موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (16-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

اعْتَزَلْتُمُوهُمْ: أي: فارَقْتُموهم، وأصلُ (عزل): يدُلُّ على تَنحيةٍ .
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أي: فصِيروا إليه، واجْعَلوه مَأْواكم، والمأْوَى: المَكانُ الَّذي يُرْجَعُ إليه ليلًا أو نهارًا، يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، وأصْلُه: التَّجمُّعُ .
يَنْشُرْ: أي: يبسُطْ ويُوَسِّعْ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه .
مِرْفَقًا: أي: ما تَرتَفِقون به، أي: تَنْتَفعون به، والمِرفَقُ والمَرفِقُ: ما يُرتفَقُ به، والارتفاقُ: الانتفاعُ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عُنفٍ .
تَزَاوَرُ: أي: تَميلُ، وأصلُ (زور): يدلُّ على مَيلٍ وعُدولٍ .
تَقْرِضُهُمْ: أي: تُجاوِزُهم وتَدَعُهم، أي: لا تَطلُعُ في كَهفِهم، يُقالُ: قرضْتُ موضعَ كذا؛ إذا قطعتَه فجاوزتَه، وأصلُ (قرض): يدلُّ على القَطعِ
فَجْوَةٍ: أي: مُتَّسَعٍ، وأصلُ (فجو): يدُلُّ على اتِّساعٍ في شَيءٍ .
بِالْوَصِيدِ: أي: فِناءِ الكَهفِ، وأصلُ (وصد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله سبحانه ما تناجَى به أولئك الفتيةُ فيما بينَهم، وما قرَّروه بعدَ اعتزالِ قومِهم، فيذكرُ أنَّ بعضَ الفتيةِ قال لِبَعضٍ: ولِكَونِكم فارَقتُم قَومَكم، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ، فالجَؤوا إلى الكَهفِ لتَعبُدوا رَبَّكم وَحدَه، يَبْسُطْ لكم ربُّكم مِن رَحمتِه، ويُسَهِّلْ لكم مِن أمْرِكم ما تَنتَفِعونَ به في حياتِكم من أسبابِ العَيشِ.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى بعضَ أحوالِ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استقرارِهم في الكهفِ، وإلقاءِ النومِ عليهم، فيذكر مِن مظاهِرِ حِفظِه لهم أنَّك ترى الشَّمسَ إذا أشرَقَت تَميلُ عن الكهفِ إلى جِهةِ اليمينِ؛ لئلَّا تُصيبَهم أشعَّتُها، وإذا غَرَبت تترُكُهم وتتجاوَزُهم إلى جهةِ اليَسارِ، وهم في مكانٍ مُتَّسِعٍ مِن الكَهفِ، ذلك الذي فعَلْناه بهؤلاء الفِتيةِ مِن دلائِلِ قُدرةِ اللهِ، وعَظيمِ لُطفِه بعبادِه.
ثمَّ ختَم الله تعالى هذه الآيةَ، فقال: مَن يُوَفِّقْه اللهُ للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو الموفَّقُ حقًّا، ومَنْ لم يوفِّقْه لذلك فلن تجِدَ له مُعِينًا يُرشِدُه إلى الحَقِّ.
ثم يحكي الله تعالى مشهدًا عجيبًا لأصحابِ الكهفِ، فيقولُ تعالى: وتظُنُّ أهلَ الكَهفِ -لو قُدِّر لك النَّظَرُ إليهم- أيقاظًا، وهم في الواقِعِ نِيامٌ، ونُقَلِّبُهم حالَ نَومِهم؛ مَرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومَرَّةً للجَنبِ الأيسَرِ، وكَلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعَيه بفِناءِ الكَهفِ، لو أشرفتَ عليهم وعايَنْتَهم لفرَرْتَ منهم هارِبًا، ولمُلِئَت نفسُك منهم فَزَعًا.

تفسير الآيات:

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا استدَلَّ الفِتيةُ على مُعتَقَدِهم، وعَلِموا سَفَهَ مَن خالَفَهم، وهم قَومٌ لا قُدرةَ لهم ولا طاقةَ بمقاومَتِهم؛ لِكَثرتِهم وقِلَّتِهم- تسَبَّبَ عن ذلك هِجرَتُهم؛ لِيَسلَمَ لهم دينُهم، فقال تعالى شارِحًا لِما بَقِيَ مِن أمرِهم :
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ.
أي: قال بعضُ الفِتيةِ لِبَعضٍ : ولأجلِ أنَّكم انفرَدْتُم وتباعَدْتُم عن مُخالطةِ قَومِكم الكافرينَ، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ؛ فاتَّخِذوا الكَهفَ مأوًى لكم؛ لِتَختَفوا فيه مِن قَومِكم، وتَعبُدوا اللهَ وَحدَه .
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.
أي: فإنِ اعتَزَلْتُم قَومَكم وما يَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ، وصِرتُم إلى الكَهفِ؛ يَبسُطْ لكم رَبُّكم مِن رَحمتِه، فيَحفَظْ لكم دينَكم، ويُنجِكم مِن قَومِكم .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] .
وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا.
أي: ويُسَهِّلْ لكم ربُّكم مِن أمْرِكم الذي أنتم فيه ما تَنتَفِعونَ به في أمرِ مَعيشَتِكم، فيأتِكم باليُسرِ والرِّفقِ واللُّطفِ .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكر اللهُ تعالى قَولَ بَعضِهم لبَعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا [الكهف: 16] ؛ بيَّن سبحانَه حالَهم بعد أن أَوَوا إلى الكَهفِ، مُشيرًا إلى تحقيقِ رَجائِهم في ربِّهم، وهو ما هيَّأ لهم في أمرِهم مِن مِرفَقٍ، وأنَّ ذلك جزاؤُهم على اهتدائِهم، وهو من لُطفِ اللهِ بهم .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ.
أي: وترى الشَّمسَ إذا أشرَقَتْ تَميلُ عن الكَهفِ الذي أوَى إليه الفِتيةُ، إلى جِهةِ يمينِه؛ لئلَّا تصيبَهم أشعَّتُها .
وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ.
أي: وترَى الشَّمسَ إذا غَرَبَت تَعدِلُ عن الفتيةِ وتَترُكُهم جِهةَ شِمالِ الكَهفِ، فلا يُصيبُهم شُعاعُها .
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ.
أي: والفتيةُ في مكانٍ متَّسِعٍ داخِلَ الكَهفِ .
ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.
أي: فعلُنا الذي فعَلْنا بهؤلاء الفِتيةِ؛ من تيسيرِ الكهفِ لحفظِهم فيه، وميلِ الشمسِ عنهم عندَ طلوعِها، وتركِها لهم عندَ غروبِها- مِن عجائبِ صُنعِ اللهِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرَتِه وسُلطانِه، ولُطفِه بعِبادِه .
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان انفِرادُهم بالهُدَى عن أهلِ ذلك القَرنِ كُلِّهم عَجَبًا؛ وصَلَ به ما إذا تؤُمِّلَ زال عجَبُه، فقال تعالى :
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.
أي: مَن يُرشِدْه اللهُ ويوفِّقْه للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو المهتدي حقًّا، مِثل هؤلاء الفِتيةِ الذين هداهم اللهُ مِن بَينِ قَومِهم .
  وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
أي: ومَن يَخذُلْه اللهُ، فلن تجِدَ له -يا مُحَمَّدُ- خليلًا ومُعِينًا يتولَّى إرشادَه إلى الحَقِّ .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد: 33] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [الإسراء: 97] .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18).
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.
أي: وتَظُنُّ هؤلاء الفِتيةَ -لو رأيتَهم- أيقاظًا، والحالُ أنَّهم نائِمونَ !
وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.
أي: ونقلِّبُهم على جُنوبِهم؛ مرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومرَّةً للأيسَرِ .
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.
أي: وكَلبُ هؤلاء الفِتيةِ جالسٌ على بَطنِه مادٌّ يَدَيه عندَ مَدخَلِ الكَهفِ بفِنائِه؛ لحِراستِهم .
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا.
أي: لو أشرَفْتَ على أصحابِ الكَهفِ فرأيتَهم وهم رُقودٌ، لفَرَرْتَ منهم هارِبًا .
وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.
أي: ولامتَلأَتْ نفسُك خَوفًا وفَزَعًا منهم .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا هذا يدُلُّ على أنَّ اعتزالَ المؤمِنِ قَومَه الكُفَّارَ ومَعبوديهم، مِن أسبابِ لُطفِ اللهِ به ورَحمتِه .
2- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا المشروعُ عند وُقوعِ الفِتَنِ في النَّاسِ، أن يَفِرَّ العَبدُ منهم خَوفًا على دينِه، كما جاء في الحديثِ: ((يُوشِكُ أن يكونَ خَيرَ مالِ المسلم غَنَمٌ يَتبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومواقِعَ القَطْرِ ؛ يَفِرُّ بدِينِه مِن الفِتنِ) ) ، ففي هذه الحالِ تُشرَعُ العُزلةُ عن النَّاسِ، ولا تُشرَعُ فيما عداها؛ لِما يَفوتُ بها مِن تَركِ الجَماعاتِ والجُمَعِ ، فاللهُ تعالى مدَح في هذه الآيةِ مَن فَرَّ بدِينِه خَشيةَ الفِتنةِ عليه .
3- قال الله تعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وفيما تقَدَّمَ أخبَرَ أنَّهم دَعَوه بقَولِهم: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 10] فجَمَعوا بين التَّبرِّي مِن حَولِهم وقُوَّتِهم، والالتجاءِ إلى اللهِ في صلاحِ أمْرِهم ودُعائِه بذلك، وبين الثِّقةِ باللهِ أنَّه سيَفعَلُ ذلك .
4- يجِبُ على الإنسانِ أن يعتمِدَ على الله سبحانه وتعالى في أدَبِ أولادِه وهدايتِهم؛ فإنَّ الله تعالى هو الهادي سُبحانَه وبحمدِه؛ قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وعلى هذا فالذي يحَدِّدُ نسلَه خوفًا مِن عدمِ القدرةِ على تأديبِهم، هو أيضًا مسيءُ الظَّنِّ برَبِّه تبارك وتعالى، وإلَّا فالله سبحانه وتعالى بيدِه الأمورُ .
5- قَولُه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فيه تَنبيهٌ إلى عدمِ سؤالِ الهِدايةِ إلَّا مِنَ اللهِ، وعدمِ الجزعِ أو السخطِ عندَ رؤيةِ مَن هو ضالٌّ؛ فالله تعالى جَعَلَ النَّاسَ على قِسمَينِ: مهتدٍ وضالٍّ، فلا بدَّ مِن الإيمانِ بالقدرِ، والرضَا به على كُلِّ حالٍ، وألا نَسخَطَ الإضلالَ الواقِعَ مِن اللهِ، أما المقدورُ ففيه تَفصيلٌ ، ولكنْ يجبُ علينا مع ذلك أنْ نسعى في هدايةِ الخَلقِ، وأنْ نُرشِدَ هؤلاء الضالِّينَ .
6- قال الله تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ شَمِلَت كَلْبَهم بركتُهم، فأصابه ما أصابَهم مِن النَّومِ على تلك الحالِ، وهذه فائدةُ صُحبةِ الأخيارِ؛ فإنَّه صار لهذا الكلبِ ذِكرٌ وخبَرٌ وشأنٌ ، فذِكْرُ هذا الكَلبِ على طولِ الآبادِ بجَميلِ هذا الرُّقادِ: مِن بركةِ صُحبةِ الأمجادِ ، فمن أحبَّ أهل الخير نال مِن بركتِهم؛ فهذا الكَلبُ أحَبَّ أهلَ فَضلٍ وصَحِبَهم، فذكَرَه الله في مُحكَمِ تنزيلِه . وإذا كان بعضُ الكلابِ قد نال هذه الدَّرجةَ العليا بصُحبته ومخالطتِه الصُّلَحاءَ والأولياءَ حتى أخبَرَ الله تعالى بذلك في كتابِه جلَّ وعلا، فما ظَنُّك بالمُؤمِنين الموحِّدين المُخالطين المحِبِّين للأولياءِ والصالحين؟! بل في هذا تسليةٌ وأُنسٌ للمؤمنينَ المقصِّرينَ عن دَرَجاتِ الكمالِ، المحبِّينَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآلِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فيه اعتزالُ أهلِ الشِّركِ، واعتزالُ مَعْبوديهم .
2- قولُه تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فيه شدةُ صلابتِهم في دينِهم؛ حيثُ عزَموا على تركِ ما كانوا فيه مِن النعمةِ العظيمةِ، واستبدلوا بها كهفًا في رأسِ جبلٍ .
3- حسنُ ظنِّ أصحابِ الكهفِ باللهِ ومعرفتُهم ثمرةَ الطاعةِ، ولو كان مباديها ذهابَ الدنيا، حيث قالوا: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً .
4- قولُه: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ التَّعريفُ في الْيَمِينِ والشِّمَالِ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: يمينَ الكهْفِ وشِمالَه؛ فيدُلُّ على أنَّ فَمَ الكهْفِ كان مفتوحًا إلى الشِّمالِ الشَّرقيِّ؛ فالشَّمسُ إذا طلعَتْ تطلُعُ على جانبِ الكهْفِ ولا تخترِقُه أشعَّتُها، وإذا غربَتْ كانت أشعَّتُها أبعدَ عن فَمِ الكهْفِ منها حينَ طُلوعِها، وهذا وضْعٌ عجيبٌ يسَّرَه اللهُ لهم بحكمتِه؛ ليكونَ داخلُ الكهْفِ بحالةِ اعتدالٍ، فلا يَنتابُ البِلى أجسادَهم، وذلك من آياتِ قُدرةِ اللهِ .
5- قال الله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: مِن الكَهفِ، أي: مكانٍ مُتَّسِعٍ؛ وذلك لِيَطرُقَهم الهواءُ والنَّسيمُ، ويزولَ عنهم الوَخمُ والتأذِّي بالمكانِ الضَّيِّقِ، خصوصًا مع طولِ المُكثِ .
6- في قَولِه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا بيانُ فَسادِ مذهَبِ القَدَريَّةِ الذين يَزعُمونَ أنَّ العبدَ لا يَفتَقِرُ في حصولِ هذا الاهتداءِ إلى اللهِ، بل كلُّ عبدٍ عندهم فمَعَه ما يحصُلُ به الطَّاعةُ والمعصيةُ، لا فرْقَ عندهم بين المؤمِنِ والكافِرِ! ولم يَخُصَّ اللهُ المؤمِنَ عندهم بهُدًى حصلَ به الاهتداءُ !
7- دلَّ قَولُ الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا على أنَّ كلَّ مَن هداه اللهُ اهتدى، ولو هدى الكافرَ -كما هدَى المُؤمِنَ- لاهتدَى .
8- قَولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ هذا مِن حِفظِ اللهِ تعالى لأبدانِهم؛ لأنَّ الأرضَ مِن طبيعتِها أكلُ الأجسامِ المتَّصِلةِ بها، فكان مِن قَدَرِ الله أنْ قَلَّبَهم على جُنوبِهم يَمينًا وشِمالًا بقَدْرِ ما لا تُفسِدُ الأرضُ أجسامَهم -هذا على أحدِ الأقوالِ في الحكمةِ مِن تقليبِهم-، واللهُ تعالى قادِرٌ على حِفْظِهم مِنَ الأرضِ مِن غَيرِ تَقليبٍ، ولكنَّه تعالى حَكيمٌ، أراد أن تَجريَ سُنَّتُه في الكَونِ، ويَربِطَ الأسبابَ بمُسَبَّباتِها .
9- قال الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ في قَولِه: وَنُقَلِّبُهُمْ دليلٌ على أنَّ فِعْلَ النائمِ لا يُنسَبُ إليه، ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ أضاف تقلُّبَهم إليه، فلو أنَّ النَّائِمَ قال في نَومِه: (امرأتي طالِقٌ) أو: (في ذِمَّتي لفلانٍ ألفُ ريالٍ) لم يَثبُتْ؛ لأنَّه لا قَصْدَ له ولا إرادةَ له، لا في القَولِ ولا في الفِعلِ .
10- في قَولِه تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ دليلٌ على جوازِ اتِّخاذِ الكَلبِ لحراسةِ الآدميِّينِ، أمَّا حراسةُ الماشيةِ، وحراسةُ الحرثِ فقد جاءَت به السنةُ . وإذا جاز اتخاذُ الكلبِ لحراسةِ الماشيةِ والحرثِ، أو للصيدِ الذي هو كمالٌ؛ فاتِّخاذُه لحراسةِ البيتِ مِن بابِ أولَى .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا
     - قولُه: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ... يحتملُ أنْ يكونوا قال بعضُهم لبعضٍ ذلك بعدَ اليأْسِ من رُجوعِ قومِهم عن فِتْنتِهم في مَقامٍ آخرَ. ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك في نفْسِ المقامِ الَّذي خاطبوا فيه قومَهم، بأنْ غيَّروا الخِطابَ من مُواجهةِ قومِهم إلى مُواجهةِ بعضِهم بعضًا، وهو ضرْبٌ من الالتفاتِ؛ فعلى الوجْهِ الأوَّلِ يكونُ فِعْلُ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ مُستعمَلًا في إرادةِ الفِعلِ، مثْلُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ، وعلى الوجْهِ الثَّاني يكونُ الاعتزالُ قد حصَلَ فيما بين مَقامِ خِطابِهم قومَهم وبين مُخاطَبةِ بعضِهم بعضًا؛ وعلى الاحتمالينِ فقدِ اقتُصِرَ في حكايةِ أقوالِهم على المقصَدِ الأهمِّ منها في الدَّلالةِ على ثَباتِهم، دُونَ ما سِوى ذلك ممَّا لا أثَرَ له في الغرَضِ، وإنَّما هو مُجرَّدُ قَصصٍ .
     - قولُه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ الفاءُ للتَّفريعِ على جُملةِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ باعتبارِ إفادتِها معنى: اعتزلْتُم دِينَهم اعتزالًا اعتقاديًّا؛ فيُقدَّرُ بعدَها جُملةٌ نحوُ: اعْتَزِلوهم اعتزالَ مُفارقةٍ، فأْوُوا إلى الكهفِ، أو يُقدَّرُ: وإذِ اعتزَلْتُم دِينَهم يُعذِّبونكم، فأْوُوا إلى الكهفِ .
     - قولُه: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا فيه تَقديمُ لَكُمْ في الموضعينِ؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكَونِ المُؤخَّرِ من مَنافعِهم، والتَّشويقِ إلى وُرودِه .
     - ويَنْشُرْ مجزومٌ في جوابِ الأمْرِ، وهو مَبْنيٌّ على الثِّقةِ بالرَّجاءِ والدُّعاءِ، وساقُوه مَساقَ الحاصلِ؛ لشِدَّةِ ثِقَتِهم بلُطْفِ ربِّهم بالمُؤمِنين .
2- قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا
     - قولُه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ... بَيانٌ لحالِهم بعدَما أوَوا إلى الكهفِ، وقد أوجَزَ مِن الخبَرِ أنَّهم لمَّا قال بعضُهم لبعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أنَّهم أوَوا إليه، والتَّقديرُ: فأخَذوا بنَصيحتِه، فأوَوا إلى الكهْفِ، ودَلَّ عليه قولُه في صَدْرِ القصَّةِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ؛ فرَدَّ عجُزَ الكلامِ على صَدْرِه .
     - والإتيانُ بفعْلِ المُضارَعةِ تَزَاوَرُ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك كلَّ يومٍ .
     - قولُه: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ إلى المذكورِ من قولِه: وَتَرَى الشَّمْسَ؛ للتَّعظيمِ، والجُملةُ مُعترِضةٌ في خِلالِ القصَّةِ؛ للتَّنويهِ بأصحابِها .
     - قولُه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا استئنافٌ بيانيٌّ لِما اقتضاهُ اسمُ الإشارةِ من تَعظيمِ أمْرِ الآيةِ وأصحابِها ، والمُرادُ بقولِه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ إمَّا الثَّناءُ عليهم، أو التَّنبيهُ على أنَّ أمثالَ هذه الآياتِ كثيرةٌ، ولكنَّ المُنتفِعَ بها مَن وفَّقَه اللهُ للتَّأمُّلِ فيها، والاستبصارِ بها .
3- قوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
     - قولُه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ عطْفٌ على بقيَّةِ القصَّةِ، وما بينهما اعتراضٌ، وهذا انتقالٌ إلى ما في حالِهم من العِبْرةِ لمَن لو رآهم مِن النَّاسِ، مُدمجٌ فيه بَيانُ كَرامتِهم، وعظيمِ قُدرةِ اللهِ في شأنِهم، وهو تعجُّبٌ من حالِهم لمَن لو رآهُ من النَّاسِ .
     - وصِيغَ فِعْلُ (تَحْسَبُهُمْ) مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك يتكرَّرُ مُدَّةً طويلةً .
     - والإتيانُ بالمُضارعِ وَنُقَلِّبُهُمْ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ بحسَبِ الزَّمنِ المَحكيِّ، ولا يلزَمُ أنْ يكونوا كذلك حين نُزولِ الآيةِ ، وفيه مَزيدُ اعتناءِ اللهِ بهم؛ حيث أسنَدَ التَّقليبَ إليه تعالى، وأنَّه هو الفاعلُ ذلك .
     - قولُه: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ... الاطِّلاعُ افتعالٌ مِن (طلَعَ)، وصِيغَ الافتعالُ؛ للمُبالَغةِ في الارتقاءِ، وضُمِّنَ معنى الإشرافِ، فعُدِّيَ بـ (على) .
     - وتأخَّرَ قولُه: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا عن ذِكْرِ التَّوليةِ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ منهما في التَّرتُّبِ على الاطِّلاعِ؛ إذ لو رُوعِيَ تَرتيبُ الوُجودِ لَتَبادرَ إلى الفَهمِ ترتُّبُ المجموعِ من حيث هو هو عليه، وللإشعارِ بعدَمِ زَوالِ الرُّعبِ بالفِرارِ كما هو المُعتادُ .
     - وانتصَبَ رُعْبًا على تَمييزِ النِّسبةِ المُحوَّلِ عن الفاعلِ في المعنى؛ لأنَّ الرُّعبَ هو الَّذي يمْلَأُ، فلمَّا بُنِيَ الفعْلُ إلى المجهولِ لقصْدِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، صار ما حَقُّه أنْ يكونَ فاعلًا تَمييزًا، وهو إسنادٌ بديعٌ حصَلَ منه التَّفصيلُ بعدَ الإجمالِ .