موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (50-52)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ: أي: رجَعَه ورَدَّه إليك مِن الكُفَّارِ بأن سَبَيْتَه ومَلَكْتَه، والفَيءُ هو: ما ناله المُسلِمونَ مِن العَدُوِّ بغيرِ قِتالٍ، وأصلُ (فيأ): يدُلُّ على الرُّجوعِ [994] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/435)، ((المفردات)) للراغب (ص: 650)، ((تفسير القرطبي)) (14/207)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 155). .
تُرْجِي: أي: تُؤخِّرُ، وأصلُ (رجأ): يدُلُّ على التَّأخيرِ [995] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 351)، ((تفسير ابن جرير)) (10/349)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/495)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 302)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317). .
وَتُؤْوِي: أي: تَضُمُّ، وأصلُ (أوي): يدُلُّ على تجَمُّعٍ [996] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 351)، ((تفسير ابن جرير)) (19/138)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 165)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/151)، ((المفردات)) للراغب (ص: 103). .
عَزَلْتَ: أي: تَركْتَ وأخَّرْتَ، وأصلُ (عزل): يدُلُّ على تَنحيةٍ وإمالةٍ [997] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/307)، ((تفسير القرطبي)) (14/215)، ((تفسير ابن كثير)) (6/446). .
أَدْنَى: أي: أقرَبُ، وأصلُ الدُّنوِّ: القُربُ [998] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/145)، ((المفردات)) للراغب (ص: 318)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 40، 303)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ: أي: تَطِيبُ نَفْوسُهُنَّ، قيل: أصلُه مِن القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينُه، قيل: معناه: بردَتْ فصحَّتْ، وقيل: بل لأنَّ للسُّرورِ دمعةً باردةً قارَّةً، وقيل: هو مِن القرارِ [999] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((المفردات)) للراغب (ص: 663)، ((تفسير القرطبي)) (14/216)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 326)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 733، 739). .
رَقِيبًا: أي: حافظًا، عالِمًا، مُطَّلِعًا، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتِصابٍ لمُراعاةِ شَيءٍ [1000] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/236)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا جانبًا مِن مظاهرِ فضلِه على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ وتكريمِه له: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أحلَلْنا لك أزواجَك اللَّاتي آتيتَهنَّ مُهورَهنَّ، وما ملَكَت يمينُك مِمَّا نِلْتَه مِن الكُفَّارِ، وبناتِ عَمِّك وبناتِ عمَّاتِك، وبناتِ خالِك وبناتِ خالاتِك؛ اللَّاتي هاجَرْنَ معك مِن مكَّةَ إلى المدينةِ، وامرأةً مُؤمِنةً إنْ وهَبَت نفْسَها لك لِتتزَوَّجَها بغيرِ مَهرٍ، فقبِلْتَ الزَّواجَ بها، وذلك خاصٌّ بك، ولا يحِلُّ ذلك لأحدٍ مِن أُمَّتِك؛ فليس لغيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَستبيحَ وَطْءَ امرأةٍ بلَفظِ الهِبةِ مِن غَيرِ وَليٍّ ولا مَهرٍ.
قد عَلِمْنا ما أوجَبْنا على المؤمِنينَ في الزَّواجِ مِن الأحكامِ: ألَّا يتزوَّجوا أكثَرَ مِن أربَعٍ، ولا يتزوَّجوا إلَّا بوليٍّ وشُهودٍ ومَهرٍ، ولهم مِلكُ ما شاؤوا مِنَ الإماءِ.
وسَّعْنا عليك في أمرِ الزَّواجِ بالنِّساءِ -يا محمَّدُ- لكيلا يكونَ عليك إثمٌ وضِيقٌ في نِكاحِهنَّ، وكان اللهُ غَفورًا رحيمًا.
 تُؤخِّرُ -يا محمَّدُ- مَن أُحِلَّ لك مِن النِّساءِ، وتَضُمُّ إليك مَن تشاءُ مِنهُنَّ، وإن أردْتَ أن تُؤويَ إليك امرأةً مِمَّن عزلْتَهنَّ وأخَّرْتَهنَّ مِن القِسمةِ، وتَضُمَّها إليك؛ فلا جُناحَ عليك؛ ذلك -يا محمَّدُ- أقرَبُ لِأن يَفرَحْنَ ولا يحزَنَّ، ويَرضَينَ بما أعطيتَهنَّ كُلُّهنَّ، واللهُ يعلَمُ ما في قُلوبِكم مِن أمرِ النِّساءِ والمَيلِ إلى بَعضِهنَّ، وكان اللهُ عليمًا بخَلقِه، حَليمًا فلا يُعاجِلُهم بالمؤاخَذةِ على ذنوبِهم.
لا يَحِلُّ لك -يا محمَّدُ- الزَّواجُ بالنِّساءِ مِن بَعْدُ، ولا أن تُطَلِّقَ واحِدةً مِن أزواجِك لِتتزوَّجَ بأُخرَى ولو أعجَبك جمالُها، إلَّا ما ملكَتْ يمينُك مِن الإِماءِ؛ فإنَّهنَّ حَلالٌ لك، وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ حافِظًا ومُراقِبًا.

تفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان النَّبيُّ أَولى بالمؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، وكان المرادُ الأعظَمُ في هذه الآياتِ بَيانَ ما شَرَّفه اللهُ به من ذلك؛ أتْبَعَ ما بيَّن أنَّه لا عِدَّةَ فيه مِن نكاحِ المؤمِنينَ، وما حَرَّمه عليهم مِنَ التَّضييقِ على الزَّوجاتِ المطَلَّقاتِ- بعضَ ما شَرَّفه اللهُ تعالى به وخَصَّه مِن أمرِ التَّوسِعةِ في النِّكاحِ، وختَمَه بأنَّ أزواجَه لا تحِلُّ بعْدَه [1001] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/377، 378). .
وأيضًا لَمَّا خاض المنافِقونَ في تزوُّجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زينبَ بنتَ جَحشٍ، وقالوا: (تزوَّجَ مَن كانت حليلةَ مُتبَنَّاه)، أراد اللهُ أن يجمَعَ في هذه الآيةِ مَن يَحِلُّ للنَّبيِّ تزوُّجُهنَّ؛ حتَّى لا يقَعَ النَّاسُ في تردُّدٍ، ولا يفتِنَهم المُرجِفونَ [1002] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/63). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.
أي: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أحلَلْنا لك أزواجَك اللَّاتي آتيتَهنَّ مُهورَهنَّ [1003] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/129)، ((تفسير القرطبي)) (14/206)، ((تفسير ابن كثير)) (6/441)، ((تفسير الشوكاني)) (4/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669). قال ابنُ جُزَي: (في معناها قولانِ؛ أحدُهما: أنَّ المرادَ أزواجُه اللَّاتي في عِصمتِه حينَئذٍ؛ كعائِشةَ وغَيرِها، وكان قد أعطاهنَّ مُهورَهنَّ، والآخَرُ: أنَّ المرادَ جميعُ النِّساءِ، فأباح اللهُ له أن يتزوَّجَ كُلَّ امرأةٍ يُعطى مَهرُها). ((تفسير ابن جزي)) (2/154). ونسَب القرطبيُّ القولَ الأوَّلَ للجمهورِ، وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/206)، ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/500)، ((تفسير السمرقندي)) (3/67)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 366، 367). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: القرطبيُّ، وعلى هذا القَولِ يكونُ هذا الإحلالُ ناسِخًا للتَّحريمِ في قَولِه تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وتكونُ هذه الآيةُ وإن كانت مُقَدَّمةً في التِّلاوةِ، متأخِّرةَ النُّزولِ عن الآيةِ المنسوخةِ بها، كآيتَيِ الوفاةِ في سورةِ البقرةِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/206). وممَّن قال بهذا القول مِن السَّلفِ: ابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/130). وذكَر ابنُ عثيمين أنَّه بِناءً على هذا القول: (يجبُ أن نؤَوِّلَ الفِعلَ الماضيَ بالفعلِ المضارِعِ؛ يعني: اللَّاتي تؤتي أجورَهنَّ. وهذا خِلافُ ظاهرِ الآيةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 367). .
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
أي: وأحلَلْنا لك النِّساءَ اللَّاتي مَلَكْتَهنَّ ممَّا نِلْتَه مِنَ الكُفَّارِ [1004] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/130)، ((تفسير القرطبي)) (14/207)، ((تفسير ابن كثير)) (6/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/64). قيل: معنى مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ: ممَّا رَدَّه اللهُ عليك مِن الكُفَّارِ بالغنيمةِ لنِسائِهم المأخوذاتِ على وَجهِ القَهرِ والغَلَبةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/207)، ((تفسير الشوكاني)) (4/335). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 368، 369). قال الشوكاني: (وليس المرادُ بهذا القيدِ إخراجَ ما ملَكَه بغيرِ الغَنيمةِ؛ فإنَّها تحِلُّ له السُّرِّيَّةُ المشتراةُ والموهوبةُ ونحوُهما، ولكِنَّه إشارةٌ إلى ما هو أفضَلُ، كالقَيدِ الأوَّلِ المصَرِّحِ بإيتاءِ الأجورِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/335). وقيل: الفَيءُ هو: ما ناله المسلِمونَ مِن العدُوِّ بغيرِ قتالٍ، ولكِنْ تركَه العدوُّ، أو ممَّا أُعطيَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِثلُ: ماريَّةَ القِبطيَّةِ أمِّ ابنِه إبراهيمَ. قاله ابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/64، 65). .
وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ .
أي: وأحلَلْنا لك بناتِ عَمِّك وبناتِ عمَّاتِك، وبناتِ خالِك وبناتِ خالاتِك؛ اللَّاتي هاجَرْنَ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ كما فعَلْتَ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/130)، ((تفسير السمعاني)) (4/295، 296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669). قال ابنُ عاشور: (بناتُ عَمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هنَّ بناتُ إخوةِ أبيه، مِثلُ: بناتِ العبَّاسِ، وبناتِ أبي طالبٍ، وبناتِ أبي لهبٍ؛ وأمَّا بناتُ حمزةَ فإنَّهنَّ بناتُ أخٍ مِن الرَّضاعةِ لا يَحلِلْنَ له. وبناتُ عَمَّاتِه: هنَّ بناتُ [بنات] عبدِ المطَّلِب، مثلُ: زينبَ بنتِ جَحشٍ الَّتي هي بنتُ أُميمةَ بنتِ عبدِ المطَّلِبِ، وبناتُ خالِه هنَّ بناتُ عبدِ مَنافِ بنِ زُهرةَ، ومِن أخوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عبدُ يَغوثَ بنُ وهبٍ أخو آمِنةَ، ولم يَذكُروا أنَّ له بناتٍ... وقد ذَكَر في «الإصابةِ» فُرَيعةَ بنتَ وَهبٍ، وذكروا هالةَ بنتَ وَهبٍ الزُّهْريةَّ إلَّا أنَّها لِكَونِها زَوجةَ عبدِ المطَّلِبِ، وابنتُها صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسولِ اللهِ: فقد دخَلَت مِن قبْلُ في بناتِ عَمِّه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/66). ويُنظر: ((الإصابة في تمييز الصحابة)) لابن حجر (8/213، 281). وقال الماتُريدي: (لم يفهَمْ أحدٌ مِن قَولِه: هَاجَرْنَ مَعَكَ الهِجرةَ معه حتَّى لا يتقدَّمنَ ولا يتأخَّرْنَ، بل دخَل في قَولِه: مَعَكَ مَن هاجرَ منهنَّ مِن قَبلُ ومِن بَعدُ. والله أعلمُ). ((تفسير الماتريدي)) (8/402). وممَّن قال بهذا المعنى أيضًا: السمرقندي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/67)، ((تفسير الشوكاني)) (4/335)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 371). قيل: قَيْدُ المُهاجَرةِ غَيرُ مَقصودٍ لِذَاتِه، وإنَّما المرادُ بيانُ شَرَفِهنَّ وشَرَفِ الهِجرةِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: البِقاعي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/381)، ((تفسير الشوكاني)) (4/335)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/65). قال البِقاعي: (لم يُرِدْ بذلك التَّقييدَ، بل التَّنبيهَ على الشَّرَفِ، وإشارةً إلى أنَّه سَبَق في عِلمِه سُبحانَه أنَّه لا يقَعُ له أن يتزوَّجَ مَن هي خارجةٌ عن هذه الأوصافِ). ((نظم الدرر)) (15/381). وقيل: قَيدُ الهِجرةِ مُعتَبَرٌ، فلا تحِلُّ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ امرأةٌ لم تهاجِرْ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/501)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669). .
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن ما هو الأشرَفُ مِن النِّكاحِ؛ لِكَونِه الأصلَ، وأتبَعَه سُبحانَه ما خَصَّ به شَرْعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المَغنَمِ الَّذي تولَّى سُبحانَه إباحتَه؛ أتْبَعَه ما جاءت إباحتُه مِن جهةِ المُبيحِ؛ إعلامًا بأنَّه ليس مِن نَوعِ الصَّدَقةِ الَّتي نزَّهَ عنها قَدْرَه، فقال [1006] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/381). :
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا.
أي: وأحلَّ اللهُ لك -يا مُحمَّدُ- الزَّواجَ مِن أيِّ امرأةٍ مُؤمِنةٍ إذا وهَبَت نَفسَها لكَ لِتتزوَّجَها بغيرِ مَهرٍ، فقَبِلْتَ الزَّواجَ بها [1007] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/132)، ((تفسير القرطبي)) (14/210)، ((تفسير ابن كثير)) (6/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/67 - 69)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 371، 372). قال ابنُ تيميَّةَ: (أحلَّ سُبحانَه لِنَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن النِّساءِ أجناسًا أربعةً، ولم يجعَلْ خالِصًا له مِن دونِ المؤمِنينَ إلَّا الموهوبةَ الَّتي تهَبُ نَفْسَها للنَّبيِّ، فجعَل هذه مِن خصائِصِه؛ له أن يتزوَّجَ الموهوبةَ بلا مَهرٍ، وليس هذا لغيرِه، باتِّفاقِ المسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (32/62). وقال ابنُ القيِّم: (قَولُه تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يحتَمِلُ أن تكونَ الهِبةُ شَرطًا، ويكونَ فِعلُ الإرادةِ جوابًا له، ويكونَ التَّقديرُ: إنْ وهَبَت نفْسَها للنَّبيِّ، فإن أراد النبيُّ أن يَستَنكِحَها فخالِصةٌ له، ويحتَمِلُ أن تكونَ الإرادةُ شَرطًا والهِبةُ جوابًا له، والتَّقديرُ: إن أراد النَّبيُّ أن يَستَنكِحَها فإن وهَبَت نفْسَها فهي خالِصةٌ له. يحتَمِلُ الأمْرَينِ). ((بدائع الفوائد)) (1/60). وقال ابن عثيمين: (قال تعالى: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا وهذا الشَّرطُ داخِلٌ في الشَّرطِ الأوَّلِ، وقد عُلِمَ أنَّ الشَّرطَ الثَّانيَ قَيدٌ في الشَّرطِ الأوَّلِ؛ فهو متأخِّرٌ لفظًا متقدِّمٌ معنًى، وكلَّما تداخَلت الشُّروطُ فاجعَلِ الشَّرطَ الأخيرَ قَيدًا فيما قَبْلَه... وهنا قال تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ الإرادةُ تَسبِقُ الحِلَّ والقَبولَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 372). قيل: النِّسوةُ اللَّاتي وهَبْنَ أنفُسَهنَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربعٌ؛ هُنَّ: ميمونةُ بنتُ الحارثِ، وزينبُ بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّةُ الملقَّبةُ أمَّ المساكينِ، وأمُّ شَريكٍ بنتُ جابرٍ الأسَدِيَّةُ أو العامريَّةُ، وخَولةُ بنتُ حكيمٍ السُّلَميَّةُ؛ فأمَّا الأُولَيانِ فتزوَّجَهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهما مِن أمَّهاتِ المؤمنينَ، والأُخرَيان لم يَتزوَّجْهما، وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/68). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/550)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/315). .
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاءت امرأةٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قد وهَبْتُ لك مِن نَفْسي. فقال رجُلٌ: زوِّجْنيها. قال: قد زوَّجْناكها بما معك مِن القُرآنِ )) [1008] رواه البخاري (2310) واللفظ له، ومسلم (1425). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (كنتُ أغارُ على اللَّاتي وهَبْنَ أنفُسَهنَّ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأقولُ: أتهَبُ المرأةُ نَفْسَها؟! فلمَّا أنزل اللهُ تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ قلتُ: ما أرى رَبَّك إلَّا يُسارِعُ في هواك [1009] أي: يخفِّفُ عنك، ويوسِّعُ عليك في الأمورِ؛ ولهذا خيَّرَك. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/49). !) [1010] رواه البخاري (4788) واللفظ له، ومسلم (1464). .
وعن ثابتٍ البُنانيِّ، قال: (كنتُ عندَ أنسٍ وعِندَه ابنةٌ له. قال أنَسٌ: جاءت امرأةٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَعرِضُ عليه نَفْسَها، قالت: يا رَسولَ اللهِ، ألكَ بي حاجةٌ؟ فقالت بنتُ أنسٍ: ما أقَلَّ حياءَها! واسَوْأَتاهْ واسَوأَتاهْ [1011] السوءة: الفعلةُ القبيحةُ، والألِفُ للنُّدبةِ، والهاءُ للسَّكتِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/175). ! قال: هي خيرٌ منك؛ رَغِبَتْ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَرَضَت عليه نَفْسَها ) [1012] رواه البخاري (5120). .
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: أحلَّ اللهُ لك -يا محمَّدُ- خاصَّةً تزوُّجَ مَن وَهَبَت نفْسَها لك، بلا مَهرٍ ولا وَليٍّ، ولا يحِلُّ ذلك لأحَدٍ مِن أمَّتِك [1013] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/132، 133)، ((الوسيط)) للواحدي (3/477)، ((تفسير القرطبي)) (14/213)، ((تفسير ابن كثير)) (6/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/68، 70). .
قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.
أي: قد عَلِمْنا ما أوجَبْنا على المؤمِنينَ في الزَّواجِ، وعَلِمْنا أنَّ المصلحةَ تَقتَضي ما شرَعْناه؛ فلا يكونُ إلَّا بمَهرٍ ووَليٍّ وشُهودٍ عُدولٍ، ولا يحِلُّ لهم أكثَرُ مِن أربَعِ زَوجاتٍ، ولهم مِلكُ ما شاؤوا مِنَ النِّساءِ بالسَّبْيِ، أو التَّسَرِّي، أو غيرِ ذلك مِن أسبابِ المِلْكِ [1014] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/136، 137)، ((تفسير القرطبي)) (14/214)، ((تفسير ابن كثير)) (6/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/68، 70)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 375، 376). قال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ المؤمنينَ مُستَمِرٌّ ما شُرِعَ لهم مِن قَبلُ في أحكامِ الأزواجِ وما ملَكَت أيمانُهم؛ فلا يَشمَلُهم ما عُيِّنَ لك مِن الأحكامِ الخاصَّةِ المَشروعةِ فيما تقَدَّمَ آنِفًا، أي: قد عَلِمْنا أنَّ ما فرَضْناه عليهم في ذلك هو اللَّائِقُ بحالِ عُمومِ الأمَّةِ دونَ ما فرَضْناه لك خاصَّةً). ((تفسير ابن عاشور)) (22/70). .
لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ.
أي: وسَّعْنا عليك في أمرِ الزَّواجِ بالنِّساءِ -يا مُحمَّدُ-؛ لكيلا يكونَ عليك إثمٌ وضِيقٌ في نِكاحِهنَّ [1015] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/138)، ((تفسير القرطبي)) (14/214)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/383)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/71)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 384، 385). قيل: قَولُه تعالى: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ تعليلٌ لِقَولِه سُبحانَه: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... الآيةَ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/138)، ((تفسير القرطبي)) (14/214). وقيل: هو تعليلٌ لِقَولِه تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وممَّن قال بهذا: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/383). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 384). .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بالمَغفِرةِ لذُنوبِ عِبادِه، فيَستُرُها عليهم ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، ومُتَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بالرَّحمةِ بعبادِه، فيُحسِنُ إليهم ويُنعِمُ عليهم مِن فَضلِه [1016] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/138)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/383، 384)، ((تفسير الشوكاني)) (4/336)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 385، 386). .
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه أحَلَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما ذُكِر مِنَ الأزواجِ؛ بيَّنَ أنَّه أحلَّ له وُجوهَ المُعاشَرةِ بهِنَّ كيفَ يَشاءُ، ولا يجِبُ عليه القَسْمُ [1017] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/176). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى هاتين الصِّفَتينِ غَفُورًا رَحِيمًا؛ أتْبَعَهما ما خفَّفَه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أمرِهنَّ؛ إكرامًا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا كان مِن شأنِه أن يتحَمَّلَ فيه، ويتحَرَّجَ عن فِعلِه [1018] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/384). ؛ فهو مِن توسِعةِ اللهِ على رَسولِه ورَحمتِه به؛ أنْ أباح له تَرْكَ القَسْمِ بينَ زوجاتِه على وَجهِ الوُجوبِ [1019] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 669). .
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ.
أي: تُؤخِّرُ -يا مُحمَّدُ- مَن أُحِلَّ لك مِنَ النِّساءِ، وتَضُمُّ إليك مَن تَشاءُ مِنهُنَّ [1020] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/143)، ((تفسير القرطبي)) (14/214)، ((تفسير ابن كثير)) (6/445، 446)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/72 - 74). قيل: المعنى المرادُ: هو أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مُخيَّرًا في أزواجِه؛ إن شاء أن يَقسِمَ قَسَم، وإن شاء أن يترُكَ القَسْمَ تَرَك. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، وابنُ العربي، والقرطبيُّ، والسعديُّ، ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ إلى أكثَرِ العلماءِ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/478)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/605)، ((تفسير القرطبي)) (14/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن الجوزي)) ((3/476). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، والحسَنُ، وقَتادةُ، وأبو رَزِينٍ، والضَّحَّاكُ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/139)، ((تفسير ابن كثير)) (6/446). وقيل: المرادُ: تؤخِّرُ مَن تشاءُ مِن الواهباتِ أنفُسَهنَّ، ومَن شِئتَ قَبِلْتَها، ومَن شِئتَ رَدَدْتَها، ومَن ردَدْتَها فأنت فيها أيضًا بالخيارِ بعدَ ذلك، إنْ شِئتَ عُدْتَ إليها فآوَيْتَها. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/445، 446). وذهب ابنُ جريرٍ إلى العُمومِ في الواهباتِ وفي النِّساءِ اللَّاتي عندَه: أنَّه مُخَيَّرٌ فيهِنَّ؛ إن شاء قسَمَ، وإن شاء لم يَقسِمْ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/143). واستحسَنَ ابنُ كثيرٍ اختيارَ ابنِ جريرٍ، فقال: (اختار ابنُ جريرٍ أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الواهباتِ وفي النِّساءِ اللَّاتي عندَه: أنَّه مُخَيَّرٌ فيهِنَّ؛ إن شاء قسَمَ، وإن شاء لم يَقسِمْ، وهذا الَّذي اختاره حَسَنٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وفيه جمعٌ بيْنَ الأحاديثِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/446). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 394، 395). وذهب ابنُ عاشور إلى أن ضمير مِنْهُنَّ عائدٌ إلى النِّساءِ المذكوراتِ: أمَّا مَن هنَّ في عصمتِه، فإرجاؤُهنَّ ينصرِفُ إلى القَسْمِ. وأمَّا مَلَكَتْ يمينُه فإرجاؤُهنَّ هو حكمٌ أصليٌّ إذ لا يجبُ للإماءِ عدلٌ في المعاشرةِ ولا في المبيتِ. وأمَّا مَن أحلَّ الله له نكاحَهنَّ غيرَهنَّ مِن بناتِ عمِّه وعمَّاتِه وخالِه وخالاتِه، فإرجاؤُهنَّ تأخيرُ تزوُّجِ مَن يَحِلُّ منهنَّ، وإيواؤُهنَّ العقدُ على إحداهنَّ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يتزَوَّجْ واحدَةً بعدَ نزولِ هذه الآيةِ، وذلك إرجاءُ العملِ بالإذْنِ فيهنَّ إلى غيرِ أجلٍ مُعيَّنٍ. وأمَّا الواهباتُ أنفسَهنَّ، فإرجاؤُهنَّ عدمُ قبولِ نكاحِ الواهبةِ، وإيواؤُهنَّ قبولُ هِبَتِهنَّ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/72). وقال ابنُ الجوزي: (في معنى الآيةِ أربعةُ أقوالٍ؛ أحدُها: تُطَلِّقُ مَن تشاءُ مِن نسائِك، وتُمسِكُ مَن تشاءُ مِن نسائِك. قاله ابنُ عبَّاسٍ. والثَّاني: تتركُ نِكاحَ مَن تشاءُ، وتَنكِحُ مِن نساءِ أمَّتِك مَن تشاءُ. قاله الحسَنُ. والثَّالثُ: تَعزِلُ مَن شِئتَ مِن أزواجِك فلا تأتيها، بغيرِ طلاقٍ، وتأتي مَن تشاءُ فلا تَعزِلُها. قاله مجاهِدٌ. والرَّابعُ: تَقْبَلُ مَن تشاءُ مِن المؤمناتِ اللَّواتي يَهَبْنَ أنفُسَهنَّ، وتترُكُ مَن تشاءُ. قاله الشَّعْبيُّ، وعِكْرِمةُ. وأكثَرُ العُلماءِ على أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ مُبيحةً لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصاحَبةَ نِسائِه كيف شاء، مِن غيرِ إيجابِ القِسمةِ عليه، والتَّسويةِ بيْنَهُنَّ، غيرَ أنَّه كان يُسَوِّي بينَهنَّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/476). وقال ابنُ عاشورٍ: (اتَّفق الرُّواةُ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَستعمِلْ مع أزواجِه ما أُبيحَ له؛ أخذًا منه بأفضَلِ الأخلاقِ، فكان يَعدِلُ في القَسْمِ بيْنَ نسائِه، إلَّا أنَّ سَوْدةَ وهَبَتْ يومَها لعائشةَ؛ طَلبًا لِمَسَرَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (22/74). وقال ابنُ جُزي: (والضَّميرُ في قَولِه مِنْهُنَّ: يعودُ على أزواجِه -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ- خاصَّةً، أو على كلِّ ما أحَلَّ اللهُ له، على حَسَبِ الخلافِ المتقَدِّمِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/156). .
عن مُعاذةَ العَدَويَّةِ، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَستأذِنُ في يومِ المرأةِ مِنَّا بعدَ أن أُنزِلَت هذه الآيةُ: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ، فقلتُ لها: ما كُنتِ تَقولينَ؟ قالت: كُنتُ أقولُ له: إنْ كان ذاك إلَيَّ فإنِّي لا أُريدُ -يا رَسولَ اللهِ- أن أُوثِرَ عليك أحَدً ا!)) [1021] رواه البخاري (4789). .
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ.
أي: فإنْ عَزَلْتَ بالإرجاءِ إحداهنَّ -كما لو كان بطَلاقٍ أو رَدِّ هِبةٍ مَثلًا- ثمَّ رَغِبْتَ فيها؛ فلا بأسَ ولا إثمَ عليك في إيوائِها بعدَ ذلك، سواءٌ كان ذلك بقَبولِ هِبتِها نَفْسَها له، أو برَدِّها إلى ما كانت عليه مِنَ النِّكاحِ أو القَسْمِ إن كانت مِن زَوجاتِه؛ فاختيارُك السَّابِقُ غَيرُ مُلزِمٍ لك، بل الأمرُ راجِعٌ إلى اختيارِك ورَغبتِك في ذلك [1022] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/144، 145)، ((تفسير البغوي)) (3/653)، ((تفسير القرطبي)) (14/215، 216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/74)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 394، 395). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (لَمَّا أنزَل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ قُلتُ: ما أرى رَبَّك إلَّا يُسارِعُ في هواك!) [1023] رواه البخاري (4788) واللفظ له، ومسلم (1464). .
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ.
أي: ذلك [1024] قال ابنُ عاشورٍ: (الإشارةُ إلى شَيءٍ ممَّا تقَدَّم وهو أقربُه، فيجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى معنَى التَّفويضِ المستفادِ مِن قولِه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ، ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى الابتغاءِ المتضمِّنِ له فِعلُ ابتغَيْتَ، أي: فلا جناحَ عليك في ابتغائِهنَّ بعدَ عزلِهنَّ ذلك أدنَى لأنْ تَقَرَّ أعيُنُهنَّ... فعلى الأوَّلِ يكونُ المعنَى أنَّ في هذا التَّفويضِ جَعَل الحقَّ في اختيارِ أحدِ الأمْرينِ بيدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُبْقِ حقًّا لهنَّ، فإذا عَيَّنَ لإحداهنَّ حالةً مِن الحالينِ رَضِيَتْه به... وعلى الوجهِ الثَّاني يكونُ المعنَى: ذلك الابتغاءُ بعدَ العزلِ أقربُ لأنْ تَقَرَّ أعينُ اللَّاتي كنتَ عزَلْتَهنَّ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/75). ممَّن اختار أنَّ المعنى: ذلك التَّخييرُ الَّذي خيَّرْناك والتَّفويضُ إلى مشيئتِك: الواحديُّ، والرَّسْعَني، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/278)، ((تفسير الرسعني)) (6/181)، ((تفسير العليمي)) (5/378)، ((تفسير الشوكاني)) (4/337). وقال ابن جرير: (هذا الَّذي جعلْتُ لك يا محمَّدُ مِن إذْني لك أن تُرجيَ مَن تشاءُ مِن النِّساءِ اللَّواتي جعلْتُ لك إرجاءَهن، وتُؤْوي مَن تشاءُ منهنَّ، ووضْعي عنك الحَرَجَ في ابتِغائِك إصابةَ مَنِ ابتغَيْتَ إصابتَه مِن نسائِك، وعزلِك عن ذلك مَن عزَلْتَ منهنَّ- أقرَبُ لنِسائِك أن تقَرَّ أعينُهنَّ به، ولا يحزَنَّ). ((تفسير ابن جرير)) (19/145). وقال الألوسي: (أي: تفويضُ الأمرِ إلى مشيئتِك أقرَبُ إلى قُرَّةِ عيونِهنَّ، وسرورِهنَّ، ورِضاهنَّ جميعًا؛ لأنَّه حُكمٌ كلُّهنَّ فيه سواءٌ، ثمَّ إنْ سوَّيْتَ بيْنَهنَّ وجَدْنَ ذلك تفضُّلًا منك، وإن رجَّحْتَ بعضَهنَّ عَلِمْنَ أنَّه بحُكمِ الله تعالى؛ فتطمئِنُّ به نفوسُهنَّ، وُرويَ هذا عن قَتادةَ، والمرادُ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ عليه: ما صنَعْتَ معهنَّ، فيَتناولُ ترْكَ المُضاجَعةِ والقَسْمِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ ومجاهِدٍ أنَّ المعنى: أنهنَّ إذا عَلِمْنَ أنَّ لك ردَّهن إلى فِراشِك بعدَ ما اعتزلتَهُنَّ قرَّتْ أعينُهن، ولم يَحْزَنَّ، ويَرْضَيْنَ بما تفعلُه مِن التَّسويةِ والتَّفضيلِ؛ لأنهنَّ يَعلمْنَ أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ، وظاهرُه جعْلُ المشارِ إليه العِلمُ بأنَّ له صلَّى الله عليه وسلَّم الإيواءَ، وأظهرُ منه ...: ذلك العِلمُ منهنَّ بأنَّك إذا عزَلْتَ واحدةً كان لك أن تُؤويَها بعدَ ذلك أدْنَى لسُرورهِنَّ وقُرَّةِ أعيُنِهِنَّ. وقال بعضُ الأجِلَّةِ: كَوْنُ الإشارةِ إلى التَّفويضِ أنسَبُ لفظًا؛ لأنَّ ذلك للبعيدِ، وكَوْنُها إلى الإيواءِ أنسَبُ معنًى؛ لأنَّ قُرَّةَ عيونِهنَّ بالذَّاتِ إنَّما هي بالإيواءِ). ((تفسير الألوسي)) (11/239). -يا مُحمَّدُ- هو أقرَبُ لِأنْ يَفرَحْنَ ولا يَحزَنَّ [1025] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/145)، ((تفسير ابن كثير)) (6/446)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 669)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/75)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 396، 397). .
وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ.
أي: وأقرَبُ لِأنْ يَرضَينَ كُلُّهنَّ بما أعطَيتَهنَّ -يا مُحمَّدُ [1026] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/145)، ((الوسيط)) للواحدي (3/478)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/76). قيل: المعنى: يَرضَيْنَ بما آتيتَهنَّ كُلُّهنَّ مِن تفضيلِ مَن فضَّلْتَ مِن قَسْمٍ أو نَفَقةٍ، وإيثارِ مَن آثرْتَ منهنَّ بذلك على غَيرِها مِن نسائِك، إذا هنَّ عَلِمنَ أنَّه مِن رضايَ منك بذلك، وإذْني لك به، وإطلاقٍ منِّي لا مِن قِبَلِك. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/386). ويُنظر أيضًا: ((الوسيط)) للواحدي (3/478)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 397). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/145). وقال ابنُ عاشور: (في قَولِه: وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إشارةٌ إلى أنَّ المرادَ الرِّضا الَّذي يَتساوَينَ فيه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/76). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ.
أي: واللهُ يَعلَمُ كلَّ ما تُضمِرونَه في قُلوبِكم، ومِن ذلك أمورُ النساءِ، والمَيلُ إلى بَعضِهنَّ دونَ بَعضٍ [1027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/146)، ((تفسير ابن كثير)) (6/446)، ((تفسير الشوكاني)) (4/337)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 397-398). قال ابنُ جرير: (يقولُ: فلِذلك وَضَعَ عنك الحَرجَ -يا محمَّدُ- فيما وَضَعَ عنك من ابتغاءِ مَن ابتغيتَ مِنهنَّ ممَّن عزَلْتَ؛ تفضُّلًا منه عليك بذلك وتَكرمةً). ((تفسير ابن جرير)) (19/146). وقال السعدي: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أي: ما يَعرِضُ لها عند أداءِ الحُقوقِ الواجِبةِ والمُستحبَّة، وعند المزاحمةِ في الحُقوقِ؛ فلذلك شرع لك التَّوسِعةَ يا رَسولَ الله، لِتَطمئِنَّ قُلوبُ زَوجاتِك). ((تفسير السعدي)) (ص: 670). .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ واسِعُ العِلمِ بأعمالِ عِبادِه وضَمائِرِهم، وبما يَصلُحُ لهم مِنَ الشَّرائعِ والأحكامِ، وبغيرِ ذلك؛ فلا يخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه، وهو كثيرُ الحِلمِ على عِبادِه؛ فلا يُعاجِلُهم بمُؤاخَذتِهم على ذُنوبِهم [1028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/146)، ((تفسير ابن كثير)) (6/447)، ((تفسير الشوكاني)) (4/337)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). .
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا لم يُوجِبِ اللهُ على نَبيِّه القَسْمَ، وأمَرَه بتَخييرِهنَّ، فاختَرْنَ اللهَ ورَسولَه؛ ذكَرَ لَهنَّ ما جازاهنَّ به مِن تحريمِ غَيرِهنَّ على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَنْعِه مِن طَلاقِهنَّ [1029] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/177). .
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ.
النَّاسِخُ والمَنسوخُ:
قيل: إنَّ هذه الآيةَ مُحكَمةٌ ولا نَسْخَ فيها [1030] وهو قَولُ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، والحَسَنِ، وابنِ سيرينَ، واختاره ابنُ جريرٍ، واستظهره أبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/150)، ((تفسير أبي حيان)) (8/496). قال السخاوي: (وقولُه عزَّ وجلَّ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ زعَم قومٌ أنَّه منسوخٌ، واختلَفوا في ناسِخه؛ فقال قومٌ: نُسِخَتْ بالسُّنَّةِ... وقيل: النَّاسخُ قولُه عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب: 50]، قالوا: هي مِن الأعاجيبِ؛ نَسْخُها بآيةٍ قبْلَها في النَّظمِ! وقيل: نُسِخَتْ بقولِه عزَّ وجلَّ قبْلَها: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب: 51] . وهذا القولُ إنَّما يقولُه مَن قاله ظنًّا، ألا تَرى اختِلافَ القَولَينِ في النَّاسِخِ ما هو؟! وإنَّما حمَلَهم على ذلك ما ظنُّوه مِن التَّعارُضِ، ولا تَعارُضَ؛ لأنَّ قوله عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ لا يُعارِضُ قولَه سُبحانَه: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، ولا قَولَه عزَّ وجلَّ: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ؛ لأنَّ قولَه عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ وقولَه تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ في نِسائِه اللَّاتي كُنَّ في عِصمتِه، فكيف يكونُ ذلك ناسخًا لقولِه: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟!). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (ص: 448). .
وقيل: إنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ، واختُلِف في النَّاسِخِ؛ فقيل: مَنسوخةٌ بالآيةِ الَّتي قَبْلَها، وهي قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... [الأحزاب: 50] . وقيل: مَنسوخةٌ بقولِه سُبحانه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب: 51] . وقيل: مَنسوخةٌ بالسُّنَّةِ، وليس في القرآنِ ما يُوجِبُ نَسْخَها [1031] والقَولُ بنَسخِها مَرْويٌّ عن عائِشةَ، وأمِّ سَلَمةَ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وعليِّ بنِ الحُسَينِ، واختاره الجَصَّاصُ، وابنُ حَزمٍ، واستظهره ابنُ جُزَي، ورجَّحه الشَّوكاني. يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/482)، ((الناسخ والمنسوخ)) لابن حزم (ص: 51)، ((تفسير ابن جزي)) (2/156)، ((تفسير الشوكاني)) (4/337، 338). قال ابنُ كثيرٍ: (ثمَّ إنَّه تعالى رفَع عنه الحَجْرَ في ذلك، ونسَخ حُكمَ هذه الآيةَ، وأباح له التَّزَوُّجَ، ولكنْ لم يقَعْ منه بعدَ ذلك تزَوُّجٌ؛ لِتَكونَ المِنَّةُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ عليهِنَّ). ((تفسير ابن كثير)) (6/447). وقال النَّحَّاسُ: (في هذه الآيةِ أقوالٌ: فمنها... عن عائشةَ قالت: «ما مات رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أُحِلَّ له النِّساءُ». وقال الحسَنُ: «لَمَّا خَيَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزواجَه فاختَرْنَه، شكر اللهُ جَلَّ وعَزَّ لهنَّ ذلك؛ فحَرَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَتزوَّجَ غَيرَهنَّ، أي: فامتحَنَه بذلك كما امتحنَهنَّ». وقال عليُّ بنُ الحُسَينِ: «قد كان له أن يتزوَّجَ». هذه الثَّلاثةُ الأقوالِ غيرُ متناقضةٍ؛ فقولُ عائشةُ: «ما مات رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أُحِلَّ له النِّساءُ» إسنادُه جيِّدٌ، ويُتأوَّلُ على أنَّه ناسِخٌ للحظرِ،... وقولُ عليِّ بنِ الحُسَينِ عليه السَّلامُ يجوزُ أن يكونَ يرجِعُ إلى قولِ عائِشةَ، وإن كان قد أنكر قولَ الحسَنِ؛ فإن الحسَنَ لم يذكُرْ أنَّ الآيةَ منسوخةٌ؛ فيجوزُ أن يكونَ أنكَرَه مِن هذه الجِهةِ، وتكونَ الآيةُ عندَه منسوخةً). ((معاني القرآن)) (5/367، 368). .
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ.
أي: لا يَحِلُّ لك الزَّواجُ بالنِّساءِ -يا مُحمَّدُ- مِن بَعدُ [1032] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/503)، ((تفسير ابن جرير)) (19/150)، ((تفسير الزمخشري)) (3/553)، ((تفسير القرطبي)) (14/220)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/64، 65)، ((تفسير ابن كثير)) (6/449)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/387، 388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). قيل: المعنى: لا يحِلُّ لك النِّساءُ بعدَ اللَّواتي أحلَلْتُهنَّ لك مِن أزواجِك اللَّاتي آتَيْتَ أجورَهنَّ، وما ملكَتْ يمينُك، وبناتِ عمِّك وبناتِ عمَّاتِك، وبناتِ خالِك وبناتِ خالاتِك، ومَن تهَبُ نَفْسَها لك مِن المؤمناتِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبي، وابنُ تيميَّةَ، واستحسنه ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/150)، ((تفسير القرطبي)) (14/220)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/64، 65)، ((تفسير ابن كثير)) (6/449). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وأبو صالحٍ، وعِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه، وأبو رَزِينٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/147). قال ابن كثير: (اختار ابنُ جريرٍ رحمه الله أنَّ الآيةَ عامَّةٌ فيمَن ذُكِرَ مِن أصناف النِّساءِ، وفي النِّساءِ اللَّواتي في عِصمتِه، وكُنَّ تِسعًا. وهذا الذي قاله جيِّدٌ، ولعلَّه مُرادُ كثيرٍ ممَّن حكَيْنا عنه مِن السَّلفِ؛ فإنَّ كثيرًا منهم رُوِيَ عنه هذا وهذا، ولا منافاةَ. والله أعلمُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/449). وقيل: المعنى: لا يحلُّ لك النِّساءُ مِن بَعدِ أزواجِك التِّسعِ اللَّاتي عندَك، أي: لا يحلُّ لك أن تَزيدَ عليهنَّ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشري، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/503)، ((تفسير الزمخشري)) (3/553)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/387، 388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/147). .
وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.
أي: ولا يحِلُّ لك أن تُطَلِّقَ واحِدةً مِن أزواجِك؛ لِتَتزوَّجَ بأُخرى، ولو أعجبَك جمالُها [1033] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/152 - 154)، ((تفسير السمرقندي)) (3/70)، ((تفسير البغوي)) (3/655)، ((تفسير ابن كثير)) (6/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/79). قال ابنُ عثيمين: (قولُه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يَشمَلُ الحُسنَ الظَّاهِرَ، والحُسنَ الباطِنَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 410). .
إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
أي: لا يحِلُّ لك إلا نِكاحُ مَن شِئتَ مِن النِّساءِ اللَّاتي تَملِكُهنَّ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/80). .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا.
أي: وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ حافِظًا ومُراقِبًا؛ لا يخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه، وقائِمًا بتَدبيرِ كُلِّ شَيءٍ على أكمَلِ نِظامٍ، وأحسَنِ إحكامٍ [1035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/157)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/389)، ((تفسير الشوكاني)) (4/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 670). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ، قولُه: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ أي: مِن بعدِ النِّساءِ اللَّاتي نصُّ إحلالِهنَّ لك في الآيةِ قَبلُ -على أحدِ القَولَينِ في التَّفسيرِ-، وانظُرْ إلى تكريمِه تعالى لنبيِّه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ حيثُ لم يقُلْ له: (وحرَّم عليك ما وراءَ ذلك) كما خاطَبَ المؤمِنينَ بنَظيرِه؛ لِتَعلَمَ كيف يَتفاوَتُ النَّاسُ بالخِطابِ تفاوُتَهم في رفيعِ الدَّرَجاتِ [1036] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/97). .
2- في قَولِه تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ أنَّ اللهَ تعالى فَرَضَ علينا فرائِضَ في أزواجِنا علينا مُراعاتُها، وكذلك نقولُ في مِلْكِ اليَمينِ [1037] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 391). .
3- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ أنَّه ينبغي مُراعاةُ المؤمنِ بإدخالِ السُّرورِ عليه، ونَفْيِ الحُزنِ عنه [1038] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 402). .
4- قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا فيَجِبُ أن يُتَّقى؛ لعِلمِه وحِلمِه؛ فعِلمُه مُوجِبٌ للخَوفِ منه، وحِلمُه مُقتَضٍ للاستحياءِ منه، وأخْذُ الحَليمِ شديدٌ؛ فينبغي لعبدِه المحِبِّ له أن يَحلُمَ عمَّن يَعلَمُ تَقصيرَه في حَقِّه؛ فإنَّه سُبحانَه يأجُرُه على ذلك بأن يَحلُمَ عنه فيما عَلِمَه منه، وأن يَرفَعَ قَدْرَه، ويُعليَ ذِكرَه [1039] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/387). .
5- قَولُ الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا تحذيرٌ عن مُجاوَزةِ حُدودِه، وتخطِّي حَلالِه وحَرامِه [1040] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/498). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أنَّه لا بُدَّ في النِّكاحِ مِن المَهرِ [1041] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 388). .
2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... ذُكِرَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما هو الأَولى؛ فإنَّ الزَّوجةَ الَّتي أُوتِيَت مَهْرَها أطيَبُ قَلبًا مِن الَّتي لم تُؤتَ، والمملوكةَ الَّتي سباها الرَّجُلُ بنَفْسِه أطهَرُ مِن الَّتي اشتراها الرَّجُلُ؛ لأنَّها لا يُدرَى كيفَ حالُها، ومَن هاجَرتْ مِن أقاربِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ معه أشرَفُ ممَّن لم تُهاجِرْ [1042] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/176). .
3- قَولُه تعالى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ عامٌّ يَشملُ ما مَلَكْتَه مِن الكِتابيَّاتِ، وما مَلَكْتَه مِن غيرِهنَّ، ولا دليلَ على التَّقييدِ بالكتابيَّةِ [1043] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 383). .
4- قَال تعالى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ يَمِينُكَ ويداك وما أشبهَ ذلك يُعبَّرُ بها عن الذَّاتِ؛ لأنها غالبًا وسيلةُ الأخذِ والإعطاءِ، فقوله: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي: مما مَلَكْتَ، ففيه صِحَّةُ إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه، وهذا كثيرٌ في القرآنِ، ومنه قولُه تعالى: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، وقولُه تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] ؛ فإنَّ الإنسانَ لا يُحَرِّرُ الرَّقَبةَ وحْدَها، بل يُحَرِّرُ كُلَّ العَبدِ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 368 ، 388). .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فيه إشارةٌ إلى ما خَصَّ اللهُ تعالى به نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تحليلِ ما كان حَظَرَه على مَن كان قَبْلَه مِن الغَنائِمِ [1045] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/380). .
6- المحرَّماتُ بالنَّسَبِ: الضَّابِطُ فيه أنَّ جميعَ أقارِبِ الرَّجُلِ مِن النَّسَبِ حرامٌ عليه إلَّا بناتِ أعمامِه وأخوالِه، وعمَّاتِه وخالاتِه، وهذه الأصنافُ الأربعةُ هنَّ اللَّاتي أحلَّهنَّ اللهُ لِرَسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بقَولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50] الآيةَ؛ فأحَلَّ سُبحانَه لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ النِّساءِ أجناسًا أربعةً، ولم يجعَلْ خالِصًا له مِن دونِ المؤمِنينَ إلَّا المَوهوبةَ الَّتي تهَبُ نَفْسَها للنَّبيِّ [1046] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/62). ، فالآيةُ فيها حَصرُ المحلَّلاتِ، يؤخَذُ مِن مَفهومِه: أنَّ ما عداهنَّ مِن الأقارِبِ غَيرُ مُحلَّلٍ، كما تقدَّمَ في سورةِ (النِّساءِ)؛ فإنَّه لا يُباحُ مِن الأقاربِ مِن النِّساءِ غَيرُ هؤلاءِ الأربَعِ. وما عداهُنَّ مِن الفُروعِ مُطلقًا، والأصوِل مُطلقًا، وفُروعِ الأبِ والأمِّ وإن نَزَلوا، وفُروعِ مَن فَوقَهم لصُلبِه: فإنَّه لا يُباحُ [1047] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 669). .
7- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ دلَّ وَصفُ وَامْرَأَةً بأنَّها مؤمنةٌ على أنَّ المرأةَ غيرَ المُؤمِنةِ لا تحِلُّ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهِبةِ نَفْسِها [1048] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/70). .
8- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ دلَّ وَصفُ وَامْرَأَةً بأنَّها مُؤمِنةٌ -بدَلالةِ لحنِ الخِطابِ [1049] لحنُ الخِطابِ: هو إفهامُ الشَّيءِ مِن غيرِ تصريحٍ، وهذا معناه لُغةً، والمرادُ به هنا: مفهومُ المُخالَفةِ، وهو إثباتُ نقيضِ حُكمِ المَنطوقِ به للمَسكوتِ عنه، ويُطلَقُ لحنُ الخِطابِ أيضًا على دَلالةِ الاقتضاءِ، وعلى مفهومِ الموافَقةِ. يُنظر: ((الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل)) للباجي (ص: 288)، ((نفائس الأصول في شرح المحصول)) للقَرافي (2/641)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). - على أنَّه لا يحِلُّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوُّجُ الكتابيَّاتِ، بَلْهَ المُشرِكاتِ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/70). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الخازن)) (3/431). واختلَفوا: هل للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ نِكاحُ الكتابيَّةِ أم لا؟ على قولَينِ. يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوَرْدي (9/23). .
9- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ذُكِرَ وَصفُ النُّبوَّةِ؛ لأنَّه مَدارُ الإكرامِ مِن الخالقِ، والمحبَّةِ مِن الخلائِقِ؛ تَشريفًا له به، وتعليقًا للحُكمِ بالوَصفِ؛ لأنَّه لو قال: (إن وهَبتْ نفسَها لك) كان رُبَّما وقَعَ في بعضِ الأوهامِ أنَّه غيرُ خاصٍّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1051] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/381، 382). . فالآيةُ فيها أنَّ التَّخصيصَ بالحُكمِ لا بُدَّ أنْ يكونَ له عِلَّةٌ تقتضي تخصيصَ ذلك المحكومِ عليه أو له؛ فإنَّ العِلَّةَ في ذلك أنَّه نَبيٌّ، وهذه العِلَّةُ لا تكونُ للمُؤمِنينَ [1052] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 390). .
10- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه مِن خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: النِّكاحُ بلَفظِ الهِبةِ، وبلا مَهرٍ ولا وَليٍّ. وليس ذلك لِغَيرِه [1053] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 212). أما النِّكاحُ بلَفظِ الهِبةِ -معَ استيفاءِ شروطِه وأركانِه- فذهَب الشَّافعيَّةُ والحنابلةُ إلى أنَّه لا يَنعقِدُ، وذهب الحنفيَّةُ إلى أنَّه يَنعقِدُ، وكذلك المالكيَّةُ بشرطِ أن يُسَمِّيَ صَداقًا، وإلَّا فلا. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (41/234). وذهب ابنُ عثيمين إلى أنَّ النِّكاحَ بلَفظِ الهِبةِ يَصِحُّ، قال: (لأنَّ العِلَّةَ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ أنَّه يَتزوَّجُ بدونِ مَهْرٍ، وليس العِلَّةُ اللَّفظَ، بل العِلَّةُ أنْ يكونَ الزَّواجُ بدونِ مَهرٍ، فهذا هو الَّذي يكونُ خاصًّا بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أمَّا لَفظُ الهبةِ فإنَّه قد جاء في أحدِ ألفاظِ حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه في الواهبةِ نفْسَها أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال للرَّجُلِ: «ملَّكْتُكَها بما معكَ مِن القرآنِ»، وهذا أحدُ ألفاظِ البُخاريِّ رحمه اللهُ، وهذا يدُلُّ على جوازِ عَقْدِ النِّكاحِ بمِثلِ هذا اللَّفظِ). يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 391). .
11- في قَولِه تعالى: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ؛ حيث أثبتَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إرادةً، والجَبْريَّةُ لا يُثبِتونَ إرادةً للإنسانِ؛ يقولونَ: إنَّه مُجبَرٌ على عَمَلِه [1054] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 390). !
12- في قَولِه تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أنَّ ما ثَبَتَ في حقِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن الأحكامِ ثَبَتَ في حَقِّ الأُمَّةِ إذا لم يُخَصَّصْ. هذا مذهَبُ السَّلَفِ والفُقَهاءِ [1055] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/82). .
13- قَولُه تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فائِدتُه أنَّ الكُفَّارَ وإن كانوا مُخاطَبينَ بفُروعِ الشَّريعةِ على قولٍ، فليس لهم في ذلك دُخولٌ؛ لأنَّ تصريفَ الأحكامِ إنَّما يكونُ فيهم على تقديرِ الإسلامِ [1056] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/213). .
14- في قَولِه تعالى: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ عنايةُ اللهِ تعالى برسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولُطْفُه به؛ حيث أحَلَّ له ما يَزولُ به عنه الحَرَجُ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 391). .
15- قَولُ الله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ذُكِرَ هذا؛ لِئَلَّا يَحمِلَ واحِدٌ مِن المؤمنينَ نَفْسَه على ما كان للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ له في النِّكاحِ خصائِصَ ليست لغيرِه، وكذلك في السَّراريِّ [1058] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/176). .
16- قَولُ الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ فيه مِن خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عدَمُ وُجوبِ القَسْمِ عليه [1059] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 213). .
17- في قَولِه تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أنَّه يجوزُ للإنسانِ أنْ يَرْجِعَ في حقِّه بعدَ إسقاطِه -هذا إذا كان الحقُّ متجدِّدًا-، أمَّا إذا كان الحقُّ غيرَ متجدِّدٍ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا أسْقَطَه لا يَمْلِكُ الرُّجوعَ فيه [1060] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 399). .
18- في قَولِه تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم داخِلٌ في التَّكليفِ؛ لأنَّ نَفْيَ الوَصفِ عن شَيءٍ ما يدُلُّ على إمكانِ اتِّصافِه به؛ إذْ لو كان مُنتَفيًا مِن الأصلِ ما احتِيجَ إلى نَفْيِه؛ فدلَّ هذا على أنَّه يُمكِنُ أنْ يكونَ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جُناحٌ، وهذا دليلٌ على تَكليفِه بأحكامِ الرِّسالةِ [1061] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 400). .
19- في قَولِه تعالى: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وقولِه: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ إثباتُ العِلَلِ والحِكَمِ للأحكامِ؛ حيث إنَّ الأحكامَ مربوطةٌ بعِلَلِها وحِكَمِها. وإثباتُ الحِكَمِ في أحكامِ اللهِ سبحانه وتعالى الكونيَّةِ والقَدَريَّةِ: كثيرةٌ جدًّا، وكُلُّها تَرُدُّ أيضًا على الجَبْريَّةِ؛ لأنَّ الجَبْريَّةَ يَرون أنَّ أفعالَ اللهِ سُبحانَه وتعالى وأحكامَه غيرُ مُعَلَّلةٍ، وأنَّه تعالى يَفعَلُ لا لِعِلَّةٍ وحِكمةٍ، بل لِمُجَرَّدِ المَشيئةِ [1062] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 400). !
20- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ مُراعاةُ قلوبِ زوجاتِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإدخالُ السُّرورِ عليهنَّ؛ فإنَّ في هذا مراعاةً لقلوبِ هؤلاءِ النِّساءِ حتَّى تَقَرَّ أعينُهُنَّ [1063] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 402). .
21- أنَّ ما في القلبِ ممَّا لا يَملِكُه الإنسانُ لا يُؤاخَذُ عليه؛ لأنَّه لَمَّا ذَكَر أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم مُخَيَّرٌ، قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ يعني: مِن الشَّيءِ الَّذي لا تَملِكونَه؛ ولهذا لا يَحرُمُ على الإنسانِ أنْ يُفَضِّلَ إحدَى نسائِه على الأُخرَى في المحبَّةِ؛ لأنَّ المحبَّةَ محلُّها القَلبُ، ولا يمكِنُ للإنسانِ أنْ يُسَلِّطَ قَلبَه ويُسَخِّرَه حتَّى يُحِبَّ ويَكرَهَ [1064] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 403). !
22- في قَولِه تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ أنَّ التَّكليفَ لا يمكِنُ أنْ يَسقُطَ عن أحدٍ مهما بَلَغَتْ مَنزلتُه في الدِّينِ؛ فيَكونُ في ذلك رَدٌّ على أولئك الَّذين يَزعُمونَ أنَّ الأولياءَ إذا بلَغوا مرتبةً مِن المراتبِ سَقَطَ عنهم التَّكليفُ؛ لأنَّنا نعلمُ أنَّ أعلَى دَرَجاتِ الخَلْقِ عندَ الله تعالى هم الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم السَّلامُ، وأنَّ أعلاهم محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإذا كان هو مَحَلًّا للتَّكليفِ، فمَنْ دونَه مِن بابِ أَولى [1065] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 411). .
23- في قَولِه تعالى: وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ أنَّه لا يجوزُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُطَلِّقَ أحدًا مِن نسائِه ليتزَوَّجَ غيرَها [1066] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 412). ، والحكمةُ أنهنَّ لَمَّا لم يَختَرْنَ عليه غيرَه؛ أُمِر بمكافأتِهنَّ في التَّمسُّكِ بنكاحِهنَّ [1067] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/566). .
24- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فيه دليلٌ على جوازِ أن ينظُرَ الرَّجُلُ إلى مَن يريدُ زواجَها [1068] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/497). ؛ لأنَّ النَّظرةَ الأولى لا تكادُ تُثبِتُ ما عليه المرئيُّ مِن حاقِّ الوَصفِ [1069] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/389). .
25- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كغيرِه مِن البشَرِ؛ يُعجِبُه حُسْنُ النِّساءِ الظَّاهرُ والباطِنُ [1070] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 412). .
26- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ جوازُ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ المرأةَ لحُسْنِها، ويؤيِّدُ هذا قولُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تُنْكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لِمالِها، وحَسَبِها، وجمالِها، ودِينِها؛ فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ )) [1071] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 412). والحديث رواه البخاريُّ (5090)، ومسلم (1466) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. .
27- في قَولِه تعالى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ أنَّ الوَطْءَ بمِلْكِ اليَمينِ أهوَنُ على المرأةِ مِن الوَطْءِ بالزَّواجِ؛ ولهذا أباح اللهُ سُبحانَه وتعالى للإنسانِ ألَّا يَعْدِلَ بيْنَ سَراريِّه؛ لأنَّ الغَيرةَ بيْنَهنَّ ليست كالغَيرةِ بينَ الزَّوجاتِ [1072] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 412). .
28- في قَولِه تعالى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ تفضيلُ اليمينِ على الشِّمالِ؛ حيثَ نَسَبَ الملكيَّةَ إليها دونَ الشِّمالِ! ولم يُعَبِّرْ باليدِ الشِّمالِ عن الذاتِ أبدًا؛ ولكنْ عَبَّرَ بالأيدي عمومًا وعَبَّرَ باليمينِ، وأمَّا التَّعبيرُ بالشِّمالِ فلمْ يَرِدْ [1073] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 414). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لاختِصاصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأطيَبِ الأزْكَى بعْدَ أنْ خيَّرَ نِساءَه فاختَرْنَه، وهو خبرٌ مُرادٌ به التَّشريعُ. ودُخولُ حَرْفِ (إنَّ) عليه لا يُنافي إرادةَ التَّشريعِ؛ إذ مَوقعُ (إنَّ) هنا لِمُجرَّدِ الاهتِمامِ، والاهتمامُ يُناسِبُ كُلًّا مِن قَصدِ الإخبارِ وقَصْدِ الإنشاءِ؛ ولذلك عُطِفَت على مَفعولِ أَحْلَلْنَا مَعطوفاتٌ قُيِّدَت بأَوصافٍ لم يَكُنْ شَرْعُها مَعلومًا مِن قبْلُ؛ وذلك في قولِه: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وما عُطِفَ عليه، باعتبارِ تَقييدِهنَّ بوَصفِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ، وفي قولِه: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا باعتبارِ تَقييدِها بوَصفِ الإيمانِ، وتَقييدِها بـ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ وأَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا [1074] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/549)، ((تفسير أبي السعود)) (7/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/63)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/34). .
- قولُه: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ إضافةُ (أزواج) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تُفِيدُ أنَّهنَّ الأزواجُ اللَّاتي في عِصمتِه؛ فيَكونُ الكلامُ إخبارًا لِتَقريرِ تَشريعٍ سابقٍ، ومَسوقًا مَساقَ الامتِنانِ، ثمَّ هو تَمهيدٌ لِمَا سَيَتْلوهُ مِن التَّشريعِ الخاصِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قولِه: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ إلى قولِه: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ [1075] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/64). [الأحزاب: 52] .
- قولُه: مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ الوَصْفانِ ببَناتِ عمِّه وعمَّاتِه وبَناتِ خالِه وخالاتِه وبأنَّهنَّ هاجرْنَ معه؛ غيرُ مَقصودٍ بهما الاحترازُ عمَّن لَسْنَ كذلك، ولكنَّه وَصْفٌ كاشفٌ مَسوقٌ للتَّنويهِ بشَأنِهنَّ، على قَولٍ [1076] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/65). .
- وخَصَّ هؤلاء النِّسوةَ مِن عُمومِ المنعِ؛ تكريمًا لشأنِ القَرابةِ والهِجرةِ الَّتي هي بمنزلةِ القَرابةِ؛ لقولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [1077] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/65). [الأنفال: 72] .
- وأُفرِدَ لفظُ (عمٍّ) وجُمِعَ لَفظُ (عمَّاتٍ)؛ لأنَّ العمَّ في استِعمالِ كَلامِ العرَبِ يُطلَقُ على أخي الأبِ، ويُطلَقُ على أخي الجَدِّ، وأخي جَدِّ الأبِ... وهكذا؛ فهمْ يَقولون: هؤلاء بَنو عمٍّ أو بَناتُ عمٍّ، إذا كانوا لِعَمٍّ واحدٍ أو لِعِدَّةِ أعمامٍ، فأمَّا لَفظُ (العمَّةِ) فإنَّه لا يُرادُ به الجِنسُ في كَلامِهم، فإذا قالوا: هؤلاء بَنو عمَّةٍ، أرادوا أنَّهم بنو عَمَّةٍ مُعَيَّنةٍ؛ فَجِيءَ في الآيةِ عَمَّاتِكَ جَمْعًا؛ لِئلَّا يُفهَمَ منه بَناتُ عمَّةٍ مُعيَّنةٍ. وكذلك القولُ في إفرادِ لَفظِ (الخال) مِن قولِه: (بَنَاتِ خَالِكَ)، وجَمْعِ الخالةِ في قولِه: وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ [1078] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/492)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/66). .
وقيل: وحَّد لَفظَ الذَّكَرِ؛ لِشَرَفِه، وجمَعَ الإناثَ؛ لِنَقصِهنَّ، كقَولِه تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل:48] ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وله نظائِرُ كثيرةٌ [1079] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/442) .
وقيل: جُمِعَ لفظُ العَمِّ والخَالِ دونَ العَمَّاتِ والخالاتِ بسببِ أنَّ قوَّةَ صِلَةِ العَمِّ بالإنسانِ أقوى مِن قوَّةِ صِلَةِ العَمَّةِ؛ فلهذا جُمِعَ، وإلَّا فمِنَ المعلومِ أنَّ الإنسانَ له أعمامٌ وليس له عَمٌّ واحدٌ فقط، وبناتُ أعمامِه كُلُّهُنَّ حلالٌ [1080] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 370)، وقد ذكَر أنَّ هذا الوجهَ هو الأقربُ. .
وقيل: لأنَّ العَمَّ والخالَ بوَزنِ مَصدَرينِ، وهما: (الضَّمُّ) و (المالُ)، والمصدَرُ يَستوي فيه المفرَدُ والجَمعُ، بخلافِ العَمَّةِ والخالةِ [1081] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 462، 463). .
وقيل: أفردَ العَمَّ؛ لأنَّ واحِدَ الذُّكورِ يُجمَعُ مِن غيرِه؛ لِشَرفِه وقوَّتِه، وكَونِه الأصلَ الَّذي تفرَّعَ منه هذا النَّوعُ، وجَمَع الإناثَ؛ لأنَّ المرادَ به الجِنسُ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المرادَ إباحةُ الأخواتِ مجتَمِعاتٍ [1082] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/380). .
- قولُه: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ التَّنكيرُ في (امْرَأَةً) للنَّوعيَّةِ، والمعنى: ونُعلِمُك أنَّا أحلَلْنا لك امرأةً مُؤمِنةً بقَيدِ أنْ تهَبَ نفْسَها لك، وأنْ تُرِيدَ أنْ تَتزوَّجَها؛ فقولُه: لِلنَّبِيِّ و(النَّبِيُّ) في المَوضعينِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ والمعنى: إنْ وهبَتْ نفْسَها لك وأردتَ أنْ تَنكِحَها، وهذا تَخصيصٌ مِن عُمومِ قولِه: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ، فإذا وهَبَتِ امرأةٌ نفْسَها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأراد نِكاحَها؛ جازَ له ذلك بدونِ ذَينِك الشَّرطينِ، ولأجْلِ هذا وُصِفَت (امْرَأَةً) بـ مُؤْمِنَةً؛ لِيُعلَمَ عدَمُ اشتراطِ ما عَدا الإيمانَ [1083] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/550)، ((تفسير البيضاوي)) (4/235)، ((تفسير أبي السعود)) (7/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/67). .
- وأيضًا في قولِه: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: إنْ وهَبَتْ نفْسَها لكَ، والغرَضُ مِن هذا الإظهارِ ما في لَفظِ (النَّبيِّ) مِن تَزكيةِ فِعلِ المرأةِ الَّتي تهَبُ نفْسَها؛ بأنَّها راغبةٌ لِكَرامةِ النُّبوَّةِ. والعُدولُ عن الإضمارِ في قولِه: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ بأنْ يُقالَ: إنْ أراد أنْ يَستنكِحَها؛ لِمَا في إظهارِ لَفظِ (النَّبيِّ) مِن التَّفخيمِ والتَّكريمِ، وبيانِ عُلُوِّ شأنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [1084] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/550)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/458)، ((تفسير أبي حيان)) (8/493)، ((تفسير أبي السعود)) (7/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/69)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 389). .
- وقولُه: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ وبيْنَ خَالِصَةً لَكَ، وليس مَسوقًا للتَّقييدِ؛ إذ لا حاجةَ إلى ذِكرِ إرادتِه نِكاحَها؛ فإنَّ هذا مَعلومٌ مِن معنى الإباحةِ، وإنَّما جِيءَ بهذا الشَّرطِ لِدفْعِ تَوهُّمِ أنْ يكونَ قَبولُه هِبتَها نفْسَها له واجبًا عليه كما كان عُرفُ أهْلِ الجاهليَّةِ، ولِكَيْ لا يُلزِمَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفْسَه قَبولَ الهِبةِ لِمَا عُلِم مِن خُلُقِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لذا أثبَت الله عزَّ وجلَّ له الإرادةَ والتَّخييرَ في هذه الحالِ. وجَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: إنْ أراد أنْ يَستنكِحَها فهي حلالٌ له، فهذا شَرطٌ مُستقِلٌّ، وليس شَرطًا في الشَّرطِ الَّذي قبْلَه [1085] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/69). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 373). .
- وفي قولِه: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والسِّرُّ في الالتفاتِ هنا أنَّه رُجوعٌ إلى أصْلِ الكلامِ؛ فقد صُدِّر الكلامُ بمُخاطَبةِ النَّبيِّ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ إلخ، ثمَّ عُدِلَ عن الخِطابِ إلى الغَيبةِ في قولِه: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا؛ للإيذانِ بأنَّه ممَّا خُصَّ به وأُوثِرَ، وأنَّ هذا الاختصاصَ تَكرِمةٌ له مِن أجْلِ النُّبوَّةِ [1086] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/550)، ((تفسير البيضاوي)) (4/235)، ((تفسير أبي حيان)) (8/493)، ((تفسير أبي السعود)) (7/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/70)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/38). .
- ولَمَّا كان التَّخصيصُ لا يَصِحُّ ولا يُتصَوَّرُ إلَّا مِن مُحيطِ العِلمِ بأنَّ هذا الأمرَ ما كان لغيرِ المخصوصِ تامِّ القُدرةِ لِيَمنَعَ غيرَه مِن ذلك؛ عَلَّلَه بقَولِه: قَدْ أي: أخبَرْناك بأنَّ هذا أمرٌ يخُصُّك دونَهم؛ لأنَّا قد عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا [1087] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبِقاعي (15/383). .
- قولُه: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ ... تَعديةُ فِعلِ فَرَضْنَا بحَرْفِ (على) المُقتضي للتَّكليفِ والإيجابِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مِن شرائعِ أزواجِهم وما ملَكَت أَيْمانُهم ما يَوَدُّونَ أنْ يُخفَّفَ عنهم، مِثلُ عَددِ الزَّوجاتِ، وإيجابِ المُهورِ والنَّفقاتِ، فإذا سَمِعوا ما خُصَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن التَّوسِعةِ في تلك الأحكامِ، وَدُّوا أنْ يُلحَقوا به في ذلك؛ فسَجَّلَ اللهُ عليهم أنَّهم باقونَ على ما سبَقَ شَرْعُه لهم في ذلك. والإخبارُ بأنَّ اللهَ قد عَلِمَ ذلك كِنايةٌ عن بَقاءِ تلك الإحكامِ؛ لأنَّ معناهُ: أنَّا لم نَغفُلْ عن ذلك، أي: لمْ نُبطِلْه، بلْ عن عِلْمٍ خَصَّصْنا نَبيَّنا بما خَصَّصْناه به في ذلك الشَّأنِ، فلا يَشملُ ما أحلَلْناه له بقيَّةَ المؤمنينَ؛ فالجُملةُ اعتراضٌ بيْنَ قولِه: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ومُتعلَّقِه -وهو خَالِصَةً-؛ للدَّلالةِ على أنَّ الفرْقَ بيْنَه وبيْنَ المؤْمِنِينَ في نحوِ ذلك لا لِمُجرَّدِ قَصْدِ التَّوسيعِ عليه، بلْ لِمَعانٍ تَقْتضي التَّوسيعَ عليه والتَّضييقَ عليهم تارةً، وبالعكسِ أُخْرى [1088] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/236)، ((تفسير أبي حيان)) (8/494)، ((تفسير أبي السعود)) (7/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/70، 71). .
- قولُه: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ تَعليلٌ لِمَا شرَعه اللهُ تعالى في حَقِّ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الآياتِ السَّابقةِ مِن التَّوسِعةِ بالازديادِ مِن عَددِ الأزواجِ، وتَزوُّجِ الواهباتِ أنفُسَهنَّ دونَ مَهرٍ، وجَعْلِ قَبولِ هِبَتِها مَوكولًا لإرادتِه، وبما أبْقَى له مِن مُساواتِه أُمَّتَه فيما عدَا ذلك مِن الإباحةِ، فلم يُضيِّقْ عليه، وهذا تَعليمٌ وامتِنانٌ [1089] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/71). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا تَذييلٌ لِمَا شَرَعَه مِن الأحكامِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: إنَّ ما أردْناهُ مِن نَفْيِ الحرَجِ عنك هو مِن مُتعلَّقاتِ صِفَتيِ الغُفرانِ والرَّحمةِ، وجُعِلَ اتِّصافُ اللهِ بهما أمْرًا مُتمكِّنًا بما دلَّ عليه فِعلُ (كان) المُشيرُ إلى السَّابقيَّةِ والرُّسوخِ [1090] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/71، 72). .
2- قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا
- قولُه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ إلى قَولِه: لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب: 50] ؛ فإنَّه يُثِيرُ في النَّفْسِ تَطلُّبًا لِبَيانِ مَدَى هذا التَّحليلِ. والجُملةُ خَبرٌ مُستعمَلٌ في إنشاءِ تَحليلِ الإرجاءِ والإيواءِ لِمَن يَشاءُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1091] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/72). .
- ومُقابَلةُ الإرجاءِ بالإيواءِ في قولِه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ تَقْتضي أنَّ الإرجاءَ مُرادٌ منه ضِدُّ الإيواءِ، أو أنَّ الإيواءَ ضِدُّ الإرجاءِ، وبذلك تَنشَأُ احتمالاتٌ في المُرادِ مِن الإرجاءِ والإيواءِ صَريحِهما وكِنايتِهما [1092] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/72، 73). .
- قولُه: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ لِبَيانِ أنَّ التَّخييرَ لا يُوجِبُ استِمرارَ ما أخَذَ به مِن الطَّرَفينِ المُخيَّرِ بيْنَهما، أي: لا يكونُ عمَلُه بالعزْلِ لازمًا للدَّوامِ بمَنزلةِ الظِّهارِ والإيلاءِ، بلْ أذِنَ اللهُ أنْ يَرجِعَ إلى مَن يَعزِلُها منْهنَّ؛ فصرَّحَ هنا بأنَّ الإرجاءَ شاملٌ للعزْلِ؛ ففي الكلامِ جُملةٌ مُقدَّرة ٌدلَّ عليها قولُه: ابْتَغَيْتَ؛ إذ هو يَقْتضي أنَّه ابْتَغى إبطالَ عَزْلِها، فمَفعولُ ابْتَغَيْتَ مَحذوفٌ دَلَّ عليه قولُه: وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ، كما هو مُقْتضى المُقابَلةِ بقولِه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ؛ فإنَّ العزْلَ والإرجاءَ مُؤدَّاهما واحدٌ [1093] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/74). .
- ومُتعلِّقُ الجُناحِ في قولِه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: ابْتَغَيْتَ، أي: ابتغَيْتَ إيواءَها فلا جُناحَ عليك مِن إيوائِها [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/74). .
- وفي قَولِه: وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إشارةٌ إلى أنَّ المُرادَ الرِّضا الَّذي يَتساوينَ فيه، وإلَّا لم يكُنْ للتَّأكيدِ بـ كُلُّهُنَّ نُكتةٌ زائدةٌ؛ فالجمْعُ بيْن ضَميرِهنَّ في قولِه: كُلُّهُنَّ يُومِئُ إلى رِضًا مُتساوٍ بيْنَهنَّ [1095] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/76). ، حتى لا يَتَوَهَّمَ واهمٌ أنَّ رضا بعضِهنَّ وانتفاءَ الحُزْنِ عنهُنَّ كافٍ في ذلك! بل الرِّضا يكونُ للجميعِ [1096] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 403). .
- وذِكْرُ وَلَا يَحْزَنَّ بعدَ ذِكرِ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ -مع ما في قُرَّةِ العَينِ مِن تَضمُّنِ مَعنى انتفاءِ الحُزْنِ-: إيماءٌ إلى تَرغيبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ابتغاءِ بَقاءِ جَميعِ نِسائِه في مُواصلَتِه؛ لأنَّ في عَزْلِ بَعضِهنَّ حُزْنًا للمَعزولاتِ، وهو بالمؤمنينَ رَؤوفٌ لا يُحِبُّ أنْ يُحزِنَ أحَدًا [1097] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/76). .
- والتَّذْييلُ بقَولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا كلامٌ جامعٌ لِمَعنى التَّرغيبِ والتَّحذيرِ؛ ففيه تَرغيبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الإحسانِ بأزواجِه وإمائِه والمُتعرِّضاتِ للتَّزوُّجِ به، وتَحذيرٌ لهنَّ مِن إضمارِ عدَمِ الرِّضا بما يَلْقَينَه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي إجراءِ صِفتيْ عَلِيمًا حَلِيمًا على اسمِ الجلالةِ: إيماءٌ إلى ذلك؛ فمُناسَبةُ صِفةِ العِلمِ لقولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ظاهرةٌ، ومُناسَبةُ صِفَةِ الحليمِ باعتبارِ أنَّ المقصودَ تَرغيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ألْيَقِ الأحوالِ بصِفَةِ الحليمِ [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/76، 77). .
3- قوله تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا مَوقِعُ هذه الآيةِ في المُصحَفِ عقِبَ الَّتي قبْلَها يدُلُّ على أنَّها كذلك نزَلَتْ، وأنَّ الكلامَ مُتَّصِلٌ بعضُه ببعضٍ، ومُنتظِمٌ هذا النَّظْمَ البديعَ، على أنَّ حَذْفَ ما أُضِيفَت إليه بَعْدُ يدُلُّ على أنَّه حَذْفٌ مَعلومٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابقُ، وتَقديرُ المُضافِ إليه المحذوفِ: مِن بَعدِ الأصنافِ المذكورةِ بقولِه: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب: 50] إلخ [1099] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/77). ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ أَزْوَاجٍ مَزيدةٌ على المفعولِ الثَّاني لـ تَبَدَّلَ؛ لِقَصْدِ إفادةِ العُمومِ، وتَأكيدِ النَّفيِ، وفائدتُه استِغراقُ جِنسِ الأزواجِ بالتَّحريمِ، والتَّقديرُ: ولا أنْ تَبدَّلَ بهنَّ أزواجًا أُخَرَ [1100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/553)، ((تفسير البيضاوي)) (4/236)، ((تفسير أبي حيان)) (8/497)، ((تفسير أبي السعود)) (7/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/79)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/37). .
- قولُه: وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ أي: إنَّ مَن حصَلَتْ في عِصمتِك مِن الأصنافِ المذكورةِ لا يَحِلُّ لك أنْ تُطلِّقَها؛ فكُنِّيَ بالتَّبدُّلِ عن الطَّلاقِ لأنَّه لازِمُه في العُرْفِ الغالبِ؛ لأنَّ المَرْءَ لا يُطلِّقُ إلَّا وهو يَعتاضُ عن المُطلَّقةِ امرأةً أُخرى [1101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/79). .
- وفي جُملةِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إيذانٌ بأنَّ اللهَ لَمَّا أباحَ لِرَسولِه الأصنافَ الثَّلاثةَ، أرادَ اللُّطفَ له، وألَّا يُناكِدَ رَغبتَه إذا أعجَبَتْه امرأةٌ، لكنَّه حدَّدَ له أصنافًا مُعيَّنةً وفيهنَّ غَناءٌ، وأُكِّدَت هذه المُبالَغةُ بالتَّذييلِ مِن قولِه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا، أي: عالِمًا بِجَرْيِ كلِّ شَيءٍ على نَحوِ ما حدَّدهُ أو على خِلافِه، فهو يُجازي على حسَبِ ذلك. وهذا وَعدٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بثَوابٍ عظيمٍ على ما حدَّدَ له مِن هذا الحُكمِ، كما أنَّ فيه تَحذيرًا مِن مُجاوَزةِ حُدودِ اللهِ وتَخطِّي حَلالِه وحَرامِه [1102] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/498)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/80). ، فلَمَّا كان المَقامُ مقامَ تحليلٍ وتحريمٍ خَتَمَ الله تعالى الآيةَ بقولِه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا، يعني: فهو يُراقبُك لو خالفْتَ ما شَرَعَ لك، وهذا مِن بلاغةِ القرآنِ؛ حيث يَخْتِمُ الآياتِ بما يُناسِبُ الأحكامَ الموجودةَ فيها [1103] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 414). .
- والاستِثناءُ في قولِه: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مُنقطِعٌ، والمعنى: لكنْ ما ملَكَتْ يَمينُك حلالٌ في كلِّ حالٍ، والمَقصودُ مِن هذا الاستِدراكِ: دَفْعُ تَوهُّمِ أنْ يكونَ المُرادُ مِن لَفظِ النِّساءِ في قولِه: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ ما يُرادِفُ لَفظَ الإناثِ دونَ استعمالِه العُرفيِّ بمَعنى الأزواجِ [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/80). .