موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (9-12)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات :

الْكَهْفِ: أي: الغارِ الواسعِ في الجبلِ [119] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/144)، ((المفردات)) للراغب (ص: 727)، ((تفسير الشوكاني)) (3/322).   .
وَالرَّقِيمِ: أي: الكِتابِ، وهو فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ، والأصلُ فيه المرقومُ، وسُمِّيَ رَقيمًا؛ لأنَّ أسماءَ أصحابِ الكَهفِ  كانت مَرقومةً -أي: مَكتوبةً- فيه. وقيل: الرقيمُ اسمُ الجبلِ الذي فيه الكهفُ، أو: اسمُ الوادي. وأصلُ (رقم): يدُلُّ على خَطٍّ وكِتابةٍ [120] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 263)، ((تفسير ابن جرير)) (10/324)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 239)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/425)، ((البسيط)) للواحدي (13/535)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 210)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 271).   .
الْفِتْيَةُ: أي: الشبابُ، جمعُ فتًى، وأصلُ (فتى) هنا: يدُلُّ على طَراوةٍ وجِدَّةٍ [121] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625)، ((تفسير ابن كثير)) (5/140)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/207).   .
رَشَدًا : الرَّشَدُ، والرُّشْدُ: نقيضُ الضلالِ، وهو الاهتداءُ والدَّيمومةُ عليه، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استقامةِ الطَّريقِ [122] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/398)، ((البسيط)) للواحدي (13/538)، ((المفردات)) للراغب (ص: 354)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/207).  
الْحِزْبَيْنِ: أي: الطائفتينِ، أو: الفريقينِ، والحزبُ: الجماعةُ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ تَوافَقوا على شيءٍ واحدٍ، وأصلُ (حزب): تجمُّعُ الشَّيءِ [123] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (15/176)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((تفسير ابن عطية)) (3/500)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/269).   .
أَمَدًا: أي: زَمانًا وغايةً [124] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 492)، ((تفسير ابن جرير)) (5/322)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/137)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 145).   .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
أَيُّ اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، وهو معلِّقٌ لفعلِ (نَعلَم) عن العمَلِ، و أَحْصَى الخبَرُ، والجملةُ سدَّت مسدَّ مفعولي (نعلَم). و أَحْصَى يحتَمِلُ أن يكونَ فِعلًا ماضيًا، وفاعِلُه ضميرُ أَيُّ، و أَمَدًا مفعولٌ به، و لِمَا لَبِثُوا: متعلِّقٌ بأحصى، أو نعتٌ لـ أَمَدًا قُدِّمَ عليه فصار حالًا. ويحتَمِلُ أن يكونَ أَحْصَى اسمَ تفضيلٍ مصوغًا من الرُّباعي قياسًا، على قَولِ سيبويه والزجَّاج، وعلى خلافِ القياسِ عندَ غيرهما. و أَمَدًا تمييزٌ لاسمِ التَّفضيلِ تمييزُ نسبةٍ محوَّلٌ عن المفعولِ، وأصلُه أحصى أمدَ الزَّمانِ الذي لَبِثوا فيه. وقيل: محولٌ عن الفاعِلِ [125] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/437)، ((التبيان)) للعكبري (2/839)، ((تفسير أبي حيان)) (7/146)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/448)، ((تفسير الألوسي)) (8/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/27).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبينًا قصةَ أصحابِ الكهفِ: أظننتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكتابِ كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟! فإنَّ في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك! اذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشُّبَّانُ إلى الكَهفِ؛ خَشيةً مِن فِتنةِ قَومِهم الكُفَّارِ لهم، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً تُثبِّتُنا بها، ويَسِّرْ لنا أسبابًا توصِلُنا إلى ما تُحِبُّ، فألقَينا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا سِنينَ كَثيرةً، ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَومِهم؛ لنعلمَ علمَ ظهورٍ ومشاهدةٍ: أيُّ الطَّائِفَتَينِ المُتَنازِعَتَينِ في مُدَّةِ لُبثِهم أضبَطُ وأتقَنُ في الإحصاءِ.

تفسير الآيات:

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9).
أي: أظنَنْتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكِتابِ [126] ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالرقيمِ: الكتابُ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثير، والسعدي، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/161)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/260)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 21). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبير، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/159). قال ابنُ عاشور: (الرَّقيمُ: كتابٌ كان معَ أصحابِ الكهفِ في كهفِهم. قيل: كَتَبوا فيه ما كانوا يدينونَ به من التوحيدِ، وقيل: هو كتابُ دينِهم؛ دينٍ كان قبلَ عيسى عليه السلامُ. وقيل: هو دينُ عيسَى. وقيل: كَتَبوا فيه الباعِثَ الذي بعَثَهم على الالتجاءِ إلى الكهفِ فِرارًا مِن كُفرِ قَومِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (15/260). وقال الشنقيطي: (أظهَرُ الأقوالِ عندي بحسَبِ اللغةِ العربيَّةِ وبَعضِ آياتِ القرآنِ: أنَّ الرقيمَ معناه: المرقومُ، فهو «فعيل» بمعنى «مفعول» من: رقَمْتُ الكتابَ: إذا كتبْتَه، ومنه قوله تعالى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين: 9] سواءٌ قُلنا: إنَّ الرقيمَ كتابٌ كان عندهم فيه شَرعُهم الذي تمسَّكوا به، أو لوحٌ مِن ذهَبٍ كُتِبَت فيه أسماؤُهم وأنسابُهم وقِصَّتُهم وسبَبُ خُروجِهم، أو صخرةٌ نُقِشَت فيها أسماؤهم. والعلمُ عند الله تعالى. والظاهِرُ أنَّ أصحابَ الكَهفِ والرَّقيمِ: طائفةٌ واحِدةٌ أضيفَت إلى شيئينِ أحَدُهما معطوفٌ على الآخرِ). ((أضواء البيان)) (3/206). وقيل: الرقيمُ: اسمُ الجبلِ الَّذي فيه كهفُهم، وممن قال بذلك مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، والحسنُ، وعطيةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/159)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/66). وقيل: الرقيمُ: اسمُ الوادي الذي فيه الكهفُ، وممن قال بذلك مِن السلفِ: ابنُ عباس في روايةٍ عنه، وعطيةُ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، والضحاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/158)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/66). وقال كعبٌ: هو اسمُ القريةِ التي خرَجوا منها. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/158)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/66). وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/66). كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟ بل في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/155)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/66)، ((تفسير القرطبي)) (10/356)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/383، 384)، ((تفسير ابن كثير)) (5/138، 139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/259، 260)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/205، 206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 21). وقال السعدي: (وليس المرادُ بهذا النَّفيِ أن تكونَ قِصَّةُ أصحابِ الكَهفِ مِن العجائِبِ، بل هي من آياتِ اللهِ العَجيبةِ، وإنَّما المرادُ أنَّ جِنسَها كثيرٌ جِدًّا؛ فالوقوفُ معها وَحدَها في مقامِ العَجَبِ والاستغرابِ: نَقصٌ في العِلمِ والعَقلِ، بل وظيفةُ المؤمِنِ التفَكُّرُ بجميعِ آيات الله، التي دعا اللهُ العبادَ إلى التفكيرِ فيها؛ فإنَّها مِفتاحُ الإيمانِ، وطريقُ العلمِ والإيقانِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 471). وقال الشنقيطي: (أظهرُ الأقوالِ في معنى الآيةِ الكريمةِ: أنَّ اللهَ يقولُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ قِصَّةَ أصحابِ الكهفِ وإن استعظَمَها الناسُ وعَجِبوا منها، فليست شيئًا عجَبًا بالنسبةِ إلى قُدرتِنا وعظيمِ صُنعِنا؛ فإنَّ خَلْقَنا للسَّمواتِ والأرضِ، وجَعْلَنا ما على الأرضِ زينةً لها، وجعْلَنا إيَّاها بعدَ ذلك صعيدًا جُرُزًا: أعظَمُ وأعجَبُ مِمَّا فعَلْنا بأصحابِ الكهفِ، ومن كَونِنا أنَمْناهم هذا الزمَنَ الطويلَ ثمَّ بعَثْناهم). ((أضواء البيان)) (3/205). وقال ابن كثير: (قال العَوفي عن ابنِ عباسٍ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا يقولُ: الذي آتيتُك مِن العِلمِ والسُّنَّة والكتابِ: أفضَلُ مِن شأنِ أصحابِ الكَهفِ والرَّقيمِ. وقال محمدُ بنُ إسحاقَ: ما أظهَرتُ مِن حُجَجي على العبادِ أعجَبُ مِن شأنِ أصحابِ الكَهفِ والرَّقيمِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/138). .
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا صَغَّر اللهُ تعالى أمْرَهم بالنِّسبةِ إلى جَليلِ آياتِه، وعَظيمِ بيِّناتِه، وغَريبِ مَصنوعاتِه؛ لَخَّصَ قِصَّتَهم التي عَدُّوها عَجَبًا، وتَرَكوا الاستِبصارَ على وحدانيَّةِ الواحِدِ القَهَّارِ، بما هو العجَبُ العَجيبُ، والنَّبأُ الغَريبُ، فقال تعالى [128] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/17).   :
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.
أي: واذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشَّبابُ إلى كَهفِ جَبَلٍ؛ خَوفًا مِن أن يَفتِنَهم قَومُهم الكُفَّارُ عن دِينِهم [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/161)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/265، 266)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 22). وممَّن ذهب إلى أنَّ الظَّرفَ مُتعَلِّقٌ بفِعلٍ محذوفٍ تَقديرُه: (اذكر): الواحدي، والرازي، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/537)، ((تفسير الرازي)) (21/429)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 22). واختار ابنُ عاشورٍ أنَّ (إذ) ظَرفٌ مُضافٌ إلى الجُملةِ بَعدَه، متعَلِّقٌ بـ كَانُوا. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/265). .
فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.
أي: فبادَرَ أولئك الشَّبابُ حين أَوَوا إلى الكَهفِ إلى الدُّعاءِ، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً عَظيمةً تَرحَمُنا بها [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/161)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 22). قيل: الرحمةُ: هي المغفرةُ والرزقُ والأمنُ مِن الأعداءِ. وممن اختار هذا القولَ: الزمخشري، والرسعني، والشوكاني، والقاسمي، واقتَصر الواحدي والقرطبي على تفسيرِها بالمغفرةِ والرزقِ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/537)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 654)، ((تفسير الزمخشري)) (2/705)، ((تفسير القرطبي)) (10/362)، ((تفسير الرسعني)) (4/247)، ((تفسير الشوكاني)) (3/323)، ((تفسير القاسمي)) (7/8). ونسَب ابنُ عطيةَ تفسيرَ الرحمةِ بالرزقِ إلى المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/499). قال ابنُ عاشور: (سألوا رحمةً خاصَّةً وافرةً في حينِ تَوَقُّعِ ضِدِّها، وقصدوا الأمنَ على إيمانِهم مِنَ الفتنةِ، ولئلَّا يُلاقوا في اغترابِهم مشقَّةً وألمًا، وأن لا يُهينَهم أعداءُ الدِّينِ فيصيروا فتنةً للقومِ الكافرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/266). .
وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
أي: وأعِدَّ لنا أسبابًا وأحوالًا تكونُ عاقِبَتُها حُصولَ ما خَوَّلْتَنا مِن الثَّباتِ على الحَقِّ، والنَّجاةِ من المُشرِكينَ، وحُصُولَ العِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ به، فيكونُ أمرُ دِينِنا ودُنيانا صالِحًا مُوافِقًا للصَّوابِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/161، 162)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/266)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 22، 23). قال الشنقيطي: (ومِنْ في قوله: مِنْ أَمْرِنَا فيها وجهان: أحدُهما أنها هنا للتجريدِ، وعليه فالمعنى: اجعَلْ لنا أمْرَنا رشدًا كُلَّه، كما تقول: لقيتُ مِن زيدٍ أسدًا، ومن عمرٍو بحرًا. والثاني: أنَّها للتبعيض، وعليه فالمعنى: واجعَلْ لنا بعضَ أمْرِنا -وهو البعضُ الذي نحن فيه من مُفارقةِ الكُفَّارِ- رشَدًا، حتى نكونَ بسَبَبِه راشدين مُهتَدين). ((أضواء البيان)) (3/207). وقال ابن عاشور: (الأمرُ هنا: الشأنُ والحالُ الذي يكونون فيه، وهو مجموعُ الإيمانِ والاعتصامِ إلى محَلِّ العُزلةِ عن أهلِ الشِّركِ. وقد أعدَّ الله لهم مِن الأحوالِ ما به رُشدُهم؛ فمِن ذلك صَرفُ أعدائِهم عن تتبُّعِهم، وأنْ ألهَمَهم موضِعَ الكهفِ، وأنْ كان وضعُه على جهةٍ صالحةٍ ببقاءِ أجسامِهم سليمةً، وأنْ أنامَهم نومًا طويلًا ليمضيَ عليهم الزمَنُ الذي تتغَيَّرُ فيه أحوالُ المدينةِ، وحصَل رُشدُهم إذ ثَبَتوا على الدِّينِ الحَقِّ، وشاهدوه منصورًا مُتَّبَعًا، وجعَلَهم آيةً للنَّاسِ على صِدقِ الدِّينِ، وعلى قُدرةِ الله، وعلى البَعثِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/267). .
فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11).
أي: فألقَيْنا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا لسِنينَ ذواتِ عَدَدٍ كثيرٍ [132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/176)، ((تفسير القرطبي)) (10/363)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/268)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/207).   .
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12).
أي: ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَوْمِهم -بعدَ مُضِيِّ تلك السِّنينَ الكَثيرةِ- لنعلمَ علمًا يَظهرُ في الوجودِ [133] قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا قَولُه تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] ، وقَولُه: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ونحوُ ذلك؛ فهذا هو العِلمُ الذي يتعَلَّقُ بالمَعلومِ بعدَ وُجودِه، وهو العِلمُ الذي يترتَّبُ عليه المدحُ والذَّمُّ، والثَّوابُ والعِقابُ). ((مجموع الفتاوى)) (8/496). وقال الشِّنقيطي: (معنى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي: نعلمَ ذلك عِلمًا يُظهِرُ الحقيقةَ للنَّاسِ، فلا يُنافي أنَّه كان عالِمًا به قبلَ ذلك دونَ خَلْقِه). ((أضواء البيان)) (3/210). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/460)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 24).   : أيُّ الفَريقَينِ المُختَلِفَينِ في مِقدارِ نَومِهم في الكَهفِ [134] قيل: هما فَريقانِ مِن أصحابِ الكَهفِ، كما قال تعالى عنهم: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف: 19] . وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الشنقيطي. يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/208). ويحتملُ أنَّ الحِزبَينِ مِن أهلِ زمانِهم، فاختلفوا فيهم. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/705)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/19-20). قال ابن عاشور: (فالوجهُ: أَنَّ المرادَ بالحزبيْنِ حِزبانِ مِنَ النَّاسِ؛ أهلِ بَلَدِهم اخْتَلَفَتْ أقوالُهم في مُدَّةِ لُبْثِهم بعدَ أنْ علموا انبعاثَهم مِنْ نومَتِهم، أحدُ الفريقينِ مصيبٌ والآخَرُ مخطِئٌ، واللَّهُ يعلمُ المصيبَ منهم والمخْطِئَ، فهما فريقانِ في جانِبَيْ صوابٍ وخطأٍ كما دلَّ عليه قولُه: أَحْصَى). ((تفسير ابن عاشور)) (15/269). وجمع ابنُ عثيمين بين القَولينِ فقال: (تنازعوا أمْرَهم فقالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، ثمَّ الناسُ مِن بعدِهم اختلفوا كم لَبِثوا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 25). وقيل: المرادُ بالحزبينِ: أصحابُ الكهفِ، والحزبُ الثاني هم أهلُ المدينةِ الذين بُعِث الفتيةُ على عهدِهم. وهذا الذي استَظْهَره القرطبي، ونسَب القولَ به إلى جمهورِ المفسِّرينَ، واختاره ابنُ جزي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/364)، ((تفسير ابن جزي)) (1/460). أضبَطُ وأتقَنُ في حِسابِ تلك المُدَّةِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/176، 178)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 654)، ((تفسير القرطبي)) (10/363)، ((تفسير ابن كثير)) (5/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 471). قال السعدي: (وفي العِلمِ بمِقدارِ لُبثِهم ضَبطٌ للحِسابِ، ومعرفةٌ لكَمالِ قُدرةِ الله تعالى وحِكمتِه ورَحمتِه، فلو استمَرُّوا على نَومِهم، لم يحصُلِ الاطِّلاعُ على شَيءٍ مِن ذلك من قِصَّتِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 471).   .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا فيه لفتٌ للعقولِ عن الاشتغالِ بعجائبِ القصصِ إلى أنَّ الأوْلَى الاتِّعاظُ بما فيها مِن العبرِ والأسبابِ وآثارِها؛ ولذلك ابْتُدِئَ ذكرُ أحوالِهم بقولِه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا  فأعْلَم النَّاسَ بثباتِ إيمانِهم باللَّهِ ورَجائِهم فيه، وبقولِه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى... الآياتِ [الكهف: 13] ، الدَّالِّ على أنَّهم أبْطَلوا الشِّرْكَ، وسَفَّهوا أهلَه؛ تعريضًا بأنَّ حقَّ السَّامِعينَ أنْ يَقْتَدوا بهُداهم [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/259).  
2- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا هذه الآيةُ صَريحةٌ في الفِرارِ بالدِّينِ، وهِجرةِ الأهلِ والبَنينَ، والقَراباتِ والأصدقاءِ، والأوطانِ والأموالِ؛ خَوفَ الفِتنةِ وما يَلقاه الإنسانُ مِن المِحنةِ، وقد خرج النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فارًّا بدِينِه وكذلك أصحابُه، وجلس في الغارِ -وقد نَصَّ اللهُ تعالى على ذلك في سورةِ «التَّوبة»- وهَجَروا أوطانَهم، وتَرَكوا أرْضَهم وديارَهم، وأهاليَهم وأولادَهم، وقَراباتِهم وإخوانَهم؛ رجاءَ السَّلامةِ بالدِّينِ، والنَّجاةِ مِن فِتنةِ الكافرينَ [137] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/360).   .
3- قَولُ الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا جَمَعوا بين السَّعيِ والفرارِ مِن الفِتنةِ إلى محَلٍّ يُمكِنُ الاستِخفاءُ فيه، وبين تَضَرُّعِهم وسُؤالِهم لله تَيسيرَ أُمورِهم، وعَدَمِ اتِّكالِهم على أنُفسِهم وعلى الخَلقِ؛ فلذلك استجابَ اللهُ دُعاءَهم، وقَيَّضَ لهم ما لم يَكُنْ في حِسابِهم [138] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 471).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ الشُّبَّانُ أقبَلُ للحَقِّ وأهدى للسَّبيلِ مِن الشُّيوخِ [139] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/18).   ؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبينَ لِلَّه ولرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شَبابًا، وأَمَّا المشايخُ مِنْ قُرَيْشٍ فعامَّتُهم بَقُوا علَى دينِهم، ولم يُسْلِمْ منهم إِلَّا القليلُ. وهكذا أخبرَ تعالَى عن أصحابِ الكهفِ أنَّهم كانوا فتيةً شبابًا [140] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/140).   .
2- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا خَصَّصَ سُبحانَه وتعالى الآذانَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها الجارِحةُ التي منها عُظْمُ فَسادِ النَّومِ، وقَلَّما يَنقَطِعُ نَومُ نائمٍ إلَّا مِن جِهةِ أذُنِه، ولا يَستَحكِمُ نَومٌ إلَّا مع تعَطُّلِ السَّمعِ، ومِن ذِكرِ الأُذُنِ في النَّومِ قَولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ذلك رجُلٌ بال الشَّيطانُ في أُذُنِه )) [141] أخرجه البخاري (1144)، ومسلم (774) من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.   ، أشار عليه السَّلامُ إلى رجُلٍ طَويلِ النَّومِ لا يَقومُ باللَّيلِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/500).   .
3- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا في النَّومِ المَذكورِ حِفظٌ لقُلوبِهم من الاضطرابِ والخَوفِ، وحِفظٌ لهم مِن قَومِهم، ولِيَكونَ آيةً بَيِّنةً [143] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 471).   .
4- قَولُ الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ فيه دَليلٌ على صِحَّةِ القَولِ بالكَراماتِ [144] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/430).   ؛ فإنَّ بقاءَهم ثلاثَمِئةِ سَنةٍ بلا آفةٍ: مِنْ أعظمِ الخوارقِ [145] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/394).   .
5- قال الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا سَمَّى سُبحانَه وتعالى الاستِيقاظَ مِن النَّومِ بَعثًا؛ لأنَّ النَّومَ وَفاةٌ، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42] ؛ فالنَّومُ وَفاةٌ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 23-24).   .
6- قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ المقصودُ من هذه القِصَّةِ إثباتُ البعثِ بعدَ الموتِ؛ فكان في ذِكْرِ لفظِ (البَعثِ) تَنبيهٌ على أنَّ في هذه الإفاقةِ دليلًا على إمكانِ البَعثِ وكيفيَّتِه [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/269).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
     - قولُه: أَمْ حَسِبْتَ (أمْ) للإضرابِ الانتقاليِّ من غرَضٍ إلى غرضٍ [148] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/141)، ((تفسير أبي السعود)) (5/205).   ، ولمَّا كان هذا من المقاصِدِ الَّتي أُنزِلَتِ السُّورةُ لبَيانِها، لم يكُنْ هذا الانتقالُ اقتضابًا، بلْ هو كالانتقالِ من الدِّيباجةِ والمُقدِّمةِ إلى المقصودِ، على أنَّ مُناسبةَ الانتقالِ إليه تتَّصِلُ بقولِه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] ؛ إذ كان ممَّا صرَفَ المُشرِكين عن الإيمانِ إحالتُهم الإحياءَ بعدَ الموتِ، فكان ذِكْرُ أهْلِ الكهفِ وبعْثِهم بعدَ خُمودِهم سِنينَ طويلةً مِثالًا لإمكانِ البعْثِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/258).   .
     - والاستفهامُ المُقدَّرُ بعدَ (أمْ) تَعجبيٌّ، والتَّقديرُ: أحسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ كانوا عجَبًا من بينِ آياتِنا، أي: أعجَبَ من بقيَّةِ آياتِنا؛ فإنَّ إماتةَ الأحياءِ بعدَ حياتِهم أعظَمُ من عجَبِ إنامةِ أهْلِ الكهفِ؛ لأنَّ في إنامتِهم إبقاءً للحياةِ في أجسامِهم، وليس في إماتةِ الأحياءِ إبقاءٌ لشَيءٍ من الحياةِ فيهم على كثرتِهم وانتشارِهم. وهذا تَعريضٌ بغَفلةِ الَّذين طَلبوا من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ بَيانَ قِصَّةِ أهْلِ الكهفِ لاستعلامِ ما فيها من العجَبِ، بأنَّهم سَألوا عن عجيبٍ، وكَفروا بما هو أعجَبُ، وهو انقراضُ العالَمِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/259).   .
     - ومعنى مِنْ في قولِه: مِنْ آيَاتِنَا التَّبعيضُ، أي: ليست قِصَّةُ أهْلِ الكهْفِ مُنفردةً بالعجَبِ من بينِ الآياتِ الأُخرى. أو تُجعَلُ للظَّرفيَّةِ، أي: كانوا عجبًا في آياتِنا، أي: وبقيَّةُ الآياتِ ليست عجَبًا، وهذا نِداءٌ على سُوءِ نظَرِهم؛ إذ يُعلِّقون اهتمامَهم بأشياءَ نادرةٍ، وبين يدَيْهم من الأشياءِ ما هو أجدَرُ بالاهتمامِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/260).   .
     - قولُه: كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أخبَرَ عن أصحابِ الكهفِ بالعجَبِ، وإنَّما العجَبُ حالُهم في قومِهم، فثَمَّ مُضافٌ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه الكلامُ، وأيضًا أخبَرَ عن حالِهم بالمصدَرِ عَجَبًا؛ مُبالغةً، والمُرادُ (عَجيب) [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/260).   .
2- قولُه تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
     - قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (إذ) ظرفٌ مُضافٌ إلى الجُملةِ بعدَه، وهو مُتعلِّقٌ بـ كَانُوا [الكهف: 9] ، فتكونُ هذه الجُملةُ مُتَّصلةً بالَّتي قبلها. أو مُتعلِّقٌ بفعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: (اذْكُر)؛ فتكونُ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا للجُملةِ الَّتي قبْلها، والمقصودُ على كِلا الأمرينِ: إجمالُ قِصَّتِهم ابتداءً؛ تَنبيهًا على أنَّ قِصَّتَهم ليست أعجَبَ آياتِ اللهِ، مع التَّنبيهِ على أنَّ ما أكرَمَهم اللهُ به من العِنايةِ إنَّما كان تأييدًا لهم لأجْلِ إيمانِهم؛ فلذلك عُطِفَ عليه قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/265).   .
     - قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ فالفتيةُ هم أصحابُ الكهْفِ المَذكورونَ في الآيةِ الَّتي قبْلُ، ومُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إذ أوَوا)؛ فعُدِلَ عن ذلك لِما يدُلُّ عليه لفظُ الْفِتْيَةُ من كونِهم أترابًا مُتقاربي السِّنِّ، وذِكْرُهم بهذا الوصفِ؛ للإيماءِ إلى ما فيه من اكتمالِ خُلقِ الرُّجوليَّةِ المُعبَّرِ عنه بالفُتوَّةِ الجامعِ لمعنى سَدادِ الرَّأيِ، وثَباتِ الجأْشِ، والدِّفاعِ عن الحقِّ؛ ولذلك عُدِلَ عن الإضمارِ فلم يُقَلْ: (إذ أوَوا إلى الكهفِ) [154] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/266).   . وقيل: إنَّما أُبرِزَ الضميرُ لبيانِ أنَّهم شُبَّانٌ ليسوا بكَثيري العَددِ؛ فليستْ لهم أسنانٌ استفادوا بها من التَّجارِبِ والتعلُّمِ ما اهتَدَوا إليه من الدِّين والدُّنيا، ولا كثرةٌ حُفِظوا بها ممَّن يُؤذيهم أَيقاظًا ورُقودًا [155] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/17).   .
     - قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا دلَّتِ الفاءُ في جُملةِ فَقَالُوا على أنَّهم لمَّا أوَوا إلى الكهف، بادروا بالابتهالِ إلى اللهِ، ودَعوا اللهَ أنْ يُؤتِيَهم رحمةً من لَدُنْه، وذلك جامعٌ لخيرِ الدُّنيا والآخرةِ، أي: أنْ يمُنَّ عليهم برحمةٍ عظيمةٍ تُناسِبُ عِنايتَه باتِّباعِ الدِّينِ الَّذي أمَرَ به؛ فزيادةُ مِنْ لَدُنْكَ للتَّعلُّقِ بفعْلِ الإيتاءِ تُشيرُ إلى ذلك؛ لأنَّ في (مِن) معنى الابتداءِ، وفي (لَدُن) معنى العِنديَّةِ والانتسابِ إليه؛ فذلك أبلَغُ ممَّا لو قالوا: (آتِنا رحمةً)، ثمَّ سألوا اللهَ أنْ يُقدِّرَ لهم أحوالًا تكونُ عاقِبتُها حُصولَ ما خوَّلَهم من الثَّباتِ على الدِّينِ الحقِّ، والنَّجاةَ من مُناوأةِ المُشرِكين؛ فعُبِّرَ عن ذلك التَّقديرِ بالتَّهيئةِ الَّتي هي إعدادُ أسبابِ حُصولِ الشَّيءِ [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/266).   .
     - وفي قولِه: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا تَقديمُ المُجرورَين -لَنَا ومِنْ أَمْرِنَا- على المفعولِ الصَّريحِ رَشَدًا؛ لإظهارِ الاعتناءِ بهما، وإبرازِ الرَّغبةِ في المُؤخَّرِ بتقديمِ أحوالِه؛ فإنَّ تأخيرَ ما حقُّه التَّقديمُ عمَّا هو من أحوالِه المُرغِّبةِ فيه، كما يُورِثُ شوقَ السَّامعِ إلى وُرودِه، يُنْبِئُ عن كَمالِ رَغبةِ المُتكلِّمِ فيه، واعتنائِه بحُصولِه لا مَحالةَ، وكذا الكلامُ في تَقديمِ قولِه تعالى: مِنْ لَدُنْكَ على تَقديرِ تعلُّقِه بـ آتِنَا. وتَقديمُ لَنَا على مِنْ أَمْرِنَا؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكونِ المَسؤولِ مرغوبًا فيه لدَيْهم [157] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/206).   .
3- قولُه تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا تَفريعُ هذه الجُملةِ بالفاءِ إمَّا على جُملةِ دُعائِهم فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ مَضمونَها استجابةُ دَعوتِهم، فجعَلَ اللهُ إنامتَهم كرامةً لهم، بأنْ سلَّمَهم من التَّعذيبِ بأيدي أعدائِهم، وأيَّدَ بذلك أنَّهم على الحقِّ، وأرى النَّاسَ ذلك بعدَ زمَنٍ طويلٍ. وإمَّا على جُملةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ اللهَ عجَّلَ لهم حُصولَ ما قَصَدوه ممَّا لم يكُنْ في حُسبانِهم [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/268).   .
     - وحُذِفَ مفعولُ فَضَرَبْنَا لظُهورِه، أي: ضرَبْنا على آذانِهم غِشاوةً أو حائلًا عن السَّمعِ، كما يُقال: بنى على امرأتِه، تَقديرُه: بنى بيتًا [159] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/705)، ((تفسير البيضاوي)) (3/274)، ((تفسير أبي حيان)) (7/144).   .
     - قولُه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ الضَّربُ على الآذانِ كِنايةٌ عن الإنامةِ؛ لأنَّ النَّومَ الثَّقيلَ يَستلزِمُ عدَمَ السَّمعِ؛ لأنَّ السَّمعَ السَّليمَ لا يَحجُبُه إلَّا النَّومُ، بخِلافِ البَصرِ الصَّحيحِ، فقد يُحْجَبُ بتَغميضِ الأجفانِ، وهذه الكِنايةُ من خَصائصِ القُرآنِ لم تكُنْ معروفةً قبْلَ هذه الآيةِ، وهي من الإعجازِ [160] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/268).   . وعُبِّرَ بالضَّربِ؛ ليدُلَّ على قُوَّةِ المُباشَرةِ واللُّصوقِ واللُّزومِ [161] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/144).   .
     - قولُه: سِنِينَ عَدَدًا فيه وصْفُ السِّنينَ بـ عَدَدًا، وهو للتَّكثيرِ؛ لأنَّه لا يُحْتاجُ أنْ يُعَدَّ إلَّا ما كثُرَ لا ما قَلَّ، وهو الأنسبُ بإظهارِ كَمالِ القُدرةِ. وقيل: للتَّقليلِ، وهو الأليقُ بمَقامِ إنكارِ كونِ القِصَّةِ عجَبًا من بين سائرِ الآياتِ العجيبةِ؛ فإنَّ مُدَّةَ لُبْثِهم كبعضِ يومٍ عنده عَزَّ وجَلَّ [162] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/705)، ((تفسير البيضاوي)) (3/274)، ((تفسير أبي حيان)) (7/145)، ((تفسير أبي السعود)) (5/207).   . وقد أُجْمِلَ العددُ هنا تَبعًا لإجمالِ القصَّةِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/268).   .