موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (78 - 81)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ

مشكل الإعراب:

قوله: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أَنْ سَخِطَ: أنْ: حرفٌ مَصدريٌّ ناصِبٌ، وسَخِطَ: فِعلٌ ماضٍ تَعلَّق به الجارُّ والمجرورُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ سَخِطَ: مَصدرٌ مؤوَّلٌ، ومحلُّه الرفْع على أنَّه مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وخبرُه المقدَّمُ جملةُ الفِعلِ الجامِدِ (بِئْسَ)، والتقديرُ: سَخَطُ اللهِ عليهم بِئَسَ ما قدَّمتْه لهم أنفُسُهم. وقيل: أَنْ سَخِطَ: مَصْدر مُؤَوَّلٌ في محَلِّ رفعٍ خَبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه (هو)، والتقديرُ: بِئَسَ ما قدَّمتْه لهم أنفُسُهم هو سَخَطُ اللهِ. وقيل غير ذلك [1470] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/454)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/384-386)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/272). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَعَن كفَّارَ بني إسرائيلَ بأنْ طرَدَهم مِن رَحمتِه على لِسانِ نَبيَّينِ كَريمينِ؛ هما داودُ وعيسى عليهما السَّلامُ، وذلك بسببِ عِصيانِهم لخالقِهم، واعتدائِهم على حُقوقِ العِبادِ، ثمَّ فسَّر سبحانه عِصيانَهم وعُدوانَهم بأنَّهم كانوا لا يَنهَى بعضُهم بعضًا عن ارتكابِ المعاصِي والموبِقات، لبئسَ فِعلًا تَركُهم التَّناهي عن المعاصِي.
ثمَّ يحَكِي الله تعالى ما كان يقومُ به اليهودُ في العَهْدِ النبويِّ من تحالفٍ مع المشركين ضدَّ المسلمين، وأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يرَى كثيرًا من اليهودِ يُوالونَ الكفَّارَ والمشركين، ولبِئسَ الشيء الذي قدَّمته لهم أنفسُهم ليوم المعاد هو ما استحقُّوا به سَخطَ اللهِ عز وجل عليهم، وفي عَذابِ جهنَّمَ هم خالدونَ، ولو أنَّ اليهودَ يُؤمِنون باللهِ تعالى حقًّا وبمحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبالقرآنِ الكريمِ، ما والَوُا الكفَّارَ، ولكنَّ كثيرًا منهم فاسِقونَ.

تفسير الآيات:

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سبحانَه في الآيةِ السابقَةِ أنَّهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، دلَّل على ذلِك بلَعْنِهم مِن أنبيائِهم [1471] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/292). ، فقال:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد طَرَدَ كُفَّارَ بني إسرائيلَ، وأَبْعدَهم عن رَحمتِه بدَعوةِ نبيَّيْهِ داودَ وعِيسى عليهم بذلِك [1472] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/586، 591)، ((تفسير ابن كثير)) (3/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/292)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/234). .
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
أي: إنَّ ذلِك اللَّعنَ قدْ وقَع عليهم بسببِ عِصيانهم للهِ تعالى، وظُلمِهم لعبادِه [1473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/591)، ((تفسير ابن كثير)) (3/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/234- 235). وممَّن جعَلَ الإشارة في قولِه: ذَلِكَ إلى اللَّعن: ابنُ عطية في ((تفسيره)) (2/224)، والقرطبيُّ في ((تفسيره)) (6/253)، وابنُ عاشور في ((تفسيره)) (6/292)، وابن عثيمين في ((تفسير سورة المائدة)) (2/234- 235). وممَّن جعَلَ الإشارةَ في قوله: ذَلِكَ إلى الكفرِ واللَّعن معًا: السعديُّ في ((تفسيره)) (ص: 241) .
ثم بَيَّن اللهُ تعالى حالَهم فيما كانوا يَعتمِدونَه في زَمانِهم، مِن عُدوانٍ ومعاصٍ أحَلَّتْ بهم الْمَثُلاتِ، وأوقعتْ بهم العُقوباتِ [1474] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/235). ، فقال سبحانه:
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.
أي: كان لا يَنهى بعضُهم بعضًا عن رُكوبِ المعاصِي وارتكابِ المُحرَّمات [1475] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/235- 236). .
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
أي: واللهِ بِئسَ الشَّيءُ الذي كانوا يَفعلونَه، وهو ترْكُهم النَّهيَ عن معاصِي اللهِ تعالى [1476] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/294)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/236). .
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى أسلافَهم بما تَقدَّمَ بأنَّهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وأخْبَرَ أنهم كانوا يُقرُّون المنكراتِ، ودلَّل على ذلك بأمرٍ ظاهرٍ منهم، فوصَف الحاضرينَ منهم بأنَّهم يَتولَّوْن الكفَّارَ وعبدةَ الأوثانِ [1477] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/412)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/266). ، فقال:
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: ترَى- يا مُحمَّدُ [1478] قال ابنُ عَطيَّة: (وقوله تعالى لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: تَرَى كَثِيرًا يحتمل أنْ يكون رؤيةَ قلبٍ، وعلى هذا فيحتمل أنْ يُريد من الأسلاف المذكورين، أي: ترَى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أنْ يُريد من مُعاصري محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه كان يرى ذلك من أمورِهم ودلائلَ حالهم، ويحتمل أنْ تكونَ الرؤيةُ رؤيةَ عينٍ، فلا يريد إلَّا معاصري محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم) ((تفسير ابن عطية)) (2/224). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/244). - كثيرًا من اليهودِ يتَّخذون الكفَّارَ والمشركين أولياءَ لهم [1479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/592)، ((تفسير القرطبي)) (6/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/244- 245). قال ابنُ عثيمين: (ومِن هؤلاء اليهودُ حينما ساعَدوا قريشًا عامَ غزوة الأحزاب؛ فإنَّهم تولَّوا الذين كفروا وساعدوهم وعاونوهم، ومِن هذا تولِّي اليهود للنصارى في وقتنا الحاضِر، هذا إذا قلنا: إنَّ «ترَى» عامَّة؛ لأنَّ النصارى من الذين كفروا؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة: 6] ، وهذا بيانٌ للذين كفروا) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/245). .
لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ.
أي: واللهِ بِئسَ الشَّيءُ الذي قدَّمتْه لهم أنفسُهم لِمَعادِهم في الآخِرة، بموالاتِهم الكافرينَ والمشركين، وهو سَخَطُ اللهِ تعالى عَليهم سَخَطًا مُستمرًّا إلى يَومِ القِيامةِ؛ الذي يَنتقلونَ فيه إلى عذابٍ أبديٍّ [1480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/592)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 331)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/295)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/217- 218). .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانَ تولِّيهم الكفَّارَ قدْ يكون دليلًا على كُفرِهم؛ لقوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أكَّدَ ذلك الكُفرَ بقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ.... [1481] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/267). .
 فقال تعالى:
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ.
أي: ولوْ أنَّ اليهودَ آمنوا حقًّا باللهِ تعالى وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبالقرآنِ العظيمِ، لَمَا جعَلوا الكفَّارَ أولياءَ لهم مِن دون المؤمنين؛ فإنَّ الإيمانَ بذلِك يُوجِبُ على العَبدِ موالاةَ ربِّه سبحانه وأوليائِه المؤمنين، وبُغضَ أعدائِه الكافِرين ومعاداتَهم [1483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/593)، ((تفسير ابن كثير)) (3/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/251- 252). .
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: ولكنَّ كثيرًا مِن هؤلاءِ أهلُ خُروجٍ عن الإيمانِ بما يجِبُ عليهم الإيمانُ به إلى الكُفرِ به، وعن طاعةِ اللهِ تعالى إلى مَعصيتِه سبحانه [1484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/593)، ((تفسير ابن كثير)) (3/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 241)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/296)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/252). .

الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ من قولِه تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.... كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ أنَّ السُّكوتَ عن المنكَرِ مع القُدرةِ موجِبٌ للعقوبة؛ لِمَا فيه من المفاسدِ العظيمة، التي منها:
أولًا: أنَّ مجرَّدَ السُّكوت فِعلُ معصيةٍ، وإنْ لم يباشرْها السَّاكتُ؛ فإنَّه- كما يجبُ اجتنابُ المعصيةِ- يجبُ الإنكارُ على مَن فعَلَ المعصيةَ، وعدمُ الإنكارِ يدلُّ على التهاوُنِ بالمعاصي، وقِلَّةِ الاكتراثِ بها.
ثانيًا: أنَّ ذلك يُجرِّئ العصاةَ والفَسَقةَ على الإكثارِ من المعاصي إذا لم يُردَعوا عنها، فيزدادُ الشرُّ، وتعظُم المصيبةُ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، ويكون لهم الشوكةُ والظهور، ثم بعدَ ذلك يَضعُف أهلُ الخيرِ عن مُقاومةِ أهلِ الشرِّ؛ حتى لا يَقدِروا على ما كانوا يَقدِرون عليه أوَّلًا.
ثالثًا: أنَّ في ترْكِ الإنكارِ للمُنكَر اندِراسَ العِلم، وكثرةَ الجَهل؛ فإنَّ المعصية- مع تكرُّرِها وصُدورِها من كثيرٍ من الأشخاص، وعدَم إنكارِ أهلِ الدِّين والعِلم لها- يُظَنُّ أنَّها ليستْ بمعصية، وربَّما ظنَّ الجاهلُ أنَّها عبادةٌ مُستحسَنةٌ، وأيُّ مفسدةٍ أعظمُ مِن اعتقادِ ما حرَّم اللهُ حلالًا، وانقلابِ الحقائقِ على النُّفوسِ، ورؤيةِ الباطل حقًّا؟!
رابعًا: أنَّ السكوت على معصيةِ العاصين، ربَّما يُزيِّن المعصيةَ في صُدورِ النَّاسِ، ويقتدي بعضُهم ببعضٍ؛ فالإنسانُ مُولَع بالاقتداءِ بأضرابِه وبَني جِنسِه [1485] ينظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 241).
2- يُستفادُ من قولِه تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ . قال ابنُ عَطيَّة: (والإجماعُ على أنَّ النهي عن المنكر واجبٌ لِمَن أطاقَه، ونهَى بمعروفٍ وأمِن الضررَ عليه وعلى المسلمين، فإنْ تعذَّر على أحدٍ النهيُ لشيءٍ من هذه الوجوهِ، ففرضٌ عليه الإنكارُ بقلبِه، وأنْ لا يُخالِطَ ذا المنكرَ) ((تفسير ابن عطية)) (2/224). .
3- التَّحذيرُ من موالاةِ الكافرينَ؛ لقوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ...، وموالاةُ الكافرين أنواعٌ كثيرة، منها ما يصِلُ إلى الكُفرِ، ومنها ما هو دون ذلك [1487] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/247). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ تَرْكَ التَّناهي عن المنكَرِ سببٌ لِلَعنةِ اللهِ للعَبدِ وطَرْدِه وإبعادِه من رَحمتِه، والعياذُ باللهِ؛ لقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [1488] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/390)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/238). .
2- قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قد تقرَّر في غير موضعٍ مِن القرآنِ ما جرَى في مُدَّة موسى عليه السَّلامُ مِن كُفرِ بعضِهم وعُتوِّهم، وكذلك أمرُهم مع محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم كان مشاهدًا في وقتِ نُزولِ القرآن، فخَصَّت هذه الآيةُ داودَ وعيسى؛ إعلامًا بأنَّهم لُعِنوا في الكتُبِ الأربعةِ، وأنَّهم قدْ لُعِنوا على لِسانِ غيرِ موسى ومحمَّد عليهما السَّلامُ [1490] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/223). .
3- أنَّ مِن بني إسرائيلَ قبل مَبعَث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَن هو كافرٌ، ومنهم مَن هو مؤمنٌ؛ لقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وهذا هو الواقعُ؛ فإنَّ منهم مؤمنِين، كالحواريِّين لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وكالقومِ الذين اختارَهم موسى سَبعينَ رجلًا، وغير ذلك [1491] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/237). .
4- أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يَظلِمُ الناسَ شيئًا، وأنَّه لا يُعاقِبُ أحدًا بعقوبةٍ إلَّا بذنبٍ؛ لقولِه: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [1492] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/237). .
5- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ الإخبارُ بفُشُوِّ المنكراتِ فيهم، وانتشارِ مَفاسدِها بينهم؛ لأنَّ وجودَ العِلَّة يَقتضي وجودَ المعلولِ، ولولا استمرارُ وقوعِ المنكرات لَمَا صحَّ أن يكونَ تركُ التناهي شأنًا من شؤونِ القومِ، ودأْبًا من دُؤوبهم [1493] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/265)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/406). .
6- قال تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أطْلَق على ترْكِ التناهي لفظَ الفِعل في قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مع أنَّه ترْكٌ؛ لأنَّ السُّكوتَ على المنكَرِ لا يَخلو من إظهارِ الرِّضا به والمشاركةِ فيه [1494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/294). ، وعلى القولِ بأنَّ التركَ فعلٌ، فلا يحتاجُ لهذا التَّوجيهِ.
7- في قولِه تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ما يدلُّ على سُوءِ ما عليه بعضُ المسلمين في إعراضِهم عن بابِ التَّناهي عن المناكيرِ، وقِلَّة اهتمامِهم به؛ كأنَّه ليس مِن مِلَّةِ الإسلامِ في شَيءٍ مَع ما يَتْلُونَ مِن كلامِ اللَّهِ، وما فيه مِنَ المبالغاتِ في بابِ الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكَرِ [1495] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/667). .
8- الردُّ على الجَبريَّة؛ لقوله: قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وقوله أيضًا: يَتَوَلَّوْنَ [1496] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/248). .
9- إثباتُ صِفة السَّخَطِ للهِ عزَّ وجلَّ على ما يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه؛ لقوله: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [1497] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/249). .
10- أنَّ اتِّخاذَ الكافرينَ أولياءَ مُنافٍ للإيمانِ باللهِ ورسولِه وكتابِه؛ لقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [1499] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/407)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/251). .
11- الاستدلالُ بالمحسوسِ على المعقولِ، وإن شئتَ فقُل: بالمشاهَدِ على الخفيِّ؛ لقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وجه ذلك: أنَّ الإيمانَ في القلبِ، ولا أحدَ يَعلمُ عن الإيمانِ الذي في القَلبِ، لكنَّ الآثارَ تدلُّ عليه، والأثَر الذي دلَّنا على أنَّهم لم يُؤمنوا هنا، هو تولِّي الكفَّارِ، واتِّخاذهم أولياءَ [1500] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/408)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/255). .
12- أنَّ الفِسقَ يُطلقُ على الكفرِ؛ لقولِه: وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، ودليلُ ذلِك أيضًا قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأوَاهُمْ النَّارُ [السجدة: 20] ، في مقابلِ الذين آمنوا، وإذا جاءَ الفسقُ في مقابلِ الإيمانِ، والوعيدُ في مقابل الوعدِ؛ فالمراد به الكفرُ [1501] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/255). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ... جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا فيها تخلُّص بديعٌ؛ لتخصيصِ اليهودِ بإلقاءِ اللَّوْم عليهم، وذِكرهم بالسُّوء دون النَّصارى [1502] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/292). .
- وجاء التَّعبير بحرف الجرِّ (على) في قوله: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ بدلًا من باءِ الملابسة؛ لإظهارِ تمكُّنِ الملابسةِ، وقصْدِ المبالغةِ فيها، أي: لُعِنوا بلسانِ داودَ، أي: بكلامِه المُلابسِ للِسانِه [1503] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/292). .
2- قوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الجملةُ مستأنَفة واقعةٌ موقعَ الجوابِ عمَّا نشَأ مِن الكلامِ، كأنَّه قيل: بأيِّ سببٍ وقعَ ذلك؟ فقيل: ذلك اللعنُ الهائلُ الفظيعُ بسببِ عِصيانِهم واعتدائِهم المستمرِّ، كما يُفيدُه الجمعُ بين صِيغتي الماضي والمستقبَل [1504] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/69). .
- و(ما) في قوله بِمَا عَصَوْا مصدرية، أي: بعصيانهم وكونهم معتدِين، فعدل عن التعبيرِ بالمصدرين إلى التعبيرِ بالفِعلين مع (ما) المصدريَّة؛ ليُفيدَ الفعلانِ معنى تجدُّدِ العصيان، واستمرارِ الاعتداءِ منهم، ولتفيد صِيغةُ المضيِّ أنَّ ذلك أمرٌ قديم فيهم، وصيغةُ المضارع أنَّه متكرِّرُ الحدوث، وإنما عبَّر في جانبِ العصيانِ بالماضي فقال: عَصَوْا؛ لأنَّه تَقرَّر فلم يقبلِ الزيادة، وعبَّر في جانبِ الاعتداءِ بالمضارع فقال: يَعْتَدُونَ؛ لأنَّه مستمرٌّ؛ فإنَّهم اعتدَوْا على محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتكذيبِ والمنافقةِ، ومحاولةِ الفَتْكِ والكيدِ [1505] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/293). .
- وإيثارُ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ على الضَّمير- حيث لم يقُل: (هو بما عصوا)-؛ للتَّنبيهِ على كَمالِ ظهورِه، وامتيازِه عن نظائرِه، وانتظامِه بسببِه في سلكِ الأمورِ المشاهَدة، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بكَمالِ فظاعتِه، وبُعدِ درجتِه في الشَّناعةِ والهولِ [1506] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/69). .
- وقوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فيه تأكيدٌ على سَببِ اللَّعنِ، أي: ذلك اللَّعنُ كان بسَببِ عِصيانهم وعُدوانِهم، وذُكِر هذا على سَبيلِ التوكيدِ، مع أنَّه قد فُهِمَ سَببُ اللَّعنةِ بإسنادِها إلى مَن تَعلَّقَ به الوصفُ الدالُّ على العِليَّة، وهو الَّذِينَ كَفَرُوا [1507] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/337). .
- وفي قولِه: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ خَصَّ العُدوانَ بالذِّكر مع أنَّه مِن المعاصِي؛ لكونِ العُدوانِ أَشدَّ وأقبحَ مِن مُجرَّدِ المعصيةِ [1508] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/237). .
3- قوله: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ:
- قوله: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ فيه تَوبيخٌ لهم، حيثُ تَضمَّنَ الإخبارَ بأَمرينِ قَبيحينِ، أحدُهما: أنَّهم كانوا يَفعلون المناكِير، والآخَر: أنَّهم كانوا تارِكين للنَّهْيِ عنها، أي: عن أمثالِها في المستقبَل، وأفادَ قوله: فَعَلُوهُ، التَّصريحَ بوقوعِ المُنكراتِ منهم، ولو لم يُذكَر قولُه: فَعَلُوهُ لكان المصرَّحُ به فقط هو تَرْكَ النَّهيِ عن المنكَر عند استِحقاقِ النَّهيِ؛ فانتظَمَ ثُبوتُ الأمرينِ جميعًا على أَخصرِ وجهٍ وأَبْلغِه [1509] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (1/667). .
- وأفادَ تنكيرُ مُنْكَرٍ في سياقِ النفيِ بيانَ إغراقِهم في عدمِ المبالاةِ [1510] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/265). .
- وقوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ خبرٌ فيه تعجُّبٌ من سُوء فِعلهم، وفيه تأكيدٌ بالقَسم؛ فاللام في لَبِئْسَ رابطةٌ في جوابِ قَسَمٍ مَحذوفٍ، أي: أُقسم لَبِئسَ ما كانوا يفعلون- يعني: مِن ارتكاب المعاصي والعُدوان [1511] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/667)، ((تفسير البيضاوي)) (2/138)، ((تفسير أبي حيان)) (4/338)، ((تفسير الخازن)) (2/67).   .