موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (4-6)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غَريبُ الكَلِماتِ:

جَوْفِهِ: الجَوفُ: باطِنُ الإنسانِ؛ صَدرُه وبَطنُه، وهو مَقَرُّ الأعضاءِ الرَّئيسةِ عدا الدِّماغَ [46] يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دُرَيد (2/1043)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/495)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/256). .
تُظَاهِرُونَ: الظِّهارُ: قولُ الرَّجُلِ لامرأتِه: أنتِ علَيَّ كظَهرِ أُمِّي، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قوَّةٍ وبروزٍ [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/9)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((تفسير القرطبي)) (14/118). .
أَدْعِيَاءَكُمْ: أي: مَن تَبنَّيتُموهم، جَمْعُ دَعِيٍّ: فَعيلٌ بمعنى مفعولٍ؛ لأنَّه مَدعُوٌّ بالبُنُوَّةِ، وأصلُه مِنَ الادِّعاءِ: وهو زَعمُ الزَّاعِمِ الشَّيءَ حَقًّا له؛ مِن مالٍ أو نَسَبٍ أو نحوِ ذلك [48] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 74)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 265)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/258). .
أَقْسَطُ: أي: أعدَلُ، والقِسْطُ: العدْلُ، يقالُ: أَقسَط يُقسِطُ فهو مُقسِطٌ: إذا عدَل [49] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117، 265). .
وَمَوَالِيكُمْ: أي: محرَّروكم، وقيل: أولياؤُكم في الدِّينِ، والمَوالي جمْعُ مَوْلًى، ويُطلقُ على المعتَقِ والحَليفِ وابنِ العمِّ وغيرِ ذلك، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [50] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((البسيط)) للواحدي (18/173)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 297)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/228). .
جُنَاحٌ: أي: إثمٌ؛ وأصلُ (جنح): الميلُ والعدوانُ، وسُمِّيَ الإثمُ بذلك؛ لِمَيلِه عن طريقِ الحقِّ [51] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 98). .
مَسْطُورًا: أي: مكتوبًا مبَيَّنًا، ومُثبَتًا محفوظًا، وأصلُ (سطر): اصْطِفافُ الشَّيءِ [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((تفسير ابن جرير)) (14/634)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تفسير القرطبي)) (14/126). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله سبحانه مبطِلًا بعضَ ما كان متفشِّيًا في المجتمَعِ: ما خَلَق اللهُ لرجُلٍ قَلبَينِ في صَدرِه، وما جَعَل أزواجَكم -أيُّها الرِّجالُ- اللَّاتي تُظاهِرونَ مِنهُنَّ بقَولِ أحَدِكم لامرأتِه: أنتِ علَيَّ كظَهرِ أمِّي؛ ما جعَلَهنَّ أمَّهاتٍ لكم! وما جَعل اللهُ مَن تَتبنَّونَهم أبناءً لكم في الحقيقةِ، بحيثُ تجري عليهم أحكامُ الأبناءِ مِن الصُّلبِ، ذلكم قَولٌ باطِلٌ تقولونَه بأفواهِكم فحسْبُ، واللهُ تعالى يقولُ الحَقَّ، ويُبيِّنُ لعبادِه الطَّريقَ المُستقيمَ.
ثمَّ يرشِدُهم الله تعالى إلى طريقةِ معاملةِ الابنِ المتبنَّى، فيقولُ: انسُبوا الأدعياءَ المُتبنَّينَ لآبائِهم؛ هو أعدَلُ عند اللهِ، وأصدَقُ قَولًا، فإنْ لم تَعلَموا آباءَهم فهم إخوانُكم في الإسلامِ ومحرَّروكم.
ثمَّ يُبيِّنُ جانبًا مِن مظاهرِ اليُسرِ ورفْعِ الحرَجِ، فيقولُ: وليس عليكم إثمٌ فيما أخطأتُم فيه، ولكِنْ تُؤاخَذونَ بما تَعمَّدَتْه قلوبُكم، وكان اللهُ غفورًا رحيمًا.
ثمَّ يَذكُرُ سبحانه ما يجبُ على المؤمنينَ نحوَ نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّمَ ونحوَ أزواجِه، وما يجبُ للأقاربِ فيما بيْنَهم، فيقولُ: النَّبيُّ محمَّدٌ أحَقُّ بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم، وأزواجُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أمَّهاتُ المؤمِنينَ في حُرمةِ نِكاحِهنَّ، ووُجوبِ تَعظيمِهنَّ وإكرامِهنَّ؛ وذَوُو القَراباتِ أَولى بالتَّوارُثِ فيما بيْنَهم في كتابِ اللهِ مِنَ الأنصارِ والمُهاجِرينَ، إلَّا أنْ تُحسِنوا إلى أوليائِكم بالصِّلةِ والمعروفِ والوصيَّةِ، كان ذلك مكتوبًا في اللَّوحِ المحفوظِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
وجْهُ نَظمِ هذهِ الآيةِ بما قبْلَها: أنَّه تعالى لَمَّا أمَرَ بالتَّقْوى، كان مِن حقِّها ألَّا يكونَ في القلْبِ تَقوى غيرِ اللهِ؛ فإنَّ المرْءَ ليس له قَلبانِ يتَّقي بأحدِهما اللهَ، وبالآخَرِ غيرَه، وهو لا يَتَّقي غيرَه إلَّا بصَرْفِ القلْبِ عن جِهةِ اللهِ إلى غيرِه، ولا يَليقُ ذلك بمَن يَتَّقي اللهَ حقَّ تُقاتِه [53] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/451). .
وأيضًا بعدَ أنْ أمرَ سُبحانَه نبيَّه بتَقْواه، والخَوفِ منه، وحذَّرَه مِن طاعةِ الكُفَّارِ والمُنافِقينَ، والخَوفِ منهم- ضرَبَ لنا الأمثالَ؛ ليُبَيِّنَ أنَّه لا يجتَمِعُ خَوفٌ مِن اللهِ وخَوفٌ مِن سِواه، فذكَرَ أنَّه ليس للإنسانِ قَلْبانِ حتَّى يُطيعَ بأحَدِهما، ويَعصيَ بالآخَرِ، فمتى اتَّجَه لأحدِ الشَّيئَينِ صُدَّ عن الآخَرِ، وأنَّه لا تجتَمِعُ الزَّوجيَّةُ والأُمومةُ فى امرأةٍ، والبُنُوَّةُ الحقيقيَّةُ والتَّبنِّي فى إنسانٍ [54] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/126). قال الشوكاني: (ذَكَر سبحانَه مَثَلًا توطئةً وتمهيدًا لِما يَتَعَقَّبُه مِن الأحكامِ القرآنيَّةِ، الَّتي هي مِن الوحيِ الَّذي أمَره الله باتِّباعِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/300). .
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
أي: ما خَلَق اللهُ لأيِّ رَجُلٍ قَلبَينِ في صَدرِه؛ فيَعقِلَ بهما [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/9)، ((تفسير ابن عطية)) (4/368)، ((تفسير ابن كثير)) (6/376)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/283، 284)، ((حاشية الخفاجي على البيضاوي)) (7/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/255)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 33-36). قال الزمخشري: (ما جمَعَ اللهُ قلبينِ في جوفٍ، ولا زوجيَّةً وأُمومةً في امرأةٍ، ولا بُنُوَّةً ودِعْوةً في رَجُلٍ. والمعنى: أنَّ اللهَ سبحانَه كما لم يَرَ في حِكمتِه أنْ يجعَلَ للإنسانِ قلبينِ؛ لأنَّه لا يخلو إمَّا أن يفعَلَ بأحَدِهما مِثلَ ما يَفعَلُ بالآخَرِ مِن أفعالِ القُلوبِ، فأحدُهما فَضلةٌ غيرُ مُحتاجٍ إليها، وإمَّا أن يَفعلَ بهذا غيرَ ما يَفعلُ بذاك، فذلك يؤدِّي إلى اتِّصافِ الجُملةِ بكَونِه مُريدًا كارِهًا، عالِمًا ظانًّا، موقِنًا شاكًّا في حالةٍ واحدةٍ). ((تفسير الزمخشري)) (3/520). وقال ابنُ عطية: (يظهَرُ مِن الآيةِ أنَّها بجُملتِها نفْيٌ لأشياءَ كانت العربُ تعتَقِدُها في ذلك الوقتِ، وإعلامٌ بحقيقةِ الأمرِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/368). .
وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ.
أي: وما جَعل اللهُ زوجاتِكم -أيُّها الرِّجالُ- اللَّاتي تقولونَ لهُنَّ: أنتُنَّ علينا كظُهورِ أمَّهاتِنا، فتُحَرِّمونَ بذلك نِساءَكم على أنفُسِكم حُرمةً مُؤبَّدةً، ما جَعَلهنَّ أمَّهاتٍ لكم في الحقيقةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/9)، ((البسيط)) للواحدي (18/171))، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/284، 285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 37، 38). قال الواحدي: (هو أن يقولَ لها: أنتِ علَيَّ كظَهرِ أُمِّي، وكانت العربُ تُطلِّقُ نساءَها في الجاهليَّةِ بهذا اللَّفظِ، فلمَّا جاء الإسلامُ نُهُوا عنه، وأُوجِبَت الكفَّارةُ على مَن ظاهرَ مِنِ امرأتِه). ((الوسيط)) (3/458). وقال السعدي: (أمُّك مَن ولدَتْك وصارت أعظَمَ النِّساءِ عليك حُرمةً وتحريمًا، وزَوجتُك أحَلُّ النِّساءِ لك، فكيف تُشَبِّهُ أحدَ المُتناقِضَينِ بالآخَرِ؟! هذا أمرٌ لا يجوزُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 658). !
كما قال تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] .
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ.
أي: وما جَعَل اللهُ مَن تَتبنَّونَهم أبناءً لكم في الحقيقةِ، بحيثُ يَحِلُّ لهم إرثُكم، وتَحرُمُ عليكم زَوجاتُهم، وغير ذلك من الأحكامِ؛ فهم أبناءُ غَيرِكم وإنِ ادَّعيتُم نِسْبتَهم إليكم [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/10)، ((تفسير الزمخشري)) (3/520)، ((تفسير ابن كثير)) (6/376)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 38، 39). قال القرطبي: (أجمَع أهلُ التَّفسيرِ على أنَّ هذا نزلَ في زَيدِ بنِ حارِثةَ). ((تفسير القرطبي)) (14/118). .
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ.
أي: ذلِكم [58] قيل: الإشارةُ بقَولِه: ذَلِكُمْ تعودُ إلى ما تقدَّم مِن ذِكرِ الظِّهارِ، وادِّعاءِ البُنُوَّةِ. وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ جرير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/11)، ((تفسير الشوكاني)) (4/301). وقيل: الإشارةُ إلى ادِّعاءِ البُنُوَّةِ. وممَّن قال بذلك: الواحديُّ، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). قَولٌ باطِلٌ تَقولونَه فحَسْبُ، ولا حقيقةَ له في الوُجودِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/10)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/214)، ((تفسير ابن كثير)) (6/376)، ((تفسير الشوكاني)) (4/301). .
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ .
أي: واللهُ يَقولُ الصِّدقَ والعَدلَ والقَولَ الثَّابِتَ الَّذي يُوافِقُ ظاهِرُه باطِنَه، ومِن ذلك: أمْرُه لكم بدَعوةِ أبناءِ النَّاسِ إلى آبائِهم، وتَرْكِ تبَنِّيهم، ولا يقولُ اللهُ الكَذِبَ والباطِلَ؛ فصَدِّقوا قَولَه، واتَّبِعوا شَرْعَه [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/11)، ((تفسير الزمخشري)) (3/522)، ((تفسير القرطبي)) (14/121)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/286، 287)، ((تفسير الشوكاني)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/254، 260)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 41، 44). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
وقال سُبحانَه: وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص: 84] .
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
أي: واللهُ يُبيِّنُ لعبادِه طَريقَ الحَقِّ، ويَدُلُّهم عليه [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/11)، ((الوسيط)) للواحدي (3/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). .
كما قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187] .
وقال سُبحانَه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور: 46] .
ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5).
ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ.
أي: انْسُبوا الأدعِياءَ المُتَبنَّينَ لآبائِهم الَّذين ولَدوهم [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/12)، ((الوسيط)) للواحدي (3/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). قال ابنُ كثير: (هذا أمرٌ ناسِخٌ لِما كان في ابتداءِ الإسلامِ مِن جوازِ ادِّعاءِ الأبناءِ الأجانِبِ، وهم الأدْعياءُ؛ فأمَرَ اللهُ تعالى بِرَدِّ نَسَبِهم إلى آبائِهم في الحَقيقةِ، وأنَّ هذا هو العَدلُ والقِسطُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/377). .
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: (ما كُنَّا ندعو زَيْدَ بنَ حارِثةَ إلَّا زيدَ ابنَ مُحمَّدٍ، حتَّى نزَل في القُرآنِ: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) [63] رواه البخاري (4782)، ومسلم (2425) واللفظ له. .
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
أي: نِسْبَتُكم الأبناءَ لآبائِهم أعدَلُ عندَ اللهِ، وأصدَقُ وأصوَبُ قَولًا وحُكمًا مِن نِسبَتِكم لهم إلى الَّذين تَبنَّوهم [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/12)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). .
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ.
أي: فإنْ لم تَعلَموا -أيُّها المُسلِمونَ- آباءَ الأدعياءِ لِتَنسُبوهم إليهم، فهم إخوانُكم في الإسلامِ إن كانوا مُسلِمينَ، ومحرَّروكم [65] ممَّن اختار أنَّ المولَى: هو المحرَّرُ المعتَقُ، فسَبَبُ الولاءِ هو الإنعامُ بالإعتاقِ: ابنُ جرير، والثعلبي، والبغوي، وابن تيميَّة، والخازن، والفيروزابادي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/12)، ((تفسير الثعلبي)) (8/7)، ((تفسير البغوي)) (3/608)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/165)، ((تفسير الخازن)) (3/409)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (5/284)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 49). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/698). وقيل: المرادُ: الموالاةُ في الدِّينِ. وممَّن قال بذلك: الرسعني، والبيضاوي، والنسفي، والنيسابوري، والعليمي، وأبو السعود، والألوسي، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/102)، ((تفسير البيضاوي)) (4/225)، ((تفسير النسفي)) (3/17)، ((تفسير النيسابوري)) (5/447)، ((تفسير العليمي)) (5/340)، ((تفسير أبي السعود)) (7/91)، ((تفسير الألوسي)) (11/146)، ((تفسير القاسمي)) (8/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). وقيل: المرادُ بمواليكم: أرقَّاؤُكم مع بقاءِ الرِّقِّ أو مع العِتقِ؛ على كِلْتا الحالتَينِ. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/288). وقال ابن عاشور: (والمرادُ بالولاءِ في قولِه: وَمَوَالِيكُمْ وَلاءُ المُحالَفةِ، لا ولاءُ العِتقِ، فالمُحالَفةُ مِثلُ الأُخوَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/263). وقيل: المرادُ: بنو عمِّكُم. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، ومكِّي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/215)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5783)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 549). ؛ فقُولوا عِوَضًا عمَّا فاتَهم مِنَ النَّسَبِ: أخي ومَوْلاي، ولا تقولوا: ابنُ فُلانٍ [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/12)، ((الوسيط)) للواحدي (3/458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/378)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/288)، ((تفسير الشوكاني)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). .
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (أنَّ أبا حُذَيفةَ بنَ عُتبةَ بنِ رَبيعةَ بنِ عَبدِ شَمسٍ -وكان ممَّن شَهِدَ بدرًا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تبنَّى سالِمًا، وأنكَحَه بنتَ أخيه هندَ بنتَ الوليدِ بنِ عُتبةَ بنِ رَبيعةَ، وهو مَولًى لامرأةٍ مِن الأنصارِ، كما تبنَّى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم زَيدًا، وكان مَن تبنَّى رَجُلًا في الجاهليَّةِ دعاه النَّاسُ إليه، ووَرِثَ مِن ميراثِه، حتَّى أنزلَ اللهُ: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ، إلى قَولِه: وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب: 5] ، فرُدُّوا إلى آبائِهم، فمَن لم يُعلَمْ له أبٌ، كان مَوْلًى وأخًا في الدِّينِ) [67] أخرجه البخاري (5088). .
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ.
أي: وليس عليكم إثمٌ في شَيءٍ أخطَأتُم فيه بلا قَصدٍ منكم للخَطَأِ، كأن تَنسُبوا إنسانًا لغَيرِ أبيه؛ جَهلًا، أو على سَبيلِ النِّسيانِ، أو سَبقِ اللِّسانِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/13)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/451)، ((تفسير ابن كثير)) (6/379)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/288، 289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/265)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 50، 52). قال ابن عطية: (وقالت فِرقةٌ: خطؤهم فيما كان سلَفَ مِن قَولِهم ذلك. وهذا ضعيفٌ؛ لا يتصفُ ذلك بخطأٍ إلَّا بعدَ النَّهيِ، وإنَّما الخطأُ هنا بمعنَى النِّسيانِ، وما كان مُقابِلَ العَمدِ)). ((تفسير ابن عطية)) (4/369). .
كما قال تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((أنزل اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ)) [69] رواه مسلم (126). .
وعن عَمرِو بنِ العاصِ وأبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا حَكَم الحاكِمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب فله أجْرانِ، وإذا حَكَم فاجتهَدَ ثمَّ أخطأَ فله أجرٌ )) [70] رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). .
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
أي: ولكِنْ يؤاخِذُكم اللهُ بما تتعَمَّدونَه بقُلوبِكم، كأن تَنسُبوا إنسانًا إلى غيرِ أبيه، وأنتم تَعلَمونَ أنَّه ليس كذلك [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/13، 14)، ((تفسير ابن كثير)) (6/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658). .
كما قال تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ وأبي بَكْرةَ الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنهما، كِلاهما يقولُ: سَمِعَتْه أُذُناي، ووعاه قلبي مُحمَّدًا [72] نصَب (محمَّدًا) على البدلِ مِن الضميرِ فى (سمِعَتْه). يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/53). صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَنِ ادَّعى إلى غيرِ أبيه وهو يَعلَمُ أنَّه غَيرُ أبيه؛ فالجنَّةُ عليه حَرامٌ )) [73] رواه البخاري (4326)، ومسلمٌ (63) واللَّفظُ له. .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((إنَّ اللهَ تجاوَزَ لأُمَّتي ما حَدَّثَت به أنفُسَها، ما لم يتكَلَّموا أو يَعمَلوا به )) [74] رواه البخاري (6664)، ومسلم (127) واللَّفظُ له. .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
أي: واللهُ هو المتَّصِفُ بالمَغفرةِ؛ فيَستُرُ ذُنوبَ عِبادِه، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، وهو المتَّصِفُ بالرَّحمةِ؛ ومِن رَحمتِه بعبادِه أنْ بيَّنَ لهم أحكامَ دينِه، وشرَعَ لهم ما يُصلِحُهم، ومِن ذلك رَفْعُ المؤاخَذةِ عن فِعلِ الخَطَأِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/14)، ((البسيط)) للواحدي (18/173)، ((تفسير القرطبي)) (14/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 658)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 55). .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن أبان سُبحانَه فيما سَلَف: أنَّ الدَّعِيَّ ليس ابنًا لِمَن تَبنَّاه، فمُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس أبًا لزَيدِ بنِ حارِثةَ، ثمَّ أعقَبَ ذلك بالإرشادِ إلى أنَّ المؤمِنَ أخو المؤمِنِ فى الدِّينِ، فلا مانِعَ أن يقولَ إنسانٌ لآخَرَ: أنت أخي فى الدِّينِ- أردَف ذلك بيانَ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس أبًا لواحدٍ مِن أُمَّتِه، بل أُبُوَّتُه عامَّةٌ، وأزواجُه أمَّهاتُهم، وأبُوَّتُه أشرَفُ مِن أبُوَّةِ النَّسَبِ [76] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/129). .
وأيضًا لَمَّا نهَى سُبحانَه عن التَّبَنِّي، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد تبنَّى زيدَ بنَ حارِثةَ مَولاه لَمَّا اختاره على أبيه وأمِّه؛ علَّل سُبحانَه النَّهْيَ فيه بالخُصوصِ [77] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/289). .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: النَّبيُّ محمَّدٌ أحَقُّ بالمؤمِنينَ مِن أنفُسِهم؛ فيَجِبُ عليهم تقديمُ طاعتِه، وقَبولُ حُكمِه، واتِّباعُ هَدْيِه، وتقديمُ محَبَّتِه على محبَّةِ أنفُسِهم [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/14، 15)، ((تفسير الزمخشري)) (3/523)، ((تفسير ابن كثير)) (6/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/266، 267). .
كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِن مُؤمِنٍ إلَّا وأنا أَولى به في الدُّنيا والآخِرةِ؛ اقرَؤوا إن شِئتُم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيُّما مُؤمِنٍ مات وترَكَ مالًا فلْيَرِثْه عَصَبتُه [79] العَصَبةُ عندَ أهلِ الفرائضِ: اسمٌ لِمَن يَرِثُ جميعَ المالِ إذا انفرَد، والفاضلَ بعدَ فرضِ ذَوي السِّهامِ. وقيل: العَصَبةُ: قَرابةُ الرَّجُلِ لأبيه، سُمُّوا بذلك مِن قولِهم: عَصَبَ القَومُ بفُلانٍ، أي: أحاطوا به، وهم كلُّ مَن يَلتقي مع الميتِ في أبٍ أو جدٍّ، ويَكونون مَعلومينَ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/235). مَن كانوا، ومَن تَرَك دَيْنًا أو ضَياعًا [80] ضَياعًا: أي عيالًا محتاجينَ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (4/222). فلْيَأتِني؛ فأنا مَولاه)) [81] رواه البخاري (2399) واللفظ له، ومسلم (1619). .
وعن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه وولَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) [82] رواه البخاري (15) واللفظ له، ومسلم (44). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ هِشامٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، لَأنتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِن نَفْسي، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لا والَّذي نفْسي بيَدِه حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفْسِك. فقال له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ واللهِ لَأنتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسي. فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: الآنَ يا عُمَرُ !)) [83] رواه البخاري (6632). .
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.
أي: وأزواجُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلم هُنَّ أمَّهاتُ المُؤمِنينَ في حُرمةِ نِكاحِهنَّ، ووُجوبِ تعظيمِهنَّ وإكرامِهنَّ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/16)، ((الوسيط)) للواحدي (3/459)، ((تفسير القرطبي)) (14/123)، ((تفسير ابن كثير)) (6/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659). قال الواحدي: (قال جميعُ المفسِّرينَ: أي: في حُرمةِ نكاحِهنَّ؛ فلا يحِلُّ لأحدٍ التَّزوُّجُ بواحدةٍ منهنَّ، كما لا يحِلُّ التَّزوُّجُ بالأمِّ، وهذه الأمومةُ تعودُ إلى حُرمةِ نكاحِهنَّ لا غيرُ؛ لأنَّه لم يَثبُتْ شَيءٌ مِن أحكامِ الأُمومةِ بيْنَ المؤمِنينَ وبينهنَّ سِوى هذه الواحِدةِ). ((البسيط)) (18/176). وقال ابن تيميَّةَ: (أجمَع المسلِمونَ على تحريمِ نِكاحِ هؤلاء بعدَ مَوتِه على غيرِه، وعلى وُجوبِ احترامِهنَّ؛ فهُنَّ أمَّهاتُ المؤمِنينَ في الحُرمةِ والتَّحريمِ، ولَسْنَ أمَّهاتِ المؤمِنينَ في المَحْرَميَّةِ؛ فلا يجوزُ لغيرِ أقاربِهنَّ الخَلْوةُ بهنَّ، ولا السَّفَرُ بهنَّ، كما يخلو الرَّجُلُ ويُسافِرُ بذَواتِ مَحارِمِه). ((منهاج السنة النبوية)) (4/369). .
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ.
أي: وذَوُو القَراباتِ أولَى بالتَّوارُثِ [85] قال ابنُ كثير: (وهذه ناسِخةٌ لِما كان قَبْلَها مِنَ التَّوارُثِ بالحِلْفِ والمؤاخاةِ الَّتي كانت بيْنَهم، كما قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: كان المُهاجِريُّ يَرِثُ الأنصاريَّ دونَ قراباتِه وذوي رَحِمِه؛ للأُخُوَّةِ الَّتي آخَى بيْنَهما رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. وكذا قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وغيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/381). وممَّن قال بأنَّ المعنى: أُولو الأرحامِ بَعضُهم أَولى ببعضٍ مِنَ المهاجِرينَ والأنصارِ في الإرثِ: ابنُ جرير، والزمخشري، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/17)، ((تفسير الزمخشري)) (3/524)، ((تفسير ابن كثير)) (6/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659). وقيل: هم أَولى منهم في جميعِ المنافِعِ العامَّةِ للدَّعوةِ والإرثِ والنُّصرةِ والصِّلةِ، وليس في الإرثِ فحَسْبُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/291). فيما بيْنَهم في كتابِ اللهِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/217، 218). قيل: المرادُ بكتابِ اللهِ هنا: حُكمُه وقَضاؤه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/381)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/270). وقال ابن عاشور: (يجوزُ أن يُرادَ به القرآنُ؛ إشارةً إلى ما تضَمَّنَتْه آيةُ المواريثِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/270). ورجَّح ابنُ عثيمين أنَّ كتابَه هنا بمعنى مكتوبِه، والمرادُ به إمَّا أن يكونَ اللَّوحَ المحفوظَ، وإمَّا أن يكونَ القُرآنَ الكريمَ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الاحزاب)) (ص: 66، 67). مِنَ الأنصارِ والمهاجِرينَ الَّذين كانوا في أوَّلِ الإسلامِ يَتوارَثونَ فيما بيْنَهم؛ بسَبَبِ حَقِّ الأُخوَّةِ الإيمانيَّةِ والهِجرةِ، وإنْ لم يكُنْ بيْنَهم رَحِمٌ [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/17)، ((تفسير الزمخشري)) (3/524)، ((تفسير ابن كثير)) (6/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/270، 271). .
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا.
أي: لكِنْ لكم -أيُّها المهاجِرونَ والأنصارُ- أن تُحسِنوا إلى أوليائِكم [88] قال ابن جُزَي: (واختُلِف هل يعني بالأولياءِ المؤمنينَ خاصَّةً، أو المؤمنينَ والكافرينَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/146). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: الأولياءُ في الدِّينِ: ابنُ جريرٍ، والزمخشري. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/21)، ((تفسير الزمخشري)) (3/524). وممَّن اختار أنَّه يشملُ القريبَ مِن المشركينَ: الثعلبيُّ، ومكِّي، وابنُ عطيَّة. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/9)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5788)، ((تفسير ابن عطية)) (4/370). ممَّن سِوَى أقارِبِكم، بالوصِيَّةِ [89] بما لا يَزيدُ على الثُّلثِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 72). والنُّصرةِ والصِّلةِ، وغيرِ ذلك مِن المعروفِ، قليلًا كان أو كثيرًا [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/21)، ((تفسير الزمخشري)) (3/524)، ((تفسير ابن كثير)) (6/382)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/272). وقيل: معنى المعروفِ هنا: الوصيَّةُ. وممَّن قال بذلك: الواحدي، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، والرازي، والعليمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/459)، ((تفسير السمعاني)) (4/260)، ((تفسير البغوي)) (3/610)، ((تفسير الزمخشري)) (3/524)، ((تفسير الرازي)) (25/158)، ((تفسير العليمي)) (5/342). وقيل: المرادُ بقولِه: مَعْرُوفًا: الإحسانُ والنَّفعُ والصِّلةُ في الحياةِ، والوصيَّةُ عندَ الموتِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابن عطية، والقرطبي، وابن جُزَي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/21)، ((تفسير ابن عطية)) (4/370)، ((تفسير القرطبي)) (14/126)، ((تفسير ابن جزي)) (2/146)، ((تفسير ابن كثير)) (6/382). وعلى أنَّ قولَه تعالى: أَوْلِيَائِكُمْ يدخُلُ فيه الكفارُ، فلَو أوصَى لهم جازَ، وإن كانوا لا يَرِثونَ المسلمينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/260). .
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
أي: إنَّ توارُثَ أُولي الأرحامِ بَعضِهم مِن بَعضٍ: مكتوبٌ في اللَّوحِ المَحفوظِ؛ فلا بُدَّ مِن تَشريعِه ونَسخِ ما كان في أوَّلِ الإسلامِ مِنَ التَّوارُثِ بالأُخوَّةِ الإيمانيَّةِ والهِجرةِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/21)، ((الوسيط)) للواحدي (3/459)، ((تفسير ابن كثير)) (6/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/272). وممَّن قال بأنَّ الكتابَ هنا هو اللَّوحُ المحفوظُ: ابنُ جرير، والواحدي، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/21)، ((الوسيط)) للواحدي (3/459)، ((تفسير ابن كثير)) (6/382)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 68). وقيل: المرادُ به القرآنُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/292، 293). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (4/376). قال البقاعي: (كَانَ ذَلِكَ أي: الحُكمُ العظيمُ فِي الْكِتَابِ أي: القرآنِ في آخرِ سورةِ الأنفالِ مَسْطُورًا بعبارةٍ تَعُمُّه). ((نظم الدرر)) (15/293). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ اتِّباعَ ما أنزَل الله خيرٌ مِن الأخذِ بقولِ الغيرِ [92] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/156). ، وأنَّه يَجِبُ على المرءِ أنْ يَلجأَ إلى ربِّه عزَّ وجلَّ في سؤالِه الهِدايةَ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 45). .
2- في قَولِه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وُجوبُ تقديمِ محبَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على النَّفْسِ؛ فهو أَولى بك مِن نفْسِك، ووُجوبُ طاعةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتقديمِها على طاعةِ النَّفْسِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 69). . فقَولُه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ أي: في كُلِّ شَيءٍ مِن أمورِ الدِّينِ والدُّنيا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ولهذا أطلَقَ ولم يُقَيِّدْ؛ فيَجِبُ عليهم أن يكونَ أحَبَّ إليهم مِن أنفُسِهم، وحُكمُه أنفَذَ عليهم مِن حُكمِها، وحَقُّه آثَرَ لَدَيْهم من حُقوقِها، وشَفَقتُهم عليه أقدَمَ مِن شفَقَتِهم عليها، وأن يَبذُلوها دونَه، ويَجعَلوها فِداءَه إذا أعضَلَ خَطْبٌ، ووِقاءَه إذا لَقِحَت حَربٌ [95] أي: هاجَتْ بعدَ سكونٍ. يُنظر: ((كتاب الأفعال)) لابن القطاع (3/121). ، وألَّا يتَّبِعوا ما تَدْعوهم إليه نفوسُهم، ولا ما تَصرِفُهم عنه، ويتَّبِعوا كُلَّ ما دعاهم إليه رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَرَفهم عنه؛ لأنَّ كلَّ ما دعا إليه فهو إرشادٌ لهم إلى نَيلِ النَّجاةِ، والظَّفَرِ بسَعادةِ الدَّارَينِ، وما صرَفَهم عنه فآخِذٌ بحُجَزِهم لئَلَّا يَتهافَتوا فيما يَرمي بهم إلى الشَّقاوةِ وعذابِ النَّارِ [96] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/523). ، فلا نجاةَ لأحدٍ مِن عذابِ الله، ولا وُصولَ له إلى رحمةِ الله إلَّا بواسِطةِ الرَّسولِ: بالإيمانِ به، ومحبَّتِه ومُوالاتِه واتِّباعِه. وهو الَّذي يُنجِّيه الله به مِن عذابِ الدُّنيا والآخرةِ، وهو الَّذي يوصِلُه إلى خيرِ الدُّنيا والآخرةِ. وهو أنصحُ وأنفعُ لكلِّ أحدٍ مِن نفْسِه ومالِه؛ فإنَّه الَّذي يُخرِجُ الله به مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، لا طريقَ له إلَّا هو، وأمَّا نفْسُه وأهلُه فلا يُغْنون عنه مِن الله شيئًا [97] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/426). .
3- في قَولِه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَكُنِ الرَّسولُ أَولى به مِن نفْسِه فليس مِن المؤمِنينَ، وهذه الأولويَّةُ تتضَمَّنُ أمورًا:
منها: أنْ يكونَ أحَبَّ إلى العبدِ مِن نفْسِه؛ لأنَّ الأولَويَّةَ أصلُها الحُبُّ، ونَفْسُ العبدِ أحَبُّ له مِن غَيرِه، ومع هذا يجبُ أنْ يكونَ الرَّسولُ أَولى به منها، وأحَبَّ إليه منها؛ فبذلك يحصُلُ له اسمُ الإيمانِ، ويَلزَمُ مِن هذه الأولويَّةِ والمحبَّةِ كمالُ الانقيادِ والطَّاعةِ والرِّضا والتَّسليمِ، وسائرُ لوازمِ المحبَّةِ مِن الرِّضا بحُكمِه، والتَّسليمِ لأمرِه، وإيثارِه على ما سِواه.
ومنها: ألَّا يكونَ للعبدِ حُكمٌ على نَفْسِه أصلًا، بلِ الحُكمُ على نفْسِه للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، يَحكُمُ عليها أعظَمَ مِن حُكمِ السَّيِّدِ على عَبدِه، أو الوالِدِ على ولَدِه؛ فليس له في نفْسِه تَصَرُّفٌ قَطُّ إلَّا ما تَصَرَّفَ فيه الرَّسولُ الَّذي هو أَولى به منها [98] يُنظر: ((الرسالة التَّبوكيَّة)) لابن القيم (ص: 29). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فيه سؤالٌ: وهو أنَّه يدُلُّ بفحوى خِطابِه [99] فَحْوى الخِطابِ -ويُسَمَّى تنبيهَ الخِطابِ، ومَفهومَ الموافَقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأوْلَى. يُنظر: ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). أنَّه لم يجعَلْ لامرأةٍ مِن قلبَينِ في جَوفِها، وقد جاءت آيةٌ أُخرى يُوهِمُ ظاهِرُها خِلافَ ذلك، وهي قَولُه تعالى في حَفصةَ وعائِشةَ: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] ، فقد جمَعَ القلوبَ لهما رَضِيَ الله عنهما!
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المُثَنَّى إذا أُضيفَ إليه شيئانِ هما جُزآه، جاز في ذلك المُضافِ الَّذي هو شيئانِ الجَمعُ والتَّثنيةُ والإفرادُ، وأفصَحُها الجَمعُ، فالإفرادُ، فالتَّثنيةُ على الأصَحِّ، سواءٌ كانت الإضافةُ لفظًا أو معنًى؛ فاللَّفظُ مِثالُه: (شويت رُؤوسَ الكَبشَينِ أو رأسَهما أو رأسَيْهما). فإنْ فُرِّق المثنَّى، فالمختارُ الإفرادُ، نحوَ قَولِه تعالى: عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة: 78] ، وإن كان الاثنانِ المُضافانِ مُنفصِلَينِ عن المثنَّى المضافِ إليه، أي: كانا غيرَ جُزأَيه، فالقياسُ الجَمعُ، وِفاقًا للفَرَّاءِ، وفي الحديثِ: ((ما أخرَجَكما مِن بُيُوتِكما) ) [100] أخرجه مسلم (2038) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، و: ((إذا أوَيْتُما إلى فِراشِكما، أو أخَذْتُما مَضاجِعَكما)) [101] أخرجه البخاري (6318) واللفظ له، ومسلم (2727) من حديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه. . واعلَمْ أنَّ الضَّمائِرَ الرَّاجِعةَ إلى هذا المضافِ يجوزُ فيهما الجَمعُ نظرًا إلى اللَّفظِ، والتثنيةُ نظرًا إلى المعنى.
الوجهُ الثَّاني: هو أنَّ أقلَّ الجَمعِ اثنانِ، ونظيرُه قَولُه تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11] ، أي: أخَوانِ فصاعِدًا [102] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 185، 186). .
2- قال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ القَلبُ ليس له إلَّا وِجهةٌ واحِدةٌ، إذا مال بها إلى جِهةٍ لم يَمِلْ إلى غَيرِها، وليس للعَبدِ قلبانِ يُطيعُ اللهَ ويتَّبِعُ أمْرَه ويَتوكَّلُ عليه بأحَدِهما، والآخَرُ لِغَيرِه، بل ليس إلَّا قَلبٌ واحِدٌ، فإنْ لم يُفرِدْ بالتوكُّلِ والمحبَّةِ والتَّقوى ربَّه وإلَّا انصرَفَ ذلك إلى غَيرِه [103] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 288). .
3- قَولُ الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... مُقَدِّمةٌ لِما أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم باتِّباعِه مِمَّا يُوحى إليه، وهو تَشريعُ الاعتِبارِ بحقائِقِ الأشياءِ ومَعانيها، وأنَّ مَواهيَ (جمعُ ماهيَّةٍ) الأمورِ لا تتغيَّرُ بما يُلصَقُ بها مِنَ الأقوالِ المنافيةِ للحَقائِقِ، وأنَّ تلك المُلصَقاتِ بالحقائِقِ هي الَّتي تَحجُبُ العُقولَ عن التَّفَهُّمِ في الحقائِقِ الحَقِّ، وهي الَّتي تَرِينُ على القُلوبِ بتَلبيسِ الأشياءِ.
وذُكِرَ هنا نوعانِ مِن الحقائِقِ:
أحدُهما: مِن حقائِقِ المُعتَقَداتِ؛ لأجْلِ إقامةِ الشَّريعةِ على العقائِدِ الصَّحيحةِ، ونَبْذِ الحقائِقِ المصنوعةِ المخالِفةِ للواقِعِ؛ لأنَّ إصلاحَ التَّفكيرِ هو مِفتاحُ إصلاحِ العَمَلِ، وهذا ما جعَل تأصيلَه إبطالَ أن يكونَ اللهُ جعَل في خَلقِ بعضِ النَّاسِ نِظامًا لم يجعَلْه في خَلقِ غَيرِهم.
وثاني النَّوعَينِ: مِن حقائِقِ الأعمالِ؛ لتقُومَ الشَّريعةُ على اعتبارِ مَواهي الأعمالِ بما هي ثابتةٌ عليه في نفْسِ الأمرِ، لا بالتَّوهُّمِ والادِّعاءِ؛ وهذا يرجِعُ إلى قاعدةِ أنَّ حقائِقَ الأشياءِ ثابِتةٌ، وهو ما أُشيرَ إليه بقَولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/254). [الأحزاب: 4] .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ التَّنبيهُ على تحريمِ الظِّهارِ، فإذا كان اللهُ تعالى لم يجعَلْ ذلك فإنَّه لا يَحِلُّ لنا أنْ نجعَلَ شَيئًا لم يَجعَلْه اللهُ تعالى؛ لأنَّ الأمرَ إلى اللهِ تعالى وحْدَه [105] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 43). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ أنه يُكرَهُ للرَّجُلِ أن يُناديَ زوجتَه ويُسَمِّيَها باسمِ مَحارِمِه؛ كقولِه: «يا أُمِّي»، «يا أُختي» ونحوِه؛ لأنَّ ذلك يُشبِهُ المُحَرَّمَ [106] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ أنَّ الأبناءَ الأدعياءَ ليسوا بأبناءٍ حَقيقةً ولا شَرعًا [107] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 43). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ أنَّه إذا لم يَكُنِ الابنُ الدَّعِيُّ ابنًا لا شرعًا ولا حقيقةً، فإنَّه لا يحتاجُ إلى قَيدٍ يُخرِجُه مِن معنى البُنُوَّةِ؛ لأنه غيرُ داخلٍ فيها أصلًا حتَّى نحتاجَ إلى قَيدٍ نُخرِجُه به، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: بيانُ ضَعفِ قولِ مَن يقولُ: «إنَّ الاحترازَ في قَولِه تعالى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ [النساء: 23] عن ابنِ التَّبَنِّي»؛ لأنَّنا نقولُ: إنَّه أصلًا لم يَدخُلْ حتَّى يُحتاجَ إلى قَيدٍ يُخرِجُه [108] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 43). !
8- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أنَّ كلامَ اللهِ سُبحانَه وتعالى ليس فيه تناقُضٌ -والتَّناقضُ لا يكونُ إلَّا في الباطلِ-؛ فالحقُّ لا يمكنُ أن يَتناقَضَ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 44). .
9- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أنَّ ما وَصَف اللهُ سُبحانَه وتعالى به نفْسَه في كتابِه فهو على حقيقتِه -وليس فيه تحريفٌ أو تأويلٌ-؛ لأنَّه لو كان خِلافَ ظاهرِه لكان ظاهرُه يدُلُّ على باطلٍ! وإذا قُلْنا: إنَّه على خِلافِ الظَّاهرِ لَزِمَ أنْ يكونَ دالًّا على باطلٍ! فإذا قُلْنا: إنَّ المرادَ بآياتِ الصِّفاتِ خِلافُ الظَّاهرِ صار الظَّاهرُ باطلًا -لأنَّه خِلافُ المرادِ- وهذا يُنافي قولَه تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، فهو سُبحانَه وتعالى لا يقولُ إلَّا الحقَّ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 44). .
10- في قَولِه تعالى: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أنَّ طريقَ الحقِّ واحدٌ؛ لقوله تعالى: السَّبِيلَ وهو مُفْرَدٌ، وهكذا تَجِدُ أنَّ السُّبُلَ تأتي جمعًا فيما يُخالِفُ الحقَّ، قال سُبحانَه وتعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 45). [الأنعام: 153] .
11- قَولُ الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ يُفهَمُ منه النَّهيُ عن أن يُنسَبَ أحدٌ إلى غيرِ أبيه بطريقِ لحنِ الخِطابِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/265). لحنُ الخطابِ: هو إفهامُ الشيءِ مِن غيرِ تصريحٍ، وهذا معناه لغةً، والمرادُ به هنا مفهومُ المخالفةِ، وهو إثباتُ نقيضِ حكمِ المنطوقِ به للمسكوتِ عنه، ويُطلَقُ لحنُ الخطابِ أيضًا على (دلالةِ الاقتضاءِ)، وعلى (مفهومِ الموافقةِ). يُنظر: ((الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل)) للباجي (ص: 288)، ((نفائس الأصول في شرح المحصول)) للقرافي (2/641)، ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). .
12- في قَولِه تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ أنَّ الإنسانَ يُدْعى لأبيه بظاهِرِ فِراشِ أُمِّه، ويَثبُتُ به النَّسَبُ والميراثُ، وتجري به الأحكامُ، وأنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه قد تجاوَزَ عمَّا يُمكِنُ في الباطنِ مِن إحداثِ الأمِّ [113] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/641). .
13- في قَولِه تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ وُجوبُ دَعوةِ الإنسانِ إلى أبيه، يعني: «انْسُبُوهم لآبائِهم» لَفظًا وحقيقةً؛ أمَّا لفظًا فتقولُ: «يا فُلانَ بنَ فُلانٍ»، وأمَّا حقيقةً بأنْ تعتقِدَ أنَّ البُنُوَّةَ الحقَّ إنَّما هي للأبِ الحقيقيِّ الَّذي وُلِدَ الإنسانُ مِن صُلْبِه، لا للأبِ الَّذي ادَّعى أنَّه أبٌ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 55). .
14- قَولُ الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا يَخرُجُ مِنَ النَّهيِ قَولُ الرَّجُلِ لآخَرَ: (أنت أبي)، و(أنا ابنُك) على قَصدِ التَّعظيمِ والتَّقريبِ، وذلك عند انتِفاءِ اللَّبسِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/266). .
15- قَولُ الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ يدُلُّ على زَوالِ الحَرَجِ فيما وقَعَ بعدَ النَّهيِ على سَبيلِ النِّسيانِ أو سَبقِ اللِّسانِ [116] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/289). .
16- في قَولِه تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ سَعةُ رَحمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ حيث أسقَطَ الإثمَ عمَّن كان مُخطِئًا [117] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 58). .
17- قَولُ الله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا فيه أنَّ الخطَأَ مَرفوعٌ، ولا إثمَ على المُخطِئِ [118] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 210). .
18- في قَولِه تعالى: وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أنَّ مَدارَ الأحكامِ والمؤاخَذةِ عليها هو القَلبُ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 59). .
19- قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ هذه الآيةُ أزال الله تعالى بها أحكامًا كانت في صدرِ الإسلامِ؛ منها: أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان لا يُصلِّي على ميتٍ عليه دَيْنٌ، فلمَّا فتَح الله عليه الفُتوحَ قال: ((أنا أوْلَى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم، فمَنْ تُوُفِّيَ وعليه دَيْنٌ فعلَيَّ قَضاؤُه، ومَن ترَك مالًا فهو لِوَرثَتِه )) [120] أخرجه البخاري (2298)، ومسلم (1619) (14) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. . وقال أيضًا ((فأيُّكم تَرَك دَيْنًا أو ضَياعًا فأنا مَوْلاه )) [121] أخرجه البخاري (4781)، ومسلم (1619) (15) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. .
20- قَولُ الله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ فيه سؤالٌ: هذا يدُلُّ بدَلالةِ الالتِزامِ على أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أبٌ لهم؛ لأنَّ أُمومةَ أزواجِه لهم تَستلزِمُ أُبُوَّتَه صلَّى الله عليه وسلَّم لهم، وهذا المدلولُ عليه بدَلالةِ الالتِزامِ مُصرَّحٌ به في قراءةِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه يقرؤُها: (وأزواجُه أُمَّهاتُهم وهو أبٌ لهم) [122] يُنظر ما أخرجه عبد الرزاق في ((تفسيره)) (2317). وأخرجه أيضًا (2316) بلفظ: (وهو أبٌ لهم، وأزواجُه أمَّهاتُهم). ، وهذه القراءةُ مَرويَّةٌ أيضًا عن ابنِ عبَّاسٍ [123] يُنظر ما أخرجه الحاكم في ((المستدرك)) (3556)، والبيهقيُّ في ((السنن الكبرى)) (13420). ، وقد جاءت آيةٌ أخرى -وهي قَولُه تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب: 40] - تُصَرِّحُ بخِلافِ هذا المدلولِ عليه بدَلالةِ الالتزامِ والقراءةِ الشَّاذَّةِ المذكورةِ عن أبُيٍّ وابنِ عبَّاسٍ؟
الجوابُ: أنَّ الأبوَّةَ المُثبَتةَ دينيَّةٌ، والأبوَّةَ المَنفيَّةَ طِينيَّةٌ، وبهذا يرتَفِعُ الإشكالُ في قَولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ مع قَولِه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [124] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 186). [الأحزاب:53] .
21- قال الله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ في هذه الآيةِ أُنزِلْنَ مَنزِلتَهنَّ في الحُرمةِ، كما يُقالُ: زَيْدٌ الشَّمسُ، أي: أُنزِلَ في حُسنِه مَنزِلةَ الشَّمسِ، وحاتمٌ البَحرُ، أي: أُنزِلَ في عُمومِ جُودِه بمَنزلةِ البَحرِ؛ كُلُّ ذلك تَكرِمةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وحِفظٌ لقَلبِه مِن التَّأذِّي بالغَيرةِ [125] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/541). .
22- في قَولِه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ما قال سُبحانَه: «النَّبِيُّ أبٌ للمُؤمِنينَ وأزواجُه أمهاتُهم»، بل قال سُبحانَه وتعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ فأبوك ليس أَولى بكَ مِن نَفْسِك، لكِنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أَولى بك مِن نفْسِك، فهذا أعظَمُ مِن قولِه سُبحانَه وتعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ؛ ومِن أجْلِ هذه الوَلايةِ كانت أزواجُه أمَّهاتٍ لنا مِن قِبَلِهنَّ ومِنْ قِبَلِنا؛ يعني: هُنَّ يَنظُرْنَ إلينا كالنَّظَرِ إلى الأبناءِ، ونحن ننظُرُ إليهنَّ كالنَّظَرِ إلى الأمَّهاتِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 62). وأيضًا أراد الله تعالى أنَّ أُمَّةَ نبيِّه يَدْعُون أزواجَه بأشرَفِ ما تُنادى به النِّساءُ، وهو الأمُّ، وأشرَفُ ما يُنادى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفظُ (الرَّسولِ) لا الأبِ. وقيل أيضًا: لأنَّه تعالى لو جعَلَه أبًا للمؤمنينَ، لكان أبًا للمؤمناتِ أيضًا، فيَحرُمْنَ عليه، وقد جعَلَ زوجاتِه كالأمَّهاتِ؛ إجلالًا لِنَبيِّه؛ لئلَّا يَطمَعَ أحدٌ في نِكاحِهنَّ بعْدَه. يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 457، 458). .
23- في قَولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ أنَّ مَن قال: إنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ليست أُمًّا له؛ فليس مِن المؤمِنينَ [127] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/223). .
24- قَولُ الله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ فيه سؤالٌ: كيف يَلزَمُ الإنسانَ أن يسألَ أُمَّه مِن وراءِ حِجابٍ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53] ؟
الجوابُ: أنهنَّ أمَّهاتٌ في الحُرمةِ والاحترامِ، والتَّوقيرِ والإكرامِ، لا في الخَلوةِ بهِنَّ، ولا في حُرمةِ بناتِهنَّ ونحوِ ذلك [128] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 187). .
25- في قَولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ تحريمُ نكاحِ زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَه؛ لِكَونِهنَّ أمَّهاتِ المؤمِنينَ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 70). .
26- قَولُ الله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ فيه سؤالٌ: لو قال قائِلٌ: كيف قال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، وقال مِن قبْلُ: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب: 4] إشارةً إلى أنَّ غيرَ مَن وَلَدت لا تصيرُ أمًّا بوَجهٍ؛ ولذلك قال تعالى في موضِعٍ آخَرَ: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] ؟
الجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى في الآيةِ المتقَدِّمةِ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ جوابٌ عن هذا، ومعناه أنَّ الشَّرعَ مِثلُ الحقيقةِ؛ ولهذا يَرجِعُ العاقِلُ عندَ تعَذُّرِ اعتبارِ الحقيقةِ إلى الشَّريعةِ، كما أنَّ امرأتَينِ إذا ادَّعَت كُلُّ واحدةٍ ولدًا بعَينِه، ولم يكُنْ لهما بيِّنةٌ، وحلَفَت إحداهما دونَ الأخرى؛ حُكِمَ لها بالولَدِ، وإن تبيَّنَ أنَّ الَّتي حلَفَت دونَ البُلوغِ أو بِكْرٌ، ببيِّنةٍ؛ لا يُحكَمُ لها بالولَدِ؛ فعُلِمَ أنَّ عندَ عدَمِ الوُصولِ إلى الحقيقةِ يُرجَعُ إلى الشَّرعِ، لا بل في بَعضِ المواضِعِ على النُّدورِ تَغلِبُ الشَّريعةُ الحقيقةَ! فإنَّ الزَّانيَ لا يُجعَلُ أبًا لولدِ الزِّنا.
إذا ثَبَت هذا فالشَّارِعُ له الحُكمُ؛ فقَولُ القائِلِ: (هذه أمِّي) قَولٌ يُفهَمُ لا عن حقيقةٍ، ولا يترتَّبُ عليه حقيقةٌ، وأمَّا قَولُ الشَّارعِ فهو حَقٌّ؛ فله أن يسمِّيَ أيَّ امرأةٍ أمًّا، ويُعطيَها حُكمَ الأمومةِ [130] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/157). .
27- في قَولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ دليلٌ على أنَّ أُمومةَ المؤمِنينَ هي لأزواجِه صلَّى الله عليه وسلَّم دونَ سَرارِيِّه [131] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/448). .
28- قَولُ الله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ استدَلَّ به مَن قال بتَحريمِ الكافِرةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو تزوَّجَها كانت أُمًّا للمُؤمِنينَ [132] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 210). .
29- في قَولِه تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ أنَّ مَن كان أقرَبَ مِن ذَوِي الأرحامِ فهو أحَقُّ بالإرثِ؛ وجْهُه: أنَّه إذا عُلِّقَ الحُكمُ على وَصفٍ، فكلَّما كان الوصفُ في شَيءٍ أقوى كان الحُكمُ فيه أَولى، فما دام أُولو الأرحامِ أَولى -لأنَّهم ذَوو أرحامٍ- فمَن كانت رحِمُه أقوَى فهو أولَى؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أَلحِقوا الفرائِضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فلِأَوْلَى رجُلٍ ذَكَرٍ )) [133] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 71). والحديث أخرجه البخاري (6737) واللفظ له، ومسلم (1615) من حديث عبد الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. .
30- قَولُ الله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ حُجَّةٌ على وِلايةِ ذَوي الأرحامِ في جميعِ الوِلاياتِ؛ كوِلايةِ النِّكاحِ والمالِ وغيرِ ذلك [134] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 659). .
31- قَولُ الله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ استدَلَّ به مَن ورَّث ذَوي الأرحامِ [135] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 210). وهو مذهب الحنفية. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نُجَيم (8/577). ويُنظر الخلاف في هذه المسألة في: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/53). .
32- الله تعالى إنَّما أثْبَت الوِلايةَ بيْنَ أُولي الأرحامِ بشَرطِ الإيمانِ، كما قال تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ [136] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/36). .
33- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا جَوازُ الوصيَّةِ لِمَن بينَك وبينَه مُوالاةٌ، وظاهِرُ الآيةِ الإطلاقُ، لكنَّه مُقَيَّدٌ بالنُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ الوصيَّةَ لا تَزيدُ على الثُّلُثِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 72). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
- قولُه: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ استئنافٌ ابتِدائيٌّ ابتِداءَ المُقدِّمةِ للغرَضِ بعدَ التَّمهيدِ له بما قبْلَه، والمقدِّمةُ أخَصُّ مِن التَّمهيدِ؛ لأنَّها تَشتمِلُ على ما يُوضِّحُ المقصدَ، بخلافِ التَّمهيدِ. والمَقصودُ: التَّنبيهُ إلى بُطلانِ أُمورٍ كان أهلُ الجاهليَّةِ قد زَعَموها وادَّعَوها. وابتُدِئَ مِن ذلك بما دَليلُ بُطلانِه الحِسُّ والاختبارُ؛ لِيُعلَمَ مِن ذلك أنَّ الَّذين اختَلَقوا مَزاعمَ يَشهَدُ الحِسُّ بكَذِبِها، يَهونُ عليهم اختلاقُ مَزاعمَ فيها شُبَهٌ وتَلبيسٌ للباطلِ في صُورةِ الحقِّ؛ فيُتلقَّى ذلك بالإذعانِ والامتثالِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/253، 254). .
- قولُه: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هذا مثَلٌ ضَربَه اللهُ تعالى -على قولٍ-بطَريقةِ قِياسِ التَّمثيلِ [139] قياسُ التَّمثيلِ: هو: حَملُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المُشتَرَكَ الكُلِّيَّ، مثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامِعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ: هو القياسُ الأُصوليُّ (إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما). يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). ؛ تَمهيدًا لِمَا يَعقُبُه مِن قولِه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ، وتَنبيهٌ على أنَّ كَوْنَ المُظاهَرِ منها أُمًّا، وكَوْنَ الدَّعِيِّ ابنًا -أي: بمَنزلةِ الأُمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودةِ فيما بيْنَهم- في الاستِحالةِ بمَنزلةِ اجتماعِ قَلبينِ في جَوفٍ واحدٍ [140] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/255). .
- قولُه: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ التَّنكيرُ في (رَجُلٍ)، وإدخالُ (مِن) الاستِغراقيَّةِ على قَلْبَيْنِ؛ تَأكيدانِ لِمَا قُصِدَ مِن المعنى، ووُقوعُ فِعلِ جَعَلَ في سِياقِ النَّفيِ يَقْتضي العُمومَ، كأنَّه قال: ما جعَلَ اللهُ لأُمَّةِ الرِّجالِ ولا لواحدٍ منهم قَلبينِ الْبتَّةَ في جَوفهِ [141] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/521)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/255). .
- وتخصيصُ الرَّجُلِ بالذِّكرِ؛ لكَمالِ لوازمِ الحياةِ فيه، فإذا لم يكُنْ ذلك له فكيف بغيرِه مِنَ الإناثِ [142] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/156). ؟! فعبَّرَ بالرَّجُلِ؛ لأنَّه أقوى جِسمًا وفَهمًا، فيُفهَمُ غَيرُه مِن بابِ الأَولى [143] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/283). .
- وفائدةُ ذِكرِ الجَوفِ -وإنْ كان المعلومُ أنَّ القلبَ لا يكونُ إلَّا في الجوفِ- زِيادةُ تَصويرِ المدلولِ عليه؛ لأنَّه إذا سمِعَ به صَوَّرَ لِنفْسِه جَوفًا يَشتمِلُ على قلبينِ، فكان أسرَعَ إلى الإنكارِ [144] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/521)، ((تفسير أبي حيان)) (8/452)، ((تفسير أبي السعود)) (7/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/256). .
- قولُه: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ تَمهيدٌ ثانٍ لِتَشريعِ إبطالِ التَّبنِّي بشَبهِ أنَّ كِلَيهما تَرتيبُ آثارٍ تَرتيبًا مَصنوعًا باليَدِ، غيرُ مَبنيٍّ على جَعلٍ إلهيٍّ، إلَّا أنَّ هذا التَّمهيدَ الثَّانيَ أقرَبُ إلى المقصودِ؛ لأنَّه مِن الأحكامِ التَّشريعيةِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/256، 257). .
- والمُرادُ بالجَعلِ المَنفيِّ في قولِه: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ الجَعلُ الخِلْقيُّ، وذلك كِنايةٌ عن انتفاءِ الأثرِ الشَّرعيِّ الَّذي هو مِن آثارِ الجَعلِ الخِلْقيِّ؛ لأنَّ الإسلامَ هو الفِطرةُ الَّتي فطَرَ اللهُ النَّاسَ عليها، قال تعالى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/257). [المجادلة: 2] .
- وعُدِّيَ الفعلُ بـ (مِن) في قولِه: تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الظِّهارَ كان طلاقًا في الجاهليَّةِ، فيتجَنَّبونَ المُظاهَرَ منها، كما يَتجنَّبونَ المطَلَّقَةَ، والمعنَى: أنَّه تباعَدَ منها بجِهةِ الظِّهارِ وغيرِه، أي مِن امرأتِه، فلَمَّا ضُمِّنَ معنَى التَّباعُدِ، عُدِّيَ بـ (مِن) [147] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/452). .
- قولُه: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ هذا هو المقصودُ الَّذي وُطِّئَ بالآيتَينِ قبْلَه؛ ولذلك أُسهِبَ الكلامُ بعْدَه بتَفاصيلِ التَّشريعِ فيه. وعُطِفَت هاتِه الجُملةُ على اللَّتينِ قبْلَها؛ لاشتراكِ ثلاثتِها في أنَّها نفَتْ مَزاعمَ لا حقائقَ لها [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/258). .
- إذا تَقرَّرَ أنَّ المزاعمَ الثَّلاثةَ -مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ- لا تَعْدو أنْ تكونَ ألفاظًا ساذَجةً لا تَحقُّقُ لِمَدلولاتِها في الخارجِ، اقْتَضى ذلك انتفاءَ الأمْرينِ اللَّذَينِ جُعِلَا تَوطئةً وتَمهيدًا للمَقصودِ، وانتفاءَ الأمْرِ الثَّالثِ المقصودِ، وهو التَّبنِّي؛ فاشتَرَكَ التَّمهيدُ والمقصودُ في انتفاءِ الحقِّيَّةِ، وهو أتمُّ في التَّسويةِ بيْن المقصودِ والتَّمهيدِ؛ وهذا كلُّه زِيادةُ تَحريضٍ على تَلقِّي أمْرِ اللهِ بالقَبولِ والامتِثالِ، ونَبْذِ ما خالَفَه [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/260، 261). .
- قولُه: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ استئنافٌ اعتراضيٌّ بيْنَ التَّمهيدِ والمَقصودِ مِن التَّشريعِ، وهو فَذْلَكةٌ [150] الفَذْلَكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلَكةُ) كلِمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196]. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). للجُمَلِ الثَّلاثِ الَّتي نفَتْ جَعْلَهم ما ليس بِواقعٍ واقعًا، ولذلك فُصِلَت الجُملةُ؛ لأنَّها تَتنزَّلُ مَنزلةَ البَيانِ بالتَّحصيلِ لِمَا قبْلَها [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/259). .
- وذِكرُ بِأَفْوَاهِكُمْ مع العِلمِ به؛ إشارةٌ إلى أنَّه قولٌ لا تَتجاوزُ دَلالتُه الأفواهَ إلى الواقعِ ونفْسِ الأمْرِ، فليس له مِن أنواعِ الوجودِ إلَّا الوُجودُ في اللِّسانِ، والوُجودُ في الأذهانِ، دونَ الوُجودِ في العِيانِ، وزادَه تَصريحًا بقولِه: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ؛ فأومَأَ إلى أنَّ قولَهم ذلك قولٌ كاذبٌ، ولهذا عُطِفَت عليه جُملةُ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ؛ لأنَّه داخلٌ في الفَذْلَكةِ لِمَا تقدَّمَ مِن قولِه: مَا جَعَلَ اللَّهُ إلخ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/260). .
- وقيل: قولُه: قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ فيه لَطيفةٌ؛ وهو أنَّ الكلامَ الَّذي بالفَمِ فحسْبُ يُشبِهُ صوتَ البهائمِ الَّذي يُوجَدُ لا عن قلْبٍ [153] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/156). .
- قولُه: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ في الإخبارِ عن اسمِ الجَلالةِ وضَميرِه بالمُسندَينِ الفِعليَّينِ إفادةُ قَصرِ القلْبِ، أي: هو يقولُ الحقَّ، لا الَّذين وَضَعوا لكمْ تلك المزاعمَ، وهو يَهدي السَّبيلَ، لا الَّذين أضَلُّوا النَّاسَ بالأوهامِ. ولَمَّا كان الفِعلانِ مُتعدِّيَينِ (يقول) و(يَهدي)، استُفِيدَ مِن قَصرِهما قَصرُ مَعمولَيهما بالقرينةِ. ثمَّ لَمَّا كان قولُ اللهِ في المواضعِ الثَّلاثةِ هو الحقَّ والسَّبيلَ، كان كِنايةً عن كَونِ ضِدِّه باطلًا ومَجهلةً، فالمعنى: وهمْ لا يقولونَ الحقَّ، ولا يَهدونَ السَّبيلَ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/260). .
- وقال: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ولم يَقُلْ: (ويهدي السبيلَ)؛ لأجْلِ أنْ تكونَ الجملةُ الثَّانيةُ مستقِلَّةً برُكْنَيْها -بمبتدئِها وخبرِها-، لأنَّ قولَه تعالى: وَهُوَ يَهْدِي هو مبتدؤُها، وجملةَ السَّبِيلَ خبرُها، فكانتِ الجملةُ مُستقِلَّةً عن الأُولى؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ في بيانِ أنَّ الهدايةَ بيدِ اللهِ سُبحانَه وتعالى [155] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 45). .
2- قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
- قولُه: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ استِئنافٌ بالشُّروعِ في المَقصودِ مِن التَّشريعِ؛ لإبطالِ التَّبنِّي، وتَفصيلٌ لِمَا يَحِقُّ أنْ يُجرِيَه المسلمونَ في شأْنِه [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/261). .
- وجُملةُ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ كأنَّ سائلًا قال: لماذا لا نَدْعوهم لِلَّذينَ تَبنَّوهم؟ فأُجِيبَ ببَيانِ أنَّ ذلك القِسطُ، فاسمُ التَّفضيلِ مَسلوبُ المُفاضَلةِ -أي: ليس على بابِه-، والغرَضُ مِن هذا الاستئنافِ تَقريرُ ما دلَّ عليه قولُه: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] ؛ لِتُعلَمَ عِنايةُ اللهِ تعالى بإبطالِ أحكامِ الجاهليَّةِ في التَّبنِّي، ولتَطمئِنَّ نُفوسُ المسلمينَ مِن المُتَبَنِّينَ والأدعياءِ ومَن يَتعلَّقُ بهم بقَبولِ هذا التَّشريعِ الَّذي يَشُقُّ عليهم؛ إذ يَنزِعُ منهم إلْفًا ألِفُوه؛ ولهذا المعنى الدَّقيقِ فُرِّعَ عليه قولُه: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، فجمَعَ فيه تأكيدًا للتَّشريعِ بعَدمِ التَّساهُلِ في بَقاءِ ما كانوا عليه بعُذْرِ أنَّهم لا يَعلَمون آباءَ بعضِ الأدعياءِ، وتأْنيسًا للنَّاسِ أنْ يَعتاضوا عن ذلك الانتِسابِ المكذوبِ اتِّصالًا حقًّا لا يَفوتُ به ما في الانتسابِ القديمِ مِن الصِّلةِ، ويُتجافَى به عمَّا فيه مِن المَفسَدةِ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/262). .
- وقيل: أَقْسَطُ أفعلُ تفضيلٍ قُصد به الزيادةَ مطلقًا مِن القِسْطِ، فعبَّر بـ (أفعل) التَّفضيلِ هنا؛ لِبَيانِ أنَّ هذا غايةُ ما يكونُ مِن العدلِ [158] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/225)، ((تفسير أبي السعود)) (7/91)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 48). .
- وفي فَصْلِ هذه الجُمَلِ ووَصْلِها -أي: في إخلاءِ العاطفِ وإثباتِه مِن الجُمَلِ- مِن مُفتتَحِ السُّورةِ إلى هنا؛ مِن الحُسنِ والفَصاحةِ ما لا يَخْفَى، وبيانُه: أنَّ الأوامرَ والنَّهيَ في قولِه: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] ، وَاتَّبِعْ [الأحزاب: 2] ، وَتَوَكَّلْ [الأحزاب: 3] ؛ وارِداتٌ على نسَقٍ عَجيبٍ، وتَرتيبٍ أنِيقٍ؛ فإنَّ الاستهلالَ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] دالٌّ على أنَّ الخِطابَ مُشتمِلٌ على أمْرٍ مَعنيٍّ شأْنُه، لائحٍ فيه معنى التَّهييجِ والإلهابِ، ومِن ثَمَّ عطَفَ عليه وَلَا تُطِعِ كما يُعطَفُ الخاصُّ على العامِّ، وأردَفَ النَّهيَ بالأمْرِ، على نَحوِ قولِك: لا تُطِعْ مَن يَخذُلُك، واتَّبِعْ ناصِرَك، ولا يَبعُدُ أنْ يُسمَّى بالطَّردِ والعكْسِ. ثمَّ أمَرَ بالتَّوكُّلِ؛ تَشجيعًا على مُخالَفةِ أعداءِ الدِّينِ، والْتِجاءً إلى حَريمِ جَلالِ اللهِ؛ لِيَكفِيَه شُرورَهم. ثمَّ عقَّبَ كُلًّا مِن تلك الأوامرِ بما يُطابِقُه على سَبيلِ التَّتميمِ [159] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206]؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ، وعلَّلَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب: 1] ؛ تَتميمًا للارتداعِ، وعلَّلَ قولَه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب: 2] ؛ تَتميمًا أيضًا، وذيَّلَ قولَه: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بِقولِه: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: 3] ؛ تَقريرًا وتَوكيدًا، وفصَلَ قولَه: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4] على سَبيلِ الاستئنافِ؛ تَنبيهًا على بعضٍ مِن أباطيلِهم وتَمحُّلاتِهم، وقولُه: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب: 4] فَذْلَكةٌ لتلك الأحوالِ، آذَنَتْ بأنَّها مِن البُطلانِ، وحَقيقٌّ بأنْ يُذَمَّ قائلُها، فضْلًا عن أنْ يُطاعَ. ثمَّ وصَلَ قولَه: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] على هذه الفَذْلَكةِ بجامعِ التَّضادِّ على مِنوالِ ما سبَقَ في المُجمَلِ في وَلَا تُطِعِ وَاتَّبِعْ. وفصَلَ قولَه: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وقولَه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 6] ، وهلُمَّ جَرًّا إلى آخِرِ السُّورةِ؛ تَفصيلًا لقولِ الحقِّ، والاهتداءِ إلى السَّبيلِ القويمِ [160] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/522)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/376، 377)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/263، 264). .
- قولُه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ... عطْفٌ على جُملةِ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ؛ لأنَّ الأمْرَ فيها للوُجوبِ، فهو نَهْيٌ عن ضِدِّه لِتَحريمِه؛ كأنَّه قِيل: ولا تَدْعوهم لِلَّذينَ تَبنَّوهم إلَّا خطَأً، وبهذا تقرَّرَ إبطالُ حُكمِ التَّبنِّي [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/264). .
- قولُه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ وُقوعُ (جُناح) في سِياقِ النَّفيِ بـ (ليس) يَقْتضي العُمومَ، فيُفِيدُ تَعميمَ انتفاءِ الإثْمِ عن العمَلِ الخطَأِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/265). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا تَعليلٌ لِنَفيِ الجُناحِ عن الخطَأِ؛ بأنَّ نَفْيَ الجُناحِ مِن آثارِ اتِّصافِ اللهِ تعالى بالمَغفرةِ والرَّحمةِ بخَلْقِه [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/266). .
3- قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
- قولُه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب: 4] ، وقولَه: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ [الأحزاب: 5] ، كان قد شمِلَ في أوَّلِ ما شَمِلَه إبطالَ بُنوَّةِ زَيدِ بنِ حارثةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان بحيث يُثِيرُ سُؤالًا في نُفوسِ النَّاسِ عن مَدى صِلَةِ المؤمنينَ بنَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فلِأجْلِ تَعليمِ المؤمنينَ حُقوقَ النَّبيِّ وحُرْمتَه، جاءت هذه الآيةُ مُبيِّنةً أنَّ النَّبيَّ أَولى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/266). .
- قولُه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الكلامُ على تَقديرِ مُضافٍ، أي: أَولى بمَنافعِ المؤمنينَ، أو بمَصالحِ المؤمنينَ، فهذا المُضافُ حُذِفَ؛ لِقَصدِ تَعميمِ كلِّ شأْنٍ مِن شُؤونِ المؤمنينَ الصَّالحةِ [165] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/523)، ((تفسير البيضاوي)) (4/225)، ((تفسير أبي السعود)) (7/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/266). .
- قولُه: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ عطَفَ على حُقوقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُقوقَ أزواجِه على المسلمينَ؛ لِمُناسَبةِ جَرَيانِ ذِكرِ حقِّ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فجعَلَ اللهُ لهنَّ ما للأمَّهاتِ مِن تَحريمِ التَّزوُّجِ بهنَّ، وكذلك ما عدَا حُكْمَ الزَّواجِ مِن وُجوهِ المُعامَلةِ غيرَ ما يَرجِعُ إلى التَّعظيمِ؛ ولهذه النُّكتةِ جِيءَ بالتَّشبيهِ البليغِ [166] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذِي وصْفٍ في وَصْفِه. وقيل: هو إثباتُ حُكمٍ مِن أحكامٍ المُشبَّهِ به للمُشبَّهِ. ويَنقسِمُ التشبيهُ عِدَّةَ تَقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّة. والتشبيهُ البليغُ: هو ما كانتْ أداةُ التَّشبيهِ فيه مَحذوفةً. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ؛ للمُبالَغةِ في شَبهِهنَّ بالأمَّهاتِ للمؤمنينَ [167] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/523)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/268)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/603). .
- قولُه: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ قيل: أُرِيدَ بالمُؤمنينَ خُصوصُ الأنصارِ؛ بقَرينةِ مُقابَلتِه بعَطفِ وَالْمُهَاجِرِينَ، على معنى أصحابِ الإيمانِ الكاملِ؛ تَنويهًا بإيمانِ الأنصارِ؛ لأنَّهم سَبَقوا بإيمانِهم قبْلَ كَثيرٍ مِن المهاجرينَ الَّذين آمَنوا بعْدَهم؛ فإنَّ الأنصارَ آمَنوا دَفعةً واحدةً لَمَّا أبلَغَهم نُقباؤُهم دَعوةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيَّاهُم بعْدَ بَيعةِ العَقَبةِ الثَّانيةِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/271). . وقيل: تخصيصُ المهاجرينَ بالعطفِ يدُلُّ على شَرَفِهم وفضلِهم؛ لأنَّ المهاجِرَ مؤمنٌ، ففيه فضيلةُ الهجرةِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 72). .
- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا بلاغةُ القرآنِ في الاحترازِ في موضعِ الإيهامِ؛ لأنَّه لَمَّا قال تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ قد يَتوهَّمُ الإنسانُ أنَّ مَن بينَه وبينَهم موالاةٌ لا يُمكِنُ أنْ يَنتَفِعَ بشَيءٍ مِن مالِه؛ فاحترزَ عزَّ وجلَّ بقَولِه: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 72). .
- وجُملةُ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا تَذييلٌ لهذه الأحكامِ، وخاتمةٌ لها مُؤْذِنةٌ بانتهاءِ الغرَضِ مِن الأحكامِ الَّتي شُرِعَت مِن قولِه: ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ [الأحزاب: 5] إلى هنا؛ فالإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ إلى المَذكورِ مِن الأحكامِ المَشروعةِ؛ فكان هذا التَّذييلُ أعمَّ ممَّا اقتَضاهُ قولُه: بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وبهذا الاعتبارِ لم يكُنْ تَكريرًا له، ولكنَّه يَتضَمَّنُه ويَتضمَّنُ غيرَه، فيُفِيدُ تَقريرَه وتَوكيدَه تبَعًا [171] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/524)، ((تفسير أبي حيان)) (8/454، 455)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/272). .
- وفِعلُ (كان) في قولِه: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا؛ لِتَقويةِ ثُبوتِه في الكتابِ مَسطورًا؛ لأنَّ (كان) إذا لم يُقصَدْ بها أنَّ اسمَها اتَّصَفَ بخَبرِها في الزَّمنِ الماضي، كانت للتَّأكيدِ غالِبًا [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/272). .