موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (19-24)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ

غريب الكلمات:

الْأَلْبَابِ: العقولِ الزكيَّة، مفردُها لُبٌّ، وأصْل اللُّبِّ: الخُلُوصُ والجَوْدةُ، والشَّيء المُنتقَى .
الْمِيثَاقَ: الميثاق: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَمُ، وأصله: العقدُ والإحكامُ .
وَيَدْرَءُونَ: أي: يَدفَعونَ، وأصلُ (درأ): يدُلُّ على دفعِ الشَّيءِ .
عُقْبَى الدَّارِ: أي: تصيرُ الجنَّةُ آخِرَ أمْرِهم، والعُقبَى: العاقِبةُ، وهي الشَّيءُ الذي يقَعُ عَقِبَ شَيءٍ آخَرَ، وقد اشتُهِرَ استِعمالُها في آخِرةِ الخيرِ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غَيرِه .
عَدْنٍ: أي: إِقَامَةٍ، واستقرارٍ، وثباتٍ، يُقَال: عدن بالمكانِ إِذا أقامَ به، واستقرَّ، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مُبَيِّنًا أنَّ المُهتدينَ والضَّالِّينَ لا يستوونَ، فيقولُ له: هل الذي يعلَمُ أنَّ ما جاءك- يا محمَّدُ- مِن عندِ اللهِ هو الحَقُّ فيؤمِنُ به، كالأعمى عن الحَقِّ الذي لم يؤمِنْ؟ إنَّما يتَّعِظُ وينتفعُ بما أنزلَه الله إليك مِن القرآنِ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ، الذين يوفونَ بالعهدِ الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، ويستمرُّون على الوفاءِ به، فلا يقعُ منه نقضٌ له، وهم الذين يَصِلونَ كلَّ ما أمَرَهم اللهُ بوَصلِه، مِن الإيمانِ باللهِ والأرحامِ وغير ذلك، ويخافونَ رَبَّهم أن يُحاسِبَهم على كلِّ ذُنوبِهم، ولا يغفِرُ لهم منها شيئًا، وهم الذين صَبَروا؛ طلبًا لرِضا ربِّهم، وأدَّوا الصَّلاةَ على أتمِّ وُجوهِها، وأدَّوا مِن أموالِهم زكاتَهم المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ، في الخَفاءِ والعَلَن، ويَدفعونَ بالعَمَلِ الصَّالحِ السَّيئَ من الأعمالِ، أولئك الموصوفونَ بهذه الصِّفاتِ لهم العاقِبةُ المحمودةُ في الآخرةِ.
تلك العاقِبةُ هي جنَّاتُ عَدنٍ يُقيمونَ فيها لا يزولونَ عنها، ومعهم الصَّالِحونَ مِن الآباءِ والزَّوجاتِ والذُّرِّيَّاتِ؛ من الذُّكورِ والإناث، وتدخُلُ الملائِكةُ عليهم مِن كلِّ بابٍ؛ لتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلِمْتُم مِن كُلِّ سُوءٍ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعْمَ عاقبةُ الدَّارِ الجنَّةُ!

تفسير الآيات:

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا افترَقَ حالُ من أجاب ومَن أعرَضَ في الجزاءِ، وكان ما مضى مُستوفيًا طُرُقَ البَيانِ بإيضاحِ الأمرِ بالجُزئيَّاتِ والأمثلةِ مع التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فكان جديرًا بترتيبِ الأثَرِ عليه- تسبَّبَ عنه الإنكارُ على مَن سَوَّى بين العالمِ العامِلِ وغَيرِه؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد:16] ، وسَوَّى بين الحَقِّ والباطِلِ؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: كَذِلَكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ[الرعد:17] فحَسُنَ قَولُه :
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى.
أي: أهذا الذي يعلَمُ أنَّ القُرآنَ الذي أنزَلَه اللهُ عليك- يا محمَّدُ- حَقٌّ لا شَكَّ فيه، فيؤمِنُ به ويتَّبِعُه- كالذي هو أعمَى القَلبِ، لا يعلَمُ ما أنزَلَ اللهُ في كِتابِه، ولا يفهَمُه ولا يتَّبِعُه؟! أفهذا كهذا؟! لا يستويانِ .
كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58] .
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ.
أي: إنَّما يتَّعِظُ بآياتِ اللهِ ويَعتَبِرُ بها أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ الصَّحيحةِ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20).
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ .
أي: الَّذين يُوفُونَ بالعهدِ الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، كالوفاءِ بالعقودِ في المعاملاتِ، وأداءِ الأماناتِ إلى غير ذلك .
وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ.
 أي: ولا يقعُ منهم نقضٌ لهذا العهدِ المؤكَّد، فهم مستمرُّون على الوفاءِ به .
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21).
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.
أي: ومِن صفاتِ أُولي الألبابِ أنَّهم يَصِلونَ كُلَّ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه؛ مِن الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، وعبادتِه وَحدَه لا شريكَ له، وصلةِ الأرحامِ، وغيرِ ذلك .
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .
أي: ويخشونَ رَبَّهم، إن خالفوا أوامِرَه فقَطَعوا ما أمَرَهم بوَصلِه .
وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ.
أي: ويخافونَ مُناقشةَ اللهِ لهم عن جميعِ أعمالِهم وعدمِ مَغفرةِ ذُنوبِهم .
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22).
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ.
أي: والذين صبَروا على طاعةِ اللهِ وعن مَعاصيه، وعلى أقدارِه المؤلِمةِ، طَلبًا لرِضوانِه وثَوابِه .
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ.
أي: وأدَّوُا الصَّلواتِ بأركانِها وشُروطِها، وواجِباتِها، في مَواقيتِها، خاشعينَ فيها .
وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.
أي: وأخرجوا الزَّكَواتِ المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ مِن الأموالِ التي رزَقناهم، فأعطَوها لمُستحِقِّيها في الخفاءِ وفي العَلَنِ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].
وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.
أي: ويدفعونَ بالعملِ الصالحِ السيِّئَ مِن الأعمالِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35] .
  أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
أي: أولئك- المؤمِنونَ الذين ذكَرْنا أوصافَهم- لهم في الآخِرةِ الجنَّةُ .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23).
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.
أي: لهم جَنَّاتُ مُكثٍ وإقامةٍ دائِمةٍ، يدخُلونَها هم والصَّالِحونَ مِن آبائِهم وأمَّهاتِهم وأزواجِهم وأولادِهم .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ.
أي: والملائِكةُ يَدخُلونَ على المؤمنينَ مِن كُلِّ بابٍ؛ للسَّلامِ عليهم، وتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ .
سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24).
أي: تقولُ الملائكةُ لأهلِ الجنَّةِ: سَلَّمَكم اللهُ- أيُّها المؤمِنونَ- من العذابِ والأهوالِ والشُّرورِ في الآخرةِ ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعمَ عُقبى الدَّارِ الجنَّةُ .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((هل تدرونَ أوَّلَ مَن يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: أوَّلُ من يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ الفُقَراءُ المهاجِرونَ، الذين تُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المَكارِهُ، ويموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه لا يستطيعُ لها قَضاءً، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ لِمَن يشاءُ مِن ملائكتِه: ائتُوهم فحَيُّوهم، فتقولُ الملائكةُ: نحن سُكَّانُ سمائِك، وخِيرتُك مِن خَلقِك، أفتأمُرُنا أن نأتيَ هؤلاءِ فنُسَلِّمَ عليهم؟! قال: إنَّهم كانوا عبادًا يعبُدوني لا يُشرِكونَ بي شيئًا، وتُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المكارِهُ، يموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه، لا يستطيعُ لها قضاءً ، قال: فتأتيهم الملائكةُ عند ذلك، فيدخُلونَ عليهم مِن كُلِّ بابٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)) .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى حقيقٌ بالعبدِ أن يتذكَّرَ ويتفَكَّرَ أيُّ الفريقينِ أحسَنُ حالًا وخيرٌ مآلًا، فيُؤثِرُ طريقَه، ويَسلُكُ خَلفَه، ولكِنْ ما كلُّ أحدٍ يتذكَّرُ ما ينفَعُه ويضُرُّه .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فيَصِلونَ ما بينهم وبينَ رَبِّهم بعبوديَّتِه وَحدَه لا شَريكَ له، والقيامِ بطاعتِه، والإنابةِ إليه والتوكُّلِ عليه، وحُبِّه وخَوفِه ورَجائِه، والتَّوبةِ إليه، والاستكانةِ له، والخُضوعِ والذِّلَّةِ له، والاعترافِ له بنِعمَتِه وشُكرِه عليها، والإقرارِ بالخَطيئةِ والاستغفارِ منها؛ فأمَرَ الله بهذه الأسبابِ التي بينه وبينَ عَبدِه أن تُوصَلَ، وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبينَ رَسولِه بالإيمانِ به وتَصديقِه، وتَحكيمِه في كُلِّ شَيءٍ، والرِّضا لحُكمِه والتَّسليمِ له، وتقديمِ محبَّتِه على محبَّةِ النَّفسِ والولَدِ والوالِدِ والنَّاسِ أجمعينَ- صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه- وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبين الوالِدَينِ والأقرَبينَ بالبِرِّ والصِّلةِ، وما بيننا وبينَ الزَّوجاتِ بالقيامِ بحُقوقِهنَّ، ومُعاشَرتِهنَّ بالمعروفِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الجارِ القَريبِ والبعيدِ بمُراعاةِ حَقِّه، وحِفظِه في نَفسِه ومالِه وأهلِه بما نحفَظُ به نفوسَنا وأهلينا وأموالَنا، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الرَّفيقِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين عُمومِ النَّاسِ بأن نأتيَ إليهم بما نحِبُّ أن يأتوه إلينا؛ فهذا كلُّه مما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ .
3- السببُ الذي يجعَلُ العبدَ واصِلًا ما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ: خَشيةُ اللهِ وخَوفُ يومِ الحسابِ؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أي: يخافونَه فيمنَعُهم خوفُهم منه، ومن القدومِ عليه يومَ الحسابِ، أن يتجَرَّؤوا على معاصي اللهِ، أو يُقَصِّروا في شيءٍ ممَّا أمرَ اللهُ به؛ خوفًا مِن العقابِ ورجاءً للثَّوابِ ، ولا يمكِنُ لأحدٍ قَطُّ أن يَصِلَ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه إلَّا بخَشيتِه، ومتى ترَّحَلَت الخشيةُ مِن القَلبِ، انقطَعَت هذه الوُصَلُ .
4- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، فلم يكتَفِ منهم بمجَرَّدِ الصَّبرِ، حتى يكونَ خالصًا لوجهِه سبحانَه .
5- قال تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ثمَّ ذكَرَ لهم ما يُعينُهم على الصَّبرِ، وهي الصَّلاةُ، فقال: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وهذان هما العَونانِ على مصالحِ الدُّنيا والآخرةِ، وهما الصَّبرُ والصَّلاةُ؛ قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 153] .
6-  قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ في التَّقييدِ بالصَّلاحِ قَطعٌ للأطماعِ الفارغةِ لِمَن يتمَسَّكُ بمُجَرَّدِ حَبلِ الأنسابِ .
7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الصَّبرَ عِمادُ الدِّينِ كُلِّه .
8- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَلالةٌ على أنَّ الفوزَ بالمطلوبِ المحبوبِ، والنَّجاةَ مِن المكروهِ المرهوبِ، ودخولَ الجَنَّةِ؛ إنَّما نالوه بالصَّبرِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قَولِه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ جمَع مقاماتِ الإسلامِ والإيمانِ كلَّها؛ حيث اشتَمَل على فِعلِ المأمورِ، وتركِ المحظورِ، والصَّبرِ على المَقدورِ .
2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه إثباتُ الوجهِ لله عزَّ وجلَّ .
3- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فيه دليلٌ على أنَّ الدَّرَجةَ تعلو بالشَّفاعةِ، وأنَّ الموصوفينَ بتلك الصِّفاتِ يقتَرِنُ بعضُهم ببعضٍ- لِما بينهم مِن القَرابةِ والوُصلةِ- في دُخولِ الجنَّةِ؛ زيادةً في أُنسِهم .
4- الإكثارُ مِن تَردادِ رسلِ الملكِ أعظمُ في الفخرِ، وأكثرُ في السرورِ والعزِّ، قال الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، ولمَّا كان إتيانُهم مِن الأماكنِ المعتادةِ- مع القدرةِ على غيرِها- أدلَّ على الأدبِ والكرمِ؛ قال تعالى: مِنْ كُلِّ بَابٍ .
5- يجزئُ السَّلامُ مع حذفِ اللَّامِ، فلو قال القائلُ: «سلامٌ عليكم» أجزأَ؛ قال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لكن باللامِ أولَى؛ لأنَّها للتفخيمِ والتكثيرِ .
6- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ إشارةٌ إلى أنَّ مِن الملائكةِ ملائِكةً مُوَكَّلينَ بتحيَّةِ أهلِ الجنَّةِ .
7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ لَمَّا كان الصبرُ هو الذي نشأ عنه تلك الطَّاعاتُ السَّابقةُ؛ ذكَرَت الملائكةُ أنَّ النَّعيمَ السَّرمديَّ إنَّما هو حاصِلٌ بسبَبِ الصَّبرِ، ولم يأتِ التَّركيبُ بالإيفاءِ بالعَهدِ، ولا بغيرِ ذلك .
8- لَمَّا كانت الجنَّةُ دارَ السَّلامةِ مِن كُلِّ عَيبٍ وشَرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمَت مِن كُلِّ ما ينغِّصُ العَيشَ والحياةَ- كانت تحيَّةُ أهلِها فيها سَلامًا، والرَّبُّ يُحيِّيهم فيها بالسَّلامِ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23- 24] .
9- السَّلامُ شُرِعَ على الأحياءِ والأمواتِ بتقديمِ اسمِه على المُسلَّمِ عليهم؛ لأنَّه دُعاءٌ بخيرٍ، والأحسَنُ في دُعاءِ الخيرِ أن يتقَدَّمَ المدعوُّ به على المدعوِّ له، قال تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، ومِن ذلك قولُه تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] ، وقولُه: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109] ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79] ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130] ، وأمُّا الدُّعاءُ بالشَّرِّ فيُقدَّمُ فيه المدعوُّ عليه على المدعُوِّ به غالبًا، كقولِه تعالى لإبليسَ: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص: 78] ، وقولِه: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ [الحجر: 35] ، وقولِه: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] ، وقولِه: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ [الشورى: 16] ، وسِرُّ ذلك- والله أعلَمُ- أنَّ في الدُّعاءِ بالخيرِ قَدَّموا اسمَ الدُّعاءِ المحبوبِ الذي تشتهيه النُّفوسُ وتَطلُبُه، ويَلَذُّ للسَّمعِ لَفظُه، فيَبدأُ السَّمعُ بذِكرِ الاسمِ المحبوبِ المَطلوبِ، ويبدأُ القَلبُ بتصَوُّرِه، فيُفتَحُ له القَلبُ والسَّمعُ، فيبقى السَّامِعُ كالمُنتَظِر لِمَن يحصُلُ هذا، وعلى من يحُلُّ، فيأتي باسمِه فيقولُ: عليك أو لك، فيحصُلُ له من السُّرورِ والفَرَحِ ما يبعَثُ على التَّحابِّ والتَّوادِّ والتَّراحُمِ، الذي هو المقصودُ بالسَّلامِ، وأمَّا في الدُّعاءِ عليه ففي تقديمِ المدعوِّ عليه إيذانٌ باختصاصِه بذلك الدُّعاءِ، وأنَّه عليه وَحدَه، كأنَّه قيل له: هذا عليك وَحدَك لا يَشرَكُك فيه السَّامِعونَ، بخلافِ الدُّعاءِ بالخيرِ؛ فإنَّ المطلوبَ عُمومُه، وكلَّما عَمَّ به الدَّاعي كان أفضَلَ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ تفريعٌ على جُملةِ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى... الآيةَ؛ فالكلامُ لنَفْيِ استواءِ المؤمنِ والكافرِ في صورةِ الاستفهامِ؛ تنبيهًا على غَفلةِ الضَّالينَ .
- إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ فيه قصْرٌ بـ (إنَّما)، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: لا غيرُ أُولي الألبابِ؛ فهو تعريضٌ بالمُشركين بأنَّهم لا عقولَ لهم؛ إذ انتَفَت عنهم فائدةُ عُقولِهم .
- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ فيه دُخولُ همزةِ الإنكارِ على الفاءِ أَفَمَنْ؛ لإنكارِ أنْ تقَعَ شُبهَةٌ في تشابُهِهما بعدما ضُرِبَ مِن المَثَلِ، في أنَّ حالَ مَن عَلِمَ أنَّما أُنْزِلَ إليك مِن ربِّك الحقُّ فاستجابَ، بمعزِلٍ مِن حالِ الجاهلِ الَّذي لم يستبْصِرْ فيستجيبَ، كبُعْدِ ما بين الزَّبَدِ والماءِ، والخَبَثِ والإبريزِ ؛ فإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لتَوجيهِ الإنكارِ إلى ترتُّبِ توهُّمِ المُماثلَةِ على ظُهورِ حالِ كلٍّ منهما بما ضُرِبَ مِن الأمثالِ وبين المصيرِ والمآلِ، كأنَّه قيل: أبعدما بُيِّنَ حالُ كلٍّ مِن الفريقينِ ومآلُهما يُتَوَهَّمُ المُماثلَةُ بينهما ؟!
- قولُه: كَمَنْ هُوَ أَعْمَى، أي: كمَن لا يعلَمُ ذلك، إلَّا أنَّه أُريدَ زيادةُ تقْبيحِ حالِه فعُبِّرَ عنه بالأعْمى ، وقيل: شَبَّه الكافِرَ والجاهِلَ بالأعمَى؛ لأنَّ الأعمَى لا يهتدي لرُشدٍ .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ
- قولُه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ فيه إعادةُ اسمِ الموصولِ وما عُطِفَ عليه مِن الأسماءِ الموصولةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ صِلاتِها خِصالٌ عظيمةٌ تقْتَضي الاهتمامَ بذِكْرِ مَن اتَّصَفَ بها، ولدفْعِ تَوَهُّمِ أنَّ عُقْبى الدَّارِ لا تتحقَّقُ لهم إلَّا إذا جمَعوا كلَّ هذه الصِّفاتِ .
- وجُملةُ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ جُملةٌ توكيديَّةٌ لقولِه: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّ العهدَ هو الميثاقُ، ويلزَمُ مِن إيفاءِ العهدِ انتفاءُ نَقيضِه . وقيل: قولُه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ تعميمٌ بعد تخصيصٍ، وفيه تأْكيدٌ للاستمرارِ المفهومِ مِن صِيغَةِ المُستقبَلِ ؛ فالميثاقُ يستغرِقُ جميعَ المَواثيقِ، وبذلك يكونُ أعمَّ مِن (عهدِ اللَّهِ)، فيشمَلُ المواثيقَ الحاصِلةَ بين النَّاسِ مِن عُهودٍ وأَيْمانٍ، وباعتبارِ هذا العُمومِ حصَلَت مُغايرةٌ ما بينه وبين عَهْدِ اللَّهِ، وتلك هي مُسَوِّغَةُ عطْفِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مع حُصولِ التَّأْكيدِ لمعنى الأُولى بنَفْيِ ضِدِّها، وتعريضًا بالمُشركين؛ لاتِّصافِهم بضِدِّ ذلك الكَمالِ؛ فعطْفُ التَّأكيدِ باعتبارِ المُغايرةِ بالعُمومِ والخُصوصِ .
3- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
- قولُه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... فيه إطنابٌ في التَّعبيرِ عنِ الرَّحِمِ- على أحدِ القولينِ في التفسيرِ- بطريقةِ اسمِ الموصولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ؛ لِما في الصِّلةِ مِن التَّعريضِ بأنَّ واصِلَها آتٍ بما يُرْضي اللَّهَ؛ لينتَقِلَ مِن ذلك إلى التَّعريضِ بالمُشركين الَّذين قطَعوا أواصِرَ القَرابةِ بينهم وبين رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمنين، وأساؤوا إليهم في كلِّ حالٍ، وكتَبوا صحيفةَ القَطيعَةِ مع بَني هاشمٍ .
- قولُه: أَنْ يُوصَلَ جيءَ بهذا النَّظْمِ؛ لزيادةِ تقْريرِ المقصودِ- وهو الأرحامُ- بعد تقريرِه بالموصوليَّةِ ، وذلك على أحدِ وجهي التفسيرِ. وقيل: قال: بِهِ أَنْ يُوصَلَ دونَ (بوَصلِه)؛ ليكونَ مأمورًا بوَصلِه مرَّتينِ، ويُفيدَ تجديدَ الوَصلِ- كُلَّما قطَعَه قاطِعٌ- على الاستمرارِ .
4- قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
- قولُه: وَالَّذِينَ صَبَرُوا لمَّا كان الصَّبرُ على الوجْهِ المذْكورِ مِلاكَ الأمرِ في كلِّ ما ذُكِرَ مِن الصِّلاتِ السَّابقةِ واللَّاحِقةِ: أُورِدَ على صِيغَةِ الماضي؛ اعتناءً بشأْنِه، ودلالةً على وُجوبِ تحقُّقِه؛ فإنَّ ذلك ممَّا لا بُدَّ منه؛ إمَّا في نفْسِ الصِّلاتِ، كما فيما عَدَا الأُولى والرَّابعةِ والخامسةِ، أو في إظهارِ أحكامِها، كما في الصِّلاتِ الثَّلاثِ المَذْكوراتِ؛ فإنَّها وإنِ استغْنَت عنِ الصَّبرِ في أنفُسِها حيث لا مَشَقَّةَ على النَّفْسِ في الاعترافِ بالرُّبوبيَّةِ والخشيَةِ والخوفِ، لكنْ إظهارُ أحكامِها والجرْيُ على مُوجبِها غيرُ خالٍ عنِ الاحتياجِ إليه ، ففيه مجيءُ الصِّلَةِ هنا بلفْظِ الماضي، وفي المُوصِلين قبْلَ ذلك بلفْظِ المُضارِعِ في قولِه: الَّذِينَ يُوفُونَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ، وما عُطِفَ عليهما؛ على سبيلِ التَّفنُّنِ في الفَصاحةِ؛ لأنَّ المُبتدأَ هنا في معنى اسمِ الشَّرطِ بالماضي كالمُضارِعِ في اسمِ الشَّرطِ، فكذلك فيما أشبَهَه، وأيضًا اختصاصُ هذه الصِّلةِ بالماضي وتَيْنِكَ بالمُضارِعِ؛ لأنَّ تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ قُصِدَ بهما الاستصحابُ والالتباسُ دائمًا، وهذه الصِّلَةُ قُصِدَ بها تقدُّمُها على تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ وما عُطِفَ عليهما؛ لأنَّ حُصولَ تلك الصِّلاتِ إنَّما هي مُترتِّبَةٌ على حُصولِ الصَّبرِ وتقدُّمِه عليها؛ ولذلك لم تأتِ صلتُه في القُرآنِ إلَّا بصِيغَةِ الماضي؛ إذ هو شَرطٌ في حُصولِ التَّكاليفِ وإيقاعِها. واللَّهُ أعلمُ . وقيل: جاءتِ الصِّلاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ وما عُطِفَ عليهما بصيغةِ المُضارِعِ في تلك الأفعالِ الخمسةِ؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ كِنايةً عنِ الاستمرارِ، وجاءت صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وما عُطِفَ عليها- وهو وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا- بصيغةِ المُضِيِّ؛ لإفادةِ تحقُّقِ هذه الأفعالِ الثَّلاثةِ لهم وتمكُّنِها من أنفُسِهم؛ تنويهًا بها؛ لأنَّها أُصولٌ لفضائلِ الأعمالِ .
- قولُه: صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه احتِراسٌ، حيث انْتَفَى بقولِه: ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أنْ يكونَ صبْرُهم ناشِئًا عن حُبِّ الجاهِ والشُّهرةِ، أو ليقالَ: ما أصبَرَه، وأحمَلَه للنَّوازِلِ، وأوْقَرَه عند الزَّلازلِ! لئلا يشمَتَ به الأعداءُ !
- في قولِه: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً أفرَدَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكرِ، وإن كانتا داخِلَتينِ في الجُملةِ الأولى؛ تنبيهًا على كونِهما أشرَفَ مِن سائِرِ العباداتِ . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه نبَّهَ على هاتينِ الخَصْلَتَيْنِ: العِبادةِ البَدَنيَّةِ، والعِبادةِ الماليَّةِ؛ إذ هما عَمودُ الدِّينِ، والصَّبرُ عليهما أعظَمُ صبْرٍ؛ لِتكرُّرِ الصَّلواتِ، ولِتعلُّقِ النُّفوسِ بحُبِّ تحصيلِ المالِ .
- قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه تقْديمُ المجرورِ بِالْحَسَنَةِ على المنْصوبِ السَّيِّئَةَ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بالحَسَنةِ .
- وفيه إعادةُ أُسلوبِ التَّعبيرِ بالمُضارِعِ في المعطوفِ على الصِّلَةِ وهو قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِالسَّيِّئَةَ؛ لاقتضاءِ المَقامِ إفادةَ التَّجدُّدِ؛ إيماءً إلى أنَّ تجدُّدَ هذا الدَّرْءِ ممَّا يُحْرَصُ عليه؛ لأنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ للسَّيِّئاتِ على تفاوُتٍ، فوصَفَ لهم دواءَ ذلك بأنْ يدْرَؤوا السَّيِّئاتِ بالحَسَناتِ .
- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ دلَّ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بالحُكْمِ الوارِدِ بعد اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ ما وُصِفَ به المُشارُ إليهم مِن الأوصافِ .
- وفي قولِه: لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ قُدِّمَ المجرورُ على المُبتدأِ؛ للدَّلالةِ على القصْرِ، أي: لهم عُقْبى الدَّارِ لا للمُتَّصِفينَ بأَضْدادِ صِفاتِهم، فهو قصْرٌ إضافيٌّ .
5- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ
- قولُه: يَدْخُلُونَهَا جُملةٌ حاليَّةٌ؛ وهي حالٌ مِن جَنَّاتُ، أو مِن ضميرِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، والمقصودُ مِن ذِكْرِها استحضارُ الحالةِ البَهيجَةِ .
- قولُه: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وذِكْرُ مِنْ كُلِّ بَابٍ كِنايةٌ عن كثْرَةِ غِشْيانِ الملائكةِ إيَّاهم، بحيث لا يخْلو بابٌ مِن أبوابِ بيوتِهم لا تدخُلُ منه ملائكةٌ .
6- قوله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
- قولُه: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فيها بِشارةٌ بِدَوامِ السَّلامةِ ؛ حيث عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ.
- قولُه: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تفريعُ ثناءٍ على حُسنِ عاقِبتِهم، والمخصوصُ بالمدْحِ محذوفٌ؛ لدلالةِ مَقامِ الخِطابِ عليه، والتَّقديرُ: فنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ دارُ عُقْباكم .