موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (7-9)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

عَدْنٍ: أي: إِقامةٍ واستِقرارٍ وثباتٍ، وأصلُ (عدن): يدُلُّ على الإقامةِ [112] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/248)، ((المفردات)) للراغب (ص: 553)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .
وَذُرِّيَّاتِهِمْ: الذُّرِّيَّةُ: الأولادُ وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسْلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى، قيل: أصلُها مِن (ذرَأ)، أي: خلَق؛ لأنَّها خلْقُ الله، وحُذِفت الهمزةُ منها، وقيل: أصلُها مِن الذَّرِّ، بمعنَى التَّفريقِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَرَّهم في الأرضِ [113] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 230)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 327)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى عن حمَلةِ العَرشِ ومَن حَوْلَه، وعن كمالِ لُطفِه بعبادِه المؤمنينَ، وأنَّه قَيَّض هؤلاء الملائكةَ أنْ يَدْعوا لهم، فيقولُ: الملائِكةُ الَّذين يَحمِلونَ عَرشَ الرَّحمنِ ومَن حَوْلَ العَرشِ يُنَزِّهونَ رَبَّهم عن النَّقائِصِ، ويُؤمِنونَ به، ويَطلُبونَ مِن اللهِ المَغفِرةَ للَّذين آمَنوا قائِلينَ: ربَّنا وَسِعَتْ رحمتُك كُلَّ شَيءٍ، ووَسِعَ عِلمُك كلَّ شَيءٍ؛ فاغفِرْ للَّذين تابوا واتَّبَعوا دينَ الإسلامِ، واصرِفْ عنهم عذابَ الجَحيمِ.
ربَّنا وأدخِلْهم جنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وعَدْتَهم، وأدخِلْ معهم مَنْ صلَحَ في الدُّنيا مِن آبائِهم وأزواجِهم وذُرِّيَّاتِهم؛ إنَّك أنت العزيزُ الَّذي لا يُغالَبُ، الحَكيمُ في شَرعِك وقَدَرِك، وقِهِمْ يا ربَّنا السَّيِّئاتِ، ومَن تَصرِفْ عنه عاقِبةَ سَيِّئاتِه يومَ القيامةِ فقد رَحِمْتَه، وذلك هو الفَوزُ العظيمُ.

تفسير الآيات:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الكُفَّارَ يُبالِغونَ في إظهارِ العَداوةِ مع المؤمِنينَ؛ بيَّنَ أنَّ أشرَفَ طَبقاتِ المخلوقاتِ هم الملائِكةُ الَّذين هم حمَلةُ العَرشِ، والحافُّونَ حَوْلَ العَرشِ؛ يُبالِغونَ في إظهارِ المَحَبَّةِ والنُّصرةِ للمُؤمِنينَ، كأنَّه تعالى يقولُ: إنْ كان هؤلاء الأراذِلُ يُبالِغونَ في العَداوةِ، فلا تُبالِ بهم، ولا تَلتَفِتْ إليهم، ولا تُقِمْ لهم وَزنًا؛ فإنَّ حَمَلةَ العَرشِ معك، والحافُّونَ مِن حَوْلِ العَرشِ معك يَنصُرونَك [114] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/487). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ جِدالَ الكفَّارِ في آياتِ اللهِ وعِصيانَهم؛ ذكَرَ طاعةَ هؤلاء المُصطَفَينَ مِن خَلقِه، وهُم حَمَلةُ العَرشِ ومَن حَوْلَه، وهُمُ الحافُّونَ به مِنَ المَلائكةِ [115] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/237). .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.
أي: الملائِكةُ الَّذين يَحمِلونَ عَرشَ الرَّحمنِ والملائِكةُ المُقَرَّبونَ الَّذين يَحُفُّونَ بالعَرشِ يُنَزِّهونَ رَبَّهم عن النَّقائِصِ تَنزيهًا مُقتَرِنًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ؛ مَحَبَّةً وتعظيمًا، ويُؤمِنونَ برَبِّهم، فيُقِرُّونَ بوُجودِه ورُبوبيَّتِه وألوهيَّتِه، وأسمائِه وصِفاتِه، ويُقِرُّونَ بأنَّه الإلهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه؛ فلا يَستَكبِرونَ عن عِبادتِه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/283)، ((تفسير ابن كثير)) (7/130)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 88، 89). قال الرسعني: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم أربعةُ أملاكٍ، فإذا كان يومُ القيامةِ جُعِلوا ثمانيةً). ((تفسير الرسعني)) (6/591). ونسَبه ابنُ الجوزيِّ إلى قولِ الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/331). وقال ابنُ عثيمين: (والمشهورُ أنَّ حمَلَتَه الآنَ أربعةٌ، وفي يومِ القيامةِ يَكونون ثمانيةً). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 87). قال جلالُ الدِّينِ المحلي، والشِّربيني: في قولِه تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يقولونَ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 618)، ((تفسير الشربيني)) (3/465). وقال السعدي: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ هذا مدحٌ لهم بكثرةِ عبادتِهم للهِ تعالى، وخصوصًا التسبيحَ والتحميدَ. وسائرُ العباداتِ تدخُلُ في تسبيحِ الله وتحميدِه؛ لأنَّها تنزيهٌ له عن كونِ العبدِ يصرفُها لغيرِه، وحمدٌ له تعالى، بل الحمدُ هو العبادةُ للهِ تعالى، وأمَّا قولُ العبدِ: «سبحانَ اللهِ وبحمدِه» فهو داخلٌ في ذلك، وهو مِن جملةِ العباداتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 732). .
قال الله سُبحانَه وتعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17] .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ((أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَكٍ من مَلائِكةِ اللهِ مِن حَمَلةِ العَرشِ: إنَّ ما بيْنَ شَحْمةِ أُذُنِه إلى عاتِقِه مَسيرةُ سَبْعِمئةِ عامٍ !)) [117] أخرجه أبو داودَ (4727) واللَّفظُ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4421) بلفظ: ((سبعين))، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (846). صَحَّح إسنادَه الذهبيُّ في ((العلو)) (ص: 97)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4727)، وجوَّده ابنُ كثير في ((تفسير القرآن)) (8/239)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/80): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وقال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (8/533): (إسنادُه على شرط الصَّحيحِ). وصَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4727). .
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: ويَطلُبونَ مِن الله المَغفرةَ للَّذين آمَنوا بما يجِبُ الإيمانُ به، وأقَرُّوا بوَحدانيَّةِ الله، وتَبَرَّؤوا مِن كُلِّ مَعبودٍ سِواه [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/283)، ((تفسير ابن كثير)) (7/130)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 89). .
كما قال الله سبحانَه وتعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] .
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كانت المَغفِرةَ لها لوازِمُ لا تَتِمُّ إلَّا بها غيرُ ما يَتبادَرُ إلى كثيرٍ مِن الأذهانِ؛ أنَّ سُؤالَها وطَلَبَها غايتُه مُجَرَّدُ مَغفرةِ الذُّنوبِ- ذكَرَ تعالى صِفةَ دُعائِهم لهم بالمَغفِرةِ، بذِكرِ ما لا تَتِمُّ إلَّا به، فقال [119] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 732). :
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا.
أي: تَقولُ الملائِكةُ: يا رَبَّنا وَسِعَتْ رَحمتُك كُلَّ شَيءٍ، ووَسِعَ عِلمُك كُلَّ شَيءٍ، فما مِن شَيءٍ إلَّا شَمِلَتْه رحمتُك، ونالَه منها حَظٌّ ونصيبٌ، وأحاطَ به عِلمُك [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/283، 284)، ((تفسير القرطبي)) (15/295)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/131)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/91)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 89). قال ابنُ عثيمين: (جملةُ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا هي عبارةٌ عن توسُّلٍ، أي: توسَّلوا بسَعةِ عِلمِ اللهِ ورَحمتِه إلى مَطلوبِهم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 90). .
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ.
أي: فاستُرِ الذُّنوبَ وتَجاوَزْ عن المؤاخَذةِ بها: للَّذين تابوا مِنَ الشِّركِ والمعاصي، والتَزَموا بما شرَعْتَه مِن دينِ الإسلامِ، فوَحَّدوك وعَمِلوا بما أمَرْتَهم به، وانتَهَوا عمَّا نَهَيْتَهم عنه [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/284، 285)، ((تفسير القرطبي)) (15/295)، ((تفسير ابن كثير)) (7/131)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/91، 92). .
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.
أي: واصرِفْ عنهم عذابَ النَّارِ يومَ القيامةِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/285)، ((تفسير القرطبي)) (15/295)، ((تفسير ابن كثير)) (7/131). .
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا طَلَب الملائِكةُ مِنَ اللهِ إزالةَ العَذابِ عنهم؛ أردَفوه بأنْ طَلَبوا مِنَ اللهِ إيصالَ الثَّوابِ إليهم [123] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/492). ؛ إذ كانت النَّجاةُ مِنَ العذابِ لا تَستلزِمُ الثَّوابَ [124] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/14). .
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.
أي: يا رَبَّنا وأدخِلِ الَّذين تابُوا واتَّبَعوا سَبيلَك جنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وعَدْتَهم بإدخالِهم إيَّاها [125] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/707)، ((تفسير ابن جرير)) (20/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 105، 106). .
كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 60 - 63] .
وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.
أي: وأدخِلْ جنَّاتِ عَدْنٍ أيضًا مَنْ صَلَح في الدُّنيا مِن آبائِهم وأزواجِهم وذُرِّيَّاتِهم، فآمَنَ وعَمِلَ الصَّالحاتِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/285)، ((تفسير ابن كثير)) (7/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732). قال الشَّوكاني: (المرادُ بالصَّلاحِ هاهنا: الإيمانُ باللهِ، والعَمَلُ بما شرَعَه اللهُ؛ فمَنْ فَعَل ذلك فقد صَلَح لدُخولِ الجنَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/553). .
كما قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: إنَّك أنت العزيزُ الَّذي لا يُغالَبُ، ولا يُرامُ جَنابُه، فأنت ذو القَدْرِ والسِّيادةِ، الغالِبُ القاهِرُ لكُلِّ شَيءٍ، المُمتَنِعُ عليه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ؛ الحَكيمُ في شَرْعِك وقَدَرِك وتدبيرِ خَلْقِك، فتَضَعُ كلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/286)، ((تفسير ابن كثير)) (7/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 41). .
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا كان طلَبُ الغُفرانِ يَتضمَّنُ إسقاطَ العَذابِ؛ أَردَفوهُ بالتَّضرُّعِ بوِقايَتِهمُ العَذابَ على سبيلِ المُبالَغةِ والتَّأكيدِ [128] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/239). .
وأيضًا لمَّا كان الإنسانُ قد يُغفرُ له ويُكرمُ، وفيه مِن الأخلاقِ ما رُبَّما حمَله على بعضِ الأفعالِ النَّاقِصةِ، دَعَوْا لهم بالكمالِ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، فقالوا [129] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/15، 16). :
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ.
أي: واحفَظِ المؤمِنينَ الَّذين تابوا واتَّبَعوا سَبيلَك مِمَّا يَسوؤُهم، مِنِ ارتِكابِ الأعمالِ السَّيِّئةِ، وعُقوباتِها الَّتي تَسوءُ أصحابَها [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/286)، ((تفسير القرطبي)) (15/296)، ((تفسير ابن كثير)) (7/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/93). قال ابنُ جُزَي: (يحتمِلُ أن يكونَ المعنى: قِهِمُ السَّيِّئاتِ نَفْسَها، بحيثُ لا يَفعَلونَها، أو يكونَ المعنى: قِهِمْ جزاءَ السَّيِّئاتِ، فلا تُؤاخِذْهم بها). ((تفسير ابن جزي)) (2/228). وبنحوِه قال ابنُ كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/132)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/16). واختار مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ أنَّ المرادَ بالسَّيِّئاتِ: الشِّركُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/707). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني، وهو وِقايَتُهم عاقِبةَ السَّيِّئاتِ وهو العذابُ: ابنُ جرير، والسمرقندي، والثعلبي، والنسفي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/286)، ((تفسير السمرقندي)) (3/199)، ((تفسير الثعلبي)) (8/268)، ((تفسير النسفي)) (3/201)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 111، 112). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/287). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ -أي: قِهِمُ الأعمالَ السَّيِّئةَ وجزاءَها-: ابنُ القيِّم، والسعدي. يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732). قال ابنُ القيِّم: (وِقايةُ السَّيِّئاتِ نَوعانِ؛ أحدُهما: وِقايةُ فِعلِها بالتَّوفيقِ فلا تَصدُرُ منه. والثَّاني: وقايةُ جزائِها بالمَغفرةِ فلا يُعاقَبُ عليها، فتضَمَّنَتِ الآيةُ سُؤالَ الأمْرَينِ). ((الجواب الكافي)) (ص: 115). وقال ابن عاشور: (السَّيِّئاتُ هنا جمْعُ سَيِّئةٍ، وهي الحالةُ أو الفَعلةُ الَّتي تَسوءُ مَن تعلَّقَت به، مِثلُ ما في قَولِه تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر: 45] ، وقَولِه تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] ... والمرادُ: إبلاغُ هؤلاء المؤمِنينَ أعلى درجاتِ الرِّضا والقَبولِ يومَ الجزاءِ، بحيث لا يَنالُهم العذابُ، ويَكونونَ في بُحبُوحةِ النَّعيمِ، ولا يَعتريهم ما يُكَدِّرُهم مِن نحوِ التَّوبيخِ والفَضيحةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/93، 94). .
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ.
أي: ومَن تَصْرِفْ عنه سوءَ عاقِبةِ سَيِّئاتِه يومَ القيامةِ فقد رَحِمْتَه بالنَّجاةِ مِن عَذابِك، ودُخولِ جنَّتِك [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/286)، ((تفسير القرطبي)) (15/296)، ((تفسير ابن كثير)) (7/132)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/94). .
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: والنَّجاةُ مِن النَّارِ ودُخولُ الجنَّةِ في الآخرةِ هو الفَوزُ الكبيرُ الَّذي لا فَوْزَ مِثلُه [132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/286)، ((تفسير القرطبي)) (15/296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 732)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 112-114). .
كما قال الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن: 9] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هذا مِن جُملةِ فَوائِدِ الإيمانِ وفَضائِلِه الكثيرةِ جِدًّا: أنَّ الملائِكةَ الَّذين لا ذُنوبَ عليهم يَستَغفِرونَ لأهلِ الإيمانِ؛ فالمؤمِنُ بإيمانِه تسَبَّبَ لهذا الفَضلِ العَظيمِ [133] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 732). . وفيه الحَثُّ على الإيمانِ؛ حتَّى تَدخُلَ ضِمْنَ مَن تَستَغفِرُ لهم الملائِكةُ، والإيمانُ كلُّه خَيرٌ وسُرورٌ، ونِعمةٌ في القَلبِ، ونِعمةٌ في البَدَنِ، حتَّى البلاءُ الَّذي يُصيبُ المؤمِنَ هو له خَيرٌ؛ لذا فاحرِصْ على تَحقيقِ إيمانِك بفِعلِ الوَسائلِ الَّتي تُنَمِّي هذا الإيمانَ وتُغَذِّيه وتُقَوِّيه [134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 93). .
2- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فيه تنبيهٌ على أنَّ الاشتِراكَ في الإيمانِ يَجِبُ أن يكونَ أدعى شَيءٍ إلى النَّصيحةِ، وأبْعَثَه على إمحاضِ الشَّفَقةِ، وإن تفاوَتَت الأجناسُ، وتباعَدَت الأماكِنُ [135] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/152). .
3- قَولُ الله تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا فيه أنَّ السُّنَّةَ في الدُّعاءِ أن يُبدَأَ فيه بالثَّناءِ على اللهِ تعالى، ثمَّ يُذكَرَ الدُّعاءُ عَقِيبَه [136] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/491). .
4- قولُه تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فيه سَعَةُ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ قال قائلٌ: كيف يَصِحُّ ذلك وأكثرُ بني آدمَ كُفَّارٌ! فأين الرَّحمةُ؟
فالجواب: هم مَرحومونَ بالرَّحمةِ العامَّةِ، مَن يُخرِجُ لهمُ النَّباتَ؟ مَن يُنزِلُ لهمُ المطرَ؟ مَن يَجْعَلُهم أصِحَّاءَ؟ مَن يُمَتِّعُهم بالأسماعِ والأبصارِ إلَّا اللهُ؟! وهذه رحمةٌ، فرحمةُ اللهِ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ [137] قال ابن عاشور: (ولَمَّا كان سِياقُ هذا الدُّعاءِ أنَّه واقِعٌ في الدُّنيا... اندفَعَ ما عسى أنْ يُقالَ: إنَّ رحمةَ اللهِ لا تَسَعُ المُشركينَ يَومَ القِيامةِ؛ إذْ هُم في عَذابٍ خالدٍ؛ فلا حاجةَ إلى تَخصيصِ عُمومِ كلِّ شَيءٍ بالنِّسبةِ إلى سَعةِ الرَّحمةِ بمُخَصِّصاتِ الأدلَّةِ المُنفصِلةِ القاضيةِ بعدَمِ سَعةِ رحمةِ اللهِ للمُشرِكينَ بعْدَ الحِسابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/91). ، وفي الآيةِ أيضًا سَعَةُ عِلْمِ اللهِ تعالى؛ لقولِه: وَعِلْمًا، ويَترتَّبُ على هاتَينِ الفائدتَينِ أنَّ الإنسانَ متى عَلِمَ ذلك تَعَرَّضَ لرحمةِ اللهِ لعلَّه يَكونُ مِن الدَّاخِلِينَ فيها، وإذا آمَنَ بسَعَةِ عِلْمِ اللهِ استحيا مِن اللهِ أنْ يَفْقِدَه حيثُ أمَرَه، أو يَجِدَه حيثُ نَهاه [138] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 103). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ إثباتُ أنَّ لهذا العَرشِ حَمَلةً، وإثباتُ الحَمَلةِ له -مع قُدرةِ اللهِ سُبحانه وتعالى على إمساكِه بدونِ حَمَلةٍ- إشعارٌ بتَعظيمِه، وأنَّه عظيمٌ مُعتنًى به؛ ولهذا فإنَّ اللهَ قال في السَّمَواتِ: بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرعد: 2] ولم يَذْكُرْ لها حَمَلةً، والعَرشُ ذَكَرَ له حَمَلةً مع أنَّ الَّذي أمسَك السَّمَواتِ والأرضَ أنْ تَزولا قادِرٌ على إمساكِ العَرشِ بلا حَمَلةٍ، لكِنْ هذا مِن بابِ التَّعظيمِ والتَّنويهِ بشَرَفِه وعَظَمتِه [139] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 91). .
2- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ استِغفارَ الملائِكةِ لأهلِ الأرضِ خاصٌّ بالمؤمِنينَ منهم، وقد جاءت آيةٌ أُخرى يدُلُّ ظاهِرُها على خِلافِ ذلك، وهي قَولُه تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] ؟
الجواب: أنَّ آيةَ (غافر) مُخَصِّصةٌ لآيةِ (الشورى)، والمعنى: ويَستَغفِرونَ لِمَن في الأرضِ مِنَ المؤمِنينَ؛ لِوُجوبِ تَخصيصِ العامِّ بالخاصِّ [140] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 202). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/152)، ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/237)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 500)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267). .
3- دُعاءُ الملائكةِ في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ... إلى آخِرِ الدُّعاءِ، تَضَمَّنَ أمورًا؛ منها:
أوَّلًا: قد تَضَمَّنَ هذا الدُّعاءُ مِن الملائكةِ كَمالَ مَعرفتِهم برَبِّهم، والتَّوسُّلَ إلى اللهِ بأسمائِه الحُسنى الَّتي يُحِبُّ مِن عِبادِه التَّوسُّلَ بها إليه، والدُّعاءَ بما يناسِبُ ما دَعَوُا اللهَ فيه؛ فلمَّا كان دعاؤُهم بحُصولِ الرَّحمةِ، وإزالةِ أثَرِ ما اقتَضَتْه النُّفوسُ البَشَريَّةُ الَّتي عَلِمَ اللهُ نَقْصَها واقتِضاءَها لِما اقتَضَتْه مِنَ المعاصي، ونحوِ ذلك مِن المَبادئِ والأسبابِ الَّتي قد أحاط اللهُ بها عِلمًا- تَوَسَّلوا بالرَّحيمِ العَليمِ، وتضَمَّن كَمالَ أدَبِهم مع اللهِ تعالى بإقرارِهم برُبوبيَّتِه لهم الرُّبوبيَّةَ العامَّةَ والخاصَّةَ، وأنَّه ليس لهم مِنَ الأمرِ شَيءٌ، وإنَّما دُعاؤُهم لرَبِّهم صَدَر مِن فَقيرٍ بالذَّاتِ مِن جَميعِ الوُجوهِ لا يُدِلُّ على رَبِّه بحالةٍ مِن الأحوالِ، إنْ هو إلَّا فَضْلُ اللهِ وكَرَمُه وإحسانُه.
ثانيًا: تضَمَّن أيضًا مُوافقَتَهم لرَبِّهم تمامَ المُوافَقةِ، بمَحبَّةِ ما يُحِبُّه مِن الأعمالِ الَّتي هي العِباداتُ الَّتي قاموا بها، واجتَهَدوا اجتِهادَ المُحِبِّينَ، ومِن العُمَّالِ الَّذين هم المؤمِنونَ الَّذين يحِبُّهم اللهُ تعالى مِن بيْنِ خَلْقِه؛ فسائِرُ الخَلقِ المُكَلَّفينَ يُبغِضُهم اللهُ إلَّا المؤمِنينَ منهم، فمِن مَحَبَّةِ الملائِكةِ لهم دَعَوُا اللهَ، واجتَهَدوا في صَلاحِ أحوالِهم؛ لأنَّ الدُّعاءَ للشَّخصِ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ على مَحَبَّتِه؛ لأنَّه لا يدعو إلَّا لِمَن يُحِبُّه.
ثالثًا: تضَمَّن ما شَرَحه اللهُ وفَصَّله مِن دُعائِهم بعْدَ قَولِه: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا التَّنبيهَ اللَّطيفَ على كيفيَّةِ تدَبُّرِ كِتابِه، وألَّا يَكونَ المُتدَبِّرُ مُقتَصِرًا على مجرَّدِ معنى اللَّفظِ بمُفردِه، بل يَنبغي له أن يَتدبَّرَ معنى اللَّفظِ، فإذا فَهِمَه فَهمًا صَحيحًا على وَجْهِه نظَرَ بعَقلِه إلى ذلك الأمرِ، والطُّرُقِ المُوصِلةِ إليه، وما لا يَتِمُّ إلَّا به، وما يتوقَّفُ عليه، وجزَم بأنَّ اللهَ أراده، كما يَجزِمُ أنَّه أراد المعنى الخاصَّ الدَّالَّ عليه اللَّفظُ، والَّذي يُوجِبُ له الجَزمَ بأنَّ اللهَ أراده أمْرانِ؛ أحَدُهما: مَعرفتُه وجَزْمُه بأنَّه مِن توابِعِ المعنى والمتوقِّفُ عليه. والثَّاني: عِلمُه بأنَّ اللهَ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، وأنَّ اللهَ أمَرَ عِبادَه بالتَّدَبُّرِ والتَّفَكُّرِ في كتابِه. وقد عَلِمَ تعالى ما يَلزَمُ مِن تلك المعاني، وهو المُخبِرُ بأنَّ كِتابَه هُدًى ونُورٌ وتِبيانٌ لكُلِّ شَيءٍ، وأنَّه أفصَحُ الكَلامِ وأجَلُّه إيضاحًا، فبذلك يَحصُلُ للعَبدِ مِن العِلمِ العَظيمِ والخَيرِ الكثيرِ بحَسَبِ ما وفَّقَه اللهُ له.
رابعًا: قَولُ الله تعالى: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ تضَمَّن أنَّ المقارِنَ مِن زَوجٍ وولَدٍ وصاحِبٍ: يَسعَدُ بقَرينِه، ويَكونُ اتِّصالُه به سَببًا لخَيرٍ يَحصُلُ له خارِجًا عن عَمَلِه وسَبَبِ عَمَلِه، كما كانت الملائِكةُ تدعو للمؤمِنينَ ولِمَن صَلَح مِن آبائِهم وأزواجِهم وذُرِّيَّاتِهم، وقد يُقالُ: إنَّه لا بُدَّ مِن وُجودِ صَلاحِهم؛ لِقَولِه: وَمَنْ صَلَحَ؛ فحينَئذٍ يكونُ ذلك مِن نتيجةِ عَمَلِهم [141] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 732). .
4- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُوجِبُ أنَّ لله تعالى عَرشًا يُحمَلُ، ويُوجِبُ أنَّ ذلك العَرشَ ليس هو المُلْكَ، كما تَقولُه طائِفةٌ مِن الجَهميَّةِ؛ فإنَّ المُلْكَ هو مجموعُ الخَلقِ، فهنا دَلَّت الآيةُ على أنَّ لله ملائِكةً مِن جُملةِ خَلْقِه يَحمِلونَ عَرشَه، وآخَرونَ يكونونَ حَوْلَه [142] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (3/278). .
5- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لَمَّا كان رُبَّما وقَعَ وَهمٌ أنَّه سُبحانَه مُحتاجٌ إلى حَملِهم لِعَرشِه، أو إلى عَرشِه، أو إلى شَيءٍ؛ نَبَّه بالتَّسبيحِ على أنَّه غَنيٌّ عن كُلِّ شَيءٍ [143] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/12). .
6- المَيتُ يَنتفِعُ بدُعاءِ الخَلْقِ له، واتَّفقَ أئمَّةُ الإسلامِ على ذلك، ودلَّ عليه كِتابُ الله تعالى؛ كقَولِه عزَّ وجَلَّ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ... إلى قَولِه سُبحانَه: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ...؛ فقد أخبَرَ سُبحانَه أنَّ الملائِكةَ يَدْعُونَ للمُؤمِنينَ بالمَغفِرةِ، ووِقايةِ العَذابِ، ودُخولِ الجنَّةِ [144] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/306). .
7- قال الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ تأمَّلْ ما تضَمَّنَه هذا الخبَرُ عن الملائِكةِ مِن مَدْحِهم بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، والإحسانِ إلى المؤمِنينَ بالاستِغفارِ لهم، وقَدَّموا بيْنَ يَدَيِ استِغفارِهم تَوسُّلَهم إلى اللهِ تعالى بسَعةِ عِلمِه وسَعةِ رَحمتِه؛ فسَعةُ عِلمِه تَتضَمَّنُ عِلمَه بذُنوبِهم وأسبابِها، وضَعفِهم عن العِصمةِ، واستيلاءِ عَدُوِّهم وأنفُسِهم وهواهم وطِباعِهم، وما زُيِّنَ لهم مِن الدُّنيا وزينتِها، وعِلمَه بهم إذ أنشَأَهم مِن الأرضِ وإذ هم أجِنَّةٌ في بُطونِ أمَّهاتِهم، وعِلمَه السَّابِقَ بأنَّهم لا بُدَّ أن يَعصُوه، وأنَّه يُحِبُّ العَفوَ والمَغفِرةَ، وغيرَ ذلك مِن سَعةِ عِلمِه الَّذي لا يُحيطُ به أحَدٌ سِواه. وسَعةُ رَحمتِه تَتضَمَّنُ أنَّه لا يَهلِكُ عليه أحَدٌ مِن المؤمِنينَ به أهلِ تَوحيدِه ومَحبَّتِه؛ فإنَّه واسِعُ الرَّحمةِ لا يَخرُجُ عن دائرةِ رَحمتِه إلَّا الأشقياءُ، ولا أشقَى ممَّن لم تَسَعْه رَحمتُه الَّتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ [145] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 116). .
8- قولُه تعالى: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فيه أنَّ الملائكةَ مُكَلَّفون، ووجْهُ الدَّلالةِ: أنَّهم لولا أنَّهم مُكَلَّفون قد قاموا بما كُلِّفوا به؛ لم يَكونوا مُستحِقِّينَ للثَّناءِ بالإيمانِ! لو كان هذا مِن طبيعتِهم وسَجِيَّتِهم لم يكنْ للثَّناءِ عليهم بذلك كبيرُ فائدةٍ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 93). .
9- في قَولِه تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إلى قولِه سبحانه: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ دليلٌ على كرامةِ المؤمنِ على اللهِ؛ إِذْ قد أَلْهَم حَمَلةَ عرْشِه ومَن حَوْلَه الاستِغفارَ له، والدُّعاءَ، وما فيه -له ولآبائِه وأزواجِه وذُرِّيَّاتِه- النَّجاةُ [147] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/37). .
10- قال الوَزيرُ ابنُ هُبَيرةَ في قَولِه تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ: (عَلِمَت الملائِكةُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ عبادَه المؤمِنينَ، فتَقرَّبوا إليه بالشَّفاعةِ فيهم، وأحسَنُ القُرَبِ أنْ يُسأَلَ المُحِبُّ إكرامَ حَبيبِه؛ فإنَّك لو سألْتَ شَخصًا أن يَزيدَ في إكرامِ وَلَدِه لارتفَعْتَ عندَه؛ حيثُ تَحُثُّه على إكرامِ مَحبوبِه) [148] يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/150). .
11- يُتَوسَّلُ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى بصِفاتِه كما يُتَوَسَّلُ إليه بأسمائِه، فهنا تَوَسَّلَ الملائِكةُ إلى اللهِ بالرُّبوبيَّةِ في قَولِهم: رَبَّنَا، وتوسَّلوا إليه بسَعةِ الرَّحمةِ: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً، وبسَعةِ العلمِ: وَعِلْمًا، والتَّوسُّلُ إلى اللهِ تعالى بصِفاتِه هو مِن أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ، كالتَّوسُّلِ إليه بأسمائِه [149] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 94). .
12- الدُّعاءُ في أكثَرِ الأمرِ مَذكورٌ بلَفظِ (رَبَّنا)، ويدُلُّ عليه أنَّ الملائِكةَ عندَ الدُّعاءِ قالوا: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا، وقال آدَمُ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف: 23] ، وقال نوحٌ عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: 47] ، إلى غيرِ ذلك؛ فثَبَت أنَّ مِن أرضَى الدُّعاءِ أن يُناديَ العَبدُ رَبَّه بقَولِه: (يا رَبِّ) [150] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/490). ؛ ففيه استِعطافُ العَبدِ لِمَولاه الَّذي ربَّاه وقام بمَصالِحه مِن لَدُنْ نَشأتِه إلى وَقتِ نِدائِه؛ فهو جَديرٌ بألَّا يُناديَه إلَّا بلَفظِ الرَّبِّ [151] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/238). المُقتضي للقيامِ بأمورِ العِبادِ وإصلاحِها، فكان العبدُ مُتعلِّقًا بمَنْ شأنُه التَّربيةُ والرِّفقُ والإحسانُ، قائلًا: يا مَن هو المُصلِحُ لِشُؤونِنا على الإطلاقِ، أتِمَّ لنا ذلك بكذا، وهو مُقتضى ما يَدعو به. وإنَّما أتى «اللَّهُمَّ» فى مواضعَ قليلةٍ، ولِمَعانٍ اقتضَتْها الأحوالُ [152] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/203). .
13- جَعْلُ الرَّحمةِ عِلَّةً للمَغفرةِ في قولِ الملائكةِ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ظاهِرٌ، أمَّا جَعْلُ العِلمِ عِلَّةً للمَغفرةِ، فمَعناهُ: حقَّقْنا أنَّ رحمتَك وَسِعَتْ كلَّ شَيءٍ فاغفِرْ للَّذينَ تابوا، وعرَفْنا أنَّ عِلمَك أحاطَ بكلِّ شَيءٍ فأَنجِحْ مَقاصِدَهم ما عَلِموا وما لم يَعلَموا؛ فإنَّك أَعلَمُ بأحوالِهم ومَصالِحِهم [153] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/467). .
14- في قَولِه تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دعاءُ حمَلةِ العَرشِ ومَن حَوْلَه للتَّائبينَ المُتَّبِعِينَ سبيلَ اللهِ بالمغفرةِ؛ وفيه دليلٌ على أنَّ التَّائبَ وغيرَ التَّائبِ مُحتاجٌ إلى مغفرةِ اللهِ ورِضوانِه؛ لا يُنَجِّيه عمَلُه دونَ أنْ يَجودَ عليه مَولاه برحمتِه [154] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/37). .
15- قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فهذا دعاءُ الملائكةِ للمُؤمِنينَ التَّائبِينَ المُتَّبِعينَ لكِتابِه وسُنَّةِ رَسولِه، الَّذين لا سبيلَ لهم غيرُهما؛ فلا يَطمَعْ غيرُ هؤلاء بإجابةِ هذه الدَّعوةِ؛ إذْ لم يَتَّصِفْ بصِفاتِ المَدعُوِّ له بها [155] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 62). !
16- في قَولِه تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ أنَّ مؤمني الجِنِّ يَدخُلونَ الجَنَّةَ، ودليلُ ذلك أنَّ كلَّ مؤمنٍ غَفَر اللهُ له ووقاه عذابَ الجحيمِ؛ فقد وَعَده الجَنَّةَ، والجِنُّ قد ثَبَت في حقِّ مؤمنِهم الإيمانُ، ومغفرةُ الذَّنْبِ، ووِقايةُ النَّارِ، كما في قولِه تعالى عن نَفَرٍ مِن الجِنِّ أنَّهم قالوا لقومِهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31] ؛ فتَعَيَّنَ دُخولُهم الجَنَّةَ [156] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 427). .
17- قولُه تعالى حكايةً عن الملائكةِ: وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ فيه أنَّ مِن تحقيقِ التَّوبةِ اتِّباعَ سَبيلِ اللهِ؛ ولهذا نَجِدُ أنَّ اللهَ تعالى يَقرِنُ دائِمًا مع التَّوبةِ ذِكْرَ العَمَلِ الصَّالحِ، كقَولِه تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [157] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 103). [الفرقان: 70] .
18- في قَولِه تعالى: وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ أنَّ الشَّيءَ لا يَتِمُّ إلَّا بانتِفاءِ المُؤذي، وحُصولِ المطلوبِ؛ وَجْهُ ذلك: أنَّهم لَمَّا انتَهَوا مِن دُعاءِ اللهِ تعالى بانتِفاءِ المُؤذي، سألوا اللهَ تعالى حُصولَ المطلوبِ، وهو إدخالُ الجنَّاتِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 108). .
19- في قَولِه تعالى: الَّتِي وَعَدْتَهُمْ التَّوسُّلُ إلى اللهِ تعالى بإجابةِ الدُّعاءِ، كأنَّهم يقولونَ: أدْخِلْهم هذا؛ لأنَّك وعَدْتَهم إيَّاه؛ فيكونُ مِن بابِ التَّوسُّلِ بوَعدِه إلى تحقُّقِ مَوعودِه [159] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 106). .
20- قولُهم: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فيه أنَّ مِن تمامِ النَّعيمِ أنْ يَجمَعَ اللهُ بيْنَ الإنسانِ وبيْن قَرابَتِه وزَوجِه، فإنْ قال قائلٌ: هل يَلزَمُ مِن ذلك أنْ يكونوا في درجةٍ واحدةٍ؟
 قُلْنا: لا يَلزَمُ، ولكِنَّ الأزواجَ لا بُدَّ أنْ يَكونوا في دَرَجةِ أزواجِهم، والذُّرِّيَّةُ ذَكَر اللهُ سبحانه وتعالى في سورةِ (الطُّورِ) أنَّها في دَرَجةِ آبائِهم أيضًا؛ قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21]، وهذا يدُلُّ على أنَّ الذُّرِّيَّةَ الَّذين لم يَبلُغوا مَنازِلَ آبائِهم أنَّهم يُرفَعونَ حتَّى يَكونوا في مَنازلِ آبائِهم، وأنَّ ذلك لا يَقتضي نَقْصَ الآباءِ مِن المَنازِلِ؛ ولذلك قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 108، 109). .
21- قَولُهم: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فيه الاحتِرازُ في الدُّعاءِ عن التَّعميمِ؛ حيثُ قالوا: وَمَنْ صَلَحَ، ولم يَقولوا: (وآباءَهم وأزواجَهم وذُرِّيَّاتِهم)، ومِن ذلك قولُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ أي: أهلَ المسجدِ الحرامِ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [البقرة: 126] ؛ فقال: أَهْلَهُ ثم أبدَلَ منها قَولَه: مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فاحترَزَ، ولكِنَّ اللهَ تعالى قال: وَمَنْ كَفَرَ يعني: أرزُقُ مَن في هذا البلدِ ولو كانوا كُفَّارًا، لكِنْ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؛ فيَنبغي للإنسانِ في الدُّعاءِ أنْ يَحترِزَ مِن التَّعميمِ الَّذي قد يَتناوَلُ مَن لا يَستحِقُّ الدُّعاءَ، فيَكونُ في دعائِه هذا نَوعٌ مِن الاعتداءِ [161] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 109). .
22- في قَولِه تعالى: وَأَزْوَاجِهِمْ أثبَتَ سبحانه الزَّوجيَّةَ لهنَّ بعدَ دُخولِ الجنَّةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ زَوجةَ الإنسانِ في الدُّنيا تكونُ زوجتَه في الآخرةِ إذا كانت مِن أهلِ الجنَّةِ [162] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/278). .
23- أخبَرَ سُبحانَه عن ملائكتِه أنَّهم قالوا عَقِيبَ هذه الدَّعوةِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أي: مَصدَرُ ذلك وسَبَبُه وغايتُه صادِرٌ عن كَمالِ قُدرتِك وكمالِ عِلمِك؛ فإنَّ العِزَّةَ كَمالُ القُدرةِ، والحِكمةَ كَمالُ العِلمِ، وبهاتَينِ الصِّفَتينِ يَقضي سُبحانَه وتعالى ما شاء، ويأمُرُ ويَنهى، ويُثيبُ ويُعاقِبُ؛ فهاتان الصِّفتانِ مَصدَرُ الخَلقِ والأمرِ [163] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 116). .
24- في قَولِه تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أنَّ الملائِكةَ الَّذين يَحمِلونَ العَرشَ ومَن حوْلَه يَسألونَ اللهَ تعالى أن يَقِيَ الَّذين آمَنوا السَّيِّئاتِ -أي: عذابَها (على قولٍ في التَّفسيرِ)- حتَّى يَتِمَّ لهمُ المطلوبُ، فإنْ قال قائلٌ: أليس هذا حاصِلًا مِمَّا سبَقَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟
قُلْنا: بلى، ولكِنْ مقامُ الدُّعاءِ ينبغي فيه البَسطُ؛ لعِدَّةِ أسبابٍ:
السَّببُ الأوَّلُ: لأنَّه عِبادةٌ، فكُلَّما بَسَطْتَ فيه ازدَدْتَ تَعبُّدًا وتَقرُّبًا للهِ.
الثَّاني: أنَّه تفصيلٌ، والتَّفصيلُ خيرٌ مِن الإجمالِ؛ لأنَّه قد يكونُ في التَّفصيلِ ما يَغيبُ عنك عندَ الإجمالِ.
الثَّالثُ: أنَّه انبِساطٌ مع اللهِ الَّذي هو أحَبُّ شَيءٍ إليك، والحَديثُ مع المحبوبِ لا شكَّ أنَّ كلَّ أحدٍ يُحِبُّ أن يَطولَ؛ انظُرْ إلى قَولِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ذَنْبي كُلَّه؛ دِقَّه وجِلَّه [164] دِقَّه: أي: دَقيقَه وصَغيرَه. وجِلَّه: أي: جَليلَه وكَبيرَه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/721). ، وأوَّلَه وآخِرَه، وعلانيتَه وسِرَّه)) [165] أخرجه مسلم (483) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. ، ((اللَّهمَّ اغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرتُ وما أعلَنْتُ، وما أنت أعلَمُ به مِنِّي )) [166] أخرجه البخاري (6398)، ومسلم (2719) واللفظ له، من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه. ، وكان يَكفي عن هذا كُلِّه أن يَقولَ: اللَّهمَّ اغفِرْ لي ذنْبي. لكِنَّ البَسطَ له تأثيرٌ على القَلبِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 114). .
25- في قَولِه تعالى: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أنَّ الرَّحمةَ كما تكونُ في جَلبِ المحبوبِ، تكونُ في دَفعِ المكروهِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 117). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
- قولُه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ استِئْنافٌ ابتِدائيٌّ اقتَضاهُ الانتِقالُ مِن ذِكرِ الوعيدِ المُؤْذِنِ بذَمِّ الَّذين كَفَروا إلى ذِكرِ الثَّناءِ على المؤمِنينَ؛ فإنَّ الكلامَ الجاريَ على ألْسِنةِ المَلائكةِ مِثلُ الكلامِ الجاري على ألْسِنةِ الرُّسُلِ؛ إذِ الجميعُ مِن وَحيِ اللهِ، والمُناسَبةُ: المُضادَّةُ بيْنَ الحالَينِ والمَقالَينِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ استِئنافًا بَيانيًّا ناشِئًا عن وعيدِ المُجادِلينَ في آياتِ اللهِ أنْ يَسألَ سائلٌ عن حالِ الَّذينَ لا يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ فآمَنوا بها [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/89). . أو هو استِئنافٌ مَسوقٌ لتَسليةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ببَيانِ أنَّ أشرافَ المَلائكةِ عليهمُ السَّلامُ مُثابِرونَ على ولايةِ مَن معَه مِنَ المؤمِنينَ، ونُصْرتِهم، واستِدعاءِ ما يُسعِدُهم في الدَّارَينِ [170] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/267). .
- والباءُ في قَولِه: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ للمُلابَسةِ، أيْ: يُسَبِّحونَ اللهِ تَسبيحًا مُصاحِبًا للحمدِ؛ فحُذِف مَفعولُ يُسَبِّحُونَ لدَلالةِ المُتعلِّقِ به عليه [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/90). .
- قولُه: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فيه وصْفُ حَمَلةِ العرشِ بالإيمانِ -مع أنَّ إيمانَهم به مَعلومٌ لكلِّ أحَدٍ-؛ لإظهارِ شَرَفِ الإيمانِ وفَضلِه، والتَّرغيبِ فيه، وتَعظيمًا لأهلِه، كما وُصِف الأنبياءُ عليهمُ السَّلامُ بالإيمانِ والصَّلاحِ، والإشعارِ بعِلَّةِ دُعائِهم للمؤمِنينَ، حَسَبَما يَنطِقُ به قَولُه: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا؛ فإنَّ المُشارَكةَ في الإيمانِ أقْوى المُناسَباتِ وأتَمُّها، وأَدْعى الدَّواعي إلى النُّصحِ والشَّفَقةِ، وللتَّعريضِ بالمُشرِكينَ أنْ لم يَكونوا مِثلَ أشرَفِ أجناسِ المَخلوقاتِ، مِثلُ قَولِه تعالى في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [172] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/152)، ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/237، 238)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 500)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/89). [الأنعام: 161] .
- قولُه: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا في نَظْمِ استِغفارِ المَلائكةِ للمؤمِنينَ في سِلْكِ وظائِفِهم المَفروضةِ عليهم مِن تَسبيحِهم، وتَحميدِهم، وإيمانِهم: إيذانٌ بكمالِ اعتِنائِهم به، وإشعارٌ بوُقوعِه عِندَ اللهِ تعالى في مَوقِعِ القَبولِ [173] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/267). .
- والإخبارُ عن صِنفَيِ المَلائكةِ بأنَّهم يُسَبِّحونَ ويؤْمِنونَ به تَوطئةٌ وتمهيدٌ للإخبارِ عنهم بأنَّهم يَستغفِرونَ للَّذينَ آمَنوا، فذلك هو المقصودُ مِنَ الخبَرِ، فقُدِّم له ما فيه تحقيقُ استِجابةِ استِغفارِهم؛ لصُدورِه ممَّن دأبُهمُ التَّسبيحُ، وصِفَتُهمُ الإيمانُ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/89، 90). .
- وصِيغةُ المُضارِعِ في يُسَبِّحُونَ وَيُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ مُفيدةٌ لتَجدُّدِ ذلك وتَكرُّرِه، وذلك مُشعِرٌ بأنَّ المُرادَ أنَّهم يَفعَلونَ ذلك في الدُّنيا [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/90). .
- وخُصَّ في هذه الآيةِ طائفةٌ مِنَ المَلائكةِ مَوصوفةٌ بأوصافٍ تَقتَضي رِفْعةَ شأنِهم؛ تَذَرُّعًا مِن ذلك إلى التَّنويهِ بشَأنِ المؤمِنينَ الَّذينَ تَستغفِرُ لهم هذه الطَّائفةُ الشَّريفةُ مِنَ المَلائكةِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/89). .
- قولُه: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ... افتُتِح دُعاءُ المَلائكةِ للمؤمِنينَ بالنِّداءِ؛ لأنَّه أدخَلُ في التَّضرُّعِ، وأرْجَى للإجابةِ، وفيها قولٌ مَحذوفٌ دلَّتْ عليه طريقةُ التَّكلُّمِ، وتقديرُ الكلامِ أنَّهم يَقولونَ: رَبَّنا ... [177] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/469)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/90)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/461). .
- وفي قولِهم: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا تَوجَّهوا إلى اللهِ بالثَّناءِ بسَعةِ رحمتِه وعِلمِه؛ لأنَّ سَعةَ الرَّحمةِ ممَّا يُطمِعُ باستِجابةِ الغُفرانِ، وسَعةَ العِلمِ تَتعلَّقُ بثُبوتِ إيمانِ الَّذينَ آمَنوا. ومعنَى السَّعةِ في الصِّفتَينِ: كَثرةُ تَعلُّقاتِهما، وذِكرُ سَعةِ العِلمِ كِنايةٌ عن يَقينِهم بصِدقِ إيمانِ المؤمِنينَ؛ فهو بمَنزِلةِ قَولِ القائلِ: أنت تَعلَمُ أنَّهم آمَنوا بك ووَحَّدوكَ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/90). .
- وجِيءَ في وَصفِه تعالى بالرَّحمةِ الواسِعةِ والعِلمِ الواسِعِ بأُسلوبِ التَّمييزِ المُحَوَّلِ عن النِّسبةِ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا؛ لِما في تَركيبِه مِنَ المُبالَغةِ بإسنادِ السَّعةِ إلى الذَّاتِ ظاهِرًا، حتَّى كأنَّ ذاتَه رحمةٌ وعِلمٌ واسِعانِ كلَّ شَيءٍ، فهيَ الَّتي وَسِعَتْ، فذلك إجمالٌ يَستَشرِفُ به السَّامِعُ إلى ما يَرِدُ بَعْدَه، فيَجيءُ بَعْدَه التَّمييزُ المُبَيِّنُ لنِسبةِ السَّعةِ أنَّها مِن جانبِ الرَّحمةِ وجانبِ العِلمِ، وهي فائدةُ تَمييزِ النِّسبةِ في كلامِ العربِ؛ لأنَّ للتَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ تَمكينًا للصِّفةِ في النَّفْسِ [179] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/153)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/467)، ((تفسير أبي حيان)) (9/238)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/91). .
- وفي قولِه: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا تقديمُ الرَّحمةِ على العِلمِ؛ لأنَّها المقصودةُ بالذَّاتِ هاهنا؛ لأنَّهم بها يَستَمطِرونَ إحسانَه، ويَتَوسَّلونَ بها إلى حُصولِ مَطلوبِهم مِن سؤالِ المَغفرةِ [180] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/238)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267). .
- وفائدةُ العُدولِ عن المُضمَرِ وأنَّه لم يُقَلْ: (فاغفِرْ لهم)، بل قيل: لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ هي: أنَّ الملائكةَ كما علَلَّوا الغُفرانَ في حقِّ مُفيضِ الخَيراتِ بالعِلمِ الشَّامِلِ والرَّحمةِ الواسِعةِ، عَلَّلوا قابِلَ الفَيضِ أيضًا بالتَّوبةِ عن الشِّركِ، واتِّباعِ سبيلِ الإسلامِ [181] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/470). .
- ومَفعولُ فَاغْفِرْ مَحذوفٌ؛ للعِلمِ، أيْ: اغفِرْ لهم ما تابوا منه، أي: ذُنوبَ الَّذينَ تابوا [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/91). .
- وتفَرَّعَ على التَّوطئةِ بمُناجاةِ اللهِ تعالى ما هو المُتَوسَّلُ إليه منها، وهو طلَبُ المَغفرةِ للَّذينَ تابوا؛ لأنَّه إذا كان قد عَلِم صِدقَ تَوبةِ مَن تابَ منهم، وكانت رحمتُه وَسِعَتْ كلَّ شَيءٍ؛ فقد استَحَقُّوا أنْ تَشملَهم رَحمتُه؛ لأنَّهم أَحْرياءُ بها [183] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/91). .
- قولُه: وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ عطْفٌ على فَاغْفِرْ، فهو مِن جُملةِ التَّفريعِ؛ فإنَّ الغُفرانَ يَقتَضي هذه الوِقايةَ؛ لأنَّ غُفرانَ الذَّنْبِ هو عدَمُ المؤاخَذةِ به. وعَذابُ الجَحيمِ جعَلَه اللهُ لجَزاءِ المُذْنِبينَ، إلَّا أنَّهم عَضَّدوا دَلالةَ الالتِزامِ بدَلالةِ المُطابَقةِ [184] الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ الوَضْعيَّةُ تَنقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: دَلالةِ المُطابَقةِ، ودَلالةِ التَّضَمُّنِ، ودَلالةِ الالتِزامِ؛ فدَلالةُ المُطابَقةِ: هي دَلالةُ اللَّفظِ على تمامِ مُسَمَّاهُ؛ كدَلالةِ الإنسانِ والأسدِ على حقيقتَيْهِما. ودَلالةُ التَّضمُّنِ: دَلالةُ اللَّفظِ على بعضِ مُسَمَّاهُ؛ كدَلالةِ البَيتِ على السَّقفِ أو الحائطِ. ودَلالةُ الالتِزامِ: دَلالةُ اللَّفظِ على معنًى آخَرَ خارِجٍ عن معناه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 329، 330)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 209، 210)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن ابن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/130، 131). ؛ إظهارًا للحِرصِ على المَطلوبِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/92). ، وهو تصريحٌ بعدَ إشعارٍ؛ للتَّأكيدِ والدَّلالةِ على شدَّةِ العَذابِ [186] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/238)، ((تفسير أبي السعود)) (7/267، 268). .
2- قولُه تعالَى: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إعادةُ النِّداءِ رَبَّنَا في خِلالِ جُمَلِ الدُّعاءِ اعتِراضٌ؛ للتَّأكيدِ بزِيادةِ التَّضَرُّعِ، وهذا ارتِقاءٌ مِن طلَبِ وِقايَتِهمُ العَذابَ إلى طلَبِ إدخالِهم مَكانَ النَّعيمِ [187] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/239)، ((تفسير أبي السعود)) (7/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/92). .
- وجعَلوا هذه الجُملةَ مَعطوفةً على ما سَبَق لا مُستأنَفةً، أي: لم يَقولوا: (ربَّنا أدخِلْهم)، بل قالوا: وَأَدْخِلْهُمْ؛ لتحَقُّقِ ما قبْلَها؛ لأنَّ العَطفَ يَقتضي ثُبوتَ المَعطوفِ عليه وكَوْنَه أصلًا، فكأنَّهم قالوا: ربَّنا واجمَعْ لهم مع ما سبَقَ أن تُدخِلَهم جنَّاتِ عَدْنٍ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 105). .
- وفي قَولِه: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ نوعٌ طَريفٌ مِن أنواعِ البَلاغةِ، وهو ما يعرفُ بـ «الإسجالِ بعدَ المُغالَطةِ»، وهو أنْ يَقصِدَ المُتكلِّمُ غَرَضًا مِن مَمدوحٍ، فيأتيَ بألفاظٍ تُقرِّرُ بُلوغَه ذلك الغرَضَ؛ إسجالًا منه على المَمدوحِ به، وبيانُ ذلك: أنْ يَشترِطَ شَرطًا يَلزَمُ مِن وُقوعِه وُقوعُ ذلك الغرَضِ، ثمَّ يُخبِرَ بوُقوعِه مُغالَطةً -وإنْ لم يَكُنْ قد وقَعَ بَعْدُ- لِيَقعَ المَشروطُ، وقد يَقَعُ الإسجالُ لغَيرِ مُغالَطةٍ، وهذا القِسْمُ هو الَّذي يأتي في الكتابِ العزيزِ كثيرًا، ومنه هذه الآيةُ الكريمةُ، حيث سجَّلَ المولى سبحانَه على ألْسِنةِ عِبادِه تحقيقَ مَوعودِه على لِسانِ رَسولِه؛ ففي قولِه: الَّتِي وَعَدْتَهُمْ أنَّ هذا الوعدَ قد أصبح مُبرَمًا لا انفكاكَ لإبرامِه، وهذا هو الغرضُ الحقيقيُّ مِن الدُّعاءِ للمؤمنينَ؛ فبان بذلك تقريرُ هذا الغرضِ وتأكيدُه، وأنَّ الحقَّ سبحانَه سَيَفي به لعِبادِه المؤمنينَ في الآخِرةِ كما وعَدَهم [189] يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 574، 575)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (2/142) و(8/462). .
- قولُه: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطْفٌ على الضَّميرِ (هُم) الأوَّلِ في وَأَدْخِلْهُمْ، أي: أَدخِلْهُم ومعهم هؤلاءِ؛ لِيَتِمَّ سُرورُهم، ويَتضاعَفَ ابتِهاجُهم، وهو دعاءٌ بأنْ يَجعَلَهمُ اللهُ معهم في مَساكِنَ مُتقارِبةٍ، أو يُمكِنُ أنْ يَكونَ مَعطوفًا على الضَّميرِ الثَّاني في وَعَدْتَهُمْ؛ لبَيانِ عُمومِ الوعدِ. وقيل: هو عطْفٌ على الثَّاني في وَعَدْتَهُمْ، لكنْ لا بِناءً عَلى الوَعدِ العامِّ للكلِّ كما قيلَ؛ إذْ لا يَبقى حينَئذٍ للعَطفِ وَجْهٌ، بلْ بِناءً على الوعدِ الخاصِّ بهم بقولِه تعالى: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] بأنْ يَكونُوا أعلى درجةً مِن ذُرِّيَّتِهم [190] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/239)، ((تفسير أبي السعود)) (7/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/92، 93). .
- ورُتِّبَتِ القَراباتُ في هذه الآيةِ على ترتيبِها الطَّبيعيِّ؛ فإنَّ الآباءَ أسبَقُ عَلاقةً بالأبناءِ، ثمَّ الأزواجُ، ثمَّ الذُّرِّيَّاتُ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/93). . وقيل: قدَّموا الآباءَ؛ لأنَّ الآباءَ أحَقُّ النَّاسِ بالإجلالِ، وقدَّموا الأزواجَ في اللَّفظِ على الذُّرِّيَّةِ؛ لأنَّهم أشَدُّ إلصاقًا بالشَّخصِ [192] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/471). .
- وجملةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَعليلٌ لِما قَبْلَها، وهي اعتِراضٌ بيْن الدَّعَواتِ؛ استِقصاءً للرَّغبةِ في الإجابةِ بداعي مَحبَّةِ المَلائكةِ لأهلِ الصَّلاحِ؛ لِما بيْن نُفوسِهم والنُّفوسِ المَلَكيَّةِ مِنَ التَّناسُبِ [193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/93). .
- واقتِرانُ هذه الجُملةِ بحرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بها، و(إنَّ) في مِثلِ هذا المَقامِ تُغْني غَناءَ فاءِ السَّبَبيَّةِ، أي: فعِزَّتُك وحِكمتُك هُما اللَّتانِ جَرَّأَتَانَا على سؤالِ ذلك مِن جَلالِكَ؛ فالعِزَّةُ تَقتَضي الاستِغناءَ عن الانتِفاعِ بالأشياءِ النَّفيسةِ، فلمَّا وعَدَ الصَّالِحينَ الجَنَّةَ لم يَكُنْ للهِ ما يَضِنُّه بذلك، فلا يَصدُرُ منه مَطْلٌ، والحِكمةُ تَقتَضي مُعامَلةَ المُحسِنِ بالإحسانِ [194] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/93). .
3- قولُه تعالَى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
- قولُه: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، أي: امنَعْهُم مِنَ الوُقوعِ فيها؛ حتَّى لا يَترتَّبَ عليها جَزاؤُها، أو العُقوباتِ؛ لأنَّ جزاءَ السَّيِّئةِ سيِّئةٌ مِثلُها، أو قِهِمْ جَزاءَ السَّيِّئاتِ الَّتي اجتَرَحوها؛ فحُذِف المُضافُ، وهو تَعميمٌ بعدَ تَخصيصٍ، أو مَخصوصٌ بالأتْباعِ فعلى هذا يكونُ الدعاءُ الأوَّلُ للمَتْبوعينَ، أو المعاصي في الدُّنيا؛ فقولُه: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، أي: ومَن تَقِها في الدُّنيا فقد رَحِمْتَه في الآخِرةِ، كأنَّهم طَلَبوا السَّببَ بعدَ ما سَألوا المُسَبَّبَ [195] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/153)، ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/239)، ((تفسير أبي السعود)) (7/268). .
- لا تَكرارَ في قولِه: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وقولِه: وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ؛ لعدَمِ تَوافُقِ المَدعُوِّ؛ إذِ الدُّعاءُ الأوَّلُ للَّذينَ تابوا، والثَّاني لهم ولِمَن صَلَح مِن المَذكورينَ، أو لاختِلافِ الدُّعائينِ إذا أُريدَ بالسَّيِّئاتِ أنفُسُها؛ فذلك وِقايةُ عَذابِ الجَحيمِ، وهذا وِقايةُ الوُقوعِ في السَّيِّئاتِ [196] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/52)، ((تفسير أبي حيان)) (9/239)، ((تفسير أبي السعود)) (7/268). .
- وصِيغَتْ كَلِمةُ (سَيِّئة) على وَزنِ فَيْعَلة؛ للمُبالَغةِ في قِيامِ الوَصفِ بالمَوصوفِ، أي: وقِهِمْ مِن كلِّ ما يَسوؤُهم؛ فالتَّعريفُ في السَّيِّئَاتِ للجِنسِ، وهو صالحٌ لإفادةِ الاستِغراقِ، فوُقوعُه في سِياقِ ما هو كالنَّفيِ -وهو فِعلُ الوِقايةِ- يُفيدُ عُمومَ الجِنسِ، على أنَّ بِساطَ الدُّعاءِ يَقتَضي عُمومَ الجِنسِ ولو بدُونِ لامِ نَفيٍ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/93). .
- وقولُه: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ تَذييلٌ، أي: وكلُّ مَن وُقِيَ السَّيِّئاتِ يَومَ القِيامةِ فقد نالَتْهُ رحمةُ اللهِ، أي: نالَتْهُ الرَّحمةُ كامِلةً، ففِعلُ رَحِمْتَهُ مُرادٌ به تَعظيمُ مَصدَرِه [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/94). .
- والتَّنوينُ في يَوْمَئِذٍ تَنوينُ العِوَضِ، والمَحذوفُ جُملةٌ عُوِّضَ منها التَّنوينُ، ولم تَتقَدَّمْ جُملةٌ يَكونُ التَّنوينُ عِوَضًا منها؛ فلا بدَّ مِنَ تَقديرِ جُملةٍ يَكونُ التَّنوينُ عِوَضًا منها يدُلُّ عليها معنَى الكلامِ، وهي: ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ -أي: جزاءَها- يَومَ إذْ يُؤاخَذُ بها فقد رَحِمْتَهُ، أو يومَ إذْ تُدخِلُهم جنَّاتِ عدْنٍ [199] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/239، 240)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/94)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/462). .
- قولُه: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ما في اسمِ الإشارةِ (ذَلِكَ) مِن معنَى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعْدِ دَرجةِ المُشارِ إليه، مع التَّنويهِ والتَّعظيمِ [200] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/94). .
- ووُصِفُ الْفَوْزُ بـ الْعَظِيمُ؛ لأنَّه فَوْزٌ بالنَّعيمِ خالِصًا مِن الكُدراتِ الَّتي تَنقُصُ حلاوةَ النِّعمةِ [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/94). .
- وقَولُه: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ فيه احتِباكٌ [202] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فذُكِرَ إدخالُ الجنَّاتِ أوَّلًا؛ دَليلًا على حَذفِ النَّجاةِ مِن النَّارِ ثانيًا، ووِقايةُ السَّيِّئاتِ ثانيًا؛ دَليلًا على التَّوفيقِ للصَّالحاتِ أوَّلًا، وسِرُّ ذلك: التَّشويقُ إلى المحبوبِ، وهو الجِنانُ، بعَمَلِ المحبوبِ، وهو الصَّالِحُ، والتَّنفيرُ مِن النِّيرانِ باجتنابِ المَمقوتِ مِن الأعمالِ، وهو السَّيِّئُ؛ فذُكِرَ المُسَبَّبُ أوَّلًا، وحُذِفَ السَّبَبُ؛ لأنَّه لا سَبَبَ في الحقيقةِ إلَّا الرَّحمةُ، وذُكِرَ السَّبَبُ ثانيًا في إدخالِ النَّارِ، وحُذِف المُسَبَّبُ [203] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/16، 17). .