موسوعة التفسير

سورة هود
الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

مُسْتَقَرَّهَا: أي: مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ .
وَمُسْتَوْدَعَهَا: أي: الموضِعَ الذي يُودِعُها، إمَّا بِمَوتِها فيه، أو دَفنِها، وأصلُ (ودع): يدُلُّ على تَركٍ وتخليةٍ .

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ الله تعالى أنَّه ما من حيٍّ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا على الله تعالى غِذاؤُه ومَعاشُه، فضلًا منه سبحانه، وكَرمًا، ويعلَمُ مكان استقرارِ كلِّ دابَّةٍ، والموضِعَ الذي تموتُ فيه، كلُّ ذلك مكتوبٌ في كتابٍ عندَ الله مُبِينٍ عن جميعِ ذلك، ثمَّ يخبرُ سُبحانه أنَّه هو الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، وكان عرشُه على الماءِ قبل ذلك؛ لِيَختبرَ النَّاسَ أيُّهم أحسَنُ له طاعةً وعَملًا. وخاطَب نبيَّه قائلًا له: ولَئِن قلتَ- أيُّها الرَّسولُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنَّكم مبعوثونَ أحياءً بعدَ مَوتِكم، لَسارعوا إلى التَّكذيبِ، وقالوا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ بيِّنٌ.

تفسير الآيتين:

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّه يَعلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعلِنونَ، أردَفَه بما يدُلُّ على كونِه تعالى عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ، فبيَّن أنَّ رِزقَ كُلِّ حَيوانٍ إنَّما يَصِلُ إليه مِنَ الله تعالى، فلو لم يكُنْ عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ لَما حصَلَت هذه الـمُهِمَّات .
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا.
أي: وما مِن دابةٍ تدبُّ على الأرضِ- مِن آدميٍّ، أو حيوانٍ؛ بريٍّ أو بحريٍّ، أو طائرٍ أو زاحفٍ، أو كبيرٍ أو صغيرٍ- إلَّا وقد تكفَّل اللهُ بقُوتِها وغِذائِها .
كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت: 60] .
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.
أي: ويَعلَمُ اللهُ مَأوى كُلِّ دابَّةٍ في اللَّيلِ أو في النَّهارِ، ويَعلَمُ المَوضِعَ الذي تموتُ فيه أو تُدفَنُ .
كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
أي: كلُّ الدوابِّ مُثبَتٌ تفاصيلُ أحوالِها- في أرزاقِها ومستَقَرِّها ومُستَودَعِها- في اللَّوحِ المَحفوظِ المُظهرِ لكلِّ ما قدَّره اللهُ لجَميعِ الخَلقِ بالتَّفصيلِ .
كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .
وقال سُبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .
وقال جلَّ جلالُه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كتبَ اللهُ مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألفَ سنةٍ) ) .
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقَدِّمِ كَونَه عالِمًا بالمعلوماتِ؛ أثبَتَ بهذا الدَّليلِ كونَه تعالى قادرًا على كلِّ المَقدوراتِ .
وأيضًا لَمَّا كان خلقُ ما منه الرِّزقُ أعظمَ مِن خَلقِ الرِّزقِ وتوزيعِه في شمولِ العِلمِ والقدرةِ معًا؛ تلاه بقَولِه تعالى :
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: واللهُ هو الذي خلق السَّمواتِ السَّبعَ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ .
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء.
أي: وكان عَرشُ اللهِ على الماءِ قبل أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ .
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((دخلتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعقَلتُ ناقَتي بالبابِ، فأتاه ناسٌ مِن بني تميمٍ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا بني تميمٍ، قالوا: قد بشَّرْتَنا فأعْطِنا- مَرَّتينِ- ثمَّ دخل عليه ناسٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا أهلَ اليَمَنِ إذ لم يَقبَلْها بنو تميمٍ، قالوا: قد قَبِلْنا يا رسولَ اللهِ، قالوا: جِئناك نسألُك عن هذا الأمرِ؟ قال: كان اللهُ ولم يكنْ شَيءٌ غَيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكتب في الذِّكرِ كلَّ شَيءٍ، وخلَقَ السَّمواتِ والأرضَ ))
وعن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((كتَب الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماءِ ))
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
أي: خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، وخَلقَكم- أيُّها النَّاسُ- ليَختبِرَكم، فينظُرَ أيُّكم أحسَنُ طاعةً للهِ بالإخلاصِ له، واتِّباعِ شَريعتِه .
كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.
مناسبتُها لما قبلَها:
ولما كان الابتلاءُ يتضمَّنُ حديثَ البعثِ؛ أتبَع ذلك بذكرِه .
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: سِحْرٌ قراءتان:
1- قراءةُ سَاحِرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم .
2- قراءةُ سِحْرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: القرآنُ الكريمُ .
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.
أي: ولَئنْ قُلتَ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّ اللهَ سَيبعَثُكم يومَ القيامةِ أحياءً بعد مَوتِكم، فتَلَوتَ عليهم القرآنَ بذلك؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا وعنادًا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ واضِحٌ، يَظهَرُ لِمَن يستمِعُه أنَّه سِحرٌ !!

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال تعالى في أولِ سورةِ الكهفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال في أولِ سورةِ الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ولم يقُلْ: أكثرُ عملًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ ، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ .
2- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن حِكمةِ خَلقِ الأرضِ صدورَ الأعمالِ الفاضلةِ مِن أشرَفِ المخلوقاتِ فيها، ثمَّ إنَّ ذلك يقتضي الجزاءَ على الأعمالِ؛ إكمالًا لمُقتضى الحِكمةِ؛ ولذلك أُعقِبَت بقَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ .
3- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: أخلصُه وأصوبُه. والخالصُ أن يكونَ لله، والصوابُ أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله .
4- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والعملُ الأحسنُ هو الأخلصُ والأصوبُ، وهو الموافقُ لمرضاتِه ومحبتِه، دونَ الأكثرِ الخالي مِن ذلك، فهو سبحانَه وتعالى يحبُّ أن يتعبدَ له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا دونَ الأكثرِ الذي لا يُرضيه، والأكثرِ الذي غيرُه أرضَى له منه، ولهذا يكونُ العملانِ في الصورةِ واحدًا، وبينَهما في الفضلِ، بل بينَ قليلِ أحدِهما وكثيرِ الآخرِ في الفضلِ أعظمُ مما بينَ السماءِ والأرضِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَالم يقُل (على الأرضِ)، مع أنَّه أنسَبُ بتَفسيرِ الدابَّةِ لغةً- لأنَّها ما يدِبُّ على الأرضِ- لأنَّ (في) أعمُّ مِن (على)؛ لأنَّها تتناوَلُ من الدوابِّ ما على ظَهرِ الأرضِ، وما في بَطنِها .
2- الرِّزقُ مَقسومٌ لكلِّ أحَدٍ مِن بَرٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ؛ كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا هذا مع ضَعفِ كَثيرٍ مِن الدوابِّ، وعَجزِها عن السَّعيِ في طلَبِ الرِّزقِ؛ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فما دام العبدُ حيًّا، فرِزقُه على اللهِ، وقد يُيَسِّرُه الله له بكَسبٍ وبِغَيرِ كَسبٍ .
3- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ظاهِرٌ في الوجوبِ، بينما رِزقُ اللهِ لكُلِّ ما دبَّ على الأرضِ هو تفَضُّلٌ، وللعُلماءِ في التَّوفيقِ بين ذلك وجوهٌ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا ضَمِنَ تعالى أن يتفضَّلَ به عليهم، أبرَزَه في حيِّزِ الوُجوبِ . فكأنَّه لضمانتِه، وعدمِ تخلُّفِه كأنَّه واجبٌ عليه.
الوجه الثاني: أنَّ المرادَ بالوجوبِ هنا وجوبُ اختيارٍ، لا وجوبُ إلزامٍ، كقولِ الإنسانِ لصاحِبِه: حقُّك واجِبٌ عليَّ.
الوجه الثالث: أنَّ (على) بمعنى (مِن)، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] .
4- قولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا رُدَّ به على المُعتزلةِ في قولِهم: (إنَّ الحرامَ ليس برزقٍ)؛ لأنَّه يلزمُ عليه أنَّ من تغذَّى طولَ عُمُرِه بالحرامِ لم يرزُقْه اللهُ، وهو خلافُ ما في الآيةِ؛ لأنَّه تعالى لا يترُكُ ما أخبَرَ بأنَّه عليه .
5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه سؤالٌ: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمالُ المؤمنينَ هي التي تتفاوتُ إلى حسَنٍ وأحسَنَ، فأمَّا أعمالُ المؤمنينَ والكافرينَ فتفاوُتُها إلى حَسَنٍ وقبيحٍ؟
الجوابُ: أنَّ الذين هم أحسَنُ عملًا هم المتَّقونَ، وهم الذين استَبَقوا إلى تحصيلِ ما هو مقصودُ اللهِ مِن عبادِه، فخَصَّهم بالذِّكرِ، واطَّرَح ذِكرَ مَن وراءَهم؛ تشريفًا لهم، وتنبيهًا على مكانِهم منه، وليكون ذلك تيقُّظًا للسَّامعينَ، وتَرغيبًا في حيازةِ فَضلِهم ، وأيضًا للتَّحريضِ على أحاسِنِ المَحاسنِ .
6- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فيه أنَّ العَرشَ ذاتٌ مَخلوقةٌ فوق السَّمَواتِ، وذلك يقتضي أنَّ العَرشَ مخلوقٌ قبل السَّمَواتِ والأرضِ، وكذلك الماءُ فالله تعالى أخْبَر أنَّ عرشَه كان على الماءِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وثَبَت ذلك في ((صحيحِ البخاريِّ)) عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: ((كان اللَّهُ ولا شيءَ غيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكَتَب في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ، ثُمَّ خَلَق السَّمواتِ والأرضَ )) .
7- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لِيبتليَ عبادَه بأمْرهِ ونَهيِه، وهذا مِن الحَقِّ الذي خلَقَ به خلْقَه .
8- في قَولِه تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قال أهل المعاني: وفي وقوفِ العَرشِ على الماءِ- والماءُ غيرُ قرارٍ- أعظَمُ الاعتبارِ لأهلِ الأفكارِ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
- قولُه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فيه زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ تأكيدًا لمعنَى دَابَّةٍ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ العُمومَ مُسْتَعملٌ في حقيقتِه .
- وتقديمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ رِزْقُهَا؛ لإفادةِ القَصْرِ؛ أي: على اللهِ لا على غيرِه، وأيضًا التَّركيبُ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا يُفيدُ معنى أنَّ اللهَ تكفَّل برِزْقِها ولم يُهْمِلْه .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
- قَولُ الله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أنَّ الحِكمةَ في خَلقِ ذلك أنَّه يَخْتَبِركم، ودلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ بذلك بسَوقِه مَساقَ الاستفهامِ في قَولِه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .
- قولُه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّام الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وما يَتْبَعُه مِن نونِ التوَّكيدِ في لَيَقُولَنَّ؛ لِتَنزيلِ السَّامعِ مَنزِلةَ المتردِّدِ في صُدورِ هذا القولِ مِنهم؛ لِغَرابةِ صُدورِه مِن العاقلِ؛ فيكونُ التَّأكيدُ القويُّ والتَّنزيلُ مُستعمَلًا في التَّعجُّبِ مِن حالِ الَّذين كفَروا أن يُحِيلوا إعادةَ الخلقَ، وقد شاهَدوا آثارَ بدْءِ الخلقِ، وهو أعظَمُ وأبدَعُ .