موسوعة التفسير

سُورةُ الطَّلاقِ
الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

لِعِدَّتِهِنَّ: عِدَّةُ المرأةِ: هي الأيَّامُ الَّتي بانقِضائِها يحلُّ لها التَّزوُّجُ، وأصلُ (عَدد): يدُلُّ على إحصاءٍ [4] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/22)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/29)، ((المفردات)) للراغب (ص: 550)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143). .
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ: أي: احفَظوها واضبِطوها، واعرِفوا ابتِداءَها وانتِهاءَها، وأصلُ (حصي): يدُلُّ على عَدٍّ [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/30)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((تفسير القرطبي)) (18/153)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143). .
بِفَاحِشَةٍ: الفاحِشةُ: الزِّنا، وتُطلَقُ الفاحشةُ أيضًا على كلِّ شَيءٍ مُستقبَحٍ مِن قَولٍ أو فِعلٍ، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبحٍ وشَناعةٍ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/34)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/478)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 60). .
يَتَعَدَّ: أي: يَتجاوَزْ، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على تجاوُزٍ في الشَّيءِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/36)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/249)، ((تفسير القرطبي)) (5/82)، ((تفسير ابن كثير)) (8/144). .
حَسْبُهُ: أي: كافِيه، وأصلُ (حسب) هنا: يدُلُّ على كِفايةٍ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/60)، ((تفسير القرطبي)) (3/19)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 125). .
قَدْرًا: أي: حَدًّا مَعلومًا، وأجَلًا مُعَيَّنًا، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/48)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((تفسير القرطبي)) (18/161)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 741). .

المعنى الإجمالي:

ابتدَأَ اللهُ تعالى تلك السُّورةَ الكريمةَ بخِطابِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِلًا: يا أيُّها النَّبيُّ، ثمَّ خاطَب أُمَّتَه تبَعًا، فقال: إذا أردْتُم طَلاقَ زَوجاتِكم فطَلِّقوهنَّ لوَقتِ عِدَّتِهنَّ؛ وذلك بأنْ تُطلِّقوهُنَّ في طُهرٍ لم تُجامِعوهنَّ فيه، واحفَظوا -أيُّها الأزواجُ- عِدَّةَ المُطَلَّقاتِ، واضبِطوها، واتَّقوا اللهَ رَبَّكم.
ثمَّ بيَّن الله تعالى حُكمًا آخَرَ يَتعلَّقُ بالأزواجِ والزَّوجاتِ، فقال: لا تُخرِجوا المُطَلَّقاتِ الرَّجْعيَّاتِ مِنَ البُيوتِ، ولا يَخرُجْنَ هُنَّ أنفُسُهنَّ حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّتُهنَّ، إلَّا أن يَرتَكِبْنَ فاحِشةً واضِحةً قَبيحةً؛ كالزِّنا، أو أذيَّةِ أقارِبِ الزَّوجِ، وتلك الأحكامُ المذكورةُ حدودُ اللهِ؛ فلا تَعْتَدُوها، ومَن يَتجاوَزْ أحكامَ اللهِ فقد ظَلَم نَفْسَه، لا تَدْري؛ فلَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بعْدَ فِراقِ الزَّوجَينِ أمرًا نافِعًا لهما، ويُصلِحُ ذاتَ بَيْنِهما، فيُراجِعُ الزَّوجُ مَن طلَّقها.
ثمَّ بيَّن الله تعالى حُكمًا يتعلَّقُ بالعِدَّةِ، فقال: فإذا قارَبَ المُطَلَّقاتُ الرَّجْعيَّاتُ انتِهاءَ عِدَّتِهنَّ، فارْجِعوهنَّ بالمعروفِ إن شِئتُم، أو فارِقوهنَّ بمَعروفٍ، وأَشهِدوا -أيُّها الأزواجُ- على رَدِّ زَوجاتِكم رَجُلَينِ مِن عُدولِ المُسلِمينَ، وأدُّوا -أيُّها الشُّهَداءُ- الشَّهادةَ على وَجْهِها إذا طُلِبَ منكم أداؤُها؛ إخلاصًا للهِ تعالى، ذلك يتَّعِظُ به مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ.
ثمَّ بشَّر الله تعالى عبادَه الَّذين يتَّقونَه، فقال: ومَنْ يتَّقِ اللهَ بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه؛ يَجعَلْ له مَخرَجًا مِن كُلِّ شِدَّةٍ، ويَرزُقْه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، ومَن يَعتَمِدْ على اللهِ فهو كافِيه ما أهَمَّه، إنَّ اللهَ مُنفِذٌ أمْرَه، قد جَعَل اللهُ لكُلِّ شَيءٍ حَدًّا ومِقدارًا ووَقتًا مُعَيَّنًا.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1).
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.
أي: يا أيُّها النَّبيُّ -وأمَّتُه تبَعٌ له- إذا أردْتُم طَلاقَ زَوجاتِكم فلْيَكُنْ تَطليقُكم لهنَّ مُراعًى فيه زَمَنُ عِدَّتِهنَّ؛ لئلَّا تَطُولَ عليهِنَّ، وذلك بأن تُطلِّقوهُنَّ وَقْتَ طُهرِهنَّ الَّذي لم تُجامِعوهنَّ فيه، فلا تُطَلِّقوهنَّ حالَ حَيضِهنَّ، ولا في زَمَنِ طُهرٍ قد جامَعْتُموهنَّ فيه [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/22)، ((الوسيط)) للواحدي (4/310)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/270)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/559)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/294، 295). قال الرازي: (قَولُه تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ أي: لِزَمانِ عِدَّتِهنَّ، وهو الطُّهرُ بإجماعِ الأُمَّةِ). ((تفسير الرازي)) (30/559). وقال الواحدي: (الآيةُ دَلَّت على إيقاعِ الطَّلاقِ في الطُّهرِ، ودلَّت السُّنَّةُ على أنَّ ذلك الطُّهرَ يَجِبُ أن يكونَ غيرَ مُجامَعٍ فيه، حتَّى يكونَ الطَّلاقُ سُنِّيًّا). ((التفسير الوسيط)) (4/310). وقال ابن العربي: (المعنى فيه: فطَلِّقوهنَّ لعِدَّتِهنَّ الَّتي تُعتَبَرُ. واللَّامُ على أصْلِها، كما تقولُ: افعَلْ كذا لِكَذا، ويكونُ مقصودُ الطَّلاقِ والاعتِدادِ مآلَه الَّذي يَنتهي إليه). ((أحكام القرآن)) (4/270). وقال البِقاعي: (هذه اللَّامُ للوَقتِ، مِثلُها في: «كُتِبَ هذا لِخَمسٍ بَقِينَ مِن شَهرِ كذا»). ((نظم الدرر)) (20/141). قال السعدي: (فهذا الطَّلاقُ هو الَّذي تكونُ العِدَّةُ فيه واضِحةً بَيِّنةً، بخِلافِ ما لو طلَّقها وهي حائضٌ؛ فإنَّها لا تحتسبُ تلك الحيضةَ الَّتي وقَع فيها الطَّلاقُ، وتَطولُ عليها العِدَّةُ بسببِ ذلك، وكذلك لو طلَّقها في طُهرٍ وَطِئ فيه؛ فإنَّه لا يُؤمَنُ حمْلُها، فلا يتبيَّنُ ولا يتَّضحُ بأيِّ عدَّةٍ تعتَدُّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 869). وقال الرَّسْعَني: (الطَّلاقُ على ضَربَينِ: طلاقُ السُّنَّةِ، وطلاقُ البِدْعةِ. فأمَّا طَلاقُ السُّنَّةِ: فهو أن يُطَلِّقَها في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه. وأمَّا طلاقُ البدعةِ: فهو أن يُطَلِّقَها في زمَنِ الحَيضِ، أو في طُهرٍ جامَعها فيه، ويقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ ابنَ عُمَرَ بمُراجَعةِ زَوجتِه، ويأثَمُ؛ لارتِكابِه ما نُهيَ عنه). ((تفسير الرسعني)) (8/160). وقال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ مَن طَلَّق زَوجتَه طَلقةً واحِدةً، وهي طاهِرٌ مِن حَيضةٍ لم يُطَلِّقْها فيها، ولم يكُنْ جامَعَها في ذلك الطُّهرِ: أنَّه مُصيبٌ للسُّنَّةِ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (5/184). ويُنظر ما سيأتي (ص: 33). أمَّا كَوْنُه طَلْقةً واحدةً فقد وقع فيه اختِلافٌ؛ قال أبو حيَّانَ: (قال مالكٌ: لا أعرِفُ طلاقَ السُّنَّةِ إلَّا واحدةً، وكَرِهَ الثَّلاثَ مجموعةً أو مُفَرَّقةً. وأبو حنيفةَ كَرِهَ ما زاد على الواحدةِ في طُهرٍ واحدٍ، فأمَّا مُفَرَّقًا في الأطهارِ فلا. وقال الشَّافِعيُّ: لا بأسَ بإرسالِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ، ولا أعرفُ في عدَدِ الطَّلاقِ سُنَّةً ولا بدعةً، وهو مباحٌ. راعى في السُّنَّةِ الوقتَ فقطْ، وأبو حنيفةَ التَّفريقَ والوقتَ). ((تفسير أبي حيان)) (10/196). ويُنظر: ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) لابن عبد البَرِّ (15/69). والطَّلاقُ في زمَنِ الحَيضِ، أو في طُهرٍ جامَعها فيه يقعُ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((شرح مختصر الطَّحاوي)) للجَصَّاص (5/27)، ((الكافي)) لابن عبد البَرِّ (2/572)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 236)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (8/330). .
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّه طَلَّق امرأتَه وهي حائِضٌ، فذَكَر عُمَرُ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتغَيَّظَ فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ قال: لِيُراجِعْها، ثمَّ يُمْسِكْها حتَّى تَطهُرَ، ثمَّ تَحيضَ فتَطهُرَ، فإنْ بدا له أن يُطَلِّقَها فلْيُطَلِّقْها طاهِرًا قبْلَ أن يَمَسَّها؛ فتلك العِدَّةُ كما أمَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ )) [11] رواه البخاريُّ (4908) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1471). قال القرطبي: (قال عُلماؤنا: طلاقُ السُّنَّةِ ما جمَع شُروطًا سبعةً: وهو أن يُطَلِّقَها واحدةً، وهي ممَّن تَحيضُ، طاهرًا، لم يَمَسَّها في ذلك الطُّهرِ، ولا تَقَدَّمَه طلاقٌ في حَيضٍ، ولا تَبِعَه طلاقٌ في طُهرٍ يَتْلوه، وخلا عن العِوَضِ. وهذه الشُّروطُ السَّبعةُ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ). ((تفسير القرطبي)) (18/151). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/258). .
وعن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طلَّقَ حَفْصةَ، ثمَّ راجَعَها)) [12] أخرجه أبو داودَ (2283)، والنَّسائيُّ (3560)، وابنُ ماجه (2016) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصَّحيح)) (4275)، والحاكم في ((المستدرك)) (2/215) -وقال: (على شرط الشَّيخينِ)-، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2016)، وقال ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/421): (إسنادُه جَيِّدٌ قَوِيٌّ ثابت). وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/197)، وصحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2283). .
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان نَظَرُ الشَّارِعِ إلى العِدَّةِ شَديدًا؛ لِما فيها مِن الحُكمِ بالتَّأنِّي لاحتِمالِ النَّدَمِ، وبالظَّنِّ لبراءةِ الرَّحِمِ احتياطًا للأنسابِ، وبقَطعِ المنازَعاتِ والمُشاجَراتِ المُفْضِيةِ إلى ذَهابِ الأموالِ والأرواحِ، وقد أفهَمَه التَّعبيرُ باللَّامِ- صَرَّح به بصيغةِ الأمرِ؛ فقال [13] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/142). :
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ.
أي: واحفَظوا -أيُّها الأزواجُ- عِدَّةَ المُطَلَّقاتِ، فلا تَتهاوَنوا في ضَبطِ أيَّامِها، ومَعرفةِ بدايتِها ونهايتِها [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/30)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/142)، ((تفسير الشوكاني)) (5/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/298). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ يعني في المَدخولِ بها؛ لأنَّ غَيرَ المدخولِ بها لا عِدَّةَ عليها). ((تفسير القرطبي)) (18/153). وقال الشنقيطي: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وهي زَمَنُ التَّربُّصِ إجماعًا، وذلك هو المعبَّرُ عنه بثلاثةِ قُروءٍ). ((أضواء البيان)) (1/98). .
قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] .
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الطَّلاقُ على غَيرِ هذا الوَجهِ حَرامًا؛ للضِّرارِ ومُخالَفةِ الأمرِ، وكذا التَّهاوُنُ في الضَّبطِ؛ حتَّى يَحتَمِلَ أن تَنكِحَ المرأةُ قبْلَ الانقِضاءِ- أمَرَ بمُجانَبةِ ذلك كُلِّه بقَولِه [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/142). :
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ.
أي: واتَّقوا اللهَ الَّذي أحسَنَ إليكم -أيُّها الأزواجُ- فاحذَروا عِصْيانَ أمْرِه، وتَعَدِّيَ حُدودِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/30)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/142، 143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/298). .
لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَر بالتَّقْوى، وناطَ بعضَها بصِفةِ الإحسانِ بقولِه: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ؛ فسَّره بقولِه [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/143). :
لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ.
أي: لا تُخرِجوا مَن طلَّقتُم مِن نِسائِكم مِنَ البُيوتِ الَّتي كُنَّ يَسكُنَّ فيها قبْلَ طَلاقِهنَّ، بل أبقوهنَّ فيها حتَّى تَنتهيَ عِدَّتُهنَّ، ولا يَخرُجْنَ هُنَّ أنفُسُهنَّ حتَّى تَنقَضيَ عِدَّتُهنَّ كذلك [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/30)، ((الوسيط)) للواحدي (4/312)، ((تفسير الزمخشري)) (4/554)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/299). ذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ الضَّميرَ في قولِه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ يحتمِلُ أنْ يكونَ للبائنِ، وأنْ يكونَ للرجعيَّةِ، وأنْ يكونَ لهما، ورجَّح حملَه على الرجعيَّةِ. يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/482). وقال القاسمي: (هذا إنَّما هو في الطَّلاقِ الرَّجْعيِّ). ((تفسير القاسمي)) (9/253). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
أي: إلَّا أن يَرتَكِبْنَ فاحِشةً واضِحةً، وشَديدةَ القُبحِ، كبَذاءةِ اللِّسانِ، أو أذيَّةِ أقارِبِ الزَّوجِ، أو الوُقوعِ في مَعصيةٍ عَظيمةٍ كالزِّنا [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/32، 36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143، 144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/ 300). قال الواحدي: (أكثَرُ المفَسِّرينَ على أنَّ المرادَ بالفاحِشةِ هاهنا: الزِّنا، وهو أن تَزنيَ، فتُخرَجَ لإقامةِ الحَدِّ عليها). ((الوسيط)) (4/312). واختار السَّمْعانيُّ أنَّ المرادَ بالفاحشةِ هنا الزِّنا، وأنَّه أَولى الأقوالِ، وعلَّل ذلك بقولِه: (لكَثرةِ مَن قال به، ولأنَّه مُوافِقٌ لِقَولِه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء: 15] ، وأجمَعوا على أنَّ المرادَ به الزِّنا). ((تفسير السمعاني)) (5/459، 460). وقال موفَّقُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (... بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي أن يَطولَ لِسانُها على أحمائِها، وتُؤذيَهم بالسَّبِّ ونحوِه، رُويَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو قولُ الأكثَرينَ). ((المغني)) (8/160). وقيل: المرادُ بالفاحشةِ في هذا الموضعِ: كلُّ معصيةٍ لله. وقيل: هي نُشوزُها على زَوجِها. وقيل: هي خُروجُها مِن بَيتِها. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/33). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ الفاحِشةَ تَشملُ الزِّنا وغَيرَه: ابنُ جرير، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/32، 36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/143، 144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/300). قال ابنُ عاشور: (الاستِثناءُ في قَولِه: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يحتَمِلُ أن يَرجِعَ إلى الجُملَتَينِ اللَّتَينِ قبْلَه، كما هو الشَّأنُ فيه إذا ورَدَ بعْدَ جُمَلٍ على أصَحِّ الأقوالِ لعُلَماءِ الأُصولِ. ويحتمِلُ أن يَرجِعَ إلى الأخيرةِ مِنهما). ((تفسير ابن عاشور)) (28/300). وممَّن قال بأنَّ الاستثناءَ عائِدٌ إلى كِلا النَّهيَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 143). وقيل: الاستثناءُ عائِدٌ إلى قَولِه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ. وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/32). .
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.
أي: وتلك الأحكامُ المذكورةُ للطَّلاقِ والعِدَّةِ، والأمرِ ببَقاءِ المُطَلَّقةِ في بَيتِ زَوجِها حتَّى تَنتهيَ عِدَّتُها: قد حدَّدها اللهُ وبيَّنها لكم؛ فَقِفُوا عِندَها، ولا تَعْتَدُوها [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/36)، ((تفسير ابن عطية)) (5/323)، ((تفسير ابن كثير)) (8/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). .
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
أي: ومَن يَتجاوَزْ أحكامَ اللهِ الَّتي شَرَعَها لعِبادِه في الطَّلاقِ وغَيرِه، فقد أضَرَّ نَفْسَه بتَضييعِ مَصلَحتِها في الدُّنيا والآخِرةِ، واكتِسابِها الآثامَ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/36)، ((تفسير السمرقندي)) (3/460)، ((تفسير ابن كثير)) (8/144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/144، 145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). .
لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.
أي: لا تَدْري ما يَحدُثُ في مُستَقبَلِ الأيَّامِ؛ فلَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بعدَ طَلاقِ الرَّجُلِ لزَوجتِه أمرًا نافِعًا لهما، وذلك بأن يُصلِحَ ذاتَ بَيْنِهما، ويُغَيِّرَ ما في قُلوبِهما مِنَ البُغضِ والعَداوةِ إلى الموَدَّةِ والمحَبَّةِ؛ فيُراجِعَها [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/37)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/278)، ((تفسير ابن كثير)) (8/144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/145، 146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). قال البقاعي: (لَا تَدْرِي -أي: يا أيُّها النَّبيُّ الكريمُ- ما يكونُ عن ذلك مِن الأمورِ الَّتي يُحدِثُها اللهُ؛ لِتُشيرَ على المُطَلِّقِ بشَيءٍ مِمَّا يُصلِحُه). ((نظم الدرر)) (20/145). وممَّن اختار أيضًا أنَّ الخِطابَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (7/83). وقيل: الخِطابُ للمُتَعدِّي لحدودِ الله. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/261). وقال النَّسَفي: (لَا تَدْرِي أيُّها المُخاطَبُ). ((تفسير النسفي)) (3/497). واختار ابنُ عاشور أنَّ الخِطابَ لِغَيرِ مُعَيَّنٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/307). قال ابن العربي: (قال جميعُ المفَسِّرينَ: أراد بالأمرِ هاهنا الرَّغبةَ في الرَّجعةِ، ومعنى القَولِ: التَّحريضُ على طلاقِ الواحِدةِ، والنَّهيُ عن الثَّلاثِ؛ فإنَّه إذا طَلَّق ثلاثًا أضَرَّ بنَفْسِه عندَ النَّدمِ على الفِراقِ، والرَّغبةِ في الارتجاعِ، ولا يجِدُ عندَ إرادةِ الرَّجْعةِ سَبيلًا). ((أحكام القرآن)) (4/278). ويُنظر الخلافُ فيمَن طلَّق ثلاثًا (ص: 38). وقال ابنُ جُزي: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا المرادُ به الرَّجعةُ عندَ الجمهورِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/384). .
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَدَّ سُبحانَه ما يُفعَلُ في العِدَّةِ؛ أتْبَعَه ما يُفعَلُ عندَ انقِضائِها [23] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/147). .
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.
أي: فإذا قارَبَ المُطَلَّقاتُ الرَّجْعيَّاتُ انتِهاءَ عِدَّتِهنَّ فارْجِعوهنَّ إن شِئتُم، بشَرطِ إعطائِهنَّ جَميعَ حُقوقِهنَّ؛ كالنَّفَقةِ، والكِسوةِ، والمَسكَنِ، وحُسنِ الصُّحبةِ، مِن غَيرِ قَصدِ الإضرارِ بهِنَّ وحَبْسِهنَّ، أو اترُكوهنَّ حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّتُهنَّ فيَصِرْنَ بائِناتٍ مِنكم، بلا تعنيفٍ ولا مُشاتَمةٍ ولا مُخاصَمةٍ، مع إعطائِهنَّ جَميعَ حُقوقِهنَّ أيضًا؛ كبَقيَّةِ المَهرِ، ومُتعةِ الطَّلاقِ، وغَيرِ ذلك [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/39)، ((تفسير ابن عطية)) (5/324)، ((تفسير القرطبي)) (18/157)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/147، 148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). قال ابنُ القيم: (الإمساكُ هنا: الرَّجْعةُ. والمُفارَقةُ: تَركُ الرَّجْعةِ، لا إنشاءُ طَلقةٍ ثانيةٍ. هذا ممَّا لا خِلافَ فيه البتَّةَ). ((زاد المعاد)) (5/292). .
كما قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة: 231] .
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ.
أي: وأَشهِدوا -أيُّها الأزواجُ- على رَدِّ زَوجاتِكم المطلَّقاتِ قبْلَ انتِهاءِ عِدَّتِهنَّ، رَجُلَينِ مِن عُدولِ المُسلِمينَ، ممَّن تَرضَونَ دِينَهما وأمانتَهما [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/40)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/283)، ((تفسير القرطبي)) (18/157)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). ممَّن قال بأنَّ المرادَ: الإشهادُ على الرَّجْعةِ: ابنُ جرير، والماوَرْديُّ، وابنُ عطيَّة، واستظهره القرطبيُّ، واختاره ابنُ تيميَّةَ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/40)، ((تفسير الماوردي)) (6/30)، ((تفسير ابن عطية)) (5/324)، ((تفسير القرطبي)) (18/157)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/33)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145). قال القرطبي: (فائدةُ الإشهادِ ألَّا يقَعَ بيْنَهما التَّجاحُدُ، وألَّا يُتَّهَمَ في إمساكِها، ولئلَّا يموتَ أحدُهما فيَدَّعيَ الباقي ثُبوتَ الزَّوجيَّةِ لِيَرِثَ). ((تفسير القرطبي)) (18/157). وقال ابنُ تيميَّة: (قال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ فأمَرَ بالإشهادِ على الرَّجعةِ. والإشهادُ عليها مأمورٌ به باتِّفاقِ الأمَّةِ. قيل: أمرُ إيجابٍ. وقيل: أمرُ استِحبابٍ ... ومِن حكمةِ ذلك: أنَّه قد يُطَلِّقُها ويَرتَجِعُها، فيُزَيِّنُ له الشَّيطانُ كِتمانَ ذلك حتَّى يُطَلِّقَها بعدَ ذلك طلاقًا مُحرِّمًا ولا يَدري أحدٌ، فتَكونُ معه حرامًا؛ فأمَرَ اللهُ أن يُشهدَ على الرَّجعةِ لِيَظهَرَ أنَّه قد وقعتْ به طَلْقةٌ، كما أمَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مَن وجَدَ اللُّقَطةَ أن يُشهِدَ عليها [أحمد «17481»، وأبو داود «1709»]؛ لئلَّا يُزيِّنَ الشَّيطانُ كِتمانَ اللُّقطةِ؛ وهذا بخِلافِ الطَّلاقِ؛ فإنَّه إذا طلَّقها ولم يُراجِعْها بل خلَّى سبيلَها فإنَّه يَظهَرُ للنَّاسِ أنَّها ليست امرأتَه، بل هي مُطَلَّقةٌ، بخِلافِ ما إذا بَقيَتْ زوجةً عِندَه؛ فإنَّه لا يَدري النَّاسُ أطَلَّقَها أمْ لم يُطَلِّقْها). ((مجموع الفتاوى)) (33/33، 34). وممَّن قال: المرادُ: الإشهادُ على الرَّجْعةِ والفِراقِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والواحدي، وابن جُزَي، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/363)، ((تفسير السمرقندي)) (3/461)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1107)، ((تفسير ابن جزي)) (2/385)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ الإشهادَ على الطَّلاقِ والرَّجعةِ: ابنُ عبَّاسٍ، والسُّدِّيُّ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/41)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145). قال ابن جُزَي: (هذا أظهَرُ؛ لأنَّ الإشهادَ به يُرفَعُ الإشكالُ والنِّزاعُ، ولا فرقَ في هذا بيْنَ الرَّجعةِ والطَّلاقِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/385). قال ابنُ عطية: (وتقييدُ تاريخِ الإشهادِ: مِنَ الإشهادِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/324). واستحبابُ الإشهادِ على الرَّجعةِ هو باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (2/252)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/424)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/216)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/342، 343). وحُكيَ الإجماعُ على أنَّ الطَّلاقَ بدونِ إشهادٍ جائزٌ. ((تيسير البيان لأحكام القرآن)) لابن نور الدين (4/265)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/267)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (6/300). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (والاشهادُ على الطَّلاقِ ليس بواجبٍ فرضًا عندَ جمهورِ أهلِ العِلمِ، ولكنَّه نَدبٌ وإرشادٌ واحتياطٌ للمُطلِّقِ). ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/574). وقال ابنُ تيميَّةَ: (ظَنَّ بعضُ النَّاسِ... أنَّ الطَّلاقَ الَّذي لا يُشهَدُ عليه لا يَقَعُ! وهذا خِلافُ الإجماعِ، وخِلافُ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِن العلماءِ المشهورينَ به). ((الفتاوى الكبرى)) (3/296). وقال ابن جرير: (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وهما اللَّذانِ يُرْضَى دينُهما وأمانتُهُما). ((تفسير ابن جرير)) (23/40، 41). وقال ابنُ عطيَّة: (قال النَّخَعيُّ: العَدلُ: مَن لم تَظهَرْ منه رِيبةٌ، وهذا قَولُ الفُقَهاءِ، والعَدلُ حقيقةً الَّذي لا يَخافُ إلَّا اللهَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/324). .
وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ.
أي: وأدُّوا -أيُّها الشُّهَداءُ- الشَّهادةَ صَحيحةً على وَجْهِها إذا طُلِبَ منكم أداؤُها، بلا زِيادةٍ ولا نُقصانٍ، ولا تبديلٍ ولا تغييرٍ؛ إخلاصًا للهِ تعالى، وامتِثالًا لأمْرِه [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/41)، ((تفسير القرطبي)) (18/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/310). .
ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ.
أي: ذلك الَّذي بيَّنَّاه لكم، وأمَرْناكم به مِن الأحكامِ: إنَّما يتَّعِظُ ويَعمَلُ به مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ؛ فهو الَّذي يخافُ عِقابَ اللهِ إن خالَفَ شَرْعَه [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/42)، ((تفسير ابن عطية)) (5/324)، ((تفسير القرطبي)) (18/159)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/149، 150)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). قيل: المرادُ بـ ذَلِكُمْ الإشارةُ إلى إقامةِ الشَّهادةِ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ عطية، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/324)، ((تفسير ابن كثير)) (8/145). قال ابنُ عطيَّة: (ذلك أنَّ جميعَ فُصولِ الأحكامِ والأمورِ فإنَّما تدورُ على إقامةِ الشَّهادةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/324). وقال البِقاعي: (ذَلِكُمْ أي: الَّذي ذكَرْتُ لكم -أيَّتُها الأُمَّةُ- مِن هذه الأُمورِ البَديعةِ النِّظامِ، العاليةِ المَرامِ، وأَوْلاها بذلك هنا الإشهادُ وإقامةُ الشَّهادةِ). ((نظم الدرر)) (20/149، 150). وقيل: المرادُ: ما ذُكِرَ مِن أمرِ الطَّلاقِ، والواجِبِ لبَعضِ الأزواجِ على بعضٍ عندَ الفِراقِ والإمساكِ. وممَّن ذهب إلى هذا في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/42)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7534). .
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا.
أي: ومَنْ يتَّقِ اللهَ بامتِثالِ ما أمَرَ به، واجتِنابِ ما نهى عنه؛ في شأنِ الطَّلاقِ وغَيرِه، يَجعَلِ اللهُ له مَخرَجًا ممَّا وَقَع فيه مِن شِدَّةٍ، فيَدفَعْ عنه ضُرَّه، ويُسَهِّلْ له أمْرَه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/42)، ((تفسير الزمخشري)) (4/555)، ((تفسير ابن كثير)) (8/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/151)، ((تفسير الشوكاني)) (5/289)، ((تفسير الألوسي)) (14/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/311). .
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن دَواعي الفِراقِ والخِلافِ بيْنَ الزَّوجَينِ ما هو مِنَ التَّقتيرِ في الإنفاقِ؛ لِضِيقِ ذاتِ اليَدِ، فكان الإحجامُ عن المراجَعةِ عارِضًا كثيرًا للنَّاسِ بعْدَ التَّطليقِ- أتْبَعَ الوَعدَ بجَعلِ المَخرَجِ للمُتَّقينَ بالوَعدِ بمَخرَجٍ خاصٍّ، وهو مَخرَجُ التَّوسِعةِ في الرِّزقِ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/312). .
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
أي: ومَن يتَّقِ اللهَ يُسَهِّلْ له أسبابَ الرِّزقِ مِن خَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ؛ مِن جِهةٍ لا تَخطُرُ ببالِه، وعلى وَجهٍ لا يَشعُرُ به [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/42)، ((تفسير ابن كثير)) (8/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/151)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). !
كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30].
وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر: 10] .
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] .
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
أي: ومَن يَعتَمِدْ على اللهِ وَحْدَه، ويُفَوِّضْ جميعَ أمرِه إليه في طَلَبِ الخَيرِ أو دَفعِ الشَّرِّ؛ فاللهُ كافِيه ما أهَمَّه مِن أمرِ دِينِه ودُنياه وآخِرتِه [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/46)، ((البسيط)) للواحدي (21/508)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). .
عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لو أنَّكم توَكَّلْتُم على اللهِ حَقَّ توَكُّلِه، لَرزَقَكم كما يَرزُقُ الطَّيرَ؛ تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا [32] أي: تَغْدو بُكرةً وهي جِياعٌ، وتَروحُ عِشاءً وهي مُمتَلِئةُ الأجوافِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/80). ) [33] أخرجه من طُرُقٍ: الترمذيُّ (2344) باختلافٍ يسيرٍ، وابنُ ماجه (4164)، وأحمدُ (370) واللَّفظُ لهما. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ لا نعرِفُه إلَّا مِن هذا الوجهِ). وصحَّحه ابنُ حِبَّان في ((الصَّحيح)) (730)، وابنُ العربي في ((أحكام القرآن)) (2/471)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4164)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1/438). .
إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ.
أي: إنَّ اللهَ مُمْضٍ أمْرَه، فلا بُدَّ مِن نُفوذِ أمْرِ اللهِ وقَضائِه في خَلْقِه بما يَشاؤُه، وإن تأخَّرَ وَقتُه بحَسَبِ ما تَقتَضيه حِكمتُه سُبحانَه [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/47)، ((تفسير ابن عطية)) (5/324)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). قال العليمي: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: بَالِغُ بغيرِ تنوينٍ أَمْرِهِ بالخَفضِ، بإضافةِ بَالِغُ إليه، وقرأ الباقونَ: بالتَّنوينِ، ونَصبِ أَمْرِهِ، والمعنى على القِراءتَينِ: مُنفِذٌ حُكمَه). ((تفسير العليمي)) (7/85). ويُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/388). وقال ابن عاشور: (ومعنَى بَالِغُ أَمْرِهِ: واصلٌ إلى مُرادِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/313). .
قال تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16] .
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الله كِفايتَه للمُتوَكِّلِ عليه، فرُبَّما أوهَمَ ذلك تعجيلَ الكِفايةِ وَقتَ التَّوَكُّلِ؛ فعَقَّبَه بقَولِه: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، أي: وَقتًا لا يتعَدَّاه، فهو يَسوقُه إلى وَقتِه الَّذي قَدَّرَه له؛ فلا يَستَعجِلِ المتوكِّلُ ويقولُ: قد توكَّلتُ ودَعَوتُ فلم أرَ شَيئًا، ولم تحصُلْ لي الكفايةُ؛ فاللهُ بالِغُ أمْرِه في وَقتِه الَّذي قَدَّرَه له [35] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/123). .
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
أي: قد جَعَل اللهُ لكُلِّ شَيءٍ ممَّا شَرَعَه وخَلَقَه وقدَّرَه حَدًّا مَعلومًا، ومِقدارًا مُعَيَّنًا، ووقتًا مَضروبًا؛ كالطَّلاقِ والعِدَّةِ، وحالِ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، وغيرِ ذلك [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/48)، ((الوسيط)) للواحدي (4/314)، ((تفسير ابن جزي)) (2/386)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/123)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/153)، ((تفسير السعدي)) (ص: 870). قال ابن جرير: (وقولُه: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا يقولُ تعالى ذِكرُه: قد جعَل اللهُ لكلِّ شَيءٍ مِن الطَّلاقِ والعِدَّةِ وغيرِ ذلك حدًّا وأجَلًا وقَدْرًا يُنتهَى إليه). ((تفسير ابن جرير)) (23/48). وقيل: المعنى: جعَل لكلِّ شَيءٍ مِن الشِّدَّةِ والرَّخاءِ. وممَّن قاله: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/364)، ((تفسير السمرقندي)) (3/461)، ((الوسيط)) للواحدي (4/314)، ((تفسير البغوي)) (5/110)، ((تفسير القرطبي)) (18/161)، ((تفسير الخازن)) (4/307)، ((تفسير الشوكاني)) (5/289). قال الشوكاني: (قد جعَل سُبحانَه للشِّدَّةِ أجَلًا تَنتهي إليه، وللرَّخاءِ أجَلًا يَنتهي إليه). ((تفسير الشوكاني)) (5/289). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يعني متى يكونُ هذا الغنيُّ فقيرًا؟ ومتى يكونُ هذا الفقيرُ غنيًّا؟ فقدَّر اللهُ ذلك كلَّه، لا يُقدَّمُ ولا يؤخَّرُ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/364). وقال أبو السعود: (... قَدْرًا أي: تقديرًا وتوقيتًا، أو مِقدارًا). ((تفسير أبي السعود)) (8/262). وقال السعدي: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا أي: وقتًا ومِقدارًا، لا يَتعدَّاه، ولا يَقصُرُ عنه). ((تفسير السعدي)) (ص: 870). وقال البِقاعي: (لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا أي: تقديرًا لا يَتعدَّاه في مِقدارِه وزَمانِه ومَكانِه، وجميعِ عَوارِضِه وأحوالِه، وإن اجتهَد جميعُ الخلائقِ في أن يَتعدَّاه). ((نظم الدرر)) (20/153). .
كما قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] .
وقال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ. قَولُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ تحذيرٌ مِن التَّساهُلِ في أحكامِ الطَّلاقِ والعِدَّةِ، ذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ لم يَكونوا يُقيمونَ للنِّساءِ وَزنًا، وكان قَرابةُ المُطَلَّقاتِ قَلَّما يُدافِعونَ عَنهنَّ، فتناسى النَّاسُ تلك الحُقوقَ وغَمِصوها [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/298). .
2- في قَولِه تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أنَّ مسائلَ الطَّلاقِ يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَعتنِيَ بها ويَعرِفَها؛ وألَّا يَخرُجَ مِن النِّكاحِ إلَّا بحَسَبِ الحُدودِ الشَّرعيَّةِ [38] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 29). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فيه أنَّ الزَّوجَ له حَقٌّ في بدَنِ الزَّوجةِ، ولها حقٌّ في بَدَنِه وذِمَّتِه، فكُلُّ مَن له دَيْنٌ في ذِمَّةِ غَيرِه، سواءٌ كان مالًا، أو مَنفعةً مِن ثَمَنٍ أو مُثَمَّنٍ أو أُجرةً، أو صَداقًا أو نَفَقةً، أو بَدَلَ مُتلَفٍ، أو ضَمانَ مَغصوبٍ- فعليه أن يؤدِّيَ ذلك الحَقَّ الواجِبَ بإحسانٍ، وعلى صاحِبِ الحَقِّ أن يَتْبَعَ بإحسانٍ، كما قال تعالى في آيةِ القِصاصِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178] ، وكذلك الحَقُّ الثَّابِتُ في بَدَنِه، مِثلُ حَقِّ الاستِمتاعِ، والإجارةِ على عَينِه، ونحوِِ ذلك، فالطَّالِبُ يَطلُبُ بمَعروفٍ، والمطلوبُ يُؤدِّي بإحسانٍ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (19/154)، ((تفسير الشربيني)) (4/313). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ فيه حَثٌّ على أداءِ الشَّهادةِ؛ لِما فيه مِنَ العُسرِ على الشَّاهِدِ بتَركِ مُهِمَّاتِه، وعُسرِ لقاءِ الحاكِمِ الَّذي يؤدِّي عِندَه، ورُبَّما بَعُدَ مَكانُه، وكان للعَدلِ في الأداءِ عوائِقُ [40] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/149)، ((تفسير الشربيني)) (4/314). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فيه أنَّ مَن يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ يُوجِبُ له ذلك أن يتَّعِظَ بمَواعِظِ اللهِ، وأن يُقَدِّمَ لآخِرتِه مِن الأعمالِ الصَّالِحةِ ما تمكَّنَ منها، بخِلافِ مَن تَرحَّل الإيمانُ عن قَلبِه؛ فإنَّه لا يُبالي بما أقدَمَ عليه مِن الشَّرِّ، ولا يُعَظِّمُ مَواعِظَ اللهِ؛ لعَدَمِ المُوجِبِ لذلك [41] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وقَولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4] دَلالةٌ على أنَّ الإنسانَ كلَّما اتَّقى اللهَ زالتْ عنه الهُمومُ، وفُرِّجَتْ عنه [42] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 241). .
7- عن عَونِ بنِ عبدِ الله، قال: قيل لرجُلٍ مِن الفُقَهاءِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، فقال الفقيهُ: واللهِ إنَّه لَيَجعَلُ لنا المَخرجَ وما بلَغْنا مِن التَّقْوى ما هو أهلُه، وإنَّه لَيَرزُقُنا وما اتَّقَيْناه كما يَنبغي، وإنَّه لَيَجعَلُ لنا مِن أمْرِنا يُسرًا وما اتَّقَيناه، وإنَّا لنرجو الثَّالثةَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [43] يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (4/248، 249). [الطلاق: 5] .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ يُفهِمُ أنَّ مَن لم يتَّقِ اللهَ يُقَتَّرُ عليه [44] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/154). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا فيه أنَّ كُلَّ مَن اتَّقى اللهَ تعالى، ولازَمَ مَرضاةَ اللهِ في جميعِ أحوالِه؛ فإنَّ اللهَ يُثيبُه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومِن جُملةِ ثَوابِه أن يَجعَلَ له فَرَجًا ومَخرَجًا مِن كُلِّ شِدَّةٍ ومَشَقَّةٍ، وكما أنَّ مَن اتَّقى اللهَ جَعَل له فَرَجًا ومَخرَجًا، فمَن لم يتَّقِ اللهَ وَقَع في الشَّدائِدِ والآصارِ والأغلالِ الَّتي لا يَقدِرُ على التَّخَلُّصِ منها، والخُروجِ مِن تَبِعَتِها [45] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ فيه أنَّ تقوى اللهِ سَبَبُ تَفريجِ الكُرَبِ، والخَلاصِ مِن المَضايِقِ. ومُلاحَظةُ المُسلِمِ ذلك ويَقينُه بأنَّ اللهَ يَدفَعُ عنه ما يَخطُرُ ببالِه مِن الخواطِرِ الشَّيطانيَّةِ الَّتي تُثَبِّطُه عن التَّقوى: يُحَقِّقُ وَعْدَ اللهِ إيَّاه بأن يَجعَلَ له مَخرَجًا، ويَرزُقَه مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/312). .
11- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أنَّ الإنسانَ إذا أراد بعَمَلِه الحُسْنَيَينِ؛ حُسْنَى الدُّنيا، وحُسْنَى الآخِرةِ، فلا شَيءَ عليه؛ لأنَّ اللهَ رَغَّبَه في التَّقْوى بذِكْرِ المَخْرَجِ مِن كلِّ ضيقٍ، والرِّزقِ مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ [47] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/138). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ هذا بَيانٌ لوُجوبِ التَّوَكُّلِ على اللهِ تعالى، وتفويضِ الأمرِ إليه؛ لأنَّه إذا عُلِمَ أنَّ كلَّ شيءٍ مِنَ الرِّزقِ ونَحْوِه لا يكونُ إلَّا بتَقديرِه وتَوقيتِه، لم يَبْقَ إلَّا التَّسليمُ للقَدَرِ، والتَّوكُّلُ [48] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/556)، ((تفسير الرازي)) (30/562). .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ يُفهِمُ أنَّ مَن لم يتوكَّلْ لم يُكْفَ شَيئًا مِنَ الأشياءِ [49] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/154). .
14- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أنَّه يَجبُ على كلِّ مؤمنٍ إذا أراد أنْ تُقْضى أمورُه وتُسَهَّلَ أنْ يُفَوِّضَ أمْرَه إلى اللهِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 340). .
15- قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ والتَّوَكُّلُ على اللهِ هو مِن أقوى الأسبابِ الَّتي يَدْفَعُ بها العَبدُ ما لا يُطيقُ مِن أذى الخَلْقِ وظُلْمِهم وعُدوانِهم؛ فإنَّ اللهَ حَسْبُه، أي: كافيه، ومَن كان اللهُ كافيَه وواقيَه فلا مَطْمَعَ فيه لِعَدُوِّه، ولا يَضُرُّه إلَّا أذًى لا بُدَّ منه؛ كالحَرِّ، والبَرْدِ، والجُوعِ، والعَطَشِ، وأمَّا أنْ يَضُرَّه بما يَبْلُغُ منه مُرادَه فلا يكونُ أبدًا [51] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/239). .
16- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أنَّه إذا صَدَقَ العَبدُ في اعتِمادِه على اللهِ تعالى، كفاه اللهُ تعالى ما أهَمَّه، فَهُوَ حَسْبُهُ أي: كافيه، ثُمَّ طَمْأَنَ المتوكِّلَ بقَولِه: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ فلا يُعْجِزُه شَيءٌ أرادَه [52] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 58). .
17- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ دَلالةٌ -بمفهومِ الآيةِ- أنَّ مَن تَوَكَّلَ على غيرِ اللهِ خُذِلَ؛ لأنَّ غيرَ اللهِ لا يكونُ حَسْبًا، فمَن تَوَكَّلَ على غَيرِ اللهِ تَخَلَّى اللهُ عنه، وصار موكولًا إلى هذا الشَّيءِ، ولم يَحْصُلْ له مَقصودُه، وابتعدَ عنِ اللهِ بمقدارِ توكُّلِه على غَيرِ اللهِ [53] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/95). .
18- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا أنَّه يَنبغي للعَبدِ ألَّا يَستَبطِئَ نَصْرَه ورِزْقَه وعافيتَه؛ فإنَّ اللهَ تعالى بالِغُ أمْرِه، وقد جَعَل لكلِّ شَيءٍ قَدْرًا لا يَتقَدَّمُ عنه ولا يَتأخَّرُ [54] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/238). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ أنَّ الخِطابَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خِطابٌ له ولأُمَّتِه؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ يُوَجِّهُ خِطابَه للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمرادُ هو والأُمَّةُ، فالخِطابُ مُفْرَدٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ وبَعْدَه إِذَا طَلَّقْتُمُ ليس النَّبيَّ وحْدَه، بل كلُّ الأُمَّةِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الروم)) (ص: 174). ، فلو لم يكُنْ قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ يُقصَدُ منه شُمولُ الحُكمِ لجميعِ الأمَّةِ لَأفرَدَ الخِطاباتِ بعْدَه، ولَقال: (إذا طلَّقْتَ النِّساءَ فطَلِّقْهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأحْصِ) (واتَّقِ اللهَ) (لا تُخرِجْ)، فلمَّا جاء بها مجموعةً تبيَّن أنَّه أراد إدخالَ الأمَّةِ تحتَ خِطابِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [56] يُنظر: ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (1/486). قال ابن عاشور: (تَوجيهُ الخِطابِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسلوبٌ مِن أساليبِ آياتِ التَّشريعِ المُهتَمِّ به، فلا يَقْتضي ذلك تَخصيصَ ما يُذكَرُ بعْدَه بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِثلُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال: 65] ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي يَتولَّى تَنفيذَ الشَّريعةِ في أُمَّتِه، وتَبْيينَ أحْوالِها، فإنْ كان التَّشريعُ الوارِدُ يَشملُه ويَشملُ الأُمَّةَ، جاء الخِطابُ مُشتمِلًا على ما يُفيدُ ذلك، مِثلُ صِيغةِ الجمْعِ في قولهِ هنا: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ، وإنْ كان التَّشريعُ خاصًّا بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جاء بما يَقْتَضي ذلك، نحْوُ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ[المائدة: 67] ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/294). .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ، تَعليقُ طَلَّقْتُمُ بـ (إِذَا) الشَّرطيَّةِ مُشعِرٌ بأنَّ الطَّلاقَ خِلافُ الأصلِ في عَلاقةِ الزَّوجَينِ الَّتي قال اللهُ فيها: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/296). [الروم: 21] .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فيه سُؤالٌ: هذا عامٌّ يَتناوَلُ المدخولَ بهِنَّ وغَيرَ المدخولِ بهِنَّ مِن ذواتِ الأقراءِ والآيِساتِ والصَّغيراتِ والحوامِلِ، فكيف صَحَّ تَخصيصُه بذواتِ الأقراءِ المدخولِ بهِنَّ؟
الجوابُ: لا عُمومَ ثَمَّ ولا خُصوصَ، لكِنَّ النِّساءَ اسمُ جِنسٍ للإناثِ مِن الإنسِ، وهذه الجِنسيَّةُ مَعنًى قائِمٌ في كُلِّهنَّ وفي بَعضِهنَّ؛ فجاز أن يُرادَ بالنِّساءِ هذا وذاك، فلمَّا قيل: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ عُلِمَ أنَّه أُطلِقَ على بَعضِهنَّ، وهنَّ المدخولُ بهِنَّ مِن المُعتَدَّاتِ بالحَيضِ [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/554). .
4- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أنَّ الطَّلاقَ لا يكونُ بيَدِ المرأةِ [59] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 72). لا يصحُّ الطَّلاقُ إلَّا مِن زَوجٍ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((الهداية)) للمَرْغِيناني (1/224)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/365)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/22)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/74). .
5- قَولهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إلى قَولِه: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا استُدِلَّ به على أنَّه لا نَفَقةَ للمَبتُوتَةِ ولا سُكْنى؛ ووَجْهُه: أنَّ اللهَ سبحانه أمَرَ الأزواجَ الَّذين لهم عندَ بُلوغِ الأجَلِ الإمساكُ والتَّسريحُ بألَّا يُخرِجوا أزواجَهم مِن بُيوتِهم، وأَمَرَ أزواجَهنَّ ألَّا يَخْرُجْنَ؛ فدلَّ على جَوازِ إخراجِ مَن ليس لزَوجِها إمساكُها بعدَ الطَّلاقِ؛ فإنَّه سبحانه ذَكَر لهؤلاءِ المطلَّقاتِ أحكامًا مُتلازِمةً لا يَنْفَكُّ بعضُها عن بعضٍ:
أحدُها: أنَّ الأزواجَ لا يُخرِجوهنَّ مِن بُيوتِهنَّ.
والثَّاني: أنَّهنَّ لا يَخْرُجْنَ مِن بُيوتِ أزواجِهنَّ.
والثَّالثُ: أنَّ لأزواجِهنَّ إمساكَهنَّ بالمعروفِ قبْلَ انقِضاءِ الأجَلِ، وتَرْكَ الإمساكِ، فيُسَرِّحونَهنَّ بإحسانٍ.
والرَّابعُ: إشهادُ ذَوَيْ عَدْلٍ، وهو إشهادٌ على الرَّجْعةِ، وأشار سُبحانَه إلى حِكمةِ ذلك، وأنَّه في الرَّجْعِيَّاتِ خاصَّةً، بقَولِه: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، والأمرُ الَّذي يُرجَى إحداثُه هاهنا هو المُراجَعةُ، هكذا قال السَّلَفُ ومَن بعدَهم. فهذا يدُلُّ على أنَّ الطَّلاقَ المذكورَ هو الرَّجْعِيُّ الَّذي ثَبَتَتْ فيه هذه الأحكامُ، وأنَّ حِكمةَ أَحكَمِ الحاكِمينَ وأرحمِ الرَّاحِمينَ اقْتَضَتْه؛ لعلَّ الزَّوجَ أنْ يَنْدَمَ ويَزولَ الشَّرُّ الَّذي نَزَغَه الشَّيطانُ بيْنَهما، فتَتْبَعَها نفْسُه فيُرَاجِعَها، ثُمَّ ذَكَر سبحانَه الأمرَ بإسكانِ هؤلاء المطلَّقاتِ، فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق: 6] ؛ فالضَّمائِرُ كلُّها يَتَّحِدُ مُفَسِّرُها، وأحكامُها كلُّها مُتلازِمةٌ [60] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/469). ويُنظر الخلافُ في هذه المسألةِ (ص: 80). .
6- الخُلْعُ يجوزُ في حالِ الحَيضِ؛ لأنَّه ليس بطَلاقٍ، واللهُ إنَّما أمَرَ بالطَّلاقِ للعِدَّةِ؛ قال تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، ويجوزُ أنْ يُخالِعَها ولو كان قد جامعَها في الحالِ؛ لأنَّه ليس بطَلاقٍ، بل هو فِداءٌ، ولأنَّ أصلَ مَنْعِ الزَّوجِ مِن التَّطليقِ في حالِ الحَيضِ، أو في حالِ الطُّهْرِ الذي جامعَها فيه: أنَّ فيه إضرارًا بها؛ لتطويلِ العِدَّةِ عليها، فإذا رضيتْ بذلك فقد أسقَطَتْ حقَّها [61] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (12/469). وجوازُ الخُلعِ في الحَيضِ، والطُّهرِ الَّذي أصابَها فيه هو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنابِلةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/441)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 236)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/213). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ يدُلُّ على إباحةِ التَّطليقِ بدَلالةِ الإشارةِ [62] دَلالةُ الإشارةِ: مِن أنواعِ دَلالةِ المنطوقِ، وهي دَلالةُ اللَّفظِ على معنًى ليس مقصودًا باللَّفظِ في الأصلِ، ولكنَّه لازِمٌ للمَقصودِ، فكأنَّه مقصودٌ بالتَّبَعِ لا بالأصلِ. يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 263، 264)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/444) و (7/223، 224). ؛ لأنَّ القُرآنَ لا يُقَدِّرُ حُصولَ فِعلٍ مُحَرَّمٍ مِن دُونِ أن يُبَيِّنَ مَنْعَه [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/295). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ استدَلَّ بهذه الآيةِ مَن ذهَب إلى أنَّ العِدَّةَ بالأطهارِ لا بالحِيَضِ [64] وهذا مذهبُ المالكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، واختيارُ ابنِ حَزْم. يُنظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (2/469)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/232)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (9/205)، ((المحلى)) لابن حزم (10/28، 29). وذهَبَ الحَنَفيَّةُ والحنابلةُ إلى أنَّ العدَّةَ بالحيضِ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّةَ، وابنِ القيِّم. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/12)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/204، 205)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/479)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/558، 559). ؛ ووجْهُ الدَّلالةِ أنَّ الآيةَ دَلَّت على أن يكونَ إيقاعُ الطَّلاقِ عِندَ مَبدَأِ الاعتِدادِ، فلو كان مَبدَأُ الاعتِدادِ هو الحَيضَ، لَكانت الآيةُ أمرًا بإيقاعِ الطَّلاقِ في الحَيضِ، ولا خِلافَ في أنَّ ذلك مَنهِيٌّ عنه؛ لحديثِ عُمَرَ [65] رواه البخاريُّ (4908) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1471). في قَضِيَّةِ طَلاقِ ابنِه عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ زَوْجَه وهي حائِضٌ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/297). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فسَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن تُطَلَّقَ في طُهرٍ لم يُجامِعْ فيه [67] أخرجه البخاريُّ (5251)، ومسلمٌ (1471). . وفي لفظٍ عندَ مُسلِمٍ أنَّه قرأ: ((فطَلِّقوهنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهنَّ )) [68] أخرجه مسلم (1471) (14). ، فاستدَلَّ الفُقَهاءُ بذلك على أنَّ طَلاقَ السُّنَّةِ ما ذُكِرَ [69] وقد نقَل الإجماعَ على أن الطَّلاقَ إذا وقَع في طُهرٍ لم يُجامِعْها فيه، فهو طَلاقٌ مُوافِقٌ للسُّنَّةِ: ابنُ نصرٍ المَرْوَزيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ. يُنظر: ((اختلاف الفقهاء)) لابن نصر المروزي (ص: 236)، ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (5/184)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (15/69). ، وأنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ، أو طُهرٍ جُومِعَت فيه: بِدْعِيٌّ حَرامٌ [70] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). ، فالحَيضَ يَمنَعُ سُنَّةَ الطَّلاقِ، فإذا طَلَّقَها في حالةِ الحَيْضِ كان مُبتَدِعًا بذلك؛ لِقَولِه تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ يعني: طاهِرًا مِن غَيرِ جِماعِ [71] يُنظر: ((شرح العمدة لابن تيمية- كتاب الطهارة)) (ص: 471). . ووَجهُ الدَّلالةِ على أنَّ الطَّلاقَ يَحرُمُ مع الحَيضِ، أو الطُّهْرِ الَّذي جامَعَها فيه: هو الأمرُ في قَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، والأمرُ للوُجوبِ، لا سِيَّما أنَّه أعْقَبَه بقَولِه: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وقال: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، كلُّ هذا مِمَّا يُؤَكِّدُ أنَّ الأمرَ للوُجوبِ [72] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/44). .
10- في قَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ دَلالةٌ على أنَّه لا يجوزُ إردافُ الطَّلاقِ للطَّلاقِ حتَّى تَنقضيَ العِدَّةُ أو يُراجِعَها؛ لأنَّه إنَّما أباح الطَّلاقَ للعِدَّةِ -أي: لاستِقبالِ العِدَّةِ-؛ فمتى طَلَّقَها الثَّانيةَ والثَّالثةَ قبْلَ الرَّجْعةِ بَنَتْ على العِدَّةِ، ولم تَستأنِفْها باتِّفاقِ جماهيرِ المُسلمينَ [73] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/79). .
11- قَولُه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ استُدِلَّ به على أنَّ المطلَّقَةَ حائضًا لا تَعْتَدُّ في عِدَّتِها بالحَيضةِ الَّتي طُلِّقَتْ فيها؛ إذْ لو كانت في كلِّ حالةٍ طُلِّقَتْ فيها دَخَلَتْ في عِدَّتِها مِن فَوْرِ الطَّلاقِ، ما كان في اشتِراطِه وقتًا مَوصوفًا فائِدةٌ [74] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/321). وذلك بِناءً على أنَّ القَرْءَ هو الحَيضُ، وأنَّ العِدَّةَ تكونُ به، وهو مذهبُ الحنَفيَّةِ والحنابلةِ، وسبَقَ ذِكرُ الخِلافِ في ذلك (ص: 32). ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (6/153)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/311). .
12- في قَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أنَّ الصَّغيرةَ والآيِسةَ يُطَلِّقُهما في الحالِ ولو كان قد أصابَهما؛ فعِدَّةُ الآيسةِ والصَّغيرةِ ثلاثةُ أشهُرٍ تَبدأُ مِنَ الطَّلاقِ؛ فيكونُ قد طَلَّقَهما للعِدَّةِ [75] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/60). .
13- في قَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أنَّه يُستَثنى مِن مَنْعِ طَلاقِ الحائِضِ إذا كان الحَيضُ في حالِ الحَمْلِ؛ لأنَّه لا عِدَّةَ عليها حينَئذٍ [76] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/315). . وذلك على القولِ بأنَّ الحاملَ تحيضُ [77] وسيأتي ذِكرُ الخِلافِ في ذلك (ص: 64). .
14- مَن لم يَدخُلْ بزَوجتِه فيَجوزُ له طَلاقُها حائِضًا وطاهرًا، كما قال تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 236] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب: 49] ، وقد دَلَّ على هذا قَولُه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، وهذه لا عِدَّةَ لها [78] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/200). .
15- الأمرُ في قولِه: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ لضبْطِ أيَّامِ العِدَّةِ، والإتيانِ على جَميعِها، وعدمِ التَّساهُلِ فيها؛ لأنَّ التَّساهُلَ فيها ذَريعةٌ إلى أحَدِ أمْرَينِ: إمَّا التَّزويجِ قبْلَ انتهائِها، فرُبَّما اختلَطَ النَّسَبُ، وإمَّا تَطويلِ المُدَّةِ على المُطَلَّقةِ في أيَّامِ مَنْعِها مِنَ التَّزوُّجِ، ففي الإحصاءِ فوائدُ مُراعاةِ الرَّجعةِ، وزمانِ النَّفَقةِ والسُّكنى، وتوزيعِ الطَّلاقِ على الأقراءِ، وإذا أراد أنْ يُطلِّقَ ثلاثًا، والعِلمُ بأنَّها قدْ بانَتْ فيَتزوَّجَ بأختِها، وبأربعٍ سِواها [79] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/554)، ((تفسير البيضاوي)) (5/220)، ((تفسير أبي حيان)) (10/197)، ((تفسير أبي السعود)) (8/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/298)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/119). .
16- إنَّ مِن الرَّجال مَن إذا طَلَّقَ زوجتَه طَرَدَها مِن البَيتِ، وهذا محرَّمٌ، إلَّا أنْ تأتيَ بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ، وإنَّ مِن النِّساءِ مَن إذا طُلِّقَتْ ذَهبتْ إلى أهلِها، وهذا محرَّمٌ؛ قال تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ، فالمطلَّقةُ الرَّجعِيَّةُ تبقَى في بَيتِ زَوجِها [80] يجِبُ على المُعتَدَّةِ مِن طلاقٍ رَجعيٍّ أن تبيتَ في بيتِ الزَّوجيَّةِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((الهداية)) للمَرْغِيناني (2/279)، ((مواهب الجليل)) للحَطَّاب (5/510)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 257)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/206). ويُنظر تفصيلُ حكمِ خروجِها (ص: 37). .
17- قَولُ اللهِ تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ فيه سُؤالٌ: ما معنى الجَمعِ بيْن إخراجِهم وخُروجِهنَّ؟
الجوابُ: معنى الإخراجِ ألَّا يُخرِجَهنَّ البُعولةُ غَضَبًا عليهنَّ، وكَراهةً لِمُساكَنتِهنَّ، أو لحاجةٍ لهم إلى المساكِنِ، وألَّا تَأذَنوا لهنَّ في الخُروجِ إذا طَلَبْنَ ذلك؛ إيذانًا بأنَّ إذْنَهم لا أثَرَ له في رَفعِ الحَظرِ، ولا يَخرُجْنَ بأنفُسِهنَّ إن أرَدْنَ ذلك [81] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/561). .
18- قال اللهُ تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ في إضافةِ البُيوتِ إلى ضَميرِ النِّساءِ إيماءٌ إلى أنَّهنَّ مُستَحِقَّاتٌ المُكثَ في البُيوتِ مُدَّةَ العِدَّةِ بمَنزِلةِ مالِكِ الشَّيءِ، وهذا ما يُسَمَّى في الفِقهِ مِلْكَ الانتِفاعِ دونَ العَينِ، ولأنَّ بَقاءَ المُطَلَّقاتِ في البُيوتِ اللَّاتي كُنَّ فيها أزواجًا استِصحابٌ لحالِ الزَّوجيَّةِ؛ إذ الزَّوجةُ هي المتصَرِّفةُ في بَيتِ زَوجِها؛ ولذلك يَدعوها العَرَبُ: رَبَّةَ البَيتِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/299). .
19- في قَولِه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ دَليلٌ على أنَّ مَن سَكَنَ دارًا جاز أنْ تُضافَ إليه وإنْ كان مِلْكُها لغَيرِه، ولا يكونُ كَذِبًا؛ إذِ البُيوتُ المضافاتُ إلى الزَّوجاتِ في هذه الآيةِ مِلْكُها لا محالةَ لأزواجِهنَّ؛ إِذْ لو كان مِلْكُها لَهُنَّ ما كان لأزواجِهنَّ سَبيلٌ عليهنَّ قبْلَ الطَّلاقِ وبَعْدَه؛ لأنهنَّ أحَقُّ بأملاكِهنَّ ممَّن لا مِلْكَ له، فإنَّما خاطَبَ المطلِّقِينَ بفَرضِ سُكْنى مَن طَلَّقوا مِن الزَّوجاتِ دونَ الثَّلاثِ؛ إذْ هُنَّ في معاني الزَّوجاتِ -كما كُنَّ قبْلَ الطَّلاقِ- مِن وُجوبِ السُّكْنى والنَّفَقةِ كما كُنَّ. واستُدِلَّ بجوازِ إضافةِ البُيوتِ إلى مَن مِلْكُها لغَيرِه على أنَّ مَن حَلَفَ مِن السُّكَّانِ ألَّا يَسْكُنَ دارَه، ولا يَدْخُلَ دارَه فلانٌ: حَنَثَ بالسُّكْنى ودُخولِ فُلانٍ الدَّارَ الَّتي هو فيها بكِراءٍ؛ لأنَّها دارُه بالتَّوَطُّنِ والحُلولِ وإنْ كان مِلْكُها لغَيرِه، إلَّا أنْ تكونَ له دارٌ يَمْلِكُها مِلْكَ الرَّقَبةِ، فيَقْصِدُها بيَمينِه، فلا يَحْنُثُ حينَئذٍ في المُكْتَراةِ [83] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/321-323). .
20- في قَولِه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ وُجوبُ السُّكْنَى للمطلَّقةِ ما دامتْ في العِدَّةِ، وتحريمُ إخراجِها وخُروجِها إلَّا أنْ تأتيَ بفاحِشةٍ مُبَيِّنَةٍ، فتُنْقَلَ [84] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 266). وسيأتي تفصيلُ الكلامِ عن حُكمِ السُّكنى للمطلَّقاتِ (ص: 80). .
21- في قَولِه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ أنَّ مُطَلِّقَ الرَّجْعِيَّةِ بَعْلٌ وزَوجٌ حقيقةً؛ فقد أَمَرَ سبحانه بإبقاءِ المطلَّقةِ عندَ الزَّوجِ، ونَسَبَ بَيتَ زوجِها إليها، ولو كانت تَبِينُ منه وتَنفَصِلُ ويَنفَصِلُ منها، ما كان بيتُ زَوجِها بيتًا لها. إذَنْ هي زَوجةٌ، فتَجِبُ لها النَّفَقةُ، ويَلْزَمُها طاعتُه، ويجوزُ أنْ تَكْشِفَ له، وأنْ يَنْفَرِدَ بها، وأنْ تَتَطَيَّبَ له، وأنْ تُمازِحَه وتَضحَكَ إليه، وأنْ يُسافِرَ بها؛ فكلُّ ما يجوزُ للزَّوجةِ مع الزَّوجِ يجوزُ لها مع زَوجِها، إلَّا في مَسائِلَ قليلةٍ [85] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (13/186). مذهبُ الحنفيَّةِ، وظاهرُ مذهبِ الحنابلةِ أنَّه يجوزُ الاستمتاعُ بالرجعيَّةِ، والخلوةُ بها، ولمسُها، والنَّظرُ إليها بنيةِ المراجعةِ، وكذلك بدونِها معَ الكراهةِ التنزيهيَّةِ عندَ الحنفيةِ. وذهَب المالكيَّةُ والشافعيَّةُ -وهو روايةٌ للحنابلةِ- إلى أنَّه لا يجوزُ للمطلِّقِ لزوجتِه طلاقًا رجعيًّا معاشرتُها ومساكنتُها في الدَّارِ التي تعتدُّ فيها. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/355). .
22- قال اللهُ تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ نهى عن إخراجِهنَّ وعن خُروجِهنَّ، وسُنَّةُ ذلك ألَّا تَبيتَ المرأةُ المُطَلَّقةُ بَعيدًا عن بَيتِها، ولا تَغيبَ عنه نهارًا إلَّا في ضَرورةٍ وممَّا لا خَطْبَ له مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ؛ وذلك لحِفظِ النَّسَبِ، والتَّحَرُّزِ بالنِّساءِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/323). ذهَبَ الحنَفيَّةُ والشَّافعيَّةُ إلى أنَّ المُطلَّقةَ الرَّجعيَّةَ لا يجوزُ لها الخروجُ مِن مَسكَنِ العِدَّةِ لا لَيلًا ولا نَهارًا. وذهب المالكيَّةُ والحنابلةُ إلى جوازِ خروجِ المطلَّقةِ الرَّجعيَّةِ نَهارًا لقضاءِ حوائجِها، وتَلزَمُ مَنزِلَها باللَّيلِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/348). أمَّا المُعتدَّةُ مِن طلاقٍ بائنٍ فأجاز المالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ والحنابلةُ خُروجَها نهارًا لقضاءِ حوائجِها، وشراءِ ما يَلزَمُها، إلى غيرِ ذلك، خِلافًا للحنَفيَّةِ الَّذين منَعوا خُروجَها لَيلًا أو نهارًا. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/349). والمتوفَّى عنها زَوجُها لا تَخرُجُ لَيلًا، ولها أن تَخرُجَ نهارًا لقضاءِ حوائجِها. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/350). .
23- في قَولِه تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أنَّ اللهَ تعالى قد سمَّى أحكامَه حُدودًا [87] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (5/425). .
24- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أنَّ كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَ اللهِ بفِعلِ مُحَرَّمٍ أو تَرْكِ واجِبٍ، فقد ظَلَمَ نفْسَه؛ فإنَّ النَّفْسَ عندَك أمانةٌ تجِبُ عليك رِعايتُها، وقد أوصاك اللهُ بها فقال: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، وقال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] ، فنهى عن قَتْلِ النَّفْسِ وعن ظُلْمِ النَّفْسِ؛ لأنَّها أمانةٌ عندَك [88] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/182). .
25- قال الله تعالى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا وقدْ سُلِكَ في هذِه الآيةِ مَسلَكُ التَّرغيبِ في امتثالِ الأحكامِ المُتقدِّمةِ بعْدَ أنْ سُلِكَ في شأنِها مَسلكُ التَّرهيبِ مِن مُخالَفتِها، فمِن مَصالحِ الاعتدادِ ما في مُدَّةِ الاعتِدادِ مِنَ التَّوسيعِ على الزَّوجَيْنِ في مُهلةِ النَّظَرِ في مَصيرِ شأنِهما بعْدَ الطَّلاقِ، والمقصودُ الإشارةُ إلى أهمِّ ما في العِدَّةِ مِنَ المصالحِ، وهو ما يُحْدِثُه اللهُ مِن أمْرٍ بعْدَ الطَّلاقِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). .
26- قَولُ اللهِ تعالى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا أي: بعْدَ الطَّلاقِ مُراجَعةً، واستُدِلَّ به على كراهيةِ التَّطليقِ ثلاثاً بمرَّةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ إحداثَ الرَّجعةِ لا يكونُ بعدَ الثَّلاثِ [90] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1106). -وذلك على القولِ بأنَّ الطَّلاقَ الثَّلاثَ مجموعًا يقَعُ [91] وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((مختصر القدوري)) (ص: 154)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/301)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/82)، ((الإنصاف)) للمرداوي (8/334). واختار ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّمِ، والشَّوْكانيُّ، وابنُ باز، وابنُ عثيمينَ أنَّه يقعُ طلقةً واحدةً، وهو مذهبُ طائفةٍ مِن السَّلفِ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/7)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/34)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (6/290)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (21/477)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/115). -، وإنْ طلَّقَها واحدةً يُمكِنُه أن يُراجِعَها [92] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/460). قال القرطبي: (... قولُه بعد ذلك: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. وهذا يُبطِلُ دُخولَ الثَّلاثِ تحتَ الآيةِ. وكذلك قال أكثرُ العُلَماءِ، وهو بديعٌ لهم). ((تفسير القرطبي)) (18/152). .
27- في قَولِه تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ جوازُ السَّماحةِ في الكَلامِ على مَذهَبِ العَرَبِ فيه، وتَرْكُ التَّنطُّعِ بما يَحسَبُه جُهَّالُ المتنسِّكِين كَذِبًا؛ فإنَّ بُلوغَ الأجَلِ في هذا الموضعِ هو مُقارَبةُ خُلُوِّه لا خُلُوُّه؛ إذْ لو كان خُلُوَّه ما أمكَنَه الإمساكُ بالرَّجْعةِ، ولَاحتاجَ إلى تزوُّجِها، ولا يُقالُ أيضًا للمُتزوِّجِ مُمسِكٌ [93] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/327، 328). !
28- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فيه أنَّ الإمساكَ مِن صَرائِحِ الرَّجْعةِ، والفِراقَ مِن صَرائِحِ الطَّلاقِ [94] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). قال ابنُ قدامةَ: (أمَّا القولُ فتحصُلُ به الرَّجعةُ بغيرِ خلافٍ، وألفاظُه: راجعْتُك، وارتجَعْتُك، وردَدْتُك، وأمسَكْتُك؛ لأنَّ هذه الألفاظَ ورَد بها الكتابُ والسُّنَّةُ). ((المغني)) (7/ 524). ويُنظر الخلافُ في الإمساكِ؛ هل هو من الصَّريحِ أو الكنايةِ في: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (22/110). أمَّا كونُ الفِراقِ، وما يُشتَقُّ منه: مِن ألفاظِ الطَّلاقِ الصَّريحِ، فهو المَشهورُ عند الشَّافِعيَّةِ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ، وقَولٌ عند الحَنابِلةِ. ينظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (8/23)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/572)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/248). وذهَب الجمهورُ مِن الحَنَفيَّةِ، والمَالِكيَّةِ -على المَشهورِ-، والحَنابِلةِ -وهو قَولٌ عند الشَّافِعيَّةِ- إلى أنَّ لَفظةَ الفِراقِ لا تُعتَبَرُ مِن  ألفاظِ الطَّلاقِ الصَّريحِ. ينظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/64)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/572)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/245)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/23). .
29- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ استَدَلَّ بظاهِرِ الآيةِ مَن أوجَبَ الإشهادَ على الرَّجعةِ، وإذا وَجَب فيها ففي أصلِ النِّكاحِ أَولى [95] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). قال ابن عاشور: (ظاهرُ وُقوعِ هذا الأمرِ بعْدَ ذِكْرِ الإمساكِ أوِ الفِراقِ أنَّه راجعٌ إلى كِلَيْهِما؛ لأنَّ الإشْهادَ جُعِلَ تتِمَّةً للمأْمورِ به في معْنى الشَّرطِ للإمساكِ أو الفِراقِ؛ لأنَّ هذا العطفَ يُشبِهُ القَيدَ وإنْ لم يكُنْ قَيدًا، وشأنُ الشُّروطِ الوارِدةِ بعْدَ جُمَلٍ أنْ تعودَ إلى جَميعِها، وظاهرُ صِيغةِ الأمرِ الدَّلالةُ على الوُجوبِ؛ فيَترَكَّبُ مِن هذَيْنِ أنْ يكونَ الإشهادُ على المراجَعةِ وعلى بَتِّ الطَّلاقِ واجبًا على الأزواجِ؛ لأنَّ الإشهادَ يَرفَعُ أشكالًا مِنَ النَّوازِلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/309). بيْنَما ذهَب أصحابُ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ إلى استِحبابِ الإشهادِ على الرَّجعةِ. .
30- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فيه أنَّه لا يُقبَلُ في الشَّهادةِ في النِّكاحِ والطَّلاقِ إلَّا الرِّجالُ المَحضُ [96] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). .
31- قَولُه تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فيه أنَّه لا يُقبَلُ في الشَّهادةِ إلَّا العَدْلُ [97] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). .
32- في قَولِه تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ لم يَصِفِ الرَّجُلَينِ نفْسَيهما بأنَّهما عَدْلٌ، بل وَصَفَهما بأنَّهما ذَوَا عَدْلٍ؛ أي: صاحِبا عَدْلٍ، والعَدلُ في المقالِ هو الصِّدقُ والبَيانُ الَّذي هو ضِدُّ الكَذِبِ والكِتمانِ، كما بَيَّنَه تعالى في قَولِه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152] ، والعدلُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وفي كلِّ طائفةٍ بحَسَبِه؛ فيكونُ الشَّهيدُ في كلِّ قومٍ مَن كان ذا عَدْلٍ فيهم، وإنْ كان لو كان في غَيرِهم لَكان عَدْلُه على وَجهٍ آخَرَ، وبهذا يُمكِنُ الحُكْمُ بيْن النَّاسِ، وإلَّا فلوِ اعْتُبِرَ في شُهودِ كلِّ طائفةٍ ألَّا يَشْهَدَ عليهم إلَّا مَن يكونُ قائمًا بأداءِ الواجِباتِ وتَرْكِ المحَرَّماتِ -كما كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم- لَبَطَلَتِ الشَّهاداتُ كُلُّها أو غالِبُها [98] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (5/203). .
33- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ فيه أمرُ الشُّهودِ بتَحريمِ الكِتمانِ [99] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 266). .
34- في قَولِه تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وُجوبُ الإخلاصِ للهِ عزَّ وجلَّ في الشَّهادةِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/147). .
35- قولُه تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ يَقتضي أنَّه يأتي بها تامَّةً مُستقيمةً؛ فإنَّ الشَّاهِدَ قد يَضْعُفُ عن أدائِها وقد يُحَرِّفُها، فإذا أقامَها كان ذلك لِقُوَّتِه واستِقامتِه [101] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/163). .
36- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ في هذه الآيةِ لَطيفةٌ: وهي أنَّ التَّقْوى في رعايةِ أحوالِ النِّساءِ مُفتَقِرةٌ إلى المالِ، وقريبٌ مِن هذا قولُه: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/562). [النور: 32] .
37- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ سُؤالٌ: أنَّه قد نرى مَن يتَّقي وهو محرومٌ، ومَن هو بخِلافِ ذلك وهو مَرزوقٌ!
والجَوابُ: أنَّ الآيةَ اقتَضَتْ أنَّ المتَّقيَ يُرزَقُ مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، ولم تَدُلَّ على أنَّ غيرَ المتَّقي لا يُرزَقُ، بل لا بُدَّ لكلِّ مخلوقٍ مِن الرِّزقِ؛ قال اللهُ تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6] ، حتَّى إنَّ ما يَتناوَلُه العبدُ مِن الحرامِ هو داخِلٌ في هذا الرِّزقِ؛ فالكُفَّارُ قد يُرزقَونَ بأسبابٍ مُحَرَّمةٍ، ويُرزَقونَ رِزقًا حَسَنًا، وقد لا يُرزَقونَ إلَّا بتكَلُّفٍ، وأهلُ التَّقوى يَرْزُقُهم اللهُ مِن حيثُ لا يَحتَسِبونَ، ولا يكونُ رزْقُهم بأسبابٍ مُحَرَّمةٍ، ولا يكونُ خَبيثًا، والتَّقِيُّ لا يُحرَمُ ما يَحتاجُ إليه مِن الرِّزقِ، وإنَّما يُحْمَى مِن فُضولِ الدُّنيا رَحمةً به، وإحسانًا إليه؛ فإنَّ توسيعَ الرِّزقِ قد يكونُ مَضَرَّةً على صاحِبِه، وتقديرَه يكونُ رَحمةً لصاحبِه؛ قال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر: 15 - 17] ، أي: ليس الأمرُ كذلك، فليس كلُّ مَن وُسِّعَ عليه رِزْقُه يكونُ مُكْرَمًا، ولا كلُّ مَن قُدِرَ عليه رِزْقُه يكونُ مُهانًا، بل قد يُوَسَّعُ عليه رِزْقُه إملاءً واستِدراجًا، وقد يُقْدَرُ عليه رِزْقُه حمايةً وصيانةً له، وضِيقُ الرِّزقِ على عَبدٍ مِن أهلِ الدِّينِ قد يكونُ لِمَا له مِن ذُنوبٍ وخَطايا [103] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/52). .
38- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ بيانُ أنَّ المتَّقيَ يَدفَعُ عنه سبحانه المَضَرَّةَ، وهو أنْ يَجعَلَ له مَخْرَجًا ممَّا ضاق على النَّاسِ، ويَجلِبَ له المنفعةَ، ويَرزُقَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، وكلُّ ما يَتَغَذَّى به الحَيُّ ممَّا تَستريحُ به النُّفوسُ وتَحتاجُ إليه في طِيبِها وانشِراحِها فهو مِن الرِّزقِ، واللهُ تعالى يَرزُقُ ذلك مَن اتَّقَاه بفِعلِ المأمورِ، وتَرْكِ المحظورِ [104] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (4/466). .
39- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أنَّ الدِّينَ عِلْمًا وعَمَلًا إذا صَحَّ، فلا بُدَّ أنْ يُوجِبَ خَرْقَ العادةِ إذا احتاج إلى ذلك صاحِبُه [105] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/14). .
40- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ جَعَل سُبحانَه للتَّقوى فائِدَتَينِ: أنْ يَجعلَ له مَخرَجًا، وأنْ يَرزُقَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، والمَخْرَجُ هو مَوضِعُ الخُروجِ، وهو الخُروجُ، وإنَّما يُطلَبُ الخُروجُ مِن الضِّيقِ والشِّدَّةِ، وهذا هو الفَرَجُ والنَّصرُ والرِّزقُ؛ فبَيَّنَ أنَّ فيها النَّصرَ والرِّزقَ، كما قال: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4] ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وهل تُنصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بضُعَفائِكم؟ !)) [106] أخرجه البخاريُّ (2896) من حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضيَ الله عنه. : بدُعائِهم وصَلاتِهم واستِغفارِهم. فهذا لِجَلْبِ المنفعةِ، وهذا لِدَفْعِ المَضَرَّةِ [107] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/55). .
41- قَولُه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ذكَرَ بعضُ أهلِ العِلمِ أنَّ فيه تأكيدًا على أنَّ المُطَلِّقَ ثَلاثًا بكَلِمةٍ واحدةٍ -وإنْ عُدَّ أيضًا عاصيًا- أَشَدُّ ما قيلَ فيه: إنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ عليه، وقد فاتَه المَخْرَجُ بالرَّجْعةِ [108] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/330). !
42- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ بيانُ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ مِن حيثُ إنَّ اللهَ يَكفي المتوكِّلَ عليه، كما قال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ، خِلافًا لِمَن قال: ليس في التَّوكُّلِ إلَّا التَّفويضُ والرِّضا [109] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/56). !
43- قال بعضُ السَّلفِ: (جَعَل اللهُ تعالى لكلِّ عَمَلٍ جَزاءً مِن جِنْسِه، وجَعَل جزاءَ التَّوكُّلِ عليه نَفْسَ كفايتِه لعَبْدِه)، فقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، ولم يَقُلْ: نُؤْتِه كذا وكذا مِن الأجرِ،كما قال في الأعمالِ، بل جَعَل نفْسَه سُبحانَه كافيَ عَبدِه المتوكِّلِ عليه، وحَسْبَه وواقيَه، فلو تَوَكَّلَ العبدُ على اللهِ تعالى حَقَّ تَوَكُّلِه وكادَتْه السَّمَواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ، لَجَعَل له مَخرَجًا مِن ذلك، وكَفاه ونَصَره [110] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/240). .
44- عن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ أكبَرَ آيةٍ في القُرآنِ تَفويضًا: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/48). .

بلاغة الآيات:

1- قولُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا
- تَخصيصُ النِّداءِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع عُمومِ الخِطابِ لأُمَّتِه أيضًا؛ لتَشريفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإظهارِ جَلالةِ مَنصبِه، وتَحقيقِ أنَّه المُخاطَبُ حقَيقةً، ودُخولُهم في الخِطابِ بطَريقِ استِتْباعِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ إيَّاهُم، وتَغليبِه عليهم، كما يُقالُ لرَئيسِ القومِ وكَبيرِهم: يا فُلانُ، افعَلوا كَيْتَ وكَيْتَ؛ إظهارًا لتَقدُّمِه، واعتبارًا لِتَرَؤُّسِه، وأنَّه الَّذي يَصْدُرونَ عن رأيِه، ولا يَستبِدُّونَ بأمْرٍ دونَه، فكانَ هو وَحْدَه في حُكْمِ كلِّهم، وسادًّا مَسدَّ جميعِهم، لا لأنَّ نِداءَه كنِدائِهم؛ فإنَّ ذلكَ الاعتبارَ لو كانَ في حيِّزِ الرِّعايةِ لَكانَ الخِطابُ هو الأحقَّ به؛ لشُمولِ حُكمِه للكلِّ قطْعًا. أو معْناه: يا أيُّها النَّبيُّ قلْ لأُمَّتِك: إذا طلَّقْتُم النِّساءَ -أي: أردتْمُ طَلاقَ نِسائِكم- فطلِّقوهن... إلخ [112] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/552)، ((تفسير البيضاوي)) (5/220)، ((تفسير أبي حيان)) (10/196)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 569)، ((تفسير أبي السعود)) (8/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/294)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/118). . وقيل: أفرَدَه به أوَّلًا؛ لأنَّه إمامُ أُمَّتِه، وسادٌّ مَسَدَّهم [113] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 569). . وقيل: الخطابُ للنبيِّ عليه السلامُ بلفظِ الإفرادِ على الحقيقةِ له، وقولُه: طَلَّقْتُمُ خبرٌ عنه على جهةِ التَّعظيمِ بلفظِ الجمعِ [114] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/269). .
- ومعْنى إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ: إذا أردْتُمْ تَطليقَهنَّ، وهمَمْتُم به، على تَنزيلِ المُقبِلِ على الأمرِ المُشارِفِ له مَنزِلةَ الشَّارعِ فيه [115] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/552)، ((تفسير البيضاوي)) (5/220)، ((تفسير أبي حيان)) (10/196)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/352)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 260)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/295). .
- وتَكريرُ فِعلِ فَطَلِّقُوهُنَّ؛ لمَزيدِ الاهتِمامِ به [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/295). .
- قولُه: لِعِدَّتِهِنَّ متعلِّقٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه معنى الكلامِ، أي: مُسْتَقْبِلاتٍ لعِدَّتِهنَّ، يُقالُ: أتَيْتُه لِلَيلةٍ بَقِيَتْ مِن المحرَّمِ، أي: مُسْتقبِلًا لها. وقيل: اللَّامُ في لِعِدَّتِهِنَّ لامُ التَّوقيتِ، وهي بمعْنى (عِندَ)، ولَمَّا كان مَدخولُ اللَّامِ هنا غيرَ زَمانٍ، عُلِمَ أنَّ المرادَ الوقتُ المُضافُ إلى عِدَّتِهنَّ، أي: وقْتُ الطُّهرِ [117] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/552)، ((تفسير البيضاوي)) (5/220)، ((تفسير أبي حيان)) (10/196)، ((تفسير أبي السعود)) (8/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/295)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/118، 119). . قيل: اختِيرَ التَّعبيرُ بلامِ التَّوقيتِ؛ لأنَّها تُفهِمُ أنَّ ما دخَلَت عليه كالعِلَّةِ الحامِلةِ على مُتعَلَّقِها، فصار كأنَّه قيل: طَلِّقوا لأجْلِ العِدَّةِ، وإذا كان لأجْلِها عُلِمَ أنَّ المرادَ تَخفيفُها على المرأةِ بحَسَبِ الطَّاقةِ؛ لأنَّ مبنى الدِّينِ على اليُسرِ [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/141). .
- والتَّعريفُ في الْعِدَّةَ للعهدِ؛ فإنَّ الاعتِدادَ مَشروعٌ مِنْ قَبْلُ، والكلامُ على تَقديرِ مُضافٍ؛ لأنَّ المُحصَى أيَّامُ العِدَّةِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/298). .
- قولُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في وَصْفِه تعالَى برُبوبيَّتِه لهم تأكيدٌ للأمرِ؛ لزِيادةِ الحِرصِ على التَّقْوى، وللتَّذكيرِ بأنَّه حَقيقٌ بأنْ يُتَّقَى غَضبُه [120] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/299). .
- قولُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ اعتِراضٌ بَيْنَ جُملةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وجُملةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ وَاتَّقُوا اللَّهَ؛ ليَعُمَّ جميعَ ما يُتَّقى اللهُ فيه، فيَكونَ هذا مِن قَبيلِ الاعتِراضِ التَّذييليِّ، وأوَّلُ ما يُقصَدُ بأنْ يُتَّقَى اللهُ فيه ما سِيقَ الكلامُ مِن أجْلِه من أحكامِ الطَّلاقِ والعِدَّةِ، فقولُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ تَحذيرٌ مِنَ التَّساهُلِ فيها [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/298). .
- وجُملةُ وَلَا يَخْرُجْنَ عطْفٌ على جُملةِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ، وهو نهْيٌ لهُنَّ عن الخُروجِ؛ فإنَّ المُطلِّقَ قد يُخرِجُها فتَرغَبُ المُطلَّقةُ في الخروجِ؛ لأنَّها تَستثقِلُ البَقاءَ في بَيتٍ زالَتْ عنه سِيادتُها، فنَهاهُنَّ اللهُ عن الخُروجِ. وهذا التَّرتُّبُ بيْن الجُملتَيْنِ يُشعِرُ بالسَّببيَّةِ، وأنَّ لكلِّ امرأةٍ مُعتدَّةٍ حقَّ السُّكْنى في بَيتِ زَوجِها مُدَّةَ العِدَّةِ -على قولٍ-؛ لأنَّها مُعتدَّةٌ مِن أجْلِه، أي: مِن أجْلِ حِفظِ نسَبِه وعِرضِه [122] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/554)، ((تفسير البيضاوي)) (5/220)، ((تفسير أبي السعود)) (10/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/299)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/119). .
- قولُه: بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، قُرِئَ مُبَيِّنَةٍ بكَسرِ الياءِ التَّحتيَّةِ، أي: هيَ تُبيِّنُ لِمَن تَبلُغُه أنَّها فاحشةٌ عظيمةٌ؛ فيَكونُ التَّبيينُ مُعبَّرًا به عن الوُضوحِ، أو تُبيِّنُ لوُلاةِ الأُمورِ صُدورَها مِنَ المرأةِ؛ فيكونُ المُبيِّنُ هو مُلابِسَ الفاحِشةِ، وهو الإقرارُ والشَّهادةُ، فيُحمَلُ في كلِّ حالةٍ على ما يُناسِبُ معْنى التَّبيينِ. وقُرِئَ مُبَيَّنَةٍ بفتْحِ التَّحتيَّةِ [123] قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ بفتحِ الياءِ المُشَدَّدةِ، والباقونَ بكَسْرِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/248). ، أي: كانتْ فاحشةً بيَّنَتْها الحُجَّةُ، أو بيَّنَها الخارجُ، ومَحْمَلُ القراءتَيْنِ واحدٌ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/300، 301). .
- قولُه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الواوُ اعتِراضيَّةٌ، والجُملةُ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَلَا يَخْرُجْنَ وجُملةِ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، أُريدَ بهذا الاعتِراضِ المبادَرةُ بالتَّنبيهِ إلى إقامةِ الأحكامِ المذكورةِ مِن أوَّلِ السُّورةِ إقامةً لا تَقصيرَ فيها، ولا خِيَرةَ لأحَدٍ في التَّسامُحِ بها، وخاصَّةً المُطلَّقةَ والمُطلِّقَ أنْ يَحسَبا أنَّ ذلكَ مِن حقِّهِما انفرادًا أو اشتراكًا [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/304). .
- قولُه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الإشارةُ بـ (تِلْكَ) إلى ما ذُكِرَ مِنَ الأحكامِ، وما في اسمِ الإشارةِ مِن مَعْنَى البُعْدِ مع قُرْبِ العَهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ بعُلُوِّ دَرَجتِها، وبُعْدِ مَنزلتِها [126] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/260). .
- ووُقوعُ حُدُودُ اللَّهِ خبرًا عن اسْمِ الإشارةِ الَّذي أُشِيرَ به إلى أشياءَ مُعيَّنةٍ يَجعَلُ إضافةَ حُدُودُ إلى اسمِ الجلالةِ مُرادًا منها تَشريفُ المضافِ وتَعظيمُه، والمعنى: وتلكَ ممَّا حدَّ اللهُ، فلا تُفيدُ تَعريفَ الجمْعِ بالإضافةِ عُمومًا؛ لصرْفِ القَرينةِ عن إفادةِ ذلكَ؛ لظُهورِ أنَّ تلكَ الأشياءَ المُعيَّنةَ ليستْ جميعَ حُدودِ اللهِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/305). .
- قولُه: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ عطْفٌ على جُملةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، فهو تَتميمٌ [128] التَّتميم: هو أن يُؤتى في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المراد بفضلةٍ تُفيد نكتةً. أو بعبارةٍ أخرى هو: الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصود؛ لرَفْعِ اللبسِ عنه، وتقريبِه للفَهم، أو لزِيادةٍ حسنة، بحيث إذا طُرِح من الكلام نقَص معناه في ذاتِه، أو في صِفاته. يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (1/120)، (2/ 333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/252)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240). ، وهو المقصودُ مِنَ التَّذييلِ [129] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/ 179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/ 86- 88). ، وإذْ قدْ كانَ حُدُودُ اللَّهِ جمْعًا مُعرَّفًا بالإضافةِ كان مُفيدًا للعُمومِ؛ إذْ لا صارفَ عن إرادةِ العُمومِ، بخِلافِ إضافةِ حُدُودُ اللَّهِ السَّابقِ، والمعنى: مَنْ يَتعدَّ شيئًا مِن حُدودِ اللهِ فقَدْ ظلَمَ نفْسَه [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/305). .
- قولُه: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لاختِلافِ هذَيْنِ المُركَّبَيْنِ بالعُمومِ والخُصوصِ، وجِيءَ بهذا الإطنابِ لتَهويلِ أمْرِ هذا التَّعدِّي [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/305). ، والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ في قولِه تعالى: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، أي: أضَرَّ بِها [132] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/260). .
- وأُخْبِرَ عن مُتعدِّي حُدودِ اللهِ بأنَّه ظلَمَ نفْسَه للتَّخويفِ؛ تَحذيرًا مِن تَعدِّي هذه الحُدودِ؛ فإنَّ ظُلمَ النَّفْسِ هو الجَريرةُ عليها بما يَعودُ بالإضرارِ، وذلك مِنه ظُلمٌ لها في الدُّنيا بتَعريضِ النَّفْسِ لعَواقِبَ سيِّئةٍ تَنجَرُّ مِن مُخالَفةِ أحكامِ الدِّينِ؛ لأنَّ أحكامَه صَلاحٌ للنَّاسِ، فمَنْ فرَّطَ فيها فاتَتْه المصالحُ المَنطويةُ هي عليها، ومنه ظُلمٌ للنَّفْسِ في الآخِرةِ بتَعريضِها للعِقابِ المُتوعَّدِ به على الإخلالِ بأحكامِ الدِّينِ؛ فإنَّ للمؤمنينَ حَظًّا مِن هذا الوَعيدِ بمِقدارِ تَفاوُتِ ما بيْنَ الكفْرِ ومُجرَّدِ العِصيانِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/305، 306). .
- وجِيءَ في هذا التَّحذيرِ بـ (مَنْ) الشَّرطيَّةِ؛ لإفادةِ عُمومِ كلِّ مَن تعدَّى حُدودَ اللهِ، فيَدخُلُ الَّذين يَتعَدَّونَ أحكامَ الطَّلاقِ وأحكامَ العِدَّةِ في هذا العمومِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). .
- وهذِه الجُملةُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا تَعليلٌ لجُملةِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وما أُلْحِقَ بها ممَّا هو إيضاحٌ لها، وتَفصيلٌ لأحوالِها؛ ولذلكَ جاءَتْ مَفصولةً عن الجُمَلِ الَّتي قَبْلَها [135] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/306)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/120). . ويَجوزُ كَونُها بدَلًا مِن جُملةِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] ، بدَلَ اشتِمالٍ؛ لأنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ بَعضُه حاصلٌ في الدُّنيا، وهو مُشتمِلٌ على إضاعةِ مصالحِ النَّفْسِ عنها [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). .
- وتَنكيرُ كَلمةِ أَمْرًا للتَّنويعِ، أي: أمرًا مَوصوفًا بصِفةٍ مَحذوفةٍ، أي: أمرًا نافعًا لهُما [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/306). .
- قولُه: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا الخِطابُ لغَيرِ مُعيَّنٍ جارٍ على طَريقةِ القصدِ بالخِطابِ إلى كلِّ مَن يَصلُحُ للخِطابِ، ويُهِمُّه أمرُ الشَّيءِ المُخاطَبِ به مِن كلِّ مَن قصُرَ بصَرُه إلى حالةِ الكراهيةِ الَّتي نشَأَ عليها الطَّلاقُ، ولم يَتدبَّرْ في عَواقبِ الأمورِ، ولا أحاطَ فِكْرُه بصُوَرِ الأحوالِ المُختلِفةِ المُتقلِّبةِ، ولعلَّ كَلمةَ لَا تَدْرِي تَجْري مَجْرى المثَلِ، فلا يُرادُ ممَّا فيها مِن عَلامةِ الخِطابِ ولا مِن صِيغةِ الإفرادِ إلَّا الجرْيُ على الغالبِ في الخِطابِ، وهو مَبنيٌّ على تَوجيهِ الخِطابِ لغَيرِ مُعيَّنٍ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/307). .
وقيل: قولُه: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا خِطابٌ للمُتعدِّي بطَريقِ الالْتفاتِ؛ لمَزيدِ الاهتِمامِ بالزَّجرِ عن التَّعدِّي [139] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/261)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/121). .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
- قولُه: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... تَفريعٌ على جميعِ ما تقدَّمَ مِن أحكامِ العِدَّةِ، مَعطوفٌ على جُملةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1] ؛ لأنَّ إحصاءَها بحفْظِ مُدَّتِها، واستيعابِ أيَّامِها، فإذا انتهَتِ المدَّةُ فقَدْ أعذَرَ اللهُ لهُما، والزِّيادةُ عليها إضرارٌ بأحَدِهما أو بكِلَيْهما، وفائدةُ الآجالِ الوُقوفُ عِندَ انتهائِها [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/307). .
- والإمساكُ: اعتزامُ المراجَعةِ، وعُبِّرَ عنه بالإمساكِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ المُطلَّقةَ الرَّجعيَّةَ لها حُكمُ الزَّوجةِ فيما عدا الاستِمتاعَ، فكأنَّه لَمَّا راجَعَها قدْ أمسَكَها ألَّا تُفارِقَه، فكأنَّه لم يُفارِقْها؛ لأنَّ الإمساكَ هو الضَّنُّ بالشَّيءِ وعدَمُ التَّفريطِ فيه، وأنَّه إذا لم يُراجِعْها فكأنَّه قد أعادَ فِراقَها وقَسَا قلْبُه، ومِن أجْلِ هذِه النُّكْتةِ جُعِلَ عدَمُ الإمساكِ فِراقًا جَديدًا في قولِه: أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/308). .
- والأمرُ في فَأَمْسِكُوهُنَّ أَوْ فَارِقُوهُنَّ للإباحةِ، و(أَوْ) فيه للتَّخييرِ، والباءُ في بِمَعْرُوفٍ للمُلابَسةِ، أي: مُلابَسةِ كلٍّ مِنَ الإمساكِ والفِراقِ للمعروفِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/308). .
- وتَقديمُ الإمساكِ -وهو المراجَعةُ- على إمْضاءِ المفارَقةِ، إيماءٌ إلى أنَّه أرضى للهِ تعالَى، وأوفَقُ بمَقاصِدِ الشَّريعةِ؛ ففُهِمَ أنَّ المراجَعةَ مَندوبٌ إليها [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/308). .
- ولَمَّا قُيِّدَ أمْرُ الإباحةِ مِن قولِه: فَأَمْسِكُوهُنَّ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بقَيْدِ (بالمعروفِ)، فُهِمَ مِنه أنَّه إنْ كانَ إمساكٌ دونَ المعروفِ فهو غَيرُ مأْذونٍ فيهِ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/308). .
- وقولُه: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ عطفٌ على وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، والخِطابُ مُوجَّهٌ لكلِّ مَن تَتعلَّقُ به الشَّهادةُ مِنَ المشهودِ عليهِم والشُّهودِ، كلٌّ يَأخُذُ بما هو حظُّهُ مِن هذَينِ الخِطابَينِ، وتَعريفُ الشَّهادةِ للاستِغراقِ، أي: كلَّ شَهادةٍ، وهو استِغراقٌ عُرفيٌّ؛ لأنَّ المأمورَ به الشَّهادةُ الشرعيَّةُ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/310). .
- ومعْنى إقامةِ الشَّهادةِ: إيقاعُها مُستقيمةً لا عِوَجَ فيها؛ فالإقامةُ مُعبَّرٌ بها عن إيقاعِ الشَّهادةِ على مُسْتَوْفِيها ما يجِبُ فيها شرْعًا ممَّا دلَّتْ عليه أدلَّةُ الشَّريعةِ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/310). .
- وفي قولِه: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ خصَّ بالذِّكرِ مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ؛ إذْ هو المُنتفِعُ به، والمَقصودُ تَذكيرُه [147] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/261). .
- وقولُه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وجُملةِ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق: 4] الآيةَ؛ فإنَّ تلكَ الأحكامَ لَمَّا اعْتُبِرَتْ مَوعِظةً بقولِه: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ، أُعقِبَ ذلكَ بقَضيَّةٍ عامَّةٍ؛ وهي أنَّ تلكَ مِن تَقوى اللهِ تعالَى، وبِما لِتَقوى اللهِ مِن خَيرٍ في الدُّنيا والآخِرةِ، على عادةِ القُرآنِ مِن تَعقيبِ الموعظةِ والتَّرهيبِ بالبِشارةِ والتَّرغيبِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/311). .
- وأيضًا قولُه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ جُملةٌ اعتراضيَّةٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا سبَقَ بالوعدِ على الاتِّقاءِ عمَّا نُهِيَ عنه صَريحًا أو ضِمْنًا مِنَ الطَّلاقِ في الحَيضِ، والإضرارِ بالمعتَدَّةِ، وإخراجِها مِنَ المسكنِ، وتَعدِّي حُدودِ اللهِ، وكِتمانِ الشَّهادةِ، وتَوقُّعِ جُعْلٍ على إقامتِها بأنْ يَجعَلَ اللهُ له مَخرَجًا ممَّا في شأنِ الأزواجِ مِنَ المَضايقِ والغُمومِ، ويَرزُقَه فرَجًا وخلفًا مِن وجْهٍ لم يَخطُرْ ببالِه. أو بالوعدِ لعامَّةِ المتَّقينَ بالخَلاصِ عن مَضارِّ الدَّارَيْنِ، والفوزِ بخَيرِهِما مِن حيثُ لا يَحتَسِبونَ. ويَجوزُ أنْ يُجاءَ بهذه الجُملةِ على سَبيلِ الاستِطرادِ عِندَ ذِكرِ قولِه -قبْلَها-: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ، يعني: لَمَّا أمَرَ المُؤمِنينَ بأُمورٍ تَتعلَّقُ بالنِّساءِ مِنَ المُجامَلةِ معهُنَّ في الفِراقِ والطَّلاقِ والإمساكِ، وأتَى باسمِ الإشارةِ ذَلِكُمْ فَذْلَكةً [149] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). ، وأنَّ المذكورَ تَذكيرٌ مِنَ اللهِ ومَوعظةٌ للمتَّقينَ مِنَ المُؤمِنينَ؛ أتَى بكلامٍ جامعٍ مَنوطٍ به أمورُ الدِّينِ ظاهِرِه وباطنِه. وفائدةُ الإشارةِ إلى أنَّ أُمورَ النِّساءِ مِن عَظائمِ الشُّؤونِ في الدِّينِ، لا سِيَّما المُفارَقةِ بعْدَ العُلْقَةِ التَّامَّةِ، فيَجِبُ على المُتَّقي أنْ يكونَ على حذَرٍ مِن جانبِهِنَّ، وألَّا يُقصِّرَ في المجامَلةِ معهُنَّ، ومَعْنى الكلامِ: ومَن يتَّقِ اللهَ في كلِّ ما يأتي وما يَذَرُ، يَجعَلْ له مَخرَجًا ومَخْلَصًا مِن غُمومِ الدُّنيا والآخِرةِ [150] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/555)، ((تفسير البيضاوي)) (5/221)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/472)، ((تفسير أبي السعود)) (8/261)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/121). .
- ولَمَّا كان أمرُ الطَّلاقِ غَيرَ خالٍ مِن حرَجٍ وغَمٍّ يَعرِضُ للزَّوجَيْنِ، وأمْرُ المراجعةِ لا يَخلو في بعضِ أحوالِه مِن تَحمُّلِ أحَدِهما لبَعضِ الكُرهِ مِنَ الأحوالِ الَّتي سبَّبَتِ الطَّلاقَ؛ أعلَمَهُما اللهُ بأنَّه وعَدَ المتَّقينَ الواقِفينَ عِندَ حُدودِه بأنْ يَجعَلَ لهم مَخرجًا مِنَ الضَّائقاتِ، شبَّهَ ما هم فيه مِنَ الحرَجِ بالمكانِ المُغلَقِ على الحالِّ فيه، وشبَّهَ ما يَمنَحُهمُ اللهُ به مِنَ اللُّطفِ، وإجراءِ الأُمورِ على ما يُلائِمُ أحوالَهم بجَعْلِ مَنْفَذٍ في المكانِ المُغلَقِ يَتخلَّصُ مِنه المُتضائقُ فيه، وشَمِل المَخرَجُ ما يحُفُّ مِنَ اللُّطفِ بالمتَّقينَ في الآخِرةِ أيضًا بتَخليصِهِم مِن أهوالِ الحسابِ والانتِظارِ، فالمَخرَجُ لهم في الآخِرةِ هو الإسراعُ بهم إلى النَّعيمِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/311). .
- قولُه: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ احتِراسٌ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ أحَدٌ أنَّ طُرقَ الرِّزقِ مُعطَّلةٌ عليه، فيَستبعِدَ ذلكَ فيُمسِكَ عن مُراجَعةِ المُطلَّقةِ؛ لأنَّه لا يَستقبِلُ مالًا يُنفِقُ مِنه، فأعْلمَه اللهُ أنَّ هذا الرِّزقَ لُطْفٌ مِنَ اللهِ، واللهُ أعلَمُ كيفَ يُهيِّئُ له أسبابًا غيرَ مُرتقَبةٍ؛ فمعْنى مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ: مِن مَكانٍ لا يَحتسِبُ مِنه الرِّزقَ، أي: لا يظُنُّ أنَّه يُرزَقُ مِنه [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/312). .
- وقد ذُكِرَ قولُه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ثلاثَ مرَّاتٍ، وختَمَ الأوَّلَ بقولِه: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، والثَّانيَ بقولِه: يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، والثَّالثَ بقولِه: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا؛ إشارةً إلى تَعدادِ النِّعَمِ المُترتِّبةِ على التَّقوى، مِن أنَّ اللهَ يَجعَلُ لِمَنِ اتَّقاهُ في دُنياهُ مَخرَجًا مِن كُرَبِ الدُّنيا والآخِرةِ، ويَرزُقُه مِن حيثُ لا يَخطُرُ ببالِه، ويَجعَلُ له في دُنياهُ وآخِرتِه مِن أمرِه يُسْرًا، ويُكفِّرُ عنه في آخِرتِه سيِّئاتِه، ويُعظِمُ له أجْرًا [153] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 237، 238)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/469، 470)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 569، 570). .
أو إنَّما اقتَرَنَ بالطَّلاقِ والعِدَّةِ هذا الوعظُ؛ لأنَّ الطَّلاقَ رفْضُ حالٍ مُتمهِّدةٍ، وقطْعُ آمالٍ مُتأكِّدةٍ، والعِدَّةُ باستيفائِها يَخلُصُ النَّسبُ، ويَصِحُّ للزَّوجِ الثَّاني الولدُ، ولو لم يكُنْ هذا الحدُّ الَّذي حدَّه اللهُ تَعالى، لَكان الفسادُ مُتَّصلًا في انقضاءِ الدُّنيا، فهو أحقُّ الأشياءِ بالمُراعاةِ، وتَأكيدِ المَقالِ فيه والوَصاةِ. وأمَّا قولُه بعْدَ ذِكرِ عِدَّةِ الحاملِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، أي: مَن لَزِمَ التُّقى، سهَّلَ اللهُ عليه الصَّعبَ مِن أمْرِه، كما يَجعَلُ أمْرَ الولادةِ سهْلًا إذا قامتِ الأُمُّ عن وَلَدِها سُرُحًا [154] السُّرُحُ: السَّهلُ السَّريعُ؛ يُقالُ: ناقةٌ سُرُحٌ، ومِشيةٌ سُرُحٌ، أي: سَهلةٌ، وإذا سهُلتْ وِلادةُ المَرأةِ قِيل: ولَدَت سُرُحًا. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/358). ، ثمَّ عقَّبَ حالَ الدُّنيا بذِكرِ ما يَفعَلُه في الآخرةِ؛ مِن تَكفيرِ سيِّئاتِه، وإعظامِ أجْرِه. فكلُّ شَرْطٍ مِن (تُقى اللهِ) قُرِنَ إليه مِن الجزاءِ ما لاقَ بمَكانِه الَّذي ذُكِرَ فيه. والأخيرُ لَمَّا كان مُقدَّمًا على أحوالٍ احتاجَتْ إلى غايةِ التَّرغيبِ، وإلى المبالَغةِ في التَّرهيبِ، وُعِدَ عليه أفضلُ الجزاءِ، وهو ما يكونُ في الآخرةِ مِن النَّعماءِ [155] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1283-1287). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ في مَوضعِ العِلَّةِ لجُملةِ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، أي: لا تَستَبعِدوا وُقوعَ ما وعَدَكم اللهُ حِينَ تَرَوْنَ أسبابَ ذلكَ مَفقودةً؛ فإنَّ اللهَ إذا وعَدَ وعْدًا فقَدْ أرادَه، وإذا أرادَ اللهُ أمرًا يسَّرَ أسبابَه، ولعلَّ قولَه: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا إشارةٌ إلى هذا المعنى، أي: عَلِم اللهُ أنْ يَكفيَ مَن يَتوكَّلُ عليه مُهمَّه، فقدَّرَ لذلكَ أسبابَه، كما قدَّرَ أسبابَ الأشياءِ كلِّها، فلا تشُكُّوا في إنْجازِ وَعْدِه؛ فإنَّه إذا أرادَ أمرًا يسَّرَ أسبابَه مِن حيثُ لا يَحتسِبُ النَّاسُ، وتَصاريفُ اللهِ تعالَى خفِيَّةٌ عَجيبةٌ [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/312، 313)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/121). .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا هو تَقريرٌ لِمَا تقدَّمَ مِن تأْقيتِ الطَّلاقِ بزَمانِ العِدَّةِ والأمرِ بإحصائِها، وتَمهيدٌ لِمَا سيأتي مِن مَقاديرِها [157] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/556)، ((تفسير البيضاوي)) (5/221)، ((تفسير أبي حيان)) (10/199)، ((تفسير أبي السعود)) (8/262). .
- ولهذِه الجُملةِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا مَوقعٌ تَتجلَّى فيه صُورةٌ مِن صُوَرِ إعجازِ القُرآنِ في تَرتيبِ مَواقعِ الجُمَلِ بَعضِها بعْدَ بَعضٍ؛ فهذه الجُملةُ لها مَوقعُ الاستِئنافِ البيانيِّ النَّاشِئِ عمَّا اشتمَلَتْ عليه جُمَلُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، إلى قولِه: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ؛ لأنَّ استِعدادَ السَّامِعينَ لليقينِ بما تَضمَّنَتْه تلكَ الجُمَلُ مُتفاوِتٌ، فقَدْ يَستبعِدُ بَعضُ السَّامعينَ تحقُّقَ الوعدِ لأمثالِه بما تَضمَّنَتْه تلكَ الجُمَلُ بعرْضِها على ارتباكِ أحوالِه، أو يَتردَّدُ يَقينُه فيَقولُ: أينَ أنا مِن تَحصيلِ هذا؟! حينَ يُتبِعُ نَظرَه فيَرى بَوْنًا عن حُصولِ الموعودِ بسَببِ انعدامِ وَسائلِه لَديه، فيَتملَّكُه اليأسُ، فهذا الاستئنافُ البَيانيُّ وقَعَ عَقِبَ الوعدِ تَذكيرًا بأنَّ اللهَ عَلِم مَواعيدَه وهيَّأ لها مَقاديرَ حُصولِها؛ لأنَّه جعَلَ لكلِّ شَيءٍ قَدْرًا. ولها مَوقعُ التَّعليلِ لجُملةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1] ؛ فإنَّ العِدَّةَ مِنَ الأشياءِ، فلمَّا أمَرَ اللهُ بإحصاءِ أمْرِها علَّلَ ذلكَ بأنَّ تقديرَ مُدَّةِ العِدَّةِ جعَلَهُ اللهُ، فلا يَسُوغُ التَّهاوُنُ فيه. ولها مَوقعُ التَّذييلِ لجُملةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] ، أي: الَّذي وضَعَ تلكَ الحدودَ قدْ جعَلَ لكلِّ شَيءٍ قدْرًا لا يَعْدُوهُ كما جعَلَ الحُدودَ. ولها مَوقعُ التَّعليلِ لجُملةِ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ؛ لأنَّ المعنى: إذا بلَغْنَ القَدْرَ الَّذي جعَلَه اللهُ لِمُدَّةِ العِدَّةِ، فقدْ حصَلَ المَقصدُ الشَّرعيُّ الَّذي أشار إليه قولُه: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1] ؛ فالمعْنى: فإنْ لم يُحدِثِ اللهُ أمْرَ المراجَعةِ فقَدْ رفَقَ بكُمْ، وحطَّ عنكُمُ امتِدادَ العِدَّةِ. ولها مَوقعُ التَّعليلِ لجُملةِ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] ؛ فإنَّ اللهَ جعَلَ الشَّهادةَ قدْرًا لرفْعِ النِّزاعِ. فهذِه الجملةُ جُزءُ آيةٍ، وهي تَحتوي على حقائقَ مِنَ الحِكمةِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/313، 314). !