موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (53-55)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نَاظِرِينَ: أي: مُنتظِرينَ، يُقالُ: نظَرْتُه، أي: انتظَرْتُه، كأنَّه يَنْظُرُ إلى الوقتِ الَّذي يأتي فيه، وأصلُ (نظر): يدُلُّ على تأمُّلِ الشَّيءِ ومُعاينَتِه [1105] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 352)، ((تفسير ابن جرير)) (19/157)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/444)، ((المفردات)) للراغب (ص: 813)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/193). .
إِنَاهُ: أي: وَقتَ إدراكِه ونُضجِه وتهيئتِه، وأصلُ (أني): يدُلُّ على إدراكِ الشَّيءِ [1106] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 352)، ((تفسير ابن جرير)) (19/157)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 109)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/141)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 303)، ((تفسير أبي حيان)) (8/499)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 341). .
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ: أي: طالِبينَ الأُنسَ للحَديثِ، وأصلُ (أنس): يدُلُّ على الظُّهورِ، وعدَمِ الاستيحاشِ [1107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/161)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/145)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 303). .
مَتَاعًا: أي: مَنفعةً وحاجةً، والمَتاعُ: كلُّ ما حَصَل التَّمتُّعُ والانتفاعُ به على وَجهٍ ما، وأصلُ (متع): يدُلُّ على مَنفعةٍ [1108] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 513)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 804). .
حِجَابٍ: أي: سترٍ، وكلُّ ما يَستُرُ المطلوبَ ويمنَعُ مِن الوصولِ إليه فهو حجابٌ، وأصلُ (حجب): المنعُ مِن الوصولِ [1109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/143)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 360). .
لَا جُنَاحَ: أي: لا إثْمَ و لا حَرَجَ، وسُمِّيَ الإثمُ جُناحًا؛ لِمَيلِه عن طريقِ الحَقِّ، وأصلُ (جَنَح): يدُلُّ على الميلِ والعُدوانِ [1110] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((تفسير ابن جرير)) (2/712)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 98). .
شَهِيدًا: أي: شاهدًا على كلِّ شَيءٍ، لا تخفَى عليه خافيةٌ، وأصلُ (شهد): يدُلُّ على حُضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ [1111] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /221)، ((المفردات)) للراغب (1 /465)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ التَّشريعاتِ والآدابِ الَّتي تتعلَّقُ بدُخولِ بيوتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَدخُلوا بُيوتَ النَّبيِّ بغيرِ إذنٍ إلَّا أن تُدعَوا إلى طَعامٍ تأكُلونَه فيها غيرَ مُنتَظِرينَ نُضجَ الطَّعامِ، ولكِنْ إذا دُعيتُم للدُّخولِ فادخُلوا، فإذا فَرَغتُم مِن الطَّعامِ فاخرُجوا مِن بَيتِ النَّبيِّ، ولا تَمكُثوا مُتحَدِّثينَ بعدَ فراغِكم مِنَ الطَّعامِ؛ إنَّ ذلكم كان يؤذي النَّبيَّ ويَشُقُّ عليه، فيَسْتَحْيي مِن إعلامِكم بذلك، ولكِنَّ اللهَ لا يَستَحْيي أن يُبيِّنَ لكم الحَقَّ.
ثمَّ يَذكُرُ سُبحانَه بعضَ الآدابِ الَّتي يجِبُ على المؤمنينَ أنْ يلتَزِموها مع نساءِ نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: وإذا سألتُم أزواجَ النَّبيِّ حاجةً فاسألوهنَّ مِن وراءِ سِترٍ؛ ذلك أنقَى لقُلوبِكم وقُلوبِهنَّ، وما يَنبغي لكم -أيُّها المُسلِمونَ- أن تُؤذوا رسولَ الله، ولا أنْ تَنكِحوا أزواجَه مِن بَعدِه أبدًا؛ إنَّ ذلك ذَنْبٌ عَظيمٌ عندَ اللهِ تعالى!
ثمَّ يحذِّرُهم الله سبحانَه مِن مخالفةِ أمرِه، فيقولُ: إنْ تُظهِروا شيئًا أو تُخفوه في قُلوبِكم فإنَّ الله عليمٌ به وبِغَيرِه.
ثمَّ يذكُرُ الله تعالى بعضَ الأصنافِ الَّذين يجوزُ للمرأةِ أنْ تظهرَ أمامَهم بدونِ حجابٍ، فيقولُ: لا إثمَ على أزواجِ النَّبيِّ في تَركِ الاحتِجابِ مِن آبائِهنَّ، ولا أبنائِهنَّ، ولا إخوانِهنَّ، ولا أبناءِ إخوانِهنَّ، ولا أبناءِ أخواتِهنَّ، ولا نِسائِهنَّ، ولا مَماليكِهنَّ مِن الذُّكورِ والإناثِ. ثُمَّ أمَرَهُنَّ اللهُ باتِّقاءِ غضَبِه وعذابِه، وذلِكَ بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نواهِيه؛ ويختمُ الآيةَ بقولِه: إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ شهيدٌ.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا خاطَب اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ... [الأحزاب: 45] ؛ بيانًا لحالِه مع أمَّتِه العامَّةِ، قال للمُؤمِنينَ في هذا النِّداءِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...؛ إرشادًا لهم، وبيانًا لحالِهم مع النبيِّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِنَ الاحترامِ، وعدَمِ إزْعاجِه في حالِ الخَلوةِ [1112] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/179). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ مِن حالِ النَّبيِّ أنَّه داعٍ إلى اللهِ، بقَولِه: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: 46] ، قال هاهنا: لَا تَدْخُلُوا إلَّا إذا دُعيتُم، يعني: كما أنَّكم ما دخَلْتُم الدِّينَ إلَّا بدُعائِه، فكذلك لا تدخُلوا عليه إلَّا بعدَ دُعائِه [1113] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/178). .
وأيضًا لَمَّا قصَر اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أزواجِه، وكان قد تقدَّم إليهنَّ بلُزومِ البُيوتِ، وترْكِ ما كانت عليه الجاهليَّةُ مِن التَّبَرُّجِ- أرخَى عليهنَّ الحِجابَ في البُيوتِ، ومَنَعَ غَيرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا كانت العرَبُ عليه مِن الدُّخولِ على النِّساءِ؛ لِما عندَهم مِن الأمانةِ في ذلك [1114] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/390). .
وأيضًا لَمَّا بيَّن الله في الآياتِ السَّابقةِ آدابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع أزواجِه؛ قفَّاه في هذه الآيةِ بآدابِ الأُمَّةِ معهنَّ [1115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/81). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينبَ بنتَ جَحشٍ، دعا النَّاسَ، طَعِموا ثمَّ جَلسوا يَتحَدَّثونَ، فأخَذ كأنَّه يَتهيَّأُ للقيامِ فلم يَقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام، فلمَّا قام قامَ مَن قام معه مِنَ النَّاسِ، وبَقِيَ ثلاثةٌ، وإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاء لِيَدخُلَ فإذا القومُ جُلوسٌ، ثمَّ إنَّهم قاموا فانطلَقوا، فجِئتُ فأخبَرْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم قد انطلَقوا، فجاء حتَّى دخَل، فذهبتُ أدخُلُ فأرخَى الحِجابَ بيني وبيْنَه، وأنزَل اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا)) [1116] رواه البخاري (6271) واللفظ له، ومسلم (1428). .
وعن الجَعْدِ أبي عُثمانَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((تزوَّجَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فدخَلَ بأهلِه، قال: فصَنَعَت أمِّي أمُّ سُلَيمٍ حَيْسًا [1117] الحَيْسُ: هو التَّمرُ مع السَّمنِ والأَقِطِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/34). ، فجعَلَتْه في تَورٍ [1118] التَّورُ: إناءٌ يُشرَبُ فيه. يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (6/346). ، فقالت: يا أنَسُ، اذهَبْ بهذا إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلْ: بعَثَتْ بهذا إليك أمِّي، وهي تُقرِئُك السَّلامَ وتقولُ: إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ يا رَسولَ اللهِ! قال: فذهبْتُ بها إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: إنَّ أمِّي تُقرِئُك السَّلامَ وتقولُ: إنَّ هذا لكَ مِنَّا قليلٌ يا رَسولَ الله. فقال: ضَعْهُ، ثمَّ قال: اذهَبْ، فادْعُ لي فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا، ومَن لَقِيتَ -وسمَّى رجالًا- قال: فدعَوْتُ مَن سَمَّى ومَن لَقِيتُ. قال الجعْدُ: قلتُ لأنَسٍ: عددَ كم كانوا؟ قال: زُهاءَ ثلاثِ مِئةٍ! وقال لي رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أنسُ، هاتِ التَّورَ. قال: فدخَلوا حتَّى امتلأتِ الصُّفَّةُ [1119] الصُّفَّةُ: موضعٌ مُظَلَّلٌ في مسجدِ المدينةِ، وأهلُ الصُّفَّةِ فقراءُ المهاجِرينَ ومَن لم يَكُنْ له منهم مَنْزِلٌ يَسْكُنُه، فكانوا يَأْوونَ إليه. يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/59). والحُجرةُ، فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِيَتحلَّقْ عَشَرةٌ عَشَرةٌ، ولْيأكُلْ كُلُّ إنسانٍ ممَّا يليه. قال: فأكَلوا حتَّى شَبِعوا، قال: فخَرَجَت طائفةٌ ودخَلَت طائفةٌ حتَّى أكلوا كُلُّهم! فقال لي: يا أنَسُ، ارفَعْ. قال: فرفَعْتُ، فما أدري حينَ وَضَعْتُ كان أكثَرَ أم حينَ رَفَعْتُ!! قال: وجلس طوائِفُ منهم يَتحدَّثونَ في بيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ وزوجتُه مُوَلِّيةٌ وَجْهَها إلى الحائِطِ! فثَقُلُوا على رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخرَج رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَلَّم على نسائِه ثمَّ رجع، فلمَّا رأوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد رجَع ظنُّوا أنَّهم قد ثَقُلُوا عليه، فابتَدَروا البابَ فخَرَجوا كُلُّهم، وجاء رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أرخى السِّتْرَ ودخل، وأنا جالِسٌ في الحُجرةِ، فلم يلبَثْ إلَّا يسيرًا حتَّى خرَج علَيَّ، وأُنزِلَت هذه الآيةُ، فخرَج رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقرَأهُنَّ على النَّاسِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ إلى آخرِ الآيةِ. قال الجَعْدُ: قال أنسُ بنُ مالكٍ: أنا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهدًا بهذه الآياتِ، وحُجِبْنَ نِساءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [1120] رواه مسلم (1428). ورواه البخاري (5163) معلقًا من حديث الجعد عن أنس بنحوه مختصرًا. .
 وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه، قال: (وافقْتُ ربِّي في ثلاثٍ: في مَقامِ إبراهيمَ، وفي الحِجابِ، وفي أُسارى بدرٍ! ) [1121] رواه مسلم (2399). .
وعن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال عُمَرُ رَضِيَ الله عنه: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، يَدخُلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ، فلو أمَرْتَ أمَّهاتِ المؤمِنينَ بالحِجابِ! فأنزل اللهُ آيةَ الحِجابِ )) [1122] رواه البخاري (4790). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، لا تَدخُلوا بُيوتَ النَّبيِّ بغيرِ إذنٍ إلَّا أن تُدعَوا إلى دُخولِها؛ لأجْلِ طَعامٍ تأكلونَه فيها، فيُؤذنَ لكم [1123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/157)، ((تفسير الخازن)) (3/434)، ((تفسير ابن كثير)) (6/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). قيل: إِلَى متعلِّقٌ بـ يُؤْذَنَ بتضمينِ معنى الدعاءِ، فكأنَّه قيل: إلَّا أنْ تُدْعَوْا إلى طعامٍ فيُؤْذَنَ لكم. ينظر: ((تفسير القاسمي)) (8/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/82). وقال ابنُ عاشور: (ليس ذِكرُ الدَّعوةِ إلى طعامٍ تَقييدًا لإباحةِ دُخولِ بُيوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لا يَدخُلُها إلَّا المدعوُّ إلى طعامٍ، ولكِنَّه مِثالٌ للدَّعوةِ وتخصيصٌ بالذِّكرِ، كما جرى في القضيَّةِ الَّتي هي سَبَبُ النُّزولِ، فيَلحَقُ به كُلُّ دعوةٍ تكونُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكلُّ إذْنٍ منه بالدُّخولِ إلى بيتِه لغيرِ قَصدِ أن يَطعَمَ معه، كما كان يقعُ ذلك كثيرًا). ((تفسير ابن عاشور)) (22/81). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 417، 418). .
غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
أي: والحالُ أنَّكم غيرُ مُنتَظِرينَ وَقتَ نُضجِ الطَّعامِ واستِوائِه [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/157)، ((تفسير القرطبي)) (14/223، 226)، ((تفسير ابن كثير)) (6/454)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/391، 392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 418). قيل: المرادُ: لا تَرقُبوا الطَّعامَ حتَّى إذا قارب الاستواءَ تعرَّضتُم للدُّخولِ؛ فإنَّ هذا يَكرَهُه الله ويَذُمُّه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/454)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 418). وقيل: المعنى: لا تَحضُروا البيوتَ للطَّعامِ قبْلَ تهيئةِ الطَّعامِ للتَّناوُلِ، فتَقعُدوا تنتَظِرونَ نُضجَه. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/82). .
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا
أي: ولكِنْ إذا دُعيتُم للدُّخولِ إلى بَيتٍ مِن بُيوتِ النَّبيِّ، فادخُلوه [1125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). قال ابنُ عثيمين: (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أي ولا تدخلوا بغير دعوة، وهذا غيرُ قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ؛ لأنَّ يُؤْذَنَ معناها: أنَّهم جاؤوا فاستأذنوا، وأمَّا الَّتي معنا؛ الجملةُ الثَّانيةُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ: فهنا همُ الذين دُعُوا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 420). .
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا
أي: فإذا فَرغتُم مِنَ الطَّعامِ فاخرُجوا مِن بَيتِ النَّبيِّ، وتفَرَّقوا [1126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/160)، ((تفسير القرطبي)) (14/226)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). قال البقاعي: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ أي: أكَلْتُم طعامًا، أو شَرِبتُم شَرابًا). ((نظم الدرر)) (15/392). .
وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
أي: ولا تَمكُثوا في بَيتِه بعدَ فَراغِكم مِنَ الطَّعامِ مُستأنِسينَ بالحَديثِ [1127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/161)، ((تفسير القرطبي)) (14/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/392)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ المعنى: ولا تَدخُلوا مستأنِسِينَ، أي: طالِبي الأُنسِ لحديثٍ؛ وذلك أنَّهم كانوا يَجلِسون بعدَ الأكلِ فيَتحدَّثون طويلًا، وكان ذلك يؤذيه، ويَستَحْيي أن يقولَ لهم: قُوموا، فعلَّمَهم الله تعالى الأدبَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/480). .
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ     
أي: إنَّ ذَلِكم [1128] قيل: المشارُ إليه هنا جميعُ ما تقدَّمَ، وهو دخولُ بُيوتِ النَّبيِّ مِن غيرِ إذْنٍ، والمجيءُ قبْلَ نُضجِ الطَّعامِ مُنتظرينَ نُضْجَه، والجلوسُ فيها مُستأنسينَ للحديثِ بعدَ الفراغِ مِن الطَّعامِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5863). وقيل: المشارُ إليه إطالتُهم الجُلوسَ في المنزلِ، واستئناسُهم للحديثِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ تيميَّةَ، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 58)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/392، 393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/86). كان يُؤذي النَّبيَّ ويَشُقُّ عليه، فيُصيبُه الحياءُ مِن إعلامِكم بذلك، فيَسكُتُ [1129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 58)، ((تفسير ابن كثير)) (6/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). قال ابنُ عاشور: (إنَّما كان ذلك مُؤذِيًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ فيه ما يَحولُ بيْنَه وبيْنَ التَّفَرُّغِ لشؤونِ النُّبُوَّةِ؛ مِن تلقِّي الوَحيِ، أو العبادةِ، أو تدبيرِ أمرِ الأُمَّةِ، أو التَّأخُّرِ عن الجلوسِ في مجلِسِه لِنَفعِ المسلمينَ، ولشؤونِ ذاتِه وبيتِه وأهلِه... أي: يَستَحْيي مِن إعلامِكم بأنَّه يُؤذيه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/86). !
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
أي: وإنِ استَحْيا نَبيُّكم فلم يُبيِّنْ لكم كراهِيَةَ ذلك؛ حَياءً مِنكم: فإنَّ اللهَ لا يَستَحْيي أن يُبيِّنَ لكم الحَقَّ؛ ولهذا نهاكم عن إيذاءِ نَبيِّه [1130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((تفسير ابن كثير)) (6/454)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/88). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة: 26] .
وقال سُبحانَه: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ [الأحزاب: 4] .
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا مَنَع اللهُ النَّاسَ مِن دُخولِ بُيوتِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكان في ذلك تعذُّرُ الوُصولِ إلى الماعونِ؛ بيَّن أنَّ ذلك غيرُ ممنوعٍ منه، فلْيُسألْ ولْيُطلَبْ مِن وراءِ حِجابٍ [1131] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/180). .
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
أي: وإذا سألْتُم أزواجَ رَسولِ اللهِ حاجةً تُريدونَها مِنهنَّ [1132] قال ابن عثيمين: (المرادُ بالمتاعِ: ما يُتمتَّعُ به مِن ملابسَ ومطاعمَ ومشاربَ وغيرِها، حتَّى الدَّراهمُ تُعتبرُ متاعًا، فكلُّ ما يُتمتعُ به فهو متاعٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 430). وقال القرطبي: (اختُلِفَ في المتاعِ؛ فقيل: ما يُتمتَّعُ به مِن العَواريِّ. وقيل: فتوى. وقيل: صُحُفُ القرآنِ. والصَّوابُ أنَّه عامٌّ في جميع ما يمكِنُ أن يُطلَبَ مِن المواعينِ وسائرِ المرافِقِ للدِّينِ والدُّنيا). ((تفسير القرطبي)) (14/227). وممَّن ذهب إلى هذا العمومِ في الجملةِ: ابنُ عطية، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/396)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/90). ، فكَلِّموهُنَّ مِن وراءِ سِترٍ بينَكم وبَينَهنَّ [1133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 871)، ((تفسير ابن عطية)) (4/396)، ((تفسير القرطبي)) (14/227)، ((تفسير ابن كثير)) (6/455)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/393)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/90، 91). قال ابنُ عاشور: (الحِجابُ: السِّترُ المُرخَى على بابِ البيتِ. وكانت السُّتورُ مُرخاةً على أبوابِ بُيوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشَّارعةِ إلى المسجِدِ، وقد ورد ما يُبيِّنُ ذلك في حديثِ الوفاةِ حينَ خرَج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على النَّاسِ وهم في الصَّلاةِ، فكشف السِّترَ ثمَّ أرخى السِّترَ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/91). وقال ابن عثيمين: (حِجابٌ، بمعنى: سِتْر. وكلمةُ مِنْ تدُلُّ على أنَّ هذا السِّترَ لا بُدَّ أن ينفصِلَ، وأنَّه غيرُ سَتْرِ الوَجهِ أو البَدنِ بالثيابِ، بل هو سِترٌ آخَرُ: حِجابٌ. وِحجابُ أمَّهاتِ المؤمِنينَ غيرُ حِجابِ نِساءِ المؤمنينَ؛ لأنَّ حِجابَ نِساءِ المؤمنينَ يَصِحُّ أن يكون متَّصِلًا بالبدنِ، كالخِمارِ والمِلْحَفةِ وما أشبَهَهما، أمَّا حجابُ أمَّهاتِ المؤمنينَ فإنَّه حِجابٌ آخَرُ منفَصِلٌ يحولُ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ رؤيةِ أمَّهاتِ المؤمنينَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 430). .
ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
أي: ذلك الأمرُ بسُؤالِهنَّ مِن وَراءِ حِجابٍ: أنقَى لقُلوبِكم وقُلوبِهنَّ مِن عوارِضِ النَّظَرِ، أو الخواطِرِ الَّتي تَعرِضُ للرِّجالِ في أمرِ النِّساءِ، وللنِّساءِ في أمرِ الرِّجالِ؛ وأَحرَى في السَّلامةِ مِن الرِّيبةِ ووَساوِسِ الشَّيطانِ [1134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166، 167)، ((تفسير القرطبي)) (14/228)، ((تفسير ابن جزي)) (2/157)، ((تفسير ابن كثير)) (6/455)، ((تفسير الإيجي)) (3/365)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/91). .
وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ
أي: وما ينبغي لكم -أيُّها المُسلِمونَ- أن تُؤذُوا رَسولَ اللهِ بأيِّ شَيءٍ مِن الأشياءِ [1135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/169)، ((الوسيط)) للواحدي (3/480)، ((تفسير الخازن)) (3/434)، ((تفسير أبي السعود)) (7/113)، ((تفسير الشوكاني)) (4/343). قال الشوكاني: (ومِن جملة ذلك: دُخولُ بُيوتِه بغيرِ إذْنٍ منه، واللُّبثُ فيها على غيرِ الوَجهِ الَّذي يريدُه، وتكليمُ نِسائِه مِن دونِ حِجابٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/343). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69] .
وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أي: ولا يَنبغي ولا يَحِلُّ لكم -أيُّها المُسلِمونَ- أن تَنكِحوا أزواجَ رَسولِ اللهِ مِن بَعدِه أبدًا [1136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/169)، ((تفسير السمرقندي)) (3/71)، ((تفسير القاسمي)) (8/100). قال ابنُ كثير: (أجمَع العُلَماءُ قاطِبةً على أنَّ مَن تُوُفِّيَ عنها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أزواجِه: أنَّه يَحرُمُ على غيرِه تزويجُها مِن بَعدِه؛ لأنَّهنَّ أزواجُه في الدُّنيا والآخرةِ، وأمَّهاتُ المؤمِنينَ). ((تفسير ابن كثير)) (6/455). وَقولُه تعالى: مِنْ بَعْدِهِ قيل: معناه: مِن بعدِ وفاتِه. وممَّن قال بهذا المعنى: السمرقندي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/71)، ((تفسير الشوكاني)) (4/343)، ((تفسير القاسمي)) (8/100). وقيل: المرادُ: مِن بعدِ مُفارقتِه لِمَن دخَل بها؛ إمَّا في حياتِه بطلاقِها، وإمَّا مُفارقتُه لها بموتِه. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي، والعُلَيمي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/394)، ((تفسير العليمي)) (5/385). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 434، 435). قال ابن كثير: (واختلَفوا فيمَن دخَل بها ثمَّ طلَّقها في حياتِه، هل يحِلُّ لغيرِه أن يَتزوَّجَها؟ على قولَينِ، مأخَذُهما: هل دخلتْ هذه في عمومِ قولِه: مِنْ بَعْدِهِ أمْ لا؟ فأمَّا مَن تزَوَّجها ثمَّ طلَّقها قبْلَ أن يَدخُلَ بها، فما نَعلَمُ في حِلِّها لغيرِه -والحالةُ هذه -نِزاعًا، والله أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/455). .
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا
أي: إنَّ أذيَّةَ رَسولِ اللهِ ونِكاحَ أزواجِه مِن بَعدِه: ذَنْبٌ عَظيمٌ عندَ اللهِ تعالى [1137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/170)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 871)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/618)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456). .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ قَولَه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ وَعيدٌ لِما تقدَّم التعَرُّضُ به في الآيةِ ممَّن أُشيرَ إليه بقَولِه: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ، ومَن أشيرَ إليه بقَولِه: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا، فقيل: إنْ تُبدوا شيئًا على ألسِنَتِكم أو تُخفُوه في صُدورِكم ممَّا يقَعُ عليه العِقابُ؛ فاللهُ يَعلَمُه، فيُجازي عليه [1138] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/501). .
وأيضًا فإنَّ هذا كلامٌ جامِعٌ تحريضًا وتحذيرًا، ومُنبِئٌ عن وَعدٍ ووَعيدٍ؛ فإنَّ ما قَبْلَه قد حوَى أمرًا ونهيًا، وإذ كان الامتِثالُ مُتفاوِتًا في الظَّاهِرِ والباطِنِ، وبخاصَّةٍ في النِّيَّاتِ والمُضمَراتِ؛ كان المقامُ مُناسِبًا لِتَنبيهِهم وتذكيرِهم بأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على كُلِّ حالٍ مِن أحوالِهم في ذلك، وعلى كلِّ شَيءٍ [1139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/95). .
وأيضًا لَمَّا كان بعضُ الدَّالِّ على الكلامِ أصرَحَ مِن بَعضٍ، فكان الإنسانُ قد يُضمِرُ أن يفعَلَ ما يؤذي إذا تمكَّن، وقد يُؤذي بفِعلٍ يَفعَلُه ويَدَّعي أنَّه قصَدَ شَيئًا آخَرَ مِمَّا لا يُؤذي؛ قال تعالى -حامِلًا لهم على التَّفَطُّنِ والتَّنَبُّهِ في الأقوالِ وغَيرِها، والمقاصِدِ الحَسَنةِ ظاهِرًا وباطِنًا، على طريقِ الاستِئنافِ في جوابِ مَن رُبَّما انتهَى بظاهِرِه، وهو عازِمٌ على أنْ يفعَلَ الأذَى عندَ التَّمَكُّنِ- [1140] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/402). :
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
أي: إن تُظهِروا أيَّ شَيءٍ أو تُخفُوه في قُلوبِكم، فإنَّ اللهَ عَليمٌ بذلك وبِغَيرِه، فلا يخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه، وسيُجازيكم على أعمالِكم الظَّاهِرةِ والخَفيَّةِ [1141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/171)، ((تفسير القرطبي)) (14/230)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/402)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/95)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 438). .
كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
وقال سُبحانَه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] .
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ أزواجَ النَّبيِّ -رَضِيَ اللهُ عنهنَّ- لا يُسألْنَ مَتاعًا إلَّا مِن وراءِ حِجابٍ، وكان اللَّفظُ عامًّا لكُلِّ أحدٍ، احتِيجَ أن يُستَثنى منه هؤلاء المذكورونَ مِن المحارِمِ، وأنَّه لا جُناحَ عليهنَّ في عدَمِ الاحتِجابِ عنهم [1142] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 671). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (25/180). .
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ
أي: لا إثمَ على أزواجِ النَّبيِّ في تَركِ الاحتِجابِ مِن آبائِهنَّ [1143] قال ابن عثيمين: (يَشملُ الأجدادَ مِن جهةِ الأبِ، ومِن جهةِ الأمِّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 449، 450). ، وأبنائِهنَّ [1144] يعني  أبناءَهنَّ مِن الصُّلبِ، وأبناءَهن مِن البطنِ، أي: أبناءَ الأبناءِ، وأبناءَ البناتِ، وإن نزلوا . يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب: 450). ، وإخوانِهنَّ [1145] سواء كانوا أشقاءَ أم لأبٍ أم لأمٍّ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 450). وقال ابنُ عثيمين: (الأخُ مِن الرَّضاعِ، وابنُ الأخِ مِن الرَّضاعِ، وما أشبهَ ذلك ما ذُكِر في هذه الآيةِ ... لكنَّه ذُكِر في قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «يحرمُ مِن الرضاعِ ما يحرمُ مِن النَّسبِ» [البخاري «2645» ومسلم «1447»]). ((المصدر السابق)) (ص: 451).   ، وأبناءِ إخوانِهنَّ، وأبناءِ أَخواتِهنَّ، ومِن نِسائِهنَّ [1146] قيل: المرادُ بهن: النِّساءُ المؤمِناتُ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والرسعني، وابن كثير، والبقاعي، والعليمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/173)، ((تفسير الرسعني)) (6/189)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/403)، ((تفسير العليمي)) (5/386)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/173). وقيل: المرادُ: جميعُ النِّساءِ، سواءٌ كُنَّ مُؤمناتٍ أو كافراتٍ؛ فالمرأةُ لا تحتَجِبُ مِن المرأةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عاشور، وذكره السعدي احتمالًا، ورجَّحه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 454). ويُنظر ما تقدم في تفسير سورة (النور) من ((التفسير المحرر)) (19/208). ، ومنِ أرِقَّائِهنَّ الذُّكورِ والإناثِ المملوكينَ لهُنَّ [1147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/171-174)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 872)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671). قال الماوَرْديُّ: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فيه قولان؛ أحدُهما: الإماءُ دونَ العَبيدِ، قاله سعيدُ ابنُ المُسَيِّبِ. الثَّاني: أنَّه عامٌّ في الإماءِ والعَبيدِ). ((تفسير الماوردي)) (4/420). ممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ جريرٍ، والبيضاويُّ، وابنُ كثيرٍ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والشَّوكانيُّ، والسعديُّ، ونسَبَه الواحديُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/174)، ((تفسير البيضاوي)) (4/237)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 559)، ((تفسير الشوكاني)) (4/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671)، ((البسيط)) للواحدي (18/288). وقال العُلَيمي: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِن الإماءِ، فلا يكونُ العبدُ مَحْرَمًا لِمَولاتِه). ((تفسير العليمي)) (5/386). ويُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة (النور) من ((التفسير المحرر)) (19/209). .
كما قال تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور: 31].
وَاتَّقِينَ اللَّهَ
أي: واتَّقِينَ -يا أزواجَ النَّبيِّ- سَخَطَ اللهِ وغَضَبَه وعَذابَه في جميعِ أحوالِكنَّ في الخَلوةِ والعَلانِيةِ؛ وذلك بامتِثالِ ما أمَرَكنَّ اللهُ به مِن الحِجابِ وغَيرِه، والانتِهاءِ عمَّا نهاكُنَّ عنه [1148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/174)، ((تفسير القرطبي)) (14/231)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671). .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
أي: إنَّ اللهَ شاهِدٌ على كُلِّ شَيءٍ، لا تخفَى عليه خافيةٌ؛ فاتَّقِينَ اللهَ وراقِبْنَه [1149] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/174)، ((تفسير ابن كثير)) (6/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 671). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ قال إسماعيلُ بنُ أبي حكيمٍ لما قُرِئتْ بينَ يَدَيْه هذه الآيةُ: (هذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ به الثُّقَلاءَ) [1150] يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/59). .
2- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا دَليلٌ على أنَّ التَّحَيُّنَ لطَعامِ مَن لم يَدْعُ إليه مَنهيٌّ عنه [1151] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/677). واستُدِلَّ به على تحريمِ التَّطَفُّلِ -وهذا على أحدِ الأقوالِ في تفسيرِ الآيةِ-؛ لأنَّ الطُّفَيليَّ عادتُه أنَّه يَنتَظرُ متى يُقَدَّمُ الطَّعامُ، فإذا قُدِّمَ الطَّعامُ استأذنَ، أو هَجَمَ هجومًا بدونِ استئذانٍ؛ لأنَّه قبْلَ أن يَنضَجَ الطَّعامُ ويُقَدَّمَ يمكِنُ أن يَدخُلَ ثمَّ يُقالَ له: اخرُجْ، لكنْ بعدَ أنْ يُقَدَّمَ الطَّعامُ لا بُدَّ أنْ يأكُلَ [1152] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 438). ويُنظر أيضا: ((تفسير ابن كثير)) (6/454). !
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أنَّ الإنسانَ ينبغي له إذا قَضَى حاجتَه مِن الطَّعامِ أنْ يَنصَرِفَ، وهذا كما أنَّه في بُيوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو أيضًا في بُيوتِ غيرِه؛ فإنَّ الأفضلَ لِمَن دُعِيَ إلى طَعامٍ أنَّه إذا طَعِمَ أنْ يَنتَشِرَ؛ لأنَّ بقاءَه قد يَشُقُّ على صاحِبِ البيتِ، ولأنَّ الحاجةَ الَّتي جاء مِن أجْلِها قد انتَهَت -إلَّا إذا رغِب صاحبُ البَيتِ في جلوسِه-، وإذا تأمَّلْتَ الشَّريعةَ وجَدْتَ أنَّ الإنسانَ مِن حُسْنِ أدَبِه وسُلوكِه أنَّه إذا فَرَغَ مِن حاجةٍ أرادَها انصرَف إلى غيرِها؛ ولهذا قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في المسافرِ: ((فإذا قضَى نَهْمَتَه [1153] نَهْمَتَه: أي: رَغبَتَه وشَهوتَه وحاجتَه. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/281). ؛ فلْيَعْجَلْ [1154] فليعجَلْ: أي: فلْيُبادِرْ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (6/2514). إلى أهلِه)) [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 438). والحديث أخرجه البخاري (1804) واللفظ له، ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
4- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ فيه أنَّه كُلَّما بَعُدَ الإنسانُ عن الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى الشَّرِّ، فإنَّه أسلَمُ له وأطهَرُ لقَلبِه؛ فلهذا مِن الأمورِ الشَّرعيَّةِ الَّتي بيَّنَ اللهُ كثيرًا مِن تفاصيلِها: أنَّ جميعَ وسائِلِ الشَّرِّ وأسبابِه ومُقَدِّماتِه: ممنوعةٌ، وأنَّه مَشروعٌ البُعدُ عنها بكُلِّ طَريقٍ [1156] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 670). .
5- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أنَّه يجبُ على المرءِ أنْ يَسعَى في كلِّ ما فيه تطهيرُ قلبِه، وأنْ يبتعدَ عن كلِّ ما فيه تدنيسُ قلبِه؛ لأنَّه عَلَّلَ الأمرَ بالحِجابِ لِكَونِه أطهرَ للقلوبِ، ولا فرقَ في ذلك بينَ طهارةِ القلبِ مِن الأخلاقِ الرَّذيلةِ كالزِّنا واللِّواطِ، أو طَهارتِه مِن الاعتقاداتِ الفاسدةِ أو الإراداتِ السَّيِّئةِ؛ فكلُّ هذا يجِبُ على المرءِ أنْ يُطَهِّرَ قلبَه منه، وإذا أوجَبَ اللهُ تعالى في ذلك العَصْرِ ما يكونُ سببًا لكَمالِ طَهارةِ القلوبِ، ففي عَصرِنا مِن بابِ أَولى؛ فكلُّ ما يكونُ سببًا لطهارةِ القلوبِ وبُعْدِها عن دَناءةِ الأخلاقِ، فإنَّه يكونُ واجِبًا [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 443، 447). .
6- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا تحذيرُ المُكَلَّفِ مِن مُخالَفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بقَليلٍ أو كثيرٍ؛ لأنَّ الفائدةَ مِن ذِكرِ عِلْمِه التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 447). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أي: لا يغيبُ عنه شَيءٌ وإنْ دقَّ، فهو مُطَّلِعٌ عليكُنَّ حالَ الخَلوةِ بمَنْ ذُكِر، كما هو مُطَّلِعٌ على غيرِ ذلك، فلْيَحْذَرْه كلُّ أحدٍ في حالِ الخَلْوةِ، كما يَحذَرُه في حالِ الجلوةِ [1159] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/404). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ أنَّ الإذنَ بالدُّخولِ مُعتبَرٌ سواءٌ كان مِن صاحبِ البيتِ أو ممَّن أنابَه، ولذلك لم يَقُلْ: «إلَّا أنْ يَأْذَنَ لكم» أي: النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم [1160] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 437). . ولا يُشترَطُ في الإذنِ التَّصريحُ به، بلْ إذا حصَلَ العِلمُ بالرِّضا جازَ الدُّخولُ؛ ولهذا قال: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ من غيرِ بيانِ فاعِلٍ، وكذلك إذا احتاجَ إلى إطفاءِ حريقٍ فيها أو غيرِ ذلك، جازَ الدُّخولُ [1161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/179، 180). .
2- حالُ الأمَّةِ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على وَجهَينِ:
أحدُهما: في حالِ الخَلْوةِ، والواجِبُ هناك عدَمُ إزعاجِه، وبيَّن ذلك بقَولِه تعالى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ....
وثانيهما: في الملأِ، والواجِبُ هناك إظهارُ التَّعظيمِ، كما قال تعالى: وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [1162] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/178). [الأحزاب: 56] .
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ تخصيصُ الطَّعامِ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نَفيِ ما عداه، لاسيَّما إذا عُلِمَ أنَّ غَيرَه مِثلُه؛ فإنَّ مَن جاز دُخولُ بيتِه بإذْنِه إلى طعامِه، جاز دُخولُه إلى غيرِ طعامِه بإذْنِه؛ فإنَّ غيرَ الطَّعامِ مُمكِنٌ وُجودُه مع الطَّعامِ، فإنَّ مِن الجائزِ أن يتكلَّمَ معه وقتَ ما يدعوه إلى طَعامٍ، ويَستَقضيه في حوائِجِه، ويُعلِّمُه مِمَّا عندَه مِن العُلومِ، مع زيادةِ الإطعامِ، فإذا رَضِيَ بالكُلِّ فرِضاه بالبَعضِ أقرَبُ إلى الفِعلِ، فيصيرُ مِن بابِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [1163] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/178). [الإسراء: 23] .
4- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ فيه دليلٌ على أنَّ طَعامَ الوَليمةِ وطَعامَ الضِّيافةِ مِلكٌ للمُتَضيِّفِ، وليس مِلكًا للمَدْعُوِّينَ ولا للأضيافِ؛ لأنَّهم إنَّما أُذِنَ لهم في الأكلِ منه خاصَّةً، ولم يَملِكوه؛ فلذلك لا يجوزُ لأحدٍ رَفعُ شَيءٍ مِن ذلك الطَّعامِ معه [1164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/85). .
5- في قَولِه تعالى: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا مَشروعيَّةُ إجابةِ الدَّعوةِ، ويُستفادُ منه دُخولُ الإنسانِ المَدْعُوِّ وإنْ لم يُؤذَنْ له إذا وَجَدَ البابَ على هيئةٍ تدُلُّ على الإذنِ، فلم يَقُلْ: «إذا دُعيتُم فأجيبوا»، والدُّخولُ أخَصُّ [1165] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 438). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فيه دليلٌ على أنَّ سُكوتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الفِعلِ الواقعِ بحَضرتِه إذا كان تعَدِّيًا على حَقٍّ لِذَاتِه: لا يدُلُّ سُكوتُه فيه على جَوازِ الفِعلِ؛ لأنَّ له أن يُسامِحَ في حَقِّه، ولكِنْ يُؤخَذُ الحَظْرُ أو الإباحةُ في مِثلِه مِن أدِلَّةٍ أخرى [1166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/87). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كغيرِه مِن البشَرِ يَتأذَّى كما يتأذَّى غيرُه، لكنَّه يَختلِفُ عن غيرِه في قوَّةِ صبرِه وتحمُّلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولهذا كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يتأذَّى مِن بقائِهم مُسْتأنِسينَ لحديثٍ، ولا يَنهاهم حتَّى نهاهم اللهُ عزَّ وجلَّ، وهو أيضًا دليلٌ على كَرَمِه؛ لأنَّ الكريمَ يَستَحْيي أنْ يُخجِلَ أضيافَه بقوله: اخرُجوا! أو يُخجِلَهم بالتَّبَرُّمِ منهم، والتَّكَرُّهِ لتصَرُّفِهم [1167] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 440). .
8- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وصْفُ اللهِ تعالى بالحياءِ؛ وجْهُ الدَّلالةِ أنَّه لو كان اللهُ سُبحانَه وتعالى لا يُوْصَفُ بالحياءِ ما صَحَّ أنْ يُنفَى عنه الحَياءُ في حالٍ مِن الأحوالِ دونَ الحالِ الأخرى! وعلى هذا فتكونُ الآيةُ دليلًا على أنَّ اللهَ تعالى مَوصوفٌ بالحياءِ، ولكنَّ حياءَ اللهِ تعالى ليس كحياءِ الإنسانِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ في كتابِه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [1168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 442). [الشورى: 11] .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فيه جوازُ سَماعِ كلامِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومُخاطَبتِهنَّ [1169] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 213). ، ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى أباحَ سؤالَهنَّ، والسُّؤالُ هنا ليس فقط سؤالَ استِجداءٍ، ولكنْ سؤالُ العِلمِ مِن بابِ أَولى [1170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 442). .
10- في قَولِه تعالى: فَاسْأَلُوهُنَّ جوازُ مُكالَمةِ النِّساءِ غيرِ زَوجاتِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّه إذا جاز في زَوجاتِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -مع ما لهُنَّ مِن الاحترامِ والتَّعظيمِ- ففي غيرِهنَّ مِن بابِ أَولى، ولكِنَّه يُشترَطُ في ذلك الأمنُ مِن الفِتنةِ، فإنْ خِيفَتِ الفِتنةُ مِن المُكَلِّمِ أو مِن المرأةِ كان ذلك حَرامًا، وكذلك يُشترَطُ ألَّا يتمتَّعَ الإنسانُ بمكالَمةِ المرأةِ، وإنْ لم يَكُنْ تَمتُّعَ شَهوةٍ، وذلك بأن يُحِبُّ أنْ يَستمِرَّ معها في الكَلامِ، فهذا أيضًا لا يجوزُ، اللَّهمَّ إلَّا إذا كانت مِن مَحارِمِه، وأرادَ أن يتحدَّثَ معها؛ ليُؤْنِسَها أو يَستأنِسَ بها؛ فهذا لا بأسَ به [1171] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 443). .
11- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ، وقَولِه سُبحانَه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ ثُبوتُ تعليلِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، ومِن فوائدِ قَرْنِ الأحكامِ بحِكَمِها: طُمأنينةُ الإنسانِ للحُكمِ، وبيانُ سُمُوِّ الشَّريعةِ، وأنَّ أحكامَها ليست لهوًا ولا باطلًا، وإلحاقُ ما وافقَ الحُكمَ في عِلَّتِه بحُكْمِه؛ يعني: نُلحِقُ بهذا الحُكمِ ما وافقَه في تلك العِلَّةِ [1172] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 443، 447). .
12- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ تَشَوُّفُ الشَّرعِ إلى ما يكونُ سَببًا لطَهارةِ القُلوبِ [1173] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 447). .
13- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا فيه تحريمُ أذاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجميعِ وُجوهِ الأذَى [1174] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 213). .
14- قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ذكَّرهم بالوَصفِ الَّذي هو سَببٌ لسعادتِهم، واستحقَّ به عليهم مِن الحَقِّ ما لا يَقدِرونَ على القيامِ بشُكرِه، فقال: رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلَهُ إليكم مِن الإحسانِ ما يَستوجِبُ منكم به غايةَ الإكرامِ والإجلالِ، فضلًا عن الكَفِّ عن الأذى [1175] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/393، 394). !
15- في قَولِه تعالى: وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا تحريمُ نِكاحِ زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَه، وأنَّ التَّحريمَ فيهنَّ مُؤَبَّدٌ، وعلى هذا فالمُحَرَّماتُ إلى الأبدِ: مُحَرَّماتٌ بالنَّسَبِ، وبالرَّضَاعِ، وبالصِّهْرِ، وبالمُلاعَنةِ، وبالاحترامِ. فهذه خمسةُ أنواعٍ [1176] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 444). .
16- في قَولِه تعالى: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا أنَّ الذُّنوبَ تَتفاوَتُ في العِظَمِ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 445). .
17- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا الرَّدُّ على غُلاةِ القَدَرِيَّةِ المنكِرينَ لعِلمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بأفعالِ العبدِ؛ إذْ إنَّ قولَه: بِكُلِّ شَيْءٍ يَشملُ ما سيَفعَلُه الإنسانُ وما قد فَعَلَه [1178] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 448). .
18- قال تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ هؤلاء المذكورونَ مُحَرَّمونَ في النِّكاحِ فهم مَحارِمُ، فالقاعِدةُ: «كُلُّ مَن يَحرُمُ في النِّكاحِ تحريمًا مؤبَّدًا فهو مَحرَمٌ»، وعلى هذا فقَولُه تعالَى: وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ليسوا بمحارِمَ؛ لأنَّ التَّحريمَ إلى أمَدٍ [1179] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 456). .
19- قَولُ الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا لم يَذكُرِ اللهُ مِن المحارِمِ الأعمامَ والأخوالَ، فلم يَقُلْ: (ولا أعمامِهنَّ ولا أخوالِهنَّ)؛ لوجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لم يُذكَرْ هنا مِن أصنافِ الأقرباءِ الأعمامُ ولا الأخوالُ؛ لأنَّهم بمَنزلةِ الوالدَينِ [1180] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/96). ، وقد يُسمَّى العَمُّ أبًا [1181] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/231). .
الوجهُ الثَّاني: أنَّ ذلك عُلِمَ مِن بني الإخوةِ وبني الأخَواتِ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ بني الأخِ للعَمَّاتِ محارِمُ، عَلِمَ أنَّ بناتِ الأخِ للأعمامِ محارِمُ، وكذلك الحالُ في أمرِ الخالِ [1182] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/181). وذكر الرازي أيضًا أنَّ الأعمامَ رُبَّما يَذكُرونَ بناتِ الأخِ عندَ أبنائِهم، وهم غيرُ محارِمَ، وكذلك الحالُ في الخالِ. قال ابن عثيمين بعد أن ذكَرَ هذا الوجهَ: (فلمَّا كان يُخشى أنَّ العَمَّ والخالَ يَصِفُ [أحَدُهما] المرأةَ لابنِه، لم يُذكَرا؛ للتَّحَرُّزِ لا لمخالفةِ الحُكمِ، وهذا التَّعليلُ له بعضُ الوجهِ، والله أعلمُ بما أراد... ولا شَكَّ أنَّ قوَّةَ المَحْرَميَّةِ في العَمِّ والخالِ أضعَفُ مِن قوَّتِها فيمَن عداهم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 451). قال الشوكاني: (وقال الزَّجَّاجُ: العَمُّ والخالُ رُبَّما يَصِفانِ المرأةَ لولَدَيهما؛ فإنَّ المرأةَ تحِلُّ لابنِ العَمِّ وابنِ الخالِ، فكُرِه لهما الرُّؤيةُ، وهذا ضعيفٌ جدًّا؛ فإنَّ تجويزَ وَصفِ المرأةِ لِمَن تحِلُّ له ممكِنٌ مِن غيرِهما ممَّن يجوزُ له النَّظَرُ إليها، لا سيَّما أبناءُ الإخوةِ وأبناءُ الأخواتِ، واللَّازِمُ باطِلٌ فالملزومُ مِثلُه، وهكذا يستلزِمُ ألَّا يجوزَ للنِّساءِ الأجنبيَّاتِ أن ينظُرْنَ إليها؛ لأنَّهنَّ يَصِفْنها، واللَّازِمُ باطِلٌ فالملزومُ مِثلُه، وهكذا لا وَجْهَ لِما قاله الشَّعْبيُّ وعِكْرِمةُ مِن أنَّه للمرأةِ أن تضَعَ خِمارَها عند عَمِّها أو خالِها). ((تفسير الشوكاني)) (4/343). ، فإذا لم يحتجِبْنَ عمَّن هنَّ عماتُه ولا خالاتُه، مِن أبناءِ الإخوةِ والأخواتِ، مع رفعتِهنَّ عليهم، فعدَمُ احتجابهنَّ عن أعمامِهنَّ وأخوالِهنَّ مِن بابِ أولَى [1183] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 671). .
الوجه الثالث: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى اقَتصَرَ هاهنا على بَعضِ ما ذكَرَه مِن المحارِمِ في سُورةِ «النورِ»؛ اكتِفاءً بما تقدَّم [1184] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/343). .
20- قَولُ الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا لم يَذكُرْ قَرابةَ الرَّضاعةِ؛ لأنَّها مَعلومةٌ مِن السُّنَّةِ، فأُريدَ الاختِصارُ هنا [1185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/96). .
21- قَولُ الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فيه إباحةُ نظَرِ مَحارِمِهنَّ إليهنَّ [1186] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 213). .
22- في قَولِه تعالى: وَلَا نِسَائِهِنَّ أنَّه لا يجبُ على المرأةِ أنْ تَحتَجِبَ عن المرأةِ [1187] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 457). ، وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ بـ نِسَائِهِنَّ: جميعُ النِّساءِ. أمَّا إذا كان المرادُ: المؤمِناتِ فقط؛ فلا يجوزُ لهنَّ التكشُّفُ للكافِراتِ [1188] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/181). .
23- في قَولِه تعالى: وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أنَّه لا يجبُ الاحتِجابُ عن مِلكِ اليمينِ، وهو ما مَلَكَتْه المرأةُ مِلْكًا تامًّا، لا مِلْكًا مُشتركًا، فلو كان عبدٌ بيْنَ امرأتَينِ؛ فإنَّهما يَحتجِبان منه؛ وذلك لأنَّه ليس مِلْكًا لإحداهما، بل مِلْكٌ لهما جميعًا [1189] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 455). .
24- في قَولِه تعالَى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا إثباتُ اسمِ الشَّهيدِ للهِ تعالَى، ومعناه: الحاضِرُ الذي لا يَغيبُ؛ المُطَّلِعُ علَى جميعِ الأشياءِ يُشاهِدُها ويراها، المحيطُ عِلمُه بكُلِّ شيءٍ؛ فمعَ أنه في السَّماءِ على عرْشِه، فهو مُطَّلِعٌ سُبحانَه على خلْقِه، لا يَخفَى عليه شَيءٌ [1190] يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/179)، ((تفسير السعدي)) (5/303)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 457)، ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) للسقاف (ص: 233، 234). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ... كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في بَيانِ ما يجِبُ على النَّاسِ مِن رِعايةِ حُقوقِ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بعدَ بَيانِ ما يجِبُ مُراعاتُه عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الحُقوقِ المُتعلِّقةِ بِهنَّ [1191] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/112)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/40). .
- قولُه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا كُنِّيَ بالانتِظارِ عن مُبادرةِ الحُضورِ قبْلَ إبَّانِ (وقتِ) الأكْلِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، ونُكتةُ هذه الكِنايةِ تَشويهُ السَّبقِ بالحُضورِ بجَعْلِه نَهَمًا وجَشَعًا وإنْ كانوا قد يَحضُرون لِغَيرِ ذلك، وبهذا تَعلَمُ أنْ ليس النَّهيُ مُتوجِّهًا إلى صَريحِ الانتظارِ [1192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). .
 - وقولُه: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استِدراكٌ من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغَيرِ إذنٍ، وفيه دَلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المُرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليه، ومَوقعُ الاستِدراكِ لِرَفعِ تَوهُّمِ أنَّ التَّأخُّرَ عن إبَّانِ الطِّعامِ أفضَلُ؛ فأرشَدَ النَّاسَ إلى أنَّ تَأخُّرَ الحُضورِ عن إبَّانِ الطَّعامِ لا يَنْبغي، وكذلك البقاءُ بعدَ انقضاءِ الطَّعامِ؛ فإنَّه تَجاوُزٌ لِحَدِّ الدَّعوةِ [1193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). .
- قولُه: وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ فيه زِيادةُ حَرْفِ النَّفيِ (لا) قبْلَ مُسْتَأْنِسِينَ؛ لِتَأْكيدِ النَّفيِ [1194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/83). .
- وجُملةُ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ استِئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّحذيرِ، ودَفْعِ الاغترارِ بسُكوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحسَبوه رَضِيَ بما فَعَلوا؛ فمَناطُ التَّحذيرِ قولُه: ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ؛ فإنَّ أذى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُقرَّرٌ في نُفوسِهم أنَّه عمَلٌ مَذمومٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أعَزُّ خَلْقٍ في نُفوسِ المؤمنينَ، وذلك يَقْتضي التَّحرُّزَ ممَّا يُؤذِيه أدْنى أذًى، ومَناطُ دَفْعِ الاغترارِ قولُه: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ؛ فإنَّ السُّكوتَ قد يَظُنُّه النَّاسُ رِضًا وإذنًا، ورُبَّما تَطرَّقَ إلى أذهانِ بعضِهم أنَّ جُلوسَهم لو كان مَحظورًا لَمَا سكَتَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأرْشَدَهم اللهُ إلى أنَّ السُّكوتَ النَّاشئَ عن سَببٍ هو سُكوتٌ لا دَلالةَ له على الرِّضا، وأنَّه إنَّما سكَتَ حياءً مِن مُباشَرتِهم بالإخراجِ؛ فهو استحياءٌ خاصٌّ مِن عمَلٍ خاصٍّ [1195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/85، 86). .
- واقتِرانُ الجملةِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به. أو هو مِن تَنزيلِ غيرِ المُتردِّدِ مَنزلةَ المُتردِّدِ؛ لأنَّ حالَ النَّفرِ الَّذين أطالُوا الجُلوسَ والحديثَ في بَيتِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وعَدَمَ شُعورِهم بكَراهيَّتِه ذلك منهم حِينَ دخَلَ البيتَ، فلمَّا وجَدَهم خرَجَ، فغَفَلوا عمَّا في خُروجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن البَيتِ مِن إشارةٍ إلى كَراهيَّتِه بَقاءَهم؛ تلك حالةُ مَن يَظُنُّ ذلك مَأْذونًا فيه؛ فخُوطِبوا بهذا الخِطابِ تَشديدًا في التَّحذيرِ، واستِفاقةً مِن التَّغريرِ. وإقحامُ فِعلِ كَانَ في قولِه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ؛ لإفادةِ تَحقيقِ الخبَرِ [1196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/86). .
- وصِيغَ يُؤْذِي بصِيغةِ المُضارعِ دونَ اسمِ الفاعلِ (مُؤذِيًا)؛ لِقَصْدِ إفادةِ أذًى مُتكرِّرٍ، والتَّكريرُ كِنايةٌ عن الشِّدَّةِ. وصِيغَ فِعلُ فَيَسْتَحْيِي بصِيغةِ المُضارعِ؛ لأنَّه مُفرَّعٌ على يُؤْذِي النَّبِيَّ؛ لِيَدُلَّ على ما دلَّ عليه المُفرَّعُ هو عليه [1197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/87). .
- قولُه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ أعاد الاسمَ الظَّاهرَ في موضعِ الضَّميرِ، وإلَّا فكان المتوقَّعُ أنْ يقولَ: «إنَّ ذلكم كان يُؤْذيه»! ولكنْ قال تعالى: يُؤْذِي النَّبِيَّ؛ إعلاءً لشأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وإشارةً إلى أنَّه -لنُبُوَّتِه- يجبُ أنْ يَتحاشَى المرءُ أَذِيَّتَه؛ لِمَا له مِن الفضلِ [1198] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 422). .
- وصِيغَتْ الجُملةُ المعطوفةُ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ على بِناءِ الجُملةِ الاسميَّةِ مُخالِفةً للمَعطوفةِ هي عليها، فلم يَقُلْ: (ولا يَسْتحيي اللهُ مِن الحقِّ)؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الوصْفَ ثابتٌ دائمٌ للهِ تعالى؛ لأنَّ الحقَّ مِن صِفاتِه. والتَّعريفُ في الْحَقِّ تَعريفُ الجِنسِ المُرادِ منه الاستغراقُ، والمعنى: واللهُ لا يَستَحْيي مِن جَميعِ أفرادِ جِنسِ الحقِّ، وبهذا العُمومِ في الْحَقِّ صارتِ الجُملةُ بمَنزلةِ التَّذييلِ [1199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/88). .
- وأيضًا في وَضْعِ الْحَقِّ مَقامَ الإخراجِ -حيثُ لم يقلْ: (واللهُ لا يَسْتَحيي مِن إخراجِكم)- إيذانٌ بتَعظيمِ جانبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1200] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/470). .
- وقولُه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ عَطْفٌ على جُملةِ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ؛ فهي زِيادةُ بَيانٍ للنَّهيِ عن دُخولِ البيوتِ النَّبويَّةِ، وتَحديدٌ لِمِقدارِ الضَّرورةِ الَّتي تَدْعو إلى دُخولِها، أو الوقوفِ بأبوابِها [1201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/90). .
- قولُه: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ اسمُ التَّفضيلِ أَطْهَرُ مُستعمَلٌ للزِّيادةِ دونَ التَّفضيلِ، وهي زِيادةُ تَقريرِ مَعنى أُمومتِهنَّ للمؤمنينَ في قُلوبِ المؤمنينَ الَّتي هي أُمومةٌ جَعليَّةٌ شَرعيَّةٌ [1202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/90 91). .
- ودلَّ قولُه: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا على الحظْرِ المُؤكِّدِ لِعُمومِ أذيَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ جُملةَ وَمَا كَانَ لَكُمْ نَفيٌ للاستِحقاقِ الَّذي دلَّتْ عليه اللَّامُ، وإقحامُ فِعلِ (كان)؛ لِتَأكيدِ انتفاءِ الإذْنِ، وهذه الصِّيغةُ مِن صِيَغِ شِدَّةِ التَّحريمِ [1203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/92). .
- والتَّعبيرُ عنه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بعُنوانِ الرِّسالةِ في قولِه: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا؛ لِتَقبيحِ ذلك الفِعلِ، والإشارةِ إلى أنَّه بمراحِلَ عمَّا يقتضيه شأنُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ في الرِّسالةِ مِن نَفعِهم المُقتَضي للمُقابَلةِ بالمِثلِ دونَ الإيذاءِ: ما فيها [1204] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/248). .
- وفي قولِه: وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا أُكِّدَ الظرْفُ (بعد) بإدخالِ (مِن) الزَّائدةِ عليه، ثمَّ أُكِّدَ عُمومُه بظَرْفِ أَبَدًا؛ لِيُعلَمَ أنَّ ذلك لا يَتطرَّقُه النَّسخُ، ثمَّ زِيدَ ذلك تأْكيدًا وتَحذيرًا بقولِه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا؛ فهو استِئنافٌ مُؤكِّدٌ لِمَضمونِ جُملةِ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [1205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/94). .
- قولُه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا الإشارةُ بـ ذَلِكُمْ إلى ما ذُكِرَ مِن إيذائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونِكاحِ أزواجهِ مِن بَعدِه. وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِه في الشَّرِّ والفَسادِ. وتَقييدُ العظيمِ بكَونِه عِنْدَ اللَّهِ؛ للتَّهويلِ والتَّخويفِ؛ لأنَّه عظيمٌ في الشَّناعةِ [1206] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/556)، ((تفسير البيضاوي)) (4/237)، ((تفسير أبي السعود)) (7/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/94). .
2- قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
- هذه الجُملةُ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا تَذييلٌ؛ لِمَا اشتمَلَتْ عليه مِن العُمومِ في قولِه: بِكُلِّ شَيْءٍ، والمُرادُ مِن كلِمةِ شَيْئًا الدَّلالةُ على العُمومِ لكلِّ ما يَبْدو وما يَخْفَى، وأنَّ اللهَ يَعلَمُه. وفي هذا التَّعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مَزيدُ تَهويلٍ، وتَشديدٌ، ومُبالَغةٌ في الوعيدِ [1207] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/237)، ((تفسير أبي السعود)) (7/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/95). .
- وإظهارُ لَفظِ (شَيْءٍ) هنا دونَ إضْمارِه -حيثُ لم يقلْ: (إنْ تُبْدُوه)-؛ لأنَّ الإضمارَ لا يَستقيمُ؛ لأنَّ (الشَّيءَ) المذكورَ ثانيًا هو غيرُ المذكورِ أوَّلًا؛ إذ المرادُ بالثَّاني جميعُ الموجوداتِ، والمرادُ بالأوَّلِ خُصوصُ أحوالِ النَّاسِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، فاللهُ عليمٌ بكلِّ كائنٍ، ومِن جُملةِ ذلك: ما يُبْدونه ويُخْفونه مِن أحوالِهم [1208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/95). .
3- قوله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
- قولُه: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ ... استِئنافٌ لِبَيانِ مَن لا يَجِبُ الاحتِجابُ عنهم [1209] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/95). .
- والمَجرورُ فِي آَبَائِهِنَّ مُقدَّرٌ فيه مُضافٌ، تَقديرُه: لا جُناحَ عليهنَّ في رُؤيةِ آبائِهنَّ إيَّاهنَّ، وإنَّما رُجِّحَ جانبُهنَّ هنا؛ لأنَّه في معنى الإذنِ؛ لأنَّ الرِّجالَ مأْمورونَ بالاستئذانِ كما اقتَضَتْه آيةُ سُورةِ (النُّورِ): وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 59] ، والإذنُ يَصدُرُ منهنَّ؛ فلذلك رُجِّحَ هنا جانبُهنَّ، فأُضِيفَ الحُكمُ إليهنَّ [1210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/96). ؛ إذ لا يُتصَوَّرُ الدُّخولُ عليهن إلَّا بإذْنِهنَّ، فالحرَجُ فيه وعدمُه مَصروفٌ لهنَّ؛ فلذلك نفَى عنهُنَّ الجُناحَ فيه [1211] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/307). .
- وقدَّم اللهُ تعالى الآباءَ؛ لأنَّ اطِّلاعَهم على بناتِهنَّ أكثرُ، ثمَّ الأبناءَ ثمَّ الإخوةَ، وذلك ظاهرٌ. وقدَّم بَني الإخوةِ على بني الأخَواتِ قيل: لأنَّ بني الأخَواتِ آباؤُهم ليسوا بمحارِمَ، إنَّما هم أزواجُ خالاتِ أبنائِهم، وبني الإخوةِ آباؤُهم محارِمُ أيضًا؛ ففي بني الأخَواتِ مَفسَدةٌ ما، وهي: أنَّ الابنَ رُبَّما يحكي خالتَه عندَ أبيه، وهو ليس بمَحْرمٍ، ولا كذلك بنو الإخوةِ [1212] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/181). .
- والْتُفِتَ مِن الغَيبةِ إلى خِطابِهنَّ في قولِه: وَاتَّقِينَ اللَّهَ؛ لِتَشريفِ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَوجيهِ الخِطابِ الإلهيِّ إليهنَّ. وفي الكلامِ حَذْفٌ، والتقديرُ: واتَّقِينَ اللهَ فيما أُمِرْتُنَّ به مِن الاحتِجابِ والاستتارِ [1213] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/502)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/96). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا الشَّهيدُ: الشَّاهدُ؛ مُبالَغةً في الفِعلِ، وفيه وَعيدٌ مِن اللهِ لِمَن خالَفَ ما أُمِرَ به [1214] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/502)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/96). .