موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيتان (7-8)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غريب الكلمات:

صَعِيدًا: أي: ترابًا، والصعيدُ: الأملسُ المستوي، ويُطلقُ أيضًا على وجهِ الأرضِ، وأصلُ (صعد): يدلُّ على ارتفاعٍ ومشقةٍ [89] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 127)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 298)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/287)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 214)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 168).   .
جُرُزًا: أي: جَرداءَ لا نباتَ فيها، وأصلُ (جرز): يدلُّ على قَطعٍ [90] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 127/263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/441)، ((البسيط)) للواحدي (13/530)، ((المفردات)) للراغب (ص: 191)، ((باهر البرهان)) للنيسابوري (2/849).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله سبحانه وتعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم ومُثَبِّتًا له: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ مِن الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زينةً لها؛ لنختبرَ العبادَ: أيُّهم أخلصُ عملًا وأصوبُه. وإنَّا لجاعِلونَ ما على الأرضِ مِن تلك الزِّينةِ عند انقِضاءِ الدُّنيا تُرابًا مستويًا لا نباتَ فيه، فهلَّا عَمِلوا للباقي ولم يغتَرُّوا بالفاني الزَّائلِ.

تفسير الآيتين:

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ارتباطُ هذه الآيةِ بما قبْلَها هو على سَبيلِ التَّسليةِ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ أنَّه خلَقَ ما على الأرضِ من الزِّينةِ للابتلاءِ والاختبارِ؛ أيُّ النَّاسِ أحسَنُ عملًا، فليسوا على نمَطٍ واحدٍ في الاستقامةِ واتِّباعِ الرُّسلِ، بل لا بُدَّ أنْ يكونَ فيهم مَن هو أحسَنُ عمَلًا، ومَن هو أسوَأُ عملًا، فلا تغتَمَّ وتحزَنْ على مَن فُضِّلْتَ عليه بأنَّه يكونُ أسوَأَ عملًا، ومع كونِهم يكْفُرون بي لا أقطَعُ عنهم موادَّ هذه النِّعمِ الَّتي خلقْتُها [91] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/139).   .
وأيضًا فهي تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ على إعراضِ المُشرِكينَ بأنَّ اللهَ أمهَلَهم وأعطاهم زِينةَ الدُّنيا؛ لعَلَّهم يَشكُرونَه، وأنَّهم بَطِروا النِّعمةَ، فإنَّ اللهَ يَسلُبُ عنهم النِّعمةَ فتَصيرُ بلادُهم قاحِلةً، ولهذا اتِّصالٌ بِقَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/256).   [الكهف: 2] .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا.
أي: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ من الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زِينةً لها [93] قال الواحدي: (قولُه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا بما عليها مِن الماءِ والنباتِ والأشجارِ، والمعادنِ مِن الذهبِ والفضةِ وأنواعِ الجواهرِ، ويدخلُ في هذا كلِّه ما على الأرضِ مِن ذي الرُّوحِ والجمادِ). ((الوسيط)) (3/136). وقال ابنُ عثيمين: (سَواءٌ أكانت هذه الزينةُ فيما خلَقه الله عزَّ وجلَّ وأوجَده، أم مما صنَعه الآدميُّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 18). وقيَّد بعضُ المفسِّرينَ قولَه تعالى: مَا عَلَى الْأَرْضِ بما يصلُحُ أن يكونَ زينةً لها، ومنهم: الزمخشري، وابنُ جزي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/704)، ((تفسير ابن جزي)) (1/459)، ((تفسير الشوكاني)) (3/320). وممن اختار العمومَ: القرطبيُّ، فقال: (والزِّينةُ كلُّ ما على وجهِ الأرضِ، فهو عمومٌ؛ لأنَّه دالٌّ على بارِئِه... والقولُ بالعمومِ أولَى، وأنَّ كلَّ ما على الأرضِ فِيه زِينَةٌ مِنْ جِهَةِ خَلْقِه وصُنْعِه وإحْكامِه). ((تفسير القرطبي)) (10/354). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/203). ، فجعَلَ اللهُ تعالى الدنيا مُستطابةً في ذَوقِها، مُستَحسَنةً في مَنظَرِها وزُخرُفِها [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/151)، ((تفسير الزمخشري)) (2/704)، ((تفسير القرطبي)) (10/354)، ((تفسير ابن جزي)) (1/459)، ((تفسير ابن كثير)) (5/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 470)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 18).   .
كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] .
وقال سُبحانَه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: 5، 6].
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 8].
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أخوَفُ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ اللهُ لكم مِن زَهرةِ الدُّنيا، قالوا: وما زَهرةُ الدُّنيا يا رسولَ اللهِ؟ قال: بَرَكاتُ الأرضِ )) [95] رواه البخاري (6427)، ومسلم (1052) واللفظ له.   .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ [96] حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ: أي: غَضَّةٌ ناعِمةٌ طيِّبةٌ، مُزَيَّنةٌ في عُيونِكم وقُلوبِكم، وإنَّما وَصَفها بالخَضِرَة؛ لأنَّ العربَ تُسَمِّي الشَّيءَ النَّاعِمَ خَضِرًا، أو لتَشَبُّهِها بالخضْرَواتِ في سُرعةِ زَوالِها. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (2/33)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/2044).   ، وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فيَنظُرُ كيف تَعمَلونَ؛ فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فِتنةِ بني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ )) [97] رواه مسلم (2742).  
وعن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ )) [98] رواه البخاري (6441)، ومسلم (1035).   .
ثمَّ بيَّن الله تعالى الحكمةَ في خلقِ الأرضِ وزينتِها [99] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/66).   ، فقال:
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
أي: جعَلْنا ما على الأرضِ زِينةً لها؛ لِنَختَبِرَ النَّاسَ: أيُّهم أصلَحُ عَمَلًا -أي: أخلَصُه لله، وأصوَبُه مِن جِهةِ مُوافَقتِه للشَّرعِ [100] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/172)، ((تفسير الخازن)) (3/153)، ((تفسير ابن عادل)) (12/428)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471). ويُنظر أيضًا: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/308)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/318)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/82).   - وأزهدُ في زينةِ الدُّنيا [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/151)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 654)، ((تفسير ابن جزي)) (1/459). قال الشوكاني: (والمرادُ بالابتلاءِ: أنَّه سبحانَه يعامِلُهم معاملةً لو كانت تلك المعاملةُ مِنْ غيرِه لكانت مِنْ قبيلِ الابتلاءِ والامتحانِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/320). وقال ابنُ عطيَّةَ: (وكان أَبي رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ: أحسَنُ العَمَلِ: أخْذٌ بحَقٍّ، وإنفاقٌ في حَقٍّ، مع الإيمانِ، وأداءِ الفَرائضِ، واجتِنابِ المحارِمِ، والإكثارِ مِن المندوبِ إليه). ((تفسير ابن عطية)) (3/497). وقال القرطبي: (قلتُ: هذا قَولٌ حَسَنٌ وجيزٌ في ألفاظِه، بليغٌ في معناه، وقد جمعه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في لفظٍ واحدٍ، وهو قَولُه لسفيانَ بنِ عبدِ الله الثَّقَفيِّ لَمَّا قال: يا رسولَ الله، قُلْ لي في الإسلامِ قَولًا لا أسألُ عنه أحدًا بعدك- في رواية : غيرَك- قال : «قُل آمنْتُ باللهِ ثمَّ استقِمْ». أخرجه مسلم [(38)]). ((تفسير القرطبي)) (10/355). .
كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14].
وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8).
أي: وإنَّا لِمُصَيِّرونَ ما على وَجهِ الأرضِ مِن زِينتِها تُرابًا مُستَويًا خاليًا، يابسًا لا نباتَ فيه، ولا ماءَ ولا بِناءَ [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/153)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/65)، ((تفسير ابن كثير)) (5/137)، ((تفسير القاسمي)) (7/7)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/203)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 20). قال ابنُ الجوزي: (قال المفَسِّرون: وهذا يكونُ يومَ القيامة؛ يجعَلُ اللهُ الأرضَ مُستَويةً لا نباتَ فيها ولا ماءَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/65).   .
كما قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .
وقال سُبحانَه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .

الفوائد التربوية:

1- العملُ اليسيرُ الموافِقُ لمرضاةِ الرَّبِّ وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إلى اللَّهِ تعالَى مِنَ العملِ الكثيرِ إذا خَلا عن ذلك أو عن بعضِه؛ ولهذا قالَ اللَّهُ تعالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، فهو سبحانَه وتعالى إنَّما خلَق السمواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ، وزيَّن الأرضَ بما عليها؛ ليبلوَ عبادَه أيُّهم أحسنُ عملًا، لا أكثرُ عملًا [103] يُنظر: ((المنار المنيف)) لابن القيم (ص: 30).   ، فالعِبرةُ بالأحسَنِ لا بالأكثَرِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 19).   .
2- قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ [105] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/200).   ، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ [106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/240).   .
3- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا فيه إشارةٌ إلى التَّزهيدِ في الدُّنيا والرَّغبةِ عنها، وتَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا تَضمَّنَته أيدي المُتْرَفينَ من زينتِها؛ إذ مآلُ ذلك كلِّه إلى الفَناءِ [107] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/141).   ، وفيه أكبَرُ واعظٍ للنَّاسِ، وأعظَمُ زاجِرٍ عن اتِّباعِ الهَوى، وإيثارِ الفاني على الباقي [108] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/204).   ؛ وذلك لأنَّ هذه الأرضَ ستعودُ صَعيدًا جُرُزًا قد ذَهَبَت لذَّاتُها، وانقَطَعت أنهارُها، واندرَسَت آثارُها، وزال نَعيمُها، هذه حقيقةُ الدُّنيا قد جَلَّاها اللهُ لنا كأنَّها رأيُ عَينٍ، وحَذَّرَنا مِن الاغترارِ بها، ورَغَّبَنا في دارٍ يَدومُ نَعيمُها، ويَسعَدُ مُقيمُها؛ كلُّ ذلك رَحمةً بنا، فاغتَرَّ بزُخرُفِ الدُّنيا وزِينتِها مَن نظَرَ إلى ظاهِرِ الدُّنيا دَونَ باطِنِها، فصَحِبوا الدُّنيا صُحبةَ البهائِم، وتمَتَّعوا بها تمتُّعَ السَّوائِم، لا يَنظُرون في حَقِّ رَبِّهم، ولا يَهتَمُّونَ لِمَعرفتِه، بل هَمُّهم تَناوُلُ الشَّهواتِ مِن أيِّ وَجهٍ حصَلَت، وعلى أيِّ حالةٍ اتَّفَقت، فهؤلاء إذا حضَرَ أحَدَهم الموتُ، قَلِقَ لِخَرابِ ذاتِه، وفَواتِ لَذَّاتِه، لا لِما قَدَّمَت يداه مِن التَّفريطِ والسَّيِّئات. وأمَّا مَن نظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا، وعَلِمَ المقصودَ منها ومنه؛ فإنَّه يتناوَلُ منها ما يَستَعينُ به على ما خُلِقَ له، وانتهَزَ الفُرصةَ في عُمُرِه الشَّريفِ، فجعَلَ الدُّنيا مَنزِلَ عُبور لا مَحَلَّ حُبُور، وشُقَّةَ سَفَرٍ لا مَنزِلَ إقامةٍ، فبَذَل جُهدَه في معرفةِ رَبِّه، وتنفيذِ أوامِرِه، وإحسانِ العَمَلِ؛ فهذا بأحسَنِ المنازِلِ عند الله، وهو حَقيقٌ منه بكُلِّ كَرامةٍ ونَعيم، وسُرورٍ وتَكريم، فنَظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا حينَ نَظَرَ المغَتَرُّ إلى ظاهِرِها، وعَمِلَ لآخِرَتِه حينَ عَمِلَ البَطَّالُ لدُنياه، فشَتَّانَ ما بين الفَريقَينِ، وما أبعَدَ الفَرقَ بين الطَّائِفَتينِ [109] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:470).   !!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- اللهُ سبحانه قد عَلِمَ قبل أن يوجِدَ عبادَه أحوالَهم، وما هم عامِلون، وما هم إليه صائِرون، ثمَّ أخرجهم إلى هذه الدارِ؛ لِيَظهَرَ مَعلومُه الذي عَلِمَه فيهم كما عَلِمَه، وابتلاهم مِن الأمرِ والنَّهيِ والخيرِ والشرِّ بما أظهر مَعلومه، فاستحقُّوا المدحَ والذمَّ والثوابَ والعقابَ بما قام بهم مِن الأفعالِ والصِّفاتِ المُطابِقة للعِلمِ السَّابقِ، ولم يكونوا يستَحِقُّون ذلك وهي في عِلْمِه قبل أن يَعمَلوها؛ فأرسل رسُلَه وأنزل كتُبَه وشرَعَ شرائِعَه؛ إعذارًا إليهم، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم؛ لئلَّا يقولوا: كيف تُعاقِبُنا على عِلْمِك فينا، وهذا لا يدخل تحت كَسبِنا وقُدرتِنا؟! فلما ظهر عِلمُه فيهم بأفعالِهم حصَلَ العِقابُ على معلومِه الذي أظهره الابتلاءُ والاختبارُ، وكما ابتلاهم بأمرِه ونهيِه ابتلاهم بما زيَّنَ لهم من الدُّنيا وبما ركَّبَ فيهم من الشَّهواتِ، فذلك ابتلاءٌ بشَرعِه وأمرِه، وهذا ابتلاءٌ بقَضائِه وقَدَرِه؛ قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [110] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 35).   [هود: 7] .
2- قولُه تعالى: أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: (أخلصُه وأصوبُه). والخالصُ: أن يكونَ لله، والصوابُ: أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدَعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله [111] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/333).   .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
     - قولُه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ... استئنافٌ، وتَعليلٌ لِما في (لعلَّ) مِن معنى الإشفاقِ [112] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/204).   ؛ فمَوقعُ (إنَّ) في صَدْرِ هذه الجُملةِ موقعُ التَّعليلِ للتَّسليةِ الَّتي تضمَّنَها قولُه قبْلُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/256).   .
     - وأُوثِرَ الاستدلالُ بحالِ الأرضِ الَّتي عليها النَّاسُ؛ لأنَّها أقرَبُ إلى حِسِّهم وتَعقُّلِهم [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/256).   .
     - قولُه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَحْسَنُ، مع أنَّ الابتلاءَ شامِلٌ للفريقينِ باعتبارِ أعمالِهم المُنقسمةِ إلى الحَسنِ والقبيحِ أيضًا، لا إلى الحَسنِ والأحسنِ فقطْ؛ للإشعارِ بأنَّ الغايةَ الأصليَّةَ للجَعلِ المذكورِ إنَّما هو ظُهورُ كَمالِ إحسانِ المُحسنينَ [115] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/205).   .
     - وقد جاء نظْمُ هذا الكلامِ على أُسلوبِ الإعجازِ في جمْعِ معانٍ كثيرةٍ يصلُحُ اللَّفظُ لها مِن مُختلَفِ الأغراضِ المقصودةِ؛ فإنَّ الإخبارَ عن خلْقِ ما على الأرضِ زينةً، يجمَعُ الامتنانَ على النَّاسِ، والتَّذكيرَ ببَديعِ صُنْعِ اللهِ؛ إذ وضَعَ هذا العالَمَ على أتقَنِ مثالٍ مُلائمٍ لِما تحِبُّه النُّفوسُ من الزَّينةِ والزُّخرفِ، والامتنانُ بمثْلِ هذا كثيرٌ. ولا تكونُ الأشياءُ زِينةً إلَّا وهي مبثوثةٌ فيها الحياةُ الَّتي بها نَماؤُها وازدهارُها. وهذه الزِّينةُ مُستمِرَّةٌ على وجْهِ الأرضِ منذُ رآها الإنسانُ، واستمرارُها باستمرارِ أنواعِها، وإنْ كان الزَّوالُ يعرِضُ لأشخاصِها، فتَخلُفُها أشخاصٌ أُخرى مِن نَوعِها، فيتضمَّنُ هذا امتنانًا ببَثِّ الحياةِ في الموجوداتِ الأرضيَّةِ. ومن لوازمِ هذه الزِّينةِ: أنَّها تُوقِظُ العُقولَ إلى النَّظرِ في وُجودِ مُنْشِئها، وتسبُرُ غوْرَ النُّفوسِ في مقدارِ الشُّكرِ لخالِقِها وجاعِلِها لهم، فمِن مُوفٍ بحَقِّ الشُّكرِ، ومُقصِّرٍ فيه، وجاحدٍ كافرٍ بنعمةِ هذا المُنعِمِ، ناسِبٍ إيَّاها إلى غيرِ مُوجدِها. ومن لوازمِها أيضًا: أنَّها تُثيرُ الشَّهواتِ لاقتطافِها وتناوُلِها، فتُسْتثارُ مِن ذلك مُختلَفُ الكيفيَّاتِ في تناوُلِها، وتعارُضُ الشَّهواتِ في الاستيثارِ بها، ممَّا يُفْضي إلى تغالُبِ النَّاسِ بعضِهم بعضًا، واعتداءِ بعضِهم على بعضٍ، وذلك الَّذي أوجَدَ حاجتَهم إلى الشَّرائعِ؛ لتَضبُطَ لهم أحوالَ مُعاملاتِهم؛ ولذلك علَّلَ جَعْلَ ما على الأرضِ زِينةً بقولِه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: أفوتُ في حُسْنِ العمَلِ من عمَلِ القلْبِ الرَّاجعِ إلى الإيمانِ والكُفْرِ، وعمَلِ الجسَدِ المُتبدِّي في الامتثالِ للحقِّ والحَيدةِ عنه. فمجموعُ النَّاسِ مُتفاوتونَ في حُسنِ العملِ، ومِن دَرجاتِ التَّفاوُتِ في هذا الحُسنِ تُعلَمُ بطريقِ الفحوى درجةُ انعدامِ الحُسنِ من أصْلِه، وهي حالةُ الكُفْرِ وسُوءِ العمَلِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/257).   .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا هذه الجُملةُ لتكميلِ ما في السَّابقةِ من التَّعليلِ [117] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/205)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/258).   .
     - قولُه: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، أو لإدراجِ المُكلَّفينَ فيه [118] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/205).   .