا يُلهي عن السَّعيِ، فيُشارِكُه في المعنى كلُّ شاغِلٍ [220] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/195). ، ولأنَّ سَببَ نُزولِ الآيةِ كان لتَرْكِ فريقٍ منهم الجُمعةَ إقبالًا على عِيرِ تِجارةٍ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/226). ، ولأنَّ البيعَ والشِّراءَ في الأسواقِ غالبًا، والغفلةُ على أهلِ السُّوقِ أغلَبُ [222] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/543). .
- ولم يَذكُرِ الشِّراءَ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ البيعَ فقد دلَّ على الشِّراءِ [223] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/448). .
- والإشارةُ بـ ذَلِكُمْ إلى المذكورِ، أي: ما ذُكِرَ مِن أمرٍ بالسَّعيِ إليها، وأمرٍ بتَرْكِ البيعِ حينَئذٍ، أي: ذلك خَيرٌ لكم ممَّا يَحصُلُ لكم مِنَ البُيوعاتِ؛ فلَفظُ خَيْرٌ اسمُ تفضيلٍ أصلُه: أخيَرُ، حُذِفَتْ همزتُه لكثرةِ الاستِعمالِ، والمُفضَّلُ عليه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليهِ، والمُفضَّلُ: الصَّلاةُ، أي: ثوابُها، والمُفضَّلُ عليه: منافِعُ البَيعِ للبائعِ والمُشترِي [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/227). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابُ إِنْ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: إنْ كُنتُم تَعلَمونَ الخَيرَ والشَّرَّ الحقيقيَّيْنِ، أو إنْ كنتُم مِن أهلِ العِلمِ [225] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/212)، ((تفسير أبي السعود)) (8/249)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/93). .
- وفي هذه السُّورةِ مَعانٍ لَطيفةٌ؛ حيثُ أبطَلَ اللهُ قولَ اليهودِ في ثلاثِ آياتٍ مِن هذه السُّورةِ: افتخَروا بأنَّهم أولياءُ اللهِ وأحِبَّاؤُه، فكذَّبَهم في قولِه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة: 6] ، وبأنَّهم أهلُ الكتابِ والعربُ لا كتابَ لهم، فشبَّهَهُمْ بالحِمارِ يَحمِلُ أسفارًا، وبالسَّبْتِ وأنَّه ليس للمُسلِمينَ مِثلُه، فشرَعَ اللهُ لهم الجُمُعةَ؛ فعلى هذا يكونُ في قولِه: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَعريضٌ باليهودِ، وأنَّهم ما وُفِّقوا لِمَا سُعِدَ به المؤمنونَ، ومِنْ ثَمَّ جُعِلَتِ الصِّلةُ -الَّتي هي آَمَنُوا- عِلَّةً للسَّعيِ إلى ذِكْرِ اللهِ، كما جُعِلَتِ الصِّلةُ في قولِه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ لأهلِ الكتابِ مُقرِّرًا للتَّمثيلِ في قولِه: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وكذا الصِّلةُ في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا عُدِلَ فيها مِن لفظِ (اليهودِ) إلى المَوصولِ والصِّلةِ؛ لِيَكونَ ذَريعةً إلى التَّعرُّضِ بدعواهم الكاذبةِ؛ حيثُ سَمَّوْا أنفُسَهم يَهودًا، وهُوَ مِن هادَ، أي: رجَعَ إلى اللهِ تعالَى وتابَ، وإلى تَقريرِ معنى قولِه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، كأنَّه قيل: يا أيُّها الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّهم رجَعوا إلى اللهِ وتابوا إليهِ، إنْ زعَمْتُم أنَّكم أولياءُ اللهِ؛ لأنَّ التَّائبَ إلى اللهِ ولِيُّ اللهِ، فتمَنَّوْا لقاءَ اللهِ؛ فإنَّ الحبيبَ لا يَكرَهُ لقاءَ حبيبِه، ففي كلٍّ مِنَ الأحاديثِ الثَّلاثةِ تعريضٌ في غايةِ اللُّطفِ والدِّقَّةِ [226] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/532)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/411، 412)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/215). .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- أُعْقِبَ قولُه تعالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ بقولِه: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ؛ تَنبيهًا على أنَّ لهم سَعةً مِنَ النَّهارِ يَجعَلونَها للبَيعِ ونَحْوِه مِنِ ابْتِغاءِ أسبابِ المَعاشِ، فلا يأخُذوا ذلك مِن وقتِ الصَّلاةِ، وذِكْرِ اللهِ [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/227). .
- وقولُه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا احتِراسٌ مِنَ الانصبابِ في أشغالِ الدُّنيا انصبابًا يُنسِي ذِكْرَ اللهِ، أو يَشغَلُ عن الصَّلَواتِ؛ فإنَّ الفَلاحَ في الإقبالِ على مَرضاةِ اللهِ تعالَى [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/227). .
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- عطفٌ على جُملةِ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] الآيةَ، عُطِف التَّوبيخُ على تَرْكِ المأمورِ به بعْدَ ذِكْرِ الأمرِ، وسُلِكَتْ في المعطوفةِ طَريقةُ الالتِفاتِ لخِطابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إيذانًا بأنَّهم أحرياءُ أنْ يُصْرَفَ الخِطابُ عنهم، فحُرِموا مِن عِزِّ الحُضورِ، وأُخْبِرَ عنهم بحالِ الغائبينَ، وفيه تَعريضٌ بالتَّوبيخِ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/227). .
- قيل: لعلَّ التَّقسيمَ الَّذي أفادَتْه (أَو) في قولِه: أَوْ لَهْوًا تقسيمٌ لأحوالِ المُنفضِّينَ، أي: مِنهم مَنِ انفَضَّ مِن أجْلِ التِّجارةِ، ومنهم مَنِ انفضَّ مِن أجْلِ اللَّهوِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/229). . وقيل: التَّرديدُ بـ (أو)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الانفضاضَ إلى التِّجارةِ مع الحاجةِ إليها والانتِفاعِ بها إذا كان مذمومًا، كان الانفضاضُ إلى اللَّهوِ أَوْلَى بذلك [231] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/212، 213). .
- وفي قولِه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا قال: إِلَيْهَا وقد ذكَرَ شيئَيْنِ: تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا؛ لأنَّ فيه حَذفًا تقديرُه: وإذا رَأَوْا تجارةً انفضُّوا إليها، أو لَهوًا انفضُّوا إليه؛ فحذَفَ الثَّانيَ لدَلالةِ الأوَّلِ عليه [232] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/537)، ((تفسير البيضاوي)) (5/213)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 565)، ((تفسير أبي السعود)) (8/250)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/94). . أو قال: إِلَيْهَا ولم يقُلْ: (إلَيهما) تَهمُّمًا بالأهَمِّ؛ إذ كانت سَببَ اللَّهوِ، ولم يكُنِ اللَّهوُ سَببَها؛ فالضَّميرُ لِلتِّجارةِ، وخُصَّتْ برَدِّ الضَّميرِ إليها لأنَّها كانت أهَمَّ إليهم؛ فتأنيثُ الضَّميرِ في قولِه: إِلَيْهَا تغليبٌ لِلَفْظِ تِجَارَةً؛ لأنَّ التِّجارةَ كانت الدَّاعيَ الأقوى لانفِضاضِهِم، أو لأنَّ التِّجارةَ أجذَبُ لقُلوبِ العِبادِ عن طاعةِ الله تعالى مِن اللَّهوِ [233] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/301)، ((تفسير البيضاوي)) (5/213)، ((تفسير ابن عطية)) (5/310)، ((أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل)) لزين الدين الرازي (ص: 167)، ((تفسير أبي حيان)) (10/176)، ((تفسير أبي السعود)) (8/250)، ((تفسير الألوسي)) (14/299)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/228، 229). قال الشنقيطي: (اللُّغة العرَبيَّة يجوزُ فيها رُجوعُ الضَّميرِ لأحدِ المذكورَينِ قَبْلَه. أمَّا في العَطفِ بـ «أو» فواضِحٌ؛ لأنَّ الضَّميرَ في الحقيقةِ راجِعٌ إلى الحَدِّ الدَّائرِ الَّذي هو واحِدٌ لا بعَينِه، كقَولِه تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء: 112] ، وأمَّا الواوُ فهو فيها كثيرٌ، ومِن أمثلتِه في القرآنِ قَولُه تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا الآيةَ [البقرة: 45] ، وقَولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا [التوبة: 34] ، وقَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الأنفال: 20] ). ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 238). .
- وكان مُقتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (وإذا رأَيْتُم تِجارةً أو لَهْوًا فلا تَنفَضُّوا إليها)، ومِن مُقتَضياتِ تَخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ هُنا: أنْ يكونَ هذا التَّوبيخُ غَيرَ شاملٍ لجميعِ المؤمنينَ؛ فإنَّ نفَرًا منهم بَقُوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ خُطبتِه، ولم يَخرُجوا للتِّجارةِ ولا لِلَّهوِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/227، 228). .
- جُملةُ وَتَرَكُوكَ قَائِمًا تفظيعٌ لفِعلِهِم؛ إذْ فرَّطوا في سماعِ وعْظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/229). .
- قولُه: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ أرشَدَهم بعْدَ التَّوبيخِ والتَّعييرِ إلى تحرِّي الأصوبِ، وتوَخِّي المنهجِ الأقْوَمِ على سبيلِ العُمومِ، قائلًا: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ، وقدَّمَ ما كان مؤخَّرًا وكرَّرَ الجارَّةَ لإرادةِ الإطلاقِ في كلِّ واحدٍ واستِقلالِه فيما قُصِدَ مِنه التَّخالُفُ السَّابقُ في اتِّحادِ المعنى؛ لأنَّ ذلك في قصَّةٍ مَخصوصةٍ [236] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/421). .
- إن قيل: لِمَ قدَّم اللَّهوَ هنا على التِّجارةِ، وقدَّم التِّجارةَ قبْلَ هذا على اللَّهوِ؟
 فالجوابُ: أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الموضعَينِ جاء على ما يَنبغي فيه؛ وذلك أنَّ العربَ تارةً يَبتَدِئون بالأكثَرِ ثمَّ يَنزِلون إلى الأقَلِّ، كقَولِك: فُلانٌ يَخونُ في الكثيرِ والقليلِ، فبدَأْتَ بالكثيرِ ثمَّ أردَفْتَ عليه الخيانةَ فيما دُونَه، وتارةً يَبتَدِئون بالأقَلِّ ثمَّ يَرتَقونَ إلى الأكثَرِ، كقَولِك: فُلانٌ أمينٌ على القليلِ والكثيرِ، فبدأْتَ بالقليلِ ثمَّ أردَفْتَ عليه الأمانةَ فيما هو أكثَرُ منه، ولو عكَسْتَ في كلِّ واحدٍ مِن المِثالَينِ لم يكُنْ حسَنًا؛ فإنَّك لو قدَّمْتَ في الخيانةِ القليلَ لَعُلِم أنَّه يَخونُ في الكثيرِ مِن بابِ أَوْلى وأَحْرَى، ولو قدَّمْتَ في الأمانةِ ذِكرَ الكثيرِ لَعُلِم أنَّه أمينٌ في القليلِ مِن بابِ أَولى وأحرى، فلم يكُنْ لِذِكْرِه بعدَ ذلك فائدةٌ، وكذلك قولُه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا؛ قدَّم التِّجارةَ هنا لِيُبيِّنَ أنَّهم يَنفَضُّون إليها، وأنَّهم مع ذلك يَنفَضُّون إلى اللَّهوِ الَّذي هو دُونَها، وقولُه: خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ قدَّمَ اللَّهْوَ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ ما عندَ الله خيرٌ مِن اللَّهوِ، وأنَّه أيضًا خيرٌ مِن التِّجارةِ الَّتي هي أعظَمُ منه، ولو عُكِس كلُّ واحدٍ مِن المَوضِعَينِ لم يَحسُنْ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/376). .
وقيل: إنَّ سببَ تقديمِ التِّجارةِ على اللَّهوِ في قولِه: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا أنَّها كانت سببَ ذلك الانفِضاضِ، وليس اللَّهوَ، وإنَّما كان اللَّهوُ والضَّربُ بالدُّفوفِ بسَبَبِها؛ فقدَّمها لذلك.
وأمَّا تقديمُ اللَّهْوِ عليها فيما بَعْدُ في قولِه: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ فذلك لأنَّ اللَّهوَ أعَمُّ مِن التِّجارةِ، فليس كلُّ النَّاسِ يَشتَغِلونَ في التِّجارةِ، ولكنَّ أكثَرَهم يَلْهُون، فالفقراءُ والأغنياءُ يَلْهون، فكان اللَّهوُ أعَمَّ؛ فقدَّمه لذلك إذ كان حُكمًا عامًّا، فقدَّم التِّجارةَ في الحُكمِ الخاصِّ لأنَّها في حادثةٍ مُعَيَّنةٍ، وقدَّم اللَّهوَ في الحُكمِ العامِّ لأنَّه أعَمُّ، ولأنَّها مُناسِبةٌ لقولِه: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فالتِّجارةُ مِن أسبابِ الرِّزقِ، وليس اللَّهو؛ فوضَعَها بجَنبِه [238] يُنظر: ((لمسات بيانية في نصوص من التنزيل)) للسامرائي (ص: 175). .
وقيل: قُدِّمَت التِّجارةُ على اللَّهوِ في الرُّؤيةِ؛ لأنَّها أهمُّ، وأُخِّرَت مع التَّفضيلِ؛ لتَقَعَ النَّفْسُ أوَّلًا على الأبيَنِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/310)، ((تفسير أبي حيان)) (10/176). .
- وذُيِّلَ الكلامُ بقولِه: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؛ لأنَّ اللهَ يَرزُقُ الرِّزقَ لِمَن يَرضى عنه سليمًا مِنَ الأكدارِ والآثامِ، ولأنَّه يَرزُقُ خَيرَ الدُّنيا وخَيرَ الآخِرةِ، وليس غَيرُ اللهِ قادرًا على ذلك، والنَّاسُ في هذا المَقامِ درَجاتٌ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ، وهو العالِمُ بالسَّرائِرِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/230). .