موسوعة التفسير

سُورةُ الحُجُراتِ
الآيتان (9-10)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

 غريب الكلمات:

بَغَتْ: أي: تعَدَّتْ، أو لم تَرْضَ بحُكْمِ رسولِ الله؛ فالبَغْيُ: التَّطاوُلُ والفسادُ، وأصلُ (بغي) هنا: جِنْسٌ مِن الفسادِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/357، 360)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136)، ((تفسير القرطبي)) (16/316). .
تَفِيءَ: أي: تَرجِعَ، والفَيءُ والفَيئةُ: الرُّجوعُ إلى حالةٍ مَحمودةٍ، وأصْلُ (فيأ): يدُلُّ على رُجوعٍ [206] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/52)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 155)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/435)، ((المفردات)) للراغب (ص: 650)، ((تفسير القرطبي)) (16/316)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
وَأَقْسِطُوا: أي: اعْدِلوا، والْمُقْسِطِينَ: العادِلينَ، وأصْلُ القِسطِ يدُلُّ على مَعنيَينِ مُتضادَّينِ: العدْلُ، والجَوْرُ؛ يُقال: أقسَطَ: إذا عدَلَ. وقَسَطَ: إذا جارَ [207] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 103)، ((تفسير ابن جرير)) (21/363)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670)، ((تفسير القرطبي)) (16/ 316). .

المعنى الإجمالي:

يَأمُرُ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ بأنْ يُصلِحوا بيْنَ أيِّ طائفتَينِ مِن المؤمنينَ اقتَتَلوا، فإنْ رَفَضَت إحْدى الطَّائفتَينِ الصُّلحَ وأجابَتِ الأُخرى، فلْيُقاتِلوا الطَّائفةَ الَّتي رفَضَت الصُّلحَ وبغَتْ واعتدَتْ، حتَّى تَعودَ إلى شرْعِ اللهِ، فإنْ عادت فلْيُصلِحوا بيْنَهما بالعدْلِ، ولْيَحْكُموا بيْنَهما بالحقِّ والإنصافِ؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ مَن يَحكُمُ بذلك.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ المؤمنينَ إخوةٌ في الدِّينِ، فلْيُصلِحوا بيْنَ كِلْتا الطَّائفتَينِ المؤْمِنَتَينِ إذا اقْتَتَلَتا، ولْيَتَّقوا اللهَ؛ لَعلَّهم تَنالُهم رَحمتُه.

تفسير الآيتين:

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا حذَّرَ اللهُ المؤمنينَ مِن النَّبأِ الصَّادِرِ مِن الفاسِقِ، أشار إلى ما يَلزَمُ منه؛ استِدراكًا لِما يَفوتُ، فقال: فإنِ اتَّفَق أنَّكم تَبْنون على قولِ مَن يُوقِعُ بيْنَكم، وآلَ الأمْرُ إلى اقتِتالِ طائفتَينِ مِن المؤمنينَ، فأَزِيلوا ما أثبَتَه ذلك الفاسِقُ، وأصْلِحوا بيْنَهما [208] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/104). وقال البِقاعي: (لَمَّا كانت النَّميمةُ ونقْلُ الأخبارِ الباطلةِ الذَّميمةِ، رُبَّما جرَّت فِتَنًا وأوصَلَت إلى القِتالِ، وكان العليمُ الحكيمُ لا يَنصِبُ سببًا إلَّا ذكَرَ مُسبَّبَه وأشار إلى دَوائِه، وكان لا يَنْهى عن الشَّيءِ إلَّا مَن كان مُتهيِّئًا له لِما في جِبِلَّتِه مِن الدَّاعي إليه، فكان قد يُواقِعُه ولو في وقْتٍ؛ قال تعالى معلمًا لنا طَريقَ الحكمةِ في دفْعِ ما جرَّتْ إليه الأخبارُ الباطلةُ مِن القِتالِ...: وَإِنْ طَائِفَتَانِ ...). ((نظم الدرر)) (18/370). .
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.
أي: وإنْ طائفتانِ مِن أهلِ الإيمانِ تَقاتَلوا فيما بيْنَهم، فاسْعَوا -أيُّها المؤمنونَ- إلى الإصلاحِ بيْنَهما [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/357)، ((تفسير ابن كثير)) (7/374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 800)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 34). قال البخاري: (يُسمَّى الرَّجُلُ طائفةً؛ لقَولِه تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، فلو اقتتَل رجُلانِ دخَل في معنى الآيةِ). ((صحيح البخاري)) (9/86). .
كما قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
وقال سُبحانَه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قِيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أتَيتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فانطلَقَ إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وركِبَ حِمارًا، فانطلَقَ المسلِمون يَمْشُون معه، وهي أرضٌ سَبِخةٌ [210] سَبِخةٌ: أي: ذاتُ سِباخٍ، وهي الأرضُ الَّتي تَعْلوها المُلوحةُ، ولا تكادُ تُنبِتُ إلَّا بعضَ الشَّجَرِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعَيني (13/267). ، فلمَّا أتاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إليكَ عنِّي، واللهِ لقد آذاني نَتْنُ حِمارِك، فقال رجُلٌ مِن الأنصارِ منهم: واللهِ لَحِمارُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطيَبُ رِيحًا منك، فغضِبَ لعبدِ اللهِ رجُلٌ مِن قَومِه، فشَتَمَه، فغضِبَ لِكُلِّ واحدٍ منهما أصحابُه، فكان بيْنَهما ضرْبٌ بالجريدِ والأيدي والنِّعالِ، فبَلَغنا أنَّها أُنزِلَت: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) [211] رواه البخاري (2691) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1799). قال ابنُ عاشور: (يُناكِدُ هذا [أي: كَوْنَ الآيةِ نزلَت في هذه الحادثةِ] أنَّ تلك الوَقعةَ كانت في أوَّلِ أيَّامِ قُدومِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ. وهذه السُّورةُ نزَلت سنةَ تِسعٍ مِن الهِجرةِ، وأنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ لم يَجزِمْ بنُزولِها في ذلك؛ لِقَولِه: فبَلَغَنا أنْ نزَلت فيهم: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، اللَّهُمَّ [إلَّا] أن تَكونَ هذه الآيةُ أُلحِقَت بهذه السُّورةِ بعدَ نُزولِ الآيةِ بمدَّةٍ طويلةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/238). ويُنظر: ((المحرر في أسباب نزول القرآن)) لخالد المزيني (2/924). .
وعن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رأيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المِنْبَرِ والحسَنُ بنُ علِيٍّ إلى جنْبِه، وهو يُقبِلُ على النَّاسِ مرَّةً، وعليه أُخرى، ويقولُ: إنَّ ابْني هذا سيِّدٌ، ولَعلَّ اللهَ أنْ يُصلِحَ به بيْنَ فِئتَينِ عَظيمتَينِ مِن المسلِمينَ )) [212] رواه البخاري (2704). .
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.
أي: فإنْ أبَتْ إحْدى الطَّائفتَينِ المقْتَتِلتَينِ الإجابةَ إلى الصُّلحِ وأجابَت الأُخرى، فقاتِلوا -أيُّها المؤمنونَ- الطَّائفةَ المعْتدِيةَ المُقاتِلةَ حتَّى تَرجِعَ إلى شرْعِ اللهِ، وتَسمَعَ للحقِّ وتُطيعَه [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/357)، ((تفسير القرطبي)) (16/316، 317)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/32-34)، ((تفسير ابن كثير)) (7/374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 800)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/242)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 34). قال ابن عطية: (ومدافعةُ الفئةِ الباغيةِ مُتَوجِّهٌ في كلِّ حالٍ، وأمَّا التَّهيُّؤُ لِقِتالِها فمَعَ الوُلاةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/148). وقال ابن عاشور: (لا يَجوزُ أنْ يَلِيَ قِتالَ البُغاةِ إلَّا الأئمَّةُ والخُلفاءُ، فإذا اختلَّ أمْرُ الإمامةِ فلْيَتولَّ قِتالَ البُغاةِ السَّوادُ الأعظمُ مِن الأُمَّةِ وعُلماؤُها). ((تفسير ابن عاشور)) (26/241). .
عن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((انصُرْ أخاك ظالِمًا أو مَظلومًا، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنْصُرُه إذا كان مَظلومًا، أفرَأَيتَ إذا كان ظالِمًا؛ كيف أنصُرُه؟! قال: تَحجُزُه -أو: تَمنَعُه- مِن الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلك نَصْرُه)) [214] رواه البخاري (6952). .
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ.
أي: فإنْ رجَعَت الطَّائفةُ الباغيةُ إلى الرِّضا بحُكْمِ اللهِ، فأصْلِحوا -أيُّها المؤمنونَ- بيْنَها وبيْنَ الطَّائفةِ الأُخرى بالعدْلِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/357)، ((تفسير القرطبي)) (16/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 800). قال ابنُ عاشور: (العدْلُ: هو ما يقَعُ التَّصالِحُ عليه بالتَّراضي والإنصافِ، وألَّا يُضَرَّ بإحدى الطَّائِفَتينِ؛ فإنَّ المَتالِفَ الَّتي تَلحَقُ كِلْتا الطائِفتَينِ قد تَتفاوَتُ تَفاوُتًا شديدًا، فتَجِبُ مُراعاةُ التَّعديلِ... يجِبُ العَدلُ في صورةِ الإصلاحِ، فلا يُضيِّعوا بصُورةِ الصُّلحِ مَنافِعَ عن كِلا الفريقَينِ إلَّا بقَدْرِ ما تَقتَضيه حقيقةُ الصُّلحِ مِن نُزولٍ عن بَعضِ الحَقِّ بالمعروفِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/242). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/85-87). .
وَأَقْسِطُوا.
أي: واحْكُموا -أيُّها المؤمنونَ- بيْنَ الطَّائفتَينِ المُتقاتِلَتَينِ بالحقِّ والإنصافِ بلا جَورٍ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/363)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/128)، ((تفسير ابن كثير)) (7/375)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/242). قال ابنُ عثيمين: (هذا غيرُ الإصلاحِ الأوَّلِ؛ الإصلاحُ الأوَّلُ لوقْفِ القِتالِ، وهذا الإصلاحُ بالتَّقديرِ، فنَنظُرُ ماذا تَلِفَ على كلِّ طائفةٍ، ثمَّ نسوِّي بيْنَهما، فمَثلًا: إذا كانت إحدى الطَّائفتَينِ أتلَفَتْ على الأخرى ما قِيمتُه مليون ريال، والثَّانيةُ أتلَفَت على الأخرى ما قِيمته مليون ريال، فحينَئذٍ تَعادَل الطَّائفَتانِ، فإن كانت إحداهما أتلَفَت على الأخرى ما قِيمتُه ثمانمئةِ ألْفِ ريال، والأخرى أتلفَت ما قيمتُه مليون، فالفرْقُ مِئتا ألْفِ ريال تحمِلُها على الأخرى الَّتي أتلفَت ما قِيمتُه مليون). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 35). وقال ابن عاشور: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا هذا إصلاحٌ ثانٍ بعْدَ الإصلاحِ المأمورِ به ابتِداءً، ومعْناه: أنَّ الفئةَ الَّتي خضَعَت للقوَّةِ، وألْقَتِ السِّلاحَ؛ تكونُ مَكسورةَ الخاطِرِ، شاعِرةً بانتصارِ الفئةِ الأُخرى عليها، فأوجَبَ على المسلمينَ أنْ يُصلِحوا بيْنَهما، بتَرغيبِهما في إزالةِ الإحَنِ، والرُّجوعِ إلى أُخوَّةِ الإسلامِ؛ لئلَّا يَعودَ التَّنكُّرُ بيْنَهما). ((تفسير ابن عاشور)) (26/242). .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الحاكِمينَ بالحقِّ والإنصافِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/363)، ((تفسير القرطبي)) (16/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
كما قال الله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42].
وعن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المُقسِطينَ عندَ اللهِ على مَنابرَ مِن نُورٍ، عن يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ، وكِلْتا يَدَيْه يَمينٌ؛ الَّذين يَعدِلون في حُكْمِهم وأهْلِيهم وما وَلُو ا [218] وَلُوا -بفَتحِ الواوِ وضَمِّ اللَّامِ المُخَفَّفةِ- أي: مَن كانت لهم عليه وِلايةٌ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/211). ) [219] رواه مسلم (1827). .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10).
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
أي: إنَّما المؤمِنون إخوةٌ في الدِّينِ، يَجِبُ عليهم التَّوادُدُ والتَّناصُرُ فيما بيْنَهم [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/363)، ((تفسير القرطبي)) (16/322)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/208، 209)، ((تفسير ابن كثير)) (7/375)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 800، 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/243). .
كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] .
وقال سُبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَدابَروا، وكُونوا -عِبادَ اللهِ- إخوانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ لَيالٍ )) [221] رواه البخاريُّ (6076) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2558). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُسلِمُ أخو المسلمِ، لا يَظلِمُه، ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخِيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فرَّجَ عن مُسلمٍ كُرْبةً فرَّجَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرُباتِ يومِ القيامةِ، ومَن ستَرَ مُسلِمًا ستَرَه اللهُ يومَ القيامةِ )) [222] رواه البخاري (2442) واللَّفظُ له، ومسلم (2580). .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم، وتَراحُمِهم، وتَعاطُفِهم؛ مَثَلُ الجسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى )) [223] رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللَّفظُ له. .
وعن أبي مُوسى رضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المؤمنَ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا. وشبَّكَ أصابعَه )) [224] رواه البخاري (481) واللفظ له، ومسلم (2585). .
وعن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسِه )) [225] رواه البخاري (13) واللفظ له، ومسلم (45). .
وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنْ نَفَّسَ عن مُؤمنٍ كُرْبةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نفَّسَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يسَّر على مُعسِرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدُّنيا والآخرةِ، ومَن ستَرَ مُسلمًا ستَرَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ في عَونِ العبْدِ ما كان العبدُ في عَونِ أخيهِ )) [226] رواه مسلم (2699). .
وعن أمِّ الدَّرْداءِ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ: ((دَعوةُ المرْءِ المسلمِ لأخيهِ بظَهْرِ الغيبِ مُستجابةٌ، عندَ رأْسِه مَلَكٌ مُوكَّلٌ كلَّما دعا لأخيهِ بخَيرٍ، قال المَلَكُ الموكَّلُ به: آمِينَ، ولك بمِثْلٍ )) [227] رواه مسلم (2733). .
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.
أي: فأصْلِحوا بيْنَ كِلْتا الطَّائفتَينِ المؤمِنَتَينِ إذا اقتَتَلَتا، بحَمْلِهما على حكْمِ اللهِ ورسولِه [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/363)، ((تفسير السمرقندي)) (3/327)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376). قال الشوكاني: (يعني كلَّ مُسلِمَينِ تَخاصَما وتقاتَلا، وتخصيصُ الاثنَينِ بالذِّكرِ لإثباتِ وُجوبِ الإصلاحِ فيما فوقَهما بطريقِ الأَولى). ((تفسير الشوكاني)) (5/74). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/154)، ((تفسير الزمخشري)) (4/366)، ((تفسير ابن عطية)) (5/148). .
عن سَهلِ بنِ سعدٍ رضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ أهلَ قُباءٍ اقتَتَلوا حتَّى تَرامَوا بالحجارةِ، فأُخبِرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقال: اذْهَبوا بنا نُصلِحْ بيْنَهم )) [229] رواه البخاري (2693) واللفظ له، ومسلم (421). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
أي: واجْعَلوا بيْنَكم وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه وِقايةً وحاجزًا -أيُّها المؤمنونَ- بامتِثالِ ما أمَرَ اللهُ تعالى به، واجتِنابِ ما نَهى عنه؛ لعلَّكم تَنالُون رحمةَ اللهِ تعالى [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/364)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/245)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 36). .
كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
وقال سُبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] .

الفوائد التربوية:

1- المؤمِنُ عليه أنْ يُعاديَ في اللهِ، ويُواليَ في اللهِ، فإنْ كان هناك مؤمنٌ فعلَيه أنْ يُوالِيَه وإنْ ظلَمَه؛ فإنَّ الظُّلمَ لا يَقطَعُ المُوالاةَ الإيمانيَّةَ؛ قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فجعَلَهم إخوةً معَ وُجودِ القتالِ والبغْيِ والأمْرِ بالإصلاحِ بيْنَهم. فلْيَتدبَّرِ المؤمنُ الفرْقَ بيْنَ هذَينِ النَّوعَينِ، فما أكثَرَ ما يَلتبِسُ أحدُهما بالآخَرِ! ولِيَعلَمَ أنَّ المؤمنَ تجِبُ مُوالاتُه وإنْ ظلَمَك واعْتَدى عليك، والكافرَ تجِبُ مُعاداتُه وإنْ أعْطاكَ وأحسَنَ إليك؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه بعَثَ الرُّسلَ وأنزَلَ الكُتبَ لِيَكونَ الدِّينُ كلُّه للهِ، فيَكونَ الحُبُّ لأوليائِه، والبُغضُ لأعدائِه، والإكرامُ لأوليائِه، والإهانةُ لأعدائِه، والثَّوابُ لأوليائِه، والعِقابُ لأعدائِه. وإذا اجتمَعَ في الرَّجُلِ الواحدِ خيرٌ وشَرٌّ وفُجورٌ، وطاعةٌ ومَعصيةٌ، وسُنَّةٌ وبِدْعةٌ؛ استحَقَّ مِن الموالاةِ والثَّوابِ بقدْرِ ما فيه مِن الخَيرِ، واستحقَّ مِن المُعاداةِ والعِقابِ بحسَبِ ما فيه مِن الشَّرِّ، فيَجتمِعُ في الشَّخصِ الواحدِ مُوجِباتُ الإكرامِ والإهانةِ، فيَجتمِعُ له مِن هذا وهذا، كاللِّصِّ الفقيرِ؛ تُقطَعُ يَدُه لسَرِقَتِه، ويُعطَى مِن بَيتِ المالِ ما يَكْفيه لحاجتِه [231] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/208، 209). .
2- قولُه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ رَتَّب على القيامِ بحُقوقِ المُؤمِنينَ وبتَقْوى اللهِ الرَّحمةَ، فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وإذا حصَلَت الرَّحمةُ حَصَل خيرُ الدُّنيا والآخِرةِ، ودَلَّ ذلك على أنَّ عدَمَ القيامِ بحُقوقِ المُؤمِنينَ مِن أعظَمِ حواجِبِ الرَّحمةِ [232] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
3- قولُ اللهِ تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ يدُلُّ على وُجوبِ الإصلاحِ بيْنَ المؤمِنينَ بالعدْلِ [233] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
4- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، أي: العادِلينَ في حُكْمِهم بيْنَ النَّاسِ وفي جَميعِ الولاياتِ الَّتي تَولَّوها، حتَّى إنَّه قد يَدخُلُ في ذلك عدْلُ الرَّجُلِ في أهْلِه وعِيالِه في أدائِه حُقوقَهم، وفي الحديثِ الصَّحيحِ: ((إنَّ المُقسِطينَ عندَ اللهِ على مَنابرَ مِن نُورٍ، عن يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ، وكِلْتا يَدَيْه يَمينٌ؛ الَّذين يَعدِلون في حُكْمِهم وأهْلِيهم وما وَلُوا )) [234] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). والحديث رواه مسلم (1827). .
5- مَن كان قائمًا بواجبِ الإيمانِ كان أخًا لِكلِّ مؤمنٍ، ووَجَبَ على كلِّ مؤمنٍ أنْ يقومَ بحُقوقِه -وإنْ لم يَجْرِ بيْنَهما عقدٌ خاصٌّ-؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد عَقَد الأُخُوَّةَ بيْنَهما بقولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [235] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/94). . فإذا وُجِد مِن أيِّ شَخصٍ كان في مَشرِقِ الأرضِ ومَغرِبِها الإيمانُ باللهِ، ومَلائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليَومِ الآخِرِ؛ فإنَّه أخٌ للمؤمنينَ أُخَوَّةً تُوجِبُ أنْ يُحِبَّ له المؤمنونَ ما يُحِبُّون لأنفُسِهم، ويَكرَهوا له ما يَكرَهون لأنفُسِهم [236] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
6- الواجبُ على المسلمِ نحْوَ أخيهِ أنْ يُزِيلَ ما بيْنَه وبيْنَ أخيه مِن الأحقادِ، وأنْ يَجعَلَ بدَلَ هذه الأحقادِ أُلْفَةً ومَحبَّةً؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، والأُخُوَّةُ يُنافيها الحِقْدُ والعَداوةُ والبَغضاءُ [237] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (5/360). .
7- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فيه أنَّ الاقتِتالَ بيْنَ المؤمنينَ مُنافٍ للأُخُوَّةِ الإيمانيَّةِ؛ ولهذا كان مِن أكبَرِ الكبائرِ [238] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
8- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، أمَّا شرْطُ الأُخُوَّةِ: فمِن حقِّ الأُخُوَّةِ في الدِّينِ ألَّا تُحوِجَ أخاك إلى الاستِعانةِ بكَ، أو الْتِماسِ النُّصرةِ منك، وألَّا تُقصِّرَ في تَفقُّدِ أحوالِه بحيث يُشكِلُ عليك مَوضِعُ حاجتِه، فيَحتاجُ إلى مُساءلَتِك.
ومِن حقِّهِ ألَّا تُلجِئَه إلى الاعتِذارِ لك، بل تَبسُطُ عُذْرَه، فإنْ أشكَلَ عليك وجْهُه، عُدْتَ باللَّائمةِ على نفْسِك في خَفاءِ عُذْرِه عليك.
ومِن حقِّه أنْ تستغفِرَ له إذا أذنَبَ، وتَعودَه إذا مرِضَ، وإذا أشار عليك بشَيءٍ فلا تُطالِبْه بالدَّليلِ عليه، وإبرازِ الحُجَّةِ، كما قالوا [239] البيت لِوَدَّاك بنِ ثُمَيْل المازِني. يُنظر: ((حماسة الخالديين)) لمحمد بن هاشم وسعيد بن هاشم الخالديين (ص: 46)، ((التنبيه على أوهام أبي عليٍّ في أماليه)) للبكري (ص: 55). :
إذا استُنْجِدوا لم يَسْألوا مَن دَعاهم                  لِأيَّةِ حَرْبٍ أمْ لأيِّ مَكانِ
ومِن حقِّه أنْ تَحفَظَ عهْدَه القديمَ، وأنْ تُراعِيَ حقَّه في أهْلِه المتَّصِلينَ به في المَشهَدِ والمَغيبِ، وفي حالِ الحَياةِ وبعْدَ المماتِ [240] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/441). .
9- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يدُلُّ على أنَّ الإصلاحَ مِن أعظَمِ الطَّاعاتِ [241] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/374). ، ومِن أوكَدِ عَزائمِ الدِّينِ، وإذا كان ذلك واجبًا فإنَّه يدُلُّ على عِظَمِ وِزرِ الواشي والنَّمَّامِ في إفسادِ ذاتِ البَينِ [242] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/441). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فيه أنَّ الإيمانَ والأُخُوَّةَ الإيمانيَّةَ لا تَزولُ معَ وُجودِ القِتالِ، كغَيرِه مِن الذُّنوبِ الكِبارِ الَّتي دونَ الشِّركِ، وعلى ذلك مَذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ [243] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). ، ففيه دَليلٌ لقولِهم: إنَّ فاعلَ الكبيرةِ لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ؛ فهاتانِ الطَّائفتانِ مِن المؤمنينَ اقتَتَلوا، وحمَلَ السِّلاحَ بعْضُهم على بَعضٍ، ومع هذا قال اللهُ تعالى بعْدَ أنْ أمَرَ بالصُّلحِ بيْنَهما للطَّائفةِ الثَّالثةِ الَّتي لم تَدخُلِ القِتالَ: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ؛ فجعَلَ اللهُ تعالى الطَّائفةَ المُصلِحةَ إخْوةً للطَّائفتَينِ المُقتَتِلَتَينِ. وعلى هذا؛ ففي الآيةِ دليلٌ على أنَّ الكبائرَ لا تُخرِجُ مِن الإيمانِ [244] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/238). .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فالواجبُ الإصلاحُ بيْنَهما، وإنْ لم تكُنْ واحدةٌ منهما مأمورةً بالقتالِ، فإذا بغَتِ الواحدةُ بعْدَ ذلك قُوتِلت؛ لأنَّها لم تَترُكِ القتالَ، ولم تُجِبْ إلى الصُّلحِ؛ فلم يَندفِعْ شَرُّها إلَّا بالقتالِ، فصار قِتالُها بمَنزِلةِ قِتالِ الصَّائلِ الَّذي لا يَندفِعُ ظُلْمُه عن غَيرِه إلَّا بالقتالِ [245] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/78). واصطلحَ الفقهاءُ على تسميةِ الدِّفاعِ الشَّرعيِّ بدفعِ الصَّائلِ، وعلى تسميةِ المُعتدي بالصَّائلِ، والصَّائلُ هو الظَّالمُ بلا تأويلٍ ولا وِلايةٍ، وتتعلَّقُ به أحكامُ متعدِّدةٌ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/319)، ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم)) للهرري (18/353)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (28/103- 112). .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، لم يقُلْ: (وإنْ فِرقتانِ)؛ تَحقيقًا لمعْنى التَّقليلِ؛ لأنَّ الطَّائفةَ دونَ الفِرقةِ، ولهذا قال تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [246] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/104). [التوبة: 122] .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فيه سُؤالٌ: (إنْ) إشارةٌ إلى نُدرةِ وُقوعِ القتالِ بيْن طَوائفِ المسلمينَ، ونحن نَرى أكثَرَ الاقتِتالِ بيْن طَوائفِهم؟
والجوابُ: أنَّ قولَه تعالى: وَإِنْ إشارةٌ إلى أنَّه يَنْبغي ألَّا يقَعَ إلَّا نادرًا، غايةُ ما في البابِ أنَّ الأمْرَ على خِلافِ ما يَنْبغي [247] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/104). .
5- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ هذا في التَّقاتُلِ بيْنَ الجماعاتِ والقبائلِ، فأمَّا خُروجُ فِئةٍ عن جَماعةِ المسلمينَ فهو أشدُّ، وليس هو مَورِدَ هذه الآيةِ، ولكنَّها أصلٌ له في التَّشريعِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/240). .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا مُتضَمِّنٌ لِنَهيِ المُؤمِنينَ عن أن يَبغيَ بَعضُهم على بَعضٍ، ويُقاتِلَ بَعضُهم بَعضًا، وأنَّه إذا اقتَتَلت طائِفتانِ مِن المؤمِنينَ فإنَّ على غَيرِهم مِن المُؤمِنينَ أنْ يَتلافَوا هذا الشَّرَّ الكبيرَ بالإصلاحِ بيْنَهم، والتَّوسُّطِ بذلك على أكمَلِ وجْهٍ يَقَعُ به الصُّلحُ، ويَسلُكوا الطَّريقَ الموصِلةَ إلى ذلك [249] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
7- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ لم يَأمُرْ بقتالِ الباغيةِ ابتداءً؛ فالاقتِتالُ ابتداءً ليس مأمورًا به، ولكنْ إذا اقتَتَلوا أُمِرَ بالإصلاحِ بيْنَهم، ثمَّ إنْ بَغَت الواحدةُ قُوتِلَت؛ ولهذا قال مَن قال مِن الفُقهاءِ: إنَّ البُغاةَ لا يُبتَدؤون بقِتالِهم حتَّى يُقاتِلوا. وأمَّا الخوارِجُ فقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم: ((فإذا لَقِيتُموهم فاقْتُلوهم؛ فإنَّ في قتْلِهم أجْرًا لِمَن قتَلَهم عندَ اللهِ يومَ القيامةِ )) [250] أخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) واللَّفظُ له مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. ، وقال: ((لَئِنْ أدْرَكْتُهم لَأقتُلَنَّهم قتْلَ عادٍ)) [251] أخرجه البخاري (7432)، ومسلم (1064) مطوَّلًا مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ الله عنه. . وكذلك مانِعو الزَّكاةِ؛ فإنَّ الصِّدِّيقَ والصَّحابةَ رَضيَ الله عنهم ابتَدؤوا قِتالَهم، قال الصِّدِّيقُ: (واللهِ لو مَنَعوني عَناقًا [252] العَناقُ: الأُنثَى مِن أولادِ المَعْزِ ما لم يَتِمَّ له سَنَةٌ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/311). كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَقاتَلْتُهم على مَنعِها) [253] أخرجه البخاري (1400) واللَّفظُ له، ومسلم (20) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. . وهم يُقاتَلون إذا امتَنَعوا مِن أداءِ الواجباتِ، وإنْ أقَرُّوا بالوُجوبِ [254] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/57). .
8- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، لم يقُلْ: (منْكم)، معَ أنَّ الخطابَ معَ المؤمنينَ؛ لسَبْقِ قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ [الحجرات: 6] ؛ تنْبيهًا على قُبْحِ ذلك، وتَبعيدًا لهم عنهم، كما يقولُ السَّيِّدُ لعبْدِه: إنْ رأيتَ أحدًا مِن غِلماني يَفعَلُ كذا فامْنَعْه، فيَصيرُ بذلك مانعًا للمُخاطَبِ عن ذلك الفِعلِ بالطَّريقِ الحسَنِ، كأنَّه يقولُ: أنت حاشاكَ أنْ تَفعَلَ ذلك، فإنْ فعَلَ غَيرُك فامْنَعْه، كذلك هاهنا [255] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/104). .
9- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، جعَلَ حكْمَ قِتالِ الباغيةِ أنْ تكونَ طائفةً؛ لأنَّ الجَماعةَ يَعسُرُ الأخذُ على أيْدي ظُلْمِهم بأفرادٍ مِن النَّاسِ وأعوانِ الشُّرطةِ، فَتعيَّنَ أنْ يكونَ كَفُّهم عن البَغْيِ بالجَيشِ والسِّلاحِ [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/240). .
10- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يَتحقَّقُ وصْفُ البَغْيِ بإخبارِ أهلِ العِلمِ أنَّ الفئةَ بَغَت على الأُخرى، أو بحكْمِ الخليفةِ العالمِ العدْلِ، وبالخُروجِ عن طاعةِ الخليفةِ وعن الجماعةِ بالسَّيفِ إذا أمَرَ بغَيرِ ظُلمٍ ولا جَورٍ ولم تُخْشَ مِن عِصيانِه فِتنةٌ؛ لأنَّ ضُرَّ الفِتنةِ أشدُّ مِن ضُرِّ الجَورِ في غيرِ إضاعةِ المصالِحِ العامَّةِ مِن مَصالحِ المسلمينَ؛ وذلك لأنَّ الخُروجَ عن طاعةِ الخليفةِ بَغْيٌ على الجماعةِ الَّذين معَ الخَليفةِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/240). .
11- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، فيه سُؤالٌ: كيف يصِحُّ في هذا الموضعِ كلمةُ (إنْ)، مع أنَّها تُستعمَلُ في الشَّرطِ الَّذي لا يُتوقَّعُ وُقوعُه، وبَغْيُ أحدِهما عندَ الاقتِتالِ لا بُدَّ منه؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يكونُ مُحسِنًا، فقولُه: (إنْ) تكونُ مَن قَبيلِ قولِ القائلِ: (إنْ طلَعَت الشَّمسُ)؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجْهُ الأوَّلُ: فيه معْنًى لطيفٌ؛ وهو أنَّ اللهَ تعالى يقولُ: الاقتِتالُ بيْنَ طائفتَينِ لا يكونُ إلَّا نادرَ الوُقوعِ، وهو كما تظُنُّ كلُّ طائفةٍ أنَّ الأُخرَى فيها الكفْرُ والفسادُ، فالقتالُ واجبٌ، أو يقَعُ لِكلِّ واحدٍ أنَّ القتالَ جائزٌ بالاجتِهادِ، وهو خطَأٌ، فقال تعالى: الاقتِتالُ لا يقَعُ إلَّا كذا، فإنْ بانَ لهما أو لأحَدِهما الخطأُ واستمَرَّ عليه، فهو نادرٌ، وعندَ ذلك يكونُ قدْ بَغى، فقال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، يعني: بعْدَ استِبانةِ الأمْرِ، وحينَئذٍ فقولُه: فَإِنْ بَغَتْ في غايةِ الحُسنِ؛ لأنَّه يُفِيدُ النُّدرةَ، وقِلَّةَ الوُقوعِ [258] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/105). .
الوجْهُ الثَّاني: أنَّه لَمَّا كان البَغْيُ مِن أشنَعِ الأمورِ، فكان يَنْبغي ألَّا يُلِمَّ به أحدٌ؛ عُبِّرَ بأداةِ الشَّكِّ إرشادًا إلى ذلك [259] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/371). .
12- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، يَتضمَّنُ نهْيَ المؤمنينَ عن أنْ يَبْغيَ بعضُهم على بعضٍ، ويُقاتِلَ بعضُهم بعضًا [260] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
13- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فيه وُجوبُ قِتالِ البُغاةِ [261] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). حتَّى يَرجِعوا إلى أمرِ اللهِ [262] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
14- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، يدُلُّ على وُجوبِ نصْرِ المظلومِ؛ لأنَّ القتالَ لا يُباحُ بدُونِ الوُجوبِ [263] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/374). .
15- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، يدُلُّ على جَوازِ قتالِ الصَّائلِ؛ لأنَّ القتالَ لَمَّا كان للفَيئةِ، فإذا حصَلَت لم يُوجَدِ المعْنى الَّذي مِن أجْلِه القتالُ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (17/541). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/105). .
16- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمَّا كان القتالُ لا يَجوزُ إلَّا بالاستِمرارِ على البغْيِ، عُبِّرَ بالمُضارِعِ، فقال: تَبْغِي؛ إفهامًا لأنَّه متى زال البغْيُ، ولو بالتَّوبةِ مِن غَيرِ شَوكةٍ، حَرُمَ القِتالُ [265] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/371). .
17- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يدُلُّ على أنَّ أموالَ البُغاةِ مَعصومةٌ؛ لأنَّ اللهَ أباح دِماءَهم وقْتَ استِمرارِهم على بَغْيِهم خاصَّةً، دونَ أموالِهم [266] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
18- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فيه أنَّ مَن رجَعَ وأدبَرَ، لا يُقاتَلُ؛ لقولِه: حَتَّى تَفِيءَ [267] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). .
19- قولُ اللهِ تعالى: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ القتالَ ليس جَزاءً للباغي، كحدِّ الشُّربِ الَّذي يُقامُ وإنْ ترَكَ الشُّربَ، بلِ القتالُ إلى حدِّ الفَيئةِ، فإنْ فاءتِ الفئةُ الباغيةُ حَرُمَ قِتالُهم [268] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/105). .
20- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، يدُلُّ على أنَّهم لو رَجَعوا لغيرِ أمْرِ اللهِ -بأنْ رَجَعوا على وجْهٍ لا يجوزُ الإقرارُ عليه والْتِزامُه- أنَّه لا يَجوزُ ذلك [269] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
21- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فيه وُجوبُ الصُّلحِ بيْن أهلِ العدْلِ والبَغْيِ [270] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). .
22- أنَّه ليس كلَّما جازتِ المقاتَلةُ جاز القتْلُ؛ فالقتلُ أضيَقُ، ولا يَجوزُ إلَّا بشُروطٍ معروفةٍ، والمقاتَلةُ أوسعُ؛ قال اللهُ تَبارك وتَعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، فأَمَر بقِتالِها، وهي مُؤمنةٌ؛ لا يَحِلُّ قَتْلُها، ولا يُبَاحُ دمُها، لكنْ مِن أجْلِ الإصلاحِ [271] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 126). .
23- في قولِه تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أنَّ لَفظَ البَغْيِ إذا أُطْلِقَ فهو الظُّلمُ [272] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/418). .
24- قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ هذا أمْرٌ بالصُّلحِ، وبالعدْلِ في الصُّلحِ؛ فإنَّ الصُّلحَ قد يُوجَدُ ولكنْ لا يكونُ بالعدْلِ، بل بالظُّلمِ والحَيفِ على أحَدِ الخَصمَينِ! فهذا ليس هو الصُّلحَ المأمورَ به، فيجِبُ ألَّا يُراعى أحدُهما لِقَرابةٍ أو وطَنٍ، أو غيرِ ذلك مِن المقاصدِ والأغراضِ الَّتي تُوجِبُ العُدولَ عن العدْلِ [273] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
25- قال الله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، لَمَّا كان الخِصامُ يَجُرُّ -في الغالبِ- مِن القولِ والفعلِ ما يُورِثُ للمُصلِحينَ إحْنةً [274] الإِحْنة: الحِقْد، وجمعُها: إِحَنٌ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدِّين الرازي (ص: 14). على بعْضِ المُتخاصِمينَ، فيَحمِلُ ذلك على المَيلِ مع بعْضٍ على بعْضٍ، قال: بِالْعَدْلِ، ولا يَحمِلْكم القتالُ على الحقْدِ على المُتقاتِلينَ فتَحِيفوا [275] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/372). .
26- قولُ اللهِ تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، فيه سُؤالٌ: قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فأيَّةُ فائدةٌ في قولِه: وَأَقْسِطُوا؟
الجوابُ مِن وَجهينِ:
الوجْهُ الأوَّلُ: قولُه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ كان فيه تَخصيصٌ بحالٍ دونَ حالٍ، فعُمِّمَ الأمْرُ بقولِه: وَأَقْسِطُوا، أي: في كلِّ أمْرٍ مُفضٍ إلى أشرَفِ دَرجةٍ وأرفَعِ مَنزِلةٍ، وهي مَحبَّةُ اللهِ [276] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/106). .
الوجْهُ الثَّاني: لَمَّا كان العدْلُ في مِثلِ ذلك شَديدًا على النُّفوسِ؛ لِما تَحمَّلَت مِن الضَّغائنِ، قال تعالى: وَأَقْسِطُوا، أي: افْعَلوا العدْلَ العظيمَ الَّذي لا جَورَ فيه، في ذلك وفي جَميعِ أُمورِكم [277] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/372). .
27- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أُخُوَّةُ الدِّينِ أثبَتُ مِن أُخُوَّةِ النَّسَبِ؛ فإنَّ أُخُوَّةَ النَّسبِ تَنقطِعُ بمُخالَفةِ الدِّينِ، وأُخُوَّةَ الدِّينِ لا تَنقطِعُ بمُخالَفةِ النَّسبِ [278] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/322، 323). .
28- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، (إنَّما) للحصْرِ، أي: لا أُخُوَّةَ إلَّا بيْنَ المؤمنينَ، وأمَّا بيْنَ المؤمنِ والكافرِ فلا؛ لأنَّ الإسلامَ هو الجامعُ [279] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/107). .
29- في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ردٌّ على الرَّافِضةِ -خانِقٌ لهم- فيما يُكفِّرون مُقاتِلي علِيٍّ رضِيَ اللهُ عنه وعنهم، وردٌّ على الشُّرَاةِ [280] الشُّراةُ: الخوارجُ، الواحدُ: شَارٍ، سُمُّوا بذلك لِقَولِهم: إنَّا شَرَيْنا أنفُسَنا في طاعةِ اللهِ، أي: بِعْناها بالجنَّةِ حينَ فارَقْنا الأئمَّةَ الجائِرةَ! يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2392). فيما يَعُدُّون الذُّنوبَ كُفرًا، وقد سَمَّى اللهُ كُلًّا مُؤمنًا، كما تَرى [281] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/177). ، ففيه دَليلٌ على أنَّ البَغْيَ لا يُزِيلُ اسمَ الإيمانِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى سمَّاهم إخْوةً مؤمنينَ مع كَونِهم باغِينَ [282] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/323). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
- قولُه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... لَمَّا جَرَى قولُه: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات: 6] الآيةَ، كان ممَّا يَصدُقُ عليه إصابةُ قَومٍ أنْ تقَعَ الإصابةُ بيْنَ طائفتَينِ مِن المؤمنينَ؛ لأنَّ مِن الأخبارِ الكاذبةِ أخبارَ النَّميمةِ بيْنَ القَبائلِ، وخطَرُها أكبرُ ممَّا يَجري بيْنَ الأفرادِ، والتَّبيُّنُ فيها أعسَرُ، وقد لا يَحصُلُ التَّبيُّنُ إلَّا بعدَ أنْ تَستَعِرَ نارُ الفِتنةِ، ولا تُجدي النَّدامةُ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/238). .
- قولُه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا لم يقُلْ: (وإنِ اقتَتَل طائفتانِ مِن المؤْمِنينَ)، معَ أنَّ كَلمةَ (إنْ) اتِّصالُها بالفِعلِ أَولى؛ وذلك لِيَكونَ الابتِداءُ بما يَمنَعُ مِن القِتالِ، فيَتأكَّدَ معْنى النَّكرةِ المدلولِ عليها بكَلمةِ (إنْ)؛ وذلك لأنَّ كَونَهما طائفتَينِ مُؤمنتَينِ يَقْتضي ألَّا يقَعَ القِتالُ منهما [284] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/104، 105). .
- و(إنْ) حرْفُ شَرطٍ يُخلِّصُ الماضيَ اقْتَتَلُوا للاستِقبالِ؛ فيَكونُ في قوَّةِ المُضارِعِ، ولكنْ عُدِلَ عن المُضارِعِ (يَقتتلون) معَ كَونِه الألْيَقَ بالشَّرطِ؛ لأنَّه لَمَّا أُريدَ تقديمُ الفاعِلِ طَائِفَتَانِ على فِعلِه اقْتَتَلُوا -للاهتِمامِ بالمُسنَدِ إليه-، جُعِلَ الفِعلُ ماضيًا على طَريقةِ الكلامِ الفَصيحِ في مِثلِه ممَّا أُولِيَت فيه (إنْ) الشَّرطيَّةُ الاسمَ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/239). . وقيل: لم يقُلْ: (يَقتَتِلوا)؛ لأنَّ صِيغةَ الاستِقبالِ تُنبِئُ عن الدَّوامِ والاستِمرارِ، فيُفهَمُ منه أنَّ طائفتَينِ مِن المؤمنينَ إنْ تَمادى الاقتِتالُ بيْنَهما فأصْلِحوا؛ وهذا لأنَّ صِيغةَ المستقبَلِ تُنبِئُ عن ذلك، يُقال: فلانٌ يَتهجَّدُ ويَصومُ [286] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/105). .
- وإنَّما قال: اقْتَتَلُوا ولم يقُلْ: (اقتتَلَتا)، حَمْلًا على المعنى؛ لأنَّ الطَّائفتَينِ في مَعنى القَومِ والنَّاسِ، ثمَّ حمَلَ على اللَّفظِ فقال: بَيْنَهُمَا؛ فضَميرُ اقْتَتَلُوا يعودُ على طَائِفَتَانِ باعتِبارِ المعْنى؛ لأنَّ طائفةً ذاتُ جمْعٍ، والوجْهُ أنْ يكونَ فِعلُ اقْتَتَلُوا مُستعمَلًا في إرادةِ الوُقوعِ، أي: يُريدون العَودَ؛ لأنَّ الأمرَ بالإصلاحِ بيْنهما واجبٌ قبْلَ الشُّروعِ في الاقتِتالِ، وذلك عند ظُهورِ بَوادِرِه، وهو أَولى مِن انتِظارِ وُقوعِ الاقتِتالِ؛ لِيُمكِنَ تَدارُكُ الخَطبِ قبْلَ وُقوعِه، وبذلك يَظهَرُ وجْهُ تَفريعِ قولِه: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى على جُملةِ اقْتَتَلُوا، أي: فإنِ ابتدأَتْ إحدى الطَّائفتَينِ قِتالَ الأُخرى، ولم تَنْصَعْ إلى الإصلاحِ؛ فقاتِلوا الباغيةَ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/239)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/269). . ولأنَّه عندَ الاقتِتالِ تكونُ الفِتنةُ قائمةً، وكلُّ أحدٍ برأْسِه يكونُ فاعِلًا فِعْلًا، فقال: اقْتَتَلُوا، وعندَ العَودِ إلى الصُّلحِ تَتَّفِقُ كلمةُ كلِّ طائفةٍ، وإلَّا لم يكُنْ يَتحقَّقُ الصُّلحُ، فقال: بَيْنَهُمَا؛ لِكَونِ الطَّائفتَينِ حينَئذٍ كنَفْسَينِ [288] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/105). . وأيضًا لأنَّه لَمَّا كانت الشَّناعةُ والفسادُ في قِتالِ الجماعةِ أكثَرَ، عُبِّرَ بضَميرِ الجمْعِ دونَ التَّثنيةِ؛ تَصويرًا لذلك بأقبَحِ صُورةٍ، فقال: اقْتَتَلُوا، ولَمَّا كانت العِبرةُ في الصُّلحِ إذا وقَعَ بيْنَ الطَّائفتَينِ ما يُسكَنُ به الشَّرُّ، وإنْ تَخلَّفَ شُذَّانٌ [289] شُذَّانُ القَومِ: مَن شَذَّ منهم، وخرَج عن جَماعتِهم. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (2/606). مِن الجانبَينِ لا يُعبَأُ بهم -عُبِّرَ بالتَّثنيةِ دونَ الجمْعِ، فقال: بَيْنَهُمَا [290] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/370، 371). .
- قولُه: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا قرَنَ بالإصلاحِ الثَّاني العدْلَ دونَ الأوَّلِ؛ لأنَّ المُرادَ بالاقتِتالِ في أوَّلِ الآيةِ: أنْ تَقتتِلَا باغيتَينِ معًا، أو راكبتَيْ شُبهةٍ، وأيَّتُهما كانتْ فالَّذي يجِبُ على المسلمينَ أنْ يأْخُذوا به في شأْنِهما: إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وتَسكينُ الدَّهماءِ [291] الدَّهْماءُ: الفِتْنةُ المُظلِمةُ، ودَهْماءُ النَّاسِ: جَماعتُهم. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1924)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/146). بإراءةِ الحقِّ والمَواعظِ الشَّافيةِ، ونفْيِ الشُّبهةِ، إلَّا إذا أصَرَّتا، فحينَئذٍ تجِبُ المُقاتَلةُ [292] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/365)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/483). .
أو يكونُ تَقْييدُ الإصلاحِ بالعدْلِ هاهنا؛ لأنَّه مَظِنَّةُ الحَيفِ مِن حيثُ إنَّه بعدَ المُقاتَلةِ، وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيلَ: وَأَقْسِطُوا، أيْ: واعدِلُوا في كلِّ ما تأْتونَ وما تَذَرونَ [293] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/135)، ((تفسير أبي السعود)) (8/120). .
أو قُيِّدَ الإصلاحُ المأمورُ به ثانيًا بعدَ أنْ تَفيءَ الباغيةُ بقَيدِ العدْلِ، وهذا القيدُ يُقيَّدُ به أيضًا الإصلاحُ المأمورُ به أوَّلًا؛ لأنَّ القَيدَ مِن شأْنِه أنْ يَعودَ إليه؛ لاتِّحادِ سَببِ المُطلَقِ والمُقيَّدِ، أي: يجِبُ العدْلُ في صُورةِ الإصلاحِ، فلا يُضيِّعوا بصُورةِ الصُّلحِ مَنافعَ عن كِلَا الفَريقينِ إلَّا بقْدرِ ما تَقتضيهِ حَقيقةُ الصُّلحِ مِن نُزولٍ عن بَعضِ الحقِّ بالمعروفِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/242). .
- وفي قولِه: وَأَقْسِطُوا أمَرَ المسلمينَ بالعدْلِ أمرًا عامًّا، تَذْييلًا للأمرِ بالعدْلِ الخاصِّ في الصُّلحِ بيْنَ الفريقَينِ، فشَمِلَ هذا الأمرُ العامُّ أنْ يَعدِلوا في صُورةِ ما إذا قاتَلوا الَّتي تَبْغي. أو هو مِن عطْفِ العامِّ على الخاصِّ [295] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/365)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/484)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/242). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تَعليلٌ وتَقريرٌ لإقامةِ الإصلاحِ بيْنَ المؤمنينَ إذا استَشْرى الحالُ بيْنَهم؛ فالجُملةُ مَوقِعُها مَوقعُ العِلَّةِ، وقد بُنِيَ هذا التَّعليلُ على اعتِبارِ حالِ المسلِمينَ بَعضِهم مع بَعضٍ كحالِ الإخوةِ [296] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/366)، ((تفسير البيضاوي)) (5/135)، ((تفسير أبي السعود)) (8/120)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/243). .
- وجِيءَ بصِيغةِ القَصرِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ المفيدةِ لِحَصرِ حالِهم في حالِ الأُخوَّةِ؛ مُبالَغةً في تَقْريرِ هذا الحُكمِ بيْنَ المُسلِمينَ، فهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ، أو هو قَصرٌ إضافيٌّ [297] الحَصرُ أو القَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أنْ يَختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتَنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتَقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/7- 17)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/134- 135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 87 - 95)، ((البلاغة العربية)) للميداني (1/523).  ؛ للرَّدِّ على أصحابِ الحالةِ المفروضةِ الَّذين يَبْغون على غَيرِهم مِن المؤمنينَ [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/243). .
- وهذه الآيةُ فيها دَلالةٌ قويَّةٌ على تَقرُّرِ وُجوبِ الأخوَّةِ بيْنَ المسلِمينَ؛ لأنَّ شأنَ (إنَّما) أنْ تَجيءَ لخبَرٍ لا يَجهَلُه المخاطَبُ، ولا يَدفَعُ صِحَّتَه، أو لِمَا يُنزَّلُ مَنزِلةَ ذلك [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/243). .
- والفاءُ في قولهِ تعالَى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذانِ بأنَّ الأُخوَّةَ الدِّينيَّةَ مُوجِبةٌ للإصلاحِ [300] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/120). ؛ فقولُه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فيه تَفريعُ الأمرِ بالإصلاحِ بيْنَ الأخَوَينِ، على تَحقيقِ كَونِ المؤمنينَ إخوةً؛ تأكيدًا لِما دلَّت عليه (إنَّما) مِن التَّعليلِ، فصار الأمرُ بالإصلاحِ الواقعِ ابتِداءً دونَ تعليلٍ في قولِه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، وقولِه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات: 9] ، قد أُردِفَ بالتَّعليلِ، فحصَلَ تقريرُه، ثمَّ عُقِّبَ بالتَّفريعِ فَزادَه تَقْريرًا، وقد حصَلَ مِن هذا النَّظمِ ما يُشبِهُ الدَّعوى، وهي كمَطلوبِ القياسِ، ثمَّ ما يُشبِهُ الاستِدلالَ بالقياسِ، ثمَّ ما يُشبِهُ النَّتيجةَ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/244، 245). .
- وخَصَّ الاثنَينِ بالذِّكرِ في قولِه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ دونَ الجمْعِ؛ لأنَّ أقَلَّ مَن يقَعُ منهم الشِّقاقُ اثنانِ، فإذا التُزِمتِ المُصالَحةُ بيْنَ الأقَلِّ كانتْ بيْنَ الأكثَرِ ألزَمَ؛ لأنَّ الفَسادَ والشَّرَّ المُترتِّبَينِ على شِقاقِ الجمْعِ أكثرُ منهما في شِقاقِ الاثنَينِ [302] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/366)، ((تفسير البيضاوي)) (5/135)، ((تفسير أبي حيان)) (9/516)، ((تفسير أبي السعود)) (8/121)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/270). . أوْ أُوثِرَت صِيغةُ التَّثنيةِ في قولِه: أَخَوَيْكُمْ؛ مُراعاةً لِكَونِ الكَلامِ جاريًا على طائفتَينِ مِن المؤمنينَ، فجُعِلَت كلُّ طائفةٍ كالأخِ للأُخرَى [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/245). .
- قولُه: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ على القِراءةِ بلَفظِ تَثْنيةِ (الأخِ)، أي: بيْنَ الطَّائفةِ والأُخرى؛ مُراعاةً لِجَرَيانِ الحَديثِ على اقتِتالِ طائفتَينِ، وعلى قِراءةِ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ -بتاءٍ فوقيَّةٍ بعدَ الواوِ، على أنَّهُ جمْعُ أخٍ [304] قرأ بها يعقوبُ، وقرأ الباقونَ: أَخَوَيْكُمْ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/376). -؛ فيَكونُ باعتِبارِ كُلِّ فَردٍ مِن الطَّائفتَينِ كالأخِ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/245). .
- وفي قولِه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المضمَرِ مُضافًا إلى المأمورينَ بالإصلاحِ؛ للمُبالَغةِ في التَّقريرِ في تأْكيدِ وُجوبِ الإصلاحِ والتَّحضيضِ عليه [306] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/135)، ((تفسير أبي السعود)) (8/120)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/270). . أو لَمَّا تقرَّرَ معْنى الأُخوَّةِ بيْنَ المؤمنينَ كَمالَ التَّقرُّرِ، عُدِلَ عن أنْ يقولَ: (فَأَصْلِحُوا بينَ الطَّائفتَينِ)، إلى قولِه: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، فهو وصْفٌ جَديدٌ نشَأَ عن قولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ؛ فتعيَّنَ إطلاقُه على الطَّائفتَينِ، فليس هذا مِن وَضْعِ الظَّاهرِ مَوضِعَ الضَّميرِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/245). .
- والمُخاطَبُ بقولِه: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ جميعُ المؤمنينَ؛ فيَشملُ الطَّائفتَينِ: الباغيةَ والمَبْغيَّ عليها، ويَشملُ غيرَهما ممَّن أُمِروا بالإصلاحِ بيْنَهما ومُقاتَلةِ الباغيةِ؛ فتَقْوَى كُلٍّ بالوُقوفِ عندَ ما أمَرَ اللهُ به كُلًّا ممَّا يَخُصُّه، وهذا يُشبِهُ التَّذييلَ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/245). .
- وإنَّما اختِيرتِ الرَّحمةُ في قولِه: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؛ لأنَّ الأمْرَ بالتَّقْوى واقعٌ إثرَ تَقريرِ حَقيقةِ الأُخوَّةِ بيْنَ المؤمنينَ، وشأنَ تَعامُلِ الإخوةِ الرَّحمةُ؛ فيَكونُ الجَزاءُ عليها مِن جِنسِها [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/245). .