موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيتان (19-20)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات:

بِوَرِقِكُمْ: الوَرِقُ: الفِضَّةُ المَضروبةُ، وهي الدَّراهِمُ، وأصلُ (ورق): يدُلُّ على خَيرٍ ومالٍ .
أَزْكَى: أي:  أطْيبُ، وأحلُّ، وأطهرُ، والزَّكوُ: الزِّيادةُ في الخيرِ والنَّفعِ، وأصلُ الزكاءِ: النَّماءُ والزِّيادةُ .
بِرِزْقٍ: أي: بطعامٍ تأكلونَه، وقوتٍ تقتاتونَه، والرِّزقُ يُطلَقُ على ما يصِلُ إلى الجوفِ ويُتغَذَّى به؛ فيُطلَقُ على الطَّعامِ والثِّمارِ وعلى ما هو أعمُّ مِن ذلك مما يُنتفَعُ به، وأصلُ (رزق): يَدُلُّ على عطاءٍ لوَقْتٍ .
وَلْيَتَلَطَّفْ: أي: ولْيُدقِّقِ النَّظرَ، ولْيَحتَلْ حتى لا يطَّلِعَ عليه أحَدٌ، ويُعبَّرُ باللَّطافةِ واللُّطفِ عن الحَرَكةِ الخفيفةِ، وعن تعاطي الأُمورِ الدَّقيقةِ، وأصلُ (لطف): يدُلُّ على رِفقٍ .
يَظْهَرُوا: أي: يَطَّلِعوا ويُشرِفوا على مكانِكم أو على أنفُسِكم، والظُّهورُ أصلُه: البروزُ دونَ ساترٍ، ويُطلَقُ على الظَّفَرِ بالشَّيءِ، وعلى الغَلَبةِ على الغَيرِ، وهو المرادُ هنا .
يَرْجُمُوكُمْ: أي: يَقْتُلوكم بالرَّجْمِ، والرَّجْمُ: الرَّميُ بالرِّجامِ، وهي الحجارةُ، وأصلُ (رجم): الرَّميُ بالحجارةِ .

المعنى الإجمالي:

حكى الله سبحانه حالَ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استيقاظِهم مِن هذا النومِ الطويلِ، فقال: وكما أنَمْناهم وحَفِظْناهم هذه المُدَّةَ الطَّويلةَ أيقَظْناهم مِن نَومِهم على هَيئَتِهم دونَ تغيُّرٍ؛ ليسألَ بَعضُهم بعضًا: كم مِن الوَقتِ مَكَثْنا نائمينَ هنا؟ فقال بعضُهم: مَكَثْنا يومًا أو بعضَ يومٍ، ففَوَّضوا عِلْمَ ذلك إلى اللهِ لَمَّا أعياهم التحَقُّقُ، وقالوا: ربُّكم أعلَمُ بمدَّةِ نَومِكم، فأرسِلوا أحَدَكم بدراهمِكم الفِضِّيَّةِ هذه إلى مَدينتِنا، فلْيَنظُرْ: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ طَعامًا؟ فلْيَأتِكم بقُوتٍ منه، ولْيَترفَّقْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ، ولا يُعْلِمَنَّ بكم أحدًا مِن النَّاسِ؛ إنَّ قَومَكم إنْ يَعْلموا بمكانِكم، ويَظْفروا بكم؛ يَرجُموكم بالحِجارةِ، فيَقتُلوكم، أو يَرجِعوكم إلى دينِهم، فتَصِيروا كُفَّارًا مِثلَهم، ولن تَفوزوا بالخيرِ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ -إنْ فَعلْتُم ذلك- أبدًا.

تفسير الآيتين:

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19).
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ.
أي: وكما أنَمْنا هؤلاء الفِتيةَ فحَفِظناهم في الكَهفِ، كذلك أيقَظْناهم مِن نَومِهم الطَّويلِ بذاتِ الحالةِ التي كانوا عليها، دونَ أن يتغيَّرَ مِن أحوالِهم وهَيئاتِهم شَيءٌ؛ ليَسألَ بَعضُهم بعضًا عن مُدَّةِ نَومِهم، فإذا تبيَّنوا طولَ الزَّمانِ عليهم، وهم بنَفسِ هَيئتِهم التي رَقَدوا بها، ازدادوا مَعرفةً بعَظيمِ سُلطانِ اللهِ وعجائِبِ قُدرتِه، وبحُسنِ دِفاعِ اللهِ عن أوليائِه، وازدادوا بصيرةً في أمْرِهم الذي هم عليه مِن التبَرُّؤِ مِن عبادةِ الآلهةِ، وإخلاصِ العبادةِ لله وَحْدَه لا شريكَ له .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ.
أي: قال قائِلٌ مِن الفِتيةِ لأصحابِه: كم كانت مُدَّةُ نَومِكم ؟!
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
أي: فأجابه الآخَرونَ بما يَظُنُّونَ: لَبِثْنا في نَومِنا يومًا كاملًا أو بعضًا منه .
قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ.
أي: قالوا مُفَوِّضينَ العِلمَ لله: ربُّكم أعلَمُ منكم بمدَّةِ نَومِكم .
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
أي: قال الفِتيةُ: فأرسلوا واحِدًا مِنَّا بهذه الدَّراهِمِ الفِضِّيةِ التي بحَوزَتِنا، إلى مَدينَتِنا التي فرَرْنا منها .
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.
أي: فلْيَنظُرْ مَن ستُرسِلونَه: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ وأطهَرُ طعامًا مِن غَيرِه ، فلْيَشتَرِ لكم قُوتًا منه، ولْيُحضِرْه إليكم لِتَأكلوه .
وَلْيَتَلَطَّفْ.
أي: ولْيَترفَّقِ الذي ستُرسِلونَه لشِراءِ الطَّعامِ، فيتخَفَّ ويتحَيَّلْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ .
وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا.
أي: ولا يُعلِمَنَّ أحدًا من النَّاسِ بمَكانِكم الذي تختَبِئونَ فيه، فلا يقولَنَّ أو يفعَلَنَّ ما يُؤدِّي مِن غيرِ قَصدٍ منه إلى الشُّعورِ بكم .
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نَهَوا رسولَهم عن الإشعارِ بهم، عَلَّلوا ذلك، فقالوا :
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ.
أي: وذلك لأنَّ قَومَكم الكُفَّارَ إن يَعلَموا بمكانِكم في الكَهفِ ويَظفَروا بكم، يَقتُلوكم رَجمًا بالحِجارةِ إن ثَبَتُّم على ما أنتم عليه مِن الحَقِّ .
أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.
أي: أو يَرجِعوكم لِتَدخُلوا قَهرًا في دِينِهم، فتُصبِحوا كُفَّارًا مِثلَهم .
كما قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 88- 89].
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.
أي: ولن تَفوزوا بالخَيرِ أبدًا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ إن عُدتُم في ملَّتِهم .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ دَلَّ على الحَثِّ على العِلمِ، وعلى المُباحثةِ فيه؛ لِكَونِ اللهِ بعَثَهم لأجلِ ذلك .
2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فيه الأدَبُ فيمن اشتَبَه عليه العِلمُ؛ أن يَرُدَّه إلى عالِمِه، وأن يَقِفَ عند حَدِّه .
3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ السَّعيَ في إمساكِ الزَّادِ أمرٌ مُهِمٌّ مَشروعٌ، وأنَّه لا يُبطِلُ التوكُّلَ على اللهِ تعالى؛ إذ حَقيقةُ التوكُّلِ على اللهِ تعالى: تهيئةُ الأسبابِ، واعتِقادُ أنْ لا مُسَبِّبَ للأسبابِ إلَّا اللهُ تعالى ، فتزوُّدُهم ما كان معهم مِن الوَرِقِ عندَ فِرارِهم دَليلٌ على أنَّ حَملَ النَّفَقةِ وما يُصلِحُ المسافِرَ، هو رأيُ المتوكِّلينَ على اللهِ دونَ المُتَّكِلينَ على الاتِّفاقاتِ، وعلى ما في أوعيةِ القَومِ مِن النَّفَقاتِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا فيه الحَثُّ على التحَرُّزِ، والاستخفاءِ، والبُعدِ عن مواقِعِ الفِتَنِ في الدِّينِ، واستِعمالِ الكِتمانِ في ذلك على الإنسانِ وعلى إخوانِه في الدِّينِ . وفيه أيضًا دَليلٌ على أخْذِ الحَذَرِ مِن الأعداءِ بكُلِّ وسيلةٍ، إلَّا الوسائلَ المُحَرَّمةَ؛ فإنَّها مُحرَّمةٌ لا يجوزُ أنْ يقعَ الإنسانُ فيها .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلَّ على ذِكرِ ما اشتملَ عليه الشرُّ مِن المضارِّ والمفاسِدِ الدَّاعيةِ لبُغضِه وتَرْكِه، وأنَّ هذه الطريقةَ هي طريقةُ المؤمنينَ المتقَدِّمينَ والمتأخِّرينَ؛ لِقَولِهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى حكايةً عن أصحابِ الكهفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا لم يعثُرْ عليهم أحَدٌ مع قُربِهم من المدينةِ جِدًّا، والدَّليلُ على قُربِهم أنَّهم لَمَّا استيقظوا أرسلوا أحَدَهم يشتري لهم طعامًا من المدينةِ، وبَقُوا في انتظارِه؛ فدَلَّ ذلك على شِدَّةِ قُربِهم منها .
2- قَولُه تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أصلٌ في الوَكالةِ والنِّيابةِ ، وفيه دليلٌ على صحةِ الوكالةِ في البيعِ والشراءِ ، والوَكالةُ عَقدُ نيابةٍ أذِنَ الله فيه للحاجةِ إليه، وقيامِ المَصلحةِ به؛ إذ يَعجِزُ كُلُّ أحدٍ عن تناوُلِ أمورِه إلَّا بمعونةٍ مِن غَيرِه، أو يترَفَّهُ فيستنيبُ من يُريحُه، حتى جاز ذلك في العباداتِ؛ لُطفًا منه سبحانَه، ورِفقًا بضَعَفةِ الخليقةِ؛ ذكَرَها الله كما تَرَون، وبيَّنَها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كما تسمَعونَ، وهو أقوَى آيةٍ في الغَرَضِ .
3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يدُلُّ على جوازِ خَلطِ دراهِمِ الجماعةِ، والشِّراءِ بها، والأكلِ مِن الطَّعامِ الذي بينهم بالشَّرِكةِ، وإن كان فيهم مَن يأكُلُ أكثَرَ ومَن يأكُلُ أقَلَّ؛ وذلك أنَّه قال: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ  إِلَى الْمَدِينَةِ فأضاف الوَرِقَ إلى الجَميعِ .
4- إنْ قيل: أليس أنَّهم لو أُكرِهوا على الكفرِ حتى أظهَروا الكفرَ لم يكنْ عليهم مضرَّةٌ، فكيفَ قالوا: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؟
وأُجِيب: أنَّهم خافوا أنَّهم لو بَقُوا على الكفرِ مُظهرينَ له، فقد يميلُ بهم ذلك إلى الكفرِ الحقيقيِّ، فكان خوفُهم بسببِ هذا الاحتمالِ .
وقيل: إنَّ العُذرَ بالإكراهِ مِن خَصائِصِ هذه الأمَّةِ؛ لأنَّ قَولَه عن أصحابِ الكَهفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ظاهِرٌ في إكراهِهم على ذلك، وعدَمِ طواعِيتِهم، ومع هذا قال عنهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ ذلك الإكراهَ ليس بعُذرٍ .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
     - قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ الكافُ للتَّشبيهِ، والإشارةُ بـ (ذلك) إلى المذكورِ من إنامتِهم وكيفيَّتِها، أي: كما أنَمْناهم قُرونًا بعَثْناهم ، ووجْهُ الشَّبهِ: أنَّ في الإفاقةِ آيةً على عظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى مثْلَ آيةِ الإنامةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَشبيهُ البَعثِ المذكورِ بنفْسِه؛ للمُبالغةِ في التَّعجيبِ .
     - قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ فيه الاقتصارُ على ذِكْرِ التَّساؤُلِ بينهم؛ لاستتباعِه لسائرِ آثارِه، والتَّقديرُ: ليَسألَ بعضُهم بعضًا، فيترتَّبُ عليه ما فُصِّلِ من الحِكَمِ البالغةِ. وجعْلُه غايةً للبعثِ المُعلَّلِ فيما سبَقَ بالاختبارِ، مِن حيثُ إنَّه من أحكامِه المُترتِّبةِ عليه .
     - وجُملةُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ بَيانٌ لجُملةِ لِيَتَسَاءَلُوا، وسُمِّيَت هذه المُحاورةُ تَساؤُلًا؛ لأنَّها تحاوُرٌ عن تطلُّبِ كلٍّ رأيَ الآخرِ؛ للوُصولِ إلى تَحقيقِ المُدَّةِ. والَّذين قالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ هم مَن عدا الَّذي قال: كَمْ لَبِثْتُمْ، وأسنَدَ الجوابَ إلى ضَميرِ جماعتِهم؛ إمَّا لأنَّهم تَواطؤوا عليه، وإمَّا على إرادةِ التَّوزيعِ، أي: منهم مَن قال: لبِثْنا يومًا، ومنهم قال: لبِثْنا بعضَ يومٍ، وعلى هذا يَجوزُ أنْ تكونَ (أو) للتَّقسيمِ في القولِ؛ بدَليلِ قولِه بعْدُ: قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، أي: لمَّا اخْتَلفوا رجَعوا، فعَدلوا عن القولِ بالظَّنِّ إلى تَفويضِ العلْمِ إلى اللهِ تعالى، وذلك من كَمالِ إيمانِهم .
     - وتَفريعُ قولِهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ على قولِهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ؛ لأنَّه في معنى: فدَعوا الخوضَ في مُدَّةِ اللُّبثِ؛ فلا يعلَمُها إلَّا اللهُ، وخُذوا في شَيءٍ آخرَ ممَّا يهُمُّكم ، وهو قريبٌ من الأُسلوبِ الحكيمِ، وهو تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تَنبيهًا على أنَّ غيرَه أولَى بحالِه، ولولا قولُهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، لكانَ قولُهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عيْنَ الأُسلوبِ الحكيمِ .
     - قولُه: وَلْيَتَلَطَّفْ، أي: ولْيتكلَّفِ اللُّطفَ في الاستخفاءِ؛ لئلَّا يُعْرَفَ، وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا مِن أهْلِ المدينةِ؛ فإنَّه يَستدْعي شُيوعَ أخبارِكم، أي: لا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي إلى ذلك؛ فالنَّهيُ على ذلك تأكيدٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ .
     - قولُه: وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا سُمِّيَ ذلك إشعارًا منه بهم؛ لأنَّه سبَبٌ فيه؛ فالتَّقديرُ: ولا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي من غيرِ قصْدٍ منه إلى الشُّعورِ بنا .
وقيل: ولا يُخبِرَنَّ بوُجودِكم أحدًا؛ فهنا مُضافٌ مَحذوفٌ دَلَّت عليه دَلالةُ الاقتضاءِ ، فيشمَلُ جميعَ أحوالِهم؛ من عدَدِهم ومكانِهم وغيرِ ذلك .
     - والنُّونُ في وَلَا يُشْعِرَنَّ لتَوكيدِ النَّهيِ؛ تَحذيرًا من عَواقبِه المُضمَّنةِ في جُملةِ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ .
2- قولُه تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا عِلَّةٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ، والنَّهيِ عن إشعارِ أحدٍ بهم ، وبَيانٌ لوجْهِ تَوكيدِ النَّهيِ بالنُّونِ في وَلَا يُشْعِرَنَّ؛ فهي واقعةٌ موقعَ العلَّةِ والبَيانِ، وكِلاهما يَقْتضي فصْلَها عمَّا قبْلَها .
     - وفي قولِه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ تَقديمُ احتمالِ الرَّجمِ على احتمالِ الإعادةِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ من حالِهم هو الثَّباتُ على الدِّينِ المُؤدِّي إليه .
     - قولُه: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ فيه إيثارُ كلمةِ (في) على كلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ الَّذي هو أشَدُّ شَيءٍ عندهم كراهةً .
     - قولُه: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا فيه تأكيدُ التَّحذيرِ من الإرجاعِ إلى مِلَّتِهم بأنَّها يترتَّبُ عليها انتفاءُ فَلاحِهم في المُستقبَلِ؛ لِما دلَّتْ عليه (إذن) مِن الجَزائيَّةِ. وأَبَدًا ظرفٌ للمُستقبَلِ كلِّه، وهو تأكيدٌ لِما دَلَّ عليه النَّفيُ بـ (لن) من التَّأبيدِ أو ما يُقارِبُه ، وفيه من التَّشديدِ في التَّحذيرِ ما لا يَخْفى .
     - وضَميرُ الخِطابِ في المواضعِ الأربعةِ (عَلَيْكُمْ - يَرْجُمُوكُمْ - يُعِيدُوكُمْ - وَلَنْ تُفْلِحُوا)؛ للمُبالَغةِ في حملِ المبعوثِ على الاستخفاءِ، وحَثِّ الباقينَ على الاهتمامِ بالتَّوصيةِ؛ فإنَّ تَمحيضَ النُّصحِ أدخَلُ في القَبولِ، واهتمامُ الإنسانِ بشأْنِ نفْسِه أكثَرُ وأوفَرُ .