موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (88- 91)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريبُ الكَلِمات:

فِئَتَيْنِ: فِرْقَتينِ مُختلفتينِ، مُثنَّى فِئة، وهي: الجماعة المُتظاهرةُ الَّتي يرجِع بعضُهم إلى بعضٍ في التعاضُد يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 133)، ((المفردات)) للراغب (ص: 650)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 701). .
أَرْكَسَهُمْ: نَكَّسَهم وردَّهم في كُفرِهم، وأصل الرِّكْسِ: قلبُ الشَّيءِ على رأسِه، وردُّ أوَّله إلى آخره يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 133) ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 54)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/434)، ((المفردات)) للراغب (ص: 364)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 69)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 142). .
يَصِلُونَ: يَنتسِبون، أو يتَّصلون بقوم، والاتِّصالُ: اتِّحادُ الأشياء بعضها ببعض كاتِّحاد طرفَي الدائرة، والاتصالُ ضدُّ الانفصال، والوصلُ: ضِدُّ الهِجرانِ، وأصل (وصل): يدُلُّ على ضَمِّ شيءٍ إلى شيءٍ حتَّى يَعلَقَه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 133)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/115)، ((المفردات)) للراغب (ص: 873)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 69). .
مِيثَاقٌ: أي: عقدٌ وعَهْدٌ مؤكَّد بيمينٍ، أو عهدٌ مُحكَم، وأصلُه: العقدُ والإحكام يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .
حَصِرَتْ: أي: ضاقتْ عن قِتالكم، والحصْر: التَّضييق، وأصل (حصر): الحَبْسُ والمَنْعُ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 134)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 238)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 69)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 410). .
اعْتَزَلُوكُمْ: اجتَنبوُكم، والاعتزال: تجنُّب الشَّيء؛ عمَالةً كانتْ أو براءةً، وأصلُ (عزل): يدلُّ على تنحيةٍ وإمالةٍ يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/307)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564). .
السَّلَمَ: أي: الصُّلح، والسَّلَم اسمٌ بإزاء الحَرْب، وهو أيضًا التَّعرِّي من الآفاتِ الظَّاهرة والباطنة، والاستسلامُ والانقياد، وأصل (سلم): يدلُّ على الصِّحَّة والعافية يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 81، 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/90)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421، 423)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 31)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106، 142). .
الْفِتْنَةِ: أي: الشِّرْكِ والكُفر، والشَّرِّ والعذاب، وهي في الأصْل: الاختِبار والابتلاء والامتِحان؛ مأخوذة من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رَداءتِه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472- 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139- 140). .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصْل السُّلطان: القوَّة والقهر، مِن التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطان سُلطانًا يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .

المَعْنى الإجماليُّ:

يُخاطب اللهُ تعالى المؤمنين: ما شأنُكم في المنافقين فِئتَينِ مختلفتَينِ؛ فئةً تُكَفِّرُهم، وفئةً لم تكفِّرْهم، والحالُ أنَّ الله ردَّ هؤلاءِ المنافقين إلى الكُفر، وأوْقَعَهم فيه؛ بما عَمِلُوه واقترفُوه من السَّيِّئات، فلا ينبغي الشكُّ فيهم، فهل يريد الشَّاكُّون في أمرِهم من المؤمنين أن يَهْدُوا مَنْ خَذَلَه الله ولم يُرِدْ هِدَايَته، بلِ الشَّأْنُ أنَّ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فلا سبيلَ إلى هدايتِه أبدًا.
ثمَّ يُخبِرُ الله تعالى المؤمنينَ أنَّ هؤلاء المنافقين يَرْجُون أن يقع المؤمِنون في الكُفر كما وقعوا هم فَيَسْتَوُوا معهم، ناهيًا سبحانه عبادَه المؤمنين أنْ يتَّخذوا من المنافقينَ أولياءَ حتَّى يُؤمِنوا ويُهاجروا في سبيل الله؛ مِنْ دارِ الكفر وأهلِه إلى دار الإسلام وأهلِه، فإنْ أعْرَضُوا عن الإيمانِ والهِجْرة فَلْيُقاتِلْهمُ المؤمنونَ ويأسِرُوهم ويَقْتُلوهم أينما وَجَدُوهم، ولا يُوالُوا منهم أحدًا، ولا يَتَّخِذوا منهم نصيرًا.
ثمَّ استثْنَى الله تعالى من هؤلاء المنافقينِ الَّذين أوْجَبَ قتالَهُم وأخْذَهم أسْرى، مَنْ لجأ إلى قومٍ بينهم وبينَ المؤمنين هُدْنة بترْك القِتال، فَلْيجْعَلُوا حُكْمَ هؤلاء المنافقين كحُكْمِ هؤلاء المُهَادَنينَ، أو إنْ أتى هؤلاء المنافقونَ المؤمنينَ وقد أبغضوا قتالَهم، وأبغضوا القتالَ مع المؤمنين ضدَّ قَوْمِهم، فلا هُمْ مع المؤمنين ولا ضِدُّهم، فَلْيَتْرُكِ المؤمنون قتالَهُم أيضًا، ولو شاء الله لسلَّط هؤلاء المنافقين على المؤمنين فَقَاتلوهم، ولكنْ لِلُطْفه بهم كفَّهُم عنهم، فإنِ انْصَرَف المنافقون عن قتال المؤمنين وآثروا المُسالمة والصُّلح، فعندها لا يُبيحُ الله للمؤمنين قتلَهُم ولا غُنْمَ أموالهم ولا سَبْيَهم أو سَبْيَ ذَرَارِيِّهم.
ثمَّ يُخبِر اللهُ تعالى المؤمنين أنَّهم سيجِدُون صِنْفًا آخرَ من المنافقين، يُريدون أن يأمَنُوهم فيُظْهِرون الإسلام، ويريدون كذلك أن يَأْمَنوا قَومَهم الكُفَّارَ فيعبُدون مع قومهم ما يَعْبُدونه مِنْ دُون الله، كَلَّما دُعُوا إلى الشِّرْك والكفْرِ بالله تعالى أجابوا، فازدادوا تعمُّقًا فيهما، فهؤلاء الصِّنفُ من المنافقين إنْ لَمْ يَتْرُكوا قتالَ المؤمنين ويَمِيلوا للمُسالَمَة والصُّلح، فَلْيُقاتلْهم المؤمنون وَلْيَأسِرُوهم وَلْيَقْتُلوهم أينما وَجَدُوهم، وقد جعل الله للمؤمنين حُجَّةً واضِحةً على هؤلاء في استِحْقَاقهم للقتل.

تفسير الآيات:

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
هذه الآيةُ تفريعٌ عن أخبارِ المنافقينَ الَّتي تقدَّمَت؛ لأنَّ ما وُصِف من أحوالهم لا يترُكُ شكًّا عند المؤمنين في خُبْثِ طَوِيَّتِهِم وكُفْرِهم. وقيل: هي تفريعٌ عن قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا فقد حدَّث الله تعالى عنهم بما وُصِف من سابِقِ الآيِ، فلا يَحِقُّ التَّردُّد في سوءِ نواياهم وكفْرِهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/148). .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
فَلِمَ اختلفْتُم- أيُّها المؤمنون- في شأنِ المنافقين على قَوْلَينِ؛ ما بين مُكَفِّرٍ لهم وغَيْرِ مكفِّرٍ؟ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/280)، ((تفسير ابن كثير)) (2/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/49-50). .
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
أي: والحالُ أنَّ الله تعالى قد ردَّهُم إلى الكُفرِ وأوقَعَهُم فيه؛ بسَببِ ما اقْتَرفوه مِن آثامٍ وسيِّئاتٍ؛ فلا يَنبغي لكم أنْ تَشْتَبِهوا فيهم، ولا تَشكُّوا، بل أمْرُهم واضحٌ غيرُ مُشكِل، فالصَّوابُ مع مَن قال: إنَّهم كافِرون يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/50). .
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
أي: أتودُّون- أيُّها المؤمنون- أنْ تُوَفِّقُوا للإقْرَارِ بدِينِ اللهِ تعالى والدُّخول فيه مَنْ خَذَلَه اللهُ عنه فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/289)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/50). ؟
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
أي: ومَنْ خَذَلَه الله تعالى عن دِينِه فلم يوفِّقْه لسُلُوك طريقِ الهدى، فلا طريقَ له إليه، ولا مَخْلصَ له إليه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/289-290)، ((تفسير ابن كثير)) (2/371)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/50). .
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قال تَعَالى قبل هذه الآية: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وكان ذلك استفهامًا على سبيل الإنكار- قرَّر ذلك الاستبعادَ بأنْ قال: إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم يتمنَّوْن أنْ تصيروا- أيُّها المسلمون- كُفَّارًا، فلمَّا بلغُوا في تعَصُّبِهم في الكفر إلى هذا الحدِّ فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم؟ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/170).
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً
أي: إنَّ هؤلاءِ المنافقِينَ الَّذين اختلفتُم فيهم- أيُّها المؤمنون- إلى فِئتينِ، يتمنَّوْن لكم الوقوعَ في الكُفْر فتكونون كُفَّارًا مثلَهُم وتَسْتَوونَ أنتم وهُمْ في ذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/290)، ((تفسير ابن كثير)) (2/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/55-56). .
فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى للمؤمنينَ كُفْرَهم وشِدَّة غُلُوِّهم في ذلك الكُفْر، شَرَح للمؤمنين بعدَ ذلك كيفيَّةَ الْمُخَالطة معهم؛ فقال يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/170). :
فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: فلا تتَّخِذوا منهم أولياءَ وأخِلَّاءَ تُوالُونهم أو يُوالونَكم، حتَّى يُؤمِنوا ويقدِّموا إثباتًا على إيمانِهِم بمفارقَةِ دار الشِّرْك وأهلِه إلى دار الإسْلام وأهلِه؛ ابتغاءَ دينِ الله تعالى ومَرْضَاته يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/290)، ((تفسير ابن عطية)) (2/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/55-56). .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
أي: فإنْ أعْرَضُوا عنِ الإيمانِ باللهِ تعالى وترَكوا الهجرةَ في سَبِيله سبحانه، فاحْمِلوا عليهم بالقِتال وخُذُوهم أسرى، واقتلُوهم في أيِّ مكانٍ وجدتموهُم فيه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/291)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/92)، ((تفسير ابن عطية)) (2/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/152)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/314)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/58). .
وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
أي: لا تُوالُوا أيَّ أحدٍ منهم يُوالِيكم على أموركم، ويكونُ موضِعَ أسرارِكم ومَشُورتكم ومَحبَّتكم، ولا تطلُبوا من أيِّ أحدٍ منهم نُصْرةً لكم على أعدائِكُم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/291)، ((تفسير ابن كثير)) (2/371-372)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/152)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/58). .
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمرَ الله سبحانه وتعالى بِقَتْل هؤلاءِ الكُفَّارِ في الآيةِ السَّابقةِ، استثنَى مِن ذلك ما في هذه الآيةِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/171). ، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
أي: سِوَى مَن لَجَأ من هؤلاء المنافقينَ إلى قومٍ بينكم وبينهم مُهادَنَةٌ وعَهْد ومِيثاقٌ بترْك القتال, فدخلوا فيهم، فاجعلُوا حُكْمَهم كَحُكْمِهم في حَقْنِ الدِّمَاء والأمْوَال يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/292)، ((تفسير ابن كثير)) (2/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192). قال الشنقيطي: (فالاستثناء في قوله: إلا الذين يصلون إلى قوم الآية لا يرجع قولا واحدا، إلى الجملة الأخيرة، التي تليه أعني قوله تعالى: ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا; لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبدا، ولو وصلوا إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: فخذوهم واقتلوهم) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/314). .
أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ
أي: أو أَتَوْكم وقدْ ضاقتْ صُدورُهم عن قِتَالكم أو قِتَالِ قومِهِم فيُبْغِضُون قِتَالكم، ولا يَهُون عليهم أيضًا قِتَالُ قومِهم معكم؛ فلا هُمْ لكم ولا عليكم، فاتْرُكوا قِتالَ وقَتْلَ هذه الطائفةِ أيضًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/294-295)، ((تفسير ابن كثير)) (2/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192). .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الكَفُّ عن هؤلاء ممَّا قد يثْقُل على الْمُسلمينَ؛ لِمَا جرَت عليه عادةُ العرب من الشِّدَّة في أمر الْمُعاهَدِين والْمُحالَفِين وتَكْلِيفهم قتالَ كلِّ أحدٍ يقاتِلُ مُحَالفِيهم، ولو كانوا من الأهل والأقربين، قال تعالى مخفِّفًا ذلك عنهم، ومؤكِّدًا أمرَ مَنْعِ قتالِ الْمُسالِمِين يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/266). :
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
أي: ولو شاءَ الله عزَّ وجلَّ لسلَّط عليكم- أيُّها المؤمنون- هؤلاءِ المنافقين فَقَاتَلوكم، ولكِنْ مِنْ لُطْفِه بكم أنْ كَفَّهُم عنكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/296-297)، ((تفسير ابن كثير)) (2/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192). .
قيل المقصود بهم هنا: الطَّائفةُ الثَّانية يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/92)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/61). ، وقيل: كِلتَا الطَّائِفَتينِ الْمُسالِمتَيْنِ الَّلتيْنِ استثَنَاهما الله تعالى مِنْ قتالِهِم وقتلِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/296-297). .
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
أي: فإنِ انْصَرَف عن قِتالِكم هؤلاء الَّذين أمَرْتُكم بالكفِّ عن قِتَالِهِم من المنافقين، وآثَرُوا الْمُسَالمة، وصالَحُوكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/297)، ((تفسير ابن كثير)) (2/372)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/62). .
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
أي: إذا استَسْلَمَ لكم هؤلاء المنافقون صُلحًا منهم لكم، فلم يَجعلِ اللهُ تعالى لكم على أنفسِهِم وأموالِهِم وذَرَارِيِّهم ونِسائِهم طريقًا مُباحًا إلى قَتْلٍ أو سِبَاءٍ أو غَنِيمة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/298)، ((تفسير ابن كثير)) (2/372)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/62). .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر صِفةَ الْمُجِدِّين في إلْقاء السَّلَم، وتركِ قتالِ المسلمينَ، نبَّهَ على طائفةٍ أخرى مُخَادِعَة يريدون الإقامةَ في مَوَاضِعِهم مع أهلِيهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/16). .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ
أي: ستطَّلِعون- أيُّها المؤمنون- على صِنفٍ آخَرَ من المنافقين يُظْهِرون للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولأصحابه الإسلامَ؛ خوفًا منهم لِيَأْمَنوا بذلك على دِمَائهم وأموالِهِم وذَرَارِيِّهم ونسائِهِم، ويُصَانِعون قومَهُم الكُفَّارَ في الباطِنِ، فيعبدُون معهم ما يعبُدُون من دونِ الله تعالى؛ لِيَأمَنُوا كذلك عِنْدَهم على دمائِهم وأموالِهِم وذرارِيِّهِم ونسائِهِم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/300)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/65). قال السعديُّ: (فإنَّ الفِرقة الثانية ترَكوا قتالَ المؤمنين احترامًا لهم لا خوفًا على أنفسهم، وأمَّا هذه الفرقة فتركوه خوفًا لا احترامًا) ((تفسير السعدي)) (ص: 192). .
كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا
أي: كلَّما عَرَضَتْ لهم فتنةٌ بِدَعْوَتهم إلى الكُفْر والشِّرْك بالله تعالى، أجابوا إلى ذلك، فازدادُوا إيغالًا وانْهِمَاكًا في الكُفْر والشِّرْك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/300، 303)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/65). .
فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ
أي: فَهُؤلاء إنْ لم يترُكُوا قتالَكم، ولم يَسْتَسلِمُوا إليكم ويُصَالِحُوكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/303)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/65). .
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
أي: فخُذُوهم أسْرى وأَعْمِلوا فيهمُ القتْلَ أينما لَقِيتُمُوهم؛ فإنَّ دماءَهم حلالٌ لكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/303-304)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/65). .
وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
أي: وهؤلاء جَعَلْنا لكم حُجَّةً واضحةً في استحقاقِهِمُ القتلَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/304)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 192)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/66). .

الفوائد التربوية:

1- الأعمالُ تتوالدُ مِنْ جِنْسِها، فالعملُ الصَّالِح يأتي بزيادةِ الصَّالِحاتِ، والعملُ السَّيِّئُ يأتي بالمعاصِي، فالعملُ سببٌ في بُلُوغ الغاياتِ مِنْ جِنْسِه؛ يرشدنا إلى ذلك قولُ الله تعالى وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَقَد جَعَل الله ردَّ الْمُنافقين إلى الكُفْر جزاءً لِسُوءِ اعتِقَادِهِم وقلَّةِ إخلاصِهِم مع رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/169). .
2- في قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيد الله، ويتفرَّع على هذه الفائدةِ: ألَّا تَسْأَلَ الهدايةَ من الضَّلالِ إلَّا من الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تجعلَ سؤالَكَ لبعضِ النَّاسِ كيف اهتدى، تجعلُه سؤالًا عن السَّبب والطَّريقِ، وأمَّا الَّذي بِيَدِه أزِمَّةُ الأمور فهو الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال الله لِنَبِيِّه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/54). .
3- من يُهْلِكهُ الله فليس لأحدٍ طريقٌ إلى نجاته من الهلاك، يُرشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/169)، ((تفسير أبي حيان)) (4/9). .
4- التَّنْبِيه على الإخلاص، نستفيدُ ذلك من قولِ الله تعالى فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقيَّدَ الهجرةَ بكونِها في سبيل الله؛ فإنَّه ربَّما كانتِ الهِجْرةُ مِنْ دارِ الكُفْرِ إلى دار الإسلام، ومِنْ شِعَار الكفر إلى شِعَار الإسلام لغَرَضٍ من أغراضِ الدُّنيا، إنَّما الْمُعتَبَر وقوعُ تلك الهِجْرة لأجْلِ أمر الله تعالى يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/171)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/59).. .
5- التَّحذيرُ من الوقوعِ في الفِتَن، وأنَّ الإنسان كلَّما وقع في الفتنة أُرْكِسَ فيها، قال تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/67). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- الإنكارُ على المؤمنينَ في الاختِلَاف في المنافقين؛ لقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/51). .
2- قولُ الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا في هذه الآية دليلٌ على أنَّ المجتهدَ إذا استَنَد إلى دليلٍ ضعيفٍ ما كان من شأنِه أن يستدِلَّ به العالِمُ؛ لا يكون بعيدًا عن الْمَلَام- في الدُّنيا- على أنْ أَخْطَأَ فيما لا يُخطِئُ أهلُ العِلْم في مِثْلِه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/150). .
3- قوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا قد أسند الله- تعالى- فِعْل هذا الإرْكَاس إليه وقَرَنَه بسبَبِه، وهو كَسْبُ أولئك الْمُرْكَسِينَ للسَّيِّئات والدَّنَايا من قَبْلُ حتَّى فسدت فِطْرَتُهم، وأحاطت بهم خَطِيئتُهم فأَوْغَلوا في الضَّلال، وبَعُدُوا عن الْحَقِّ، حتَّى لم يَعُدْ يخطُرُ على بالِهِم ولا يَجُول في أَذْهَانِهِم إلَّا الثَّباتُ على ما هم فيه، ومقاومةُ ما عداه، مقاومةً ظاهرةً عند القُدرة، وخَفِيَّةً عند العَجْزِ، هذا هو أثَرُ كَسْبِهم للسَّيِّئات في نفوسهم، وهو أثرٌ طبيعيٌّ، وإنَّما أسندَهُ الله تعالى إليه; لأنَّه ما كان سببًا إلَّا بسُنَّتِه في تأثير الأعمالِ الاختيارِيَّة في نفوسِ العاملين يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/263). .
4- أنَّ الإنسان يُركَسُ ويُرَدُّ على الوجه المذمومِ بسبَبِ عَمَله، ويُؤخَذ من قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/51). .
5- أنَّ الأعمالَ قد تكونُ سببًا لرِدَّةِ الإنسانِ بكَثرةِ معاصيهِ، فالسَّيِّئةُ تَجذِبُ السَّيِّئةَ، والصَّغائرُ بَريدُ الكَبائرِ، والكبائِرُ بَريدُ الكُفْر، وهذا واضحٌ، يُؤخَذُ هذا من قوله: أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/52). .
6- الرَّدُّ على الجبْرِيَّة، ويُؤخَذُ من قوله: بِمَا كَسَبُوا، فأثبَتَ لهم كَسْبًا، والْجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا كَسْبَ له، وأنه مُجْبَرٌ على عَمَلِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/53). .
7- الرَّدُّ على القَدَرِيَّة أيضًا، ويؤخَذُ من قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، والقَدَرِيَّة يقولون: إنَّ أفعال العباد لا عَلَاقة لتقديرِ الله بها إطلاقًا، فصار في الآية ردٌّ على كلتا الطائفتين الْمُنحرِفَتَين الْمُبتدِعَتَيْنِ، وأهلُ السُّنَّة والجماعة يقولون: للإنسان فِعْلٌ يُنْسَبُ إليه حقيقةً، والْمُقَدِّرُ لهذا الفعلِ هو الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الْمُطابِق للمَنْقُول والمعقُول والْمَحْسُوس يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/53). .
8- أنَّ الكُفَّارَ يودُّون بكل المحبَّة أن يَكْفُر المؤمنونَ كما كفروا؛ لقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة أنَّهُم إذا كان هذا وُدَّهُم فسوف يَسْعَوْن إليه بكلِّ وسيلةٍ، سواءٌ كانت الوسيلةُ في تدميرِ الاقتصادِ، أو بالسِّلاحِ، أو بنَشْرِ الأخلاق الرَّذِيلةِ السَّافِلَة؛ لأنَّ الأخلاقَ الرَّذيلةَ السَّافِلةَ إذا انتشَرَتْ في الأُمَّةِ فعليها الوَدَاعُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/58). .
9- أنَّ بَنِي آدَمَ بطبيعتِهم يَتَسلَّى بعضُهم ببعضٍ، ويَقْوَى بعضُهم ببعضٍ؛ لقوله تعالى: كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/59). .
10- مِنْ مباحث اللَّفْظ في الآياتِ: أنَّ "الفاءَ" في قوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَوَاءً للعَطْفِ لا للجَوَاب؛ كقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/269). .
11- تحريمُ اتِّخاذ أولياءَ من الكُفَّار حتَّى يُهاجِرُوا في سبيل الله، فمَنْ تولَّى عن الهجرة في سبيل الله فليس وَلِيًّا لنا، ويجب علينا مُقاتلتُه؛ لقوله تعالى: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/59). ، ففيها الحذَرُ من مُوَالاةِ المشركينَ والمنافقينَ والْمُشْتَهرين بالزَّنْدَقَة والإلْحَاد؛ وذلك لأنَّ أعَزَّ الأشياءِ وأعْظَمَها عند جميعِ الخَلْقِ هو الدِّينُ؛ فهو الأمر الَّذي به يُتقرَّبُ إلى اللهِ تعالى، ويُتَوَسَّلُ به إلى طَلَبِ السَّعادة في الآخرة، فالعَدَاوة الحاصِلَة بسببه أعظمُ أنواع العَدَاوة، فهم مُضْمِرُون الكُفْرَ، ويحاولون ردَّ من يستطيعون ردَّه من المسلمين إلى الكفر، قال تعالى وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/170)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/60). .
12- فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ وهذا يستلزمُ عدمَ مَحبَّتهم؛ لأنَّ الوَلايةَ فرْعُ المحبَّة، ويستلزمُ أيضًا بُغْضَهُم وعداوتَهُم؛ لأنَّ النَّهيَ عن الشَّيء أمرٌ بِضِدِّه، وهذا الأمر مُوَقَّتٌ بهجرَتِهِم، فإذا هاجرُوا جَرَى عليهم ما جَرَى على المسلمينَ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 192). .
13- قولُ اللهِ تعالى: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لم يقُلِ الله تعالى: (حتَّى يُهاجِروا عن الكُفْر) مثلًا، بل قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك يَتناولُ كلَّ معاني الهجرة، فيدخل فيه مُهاجرة دارِ الكفر ومهاجَرة شعارِ الكُفْر يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/170- 171). .
14- تمامُ وفاءِ الإسلام بالعهدِ؛ حيثُ حَمَى العهْدَ لِمَن باشَرَ عَقْدَ العَهْدِ معنا ومَنْ لَجَأ إليه، ويؤخَذُ من قوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ الآية يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/62). .
15- أنَّ أفعال العِبَاد واقعةٌ بمشيئة الله؛ لقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ، فيُستَفَادُ منها الرَّدُّ على طائفةٍ مُبتدِعَةٍ زائغةٍ وهُمُ: القَدَرِيَّة، الَّذين يقولون: إنَّ فِعْلَ الإنسان مُسْتَقِلٌّ به لا علاقة لله به، ودليلُ ذلك قولُهُ تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/63). .
16- وفي قوله: فَلَقَاتَلُوكُمْ الرَّدُّ على الْجَبْرِيَّة؛ حيث نَسَب القتالَ إلى الإنسان، وهم لا ينسبون الفِعْل إلى الإنسان إلَّا على سبيل المجاز، فمثلًا: يقولون: الرَّجُل إذا صلَّى إنَّما صلَّى على سبيل المجاز، وإلَّا في الحقيقة أنَّه أُجْبِر على الصَّلاة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/63). .
17- أنَّه إذا اعْتَزَلَنَا مَنْ بيننا وبينه عَهْدٌ وأمان، ولم يقاتِلْ، وألقى السَّلَمَ وَجَبَ الكفُّ عنه؛ لقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/63). .
18- الحاصِلُ بالمفهوم أنَّهم لو أخذوا منَّا الميثاقَ ولكنَّهم خانُوا فقاتَلُونا فإنَّ العهد ينتقِضُ، ولا يكون بيننا وبينهم عهدٌ، يُؤخَذُ من مفهوم قوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/63). .
19- أنَّ من ألقى السلاح وجَبَ الكفُّ عنه؛ لقوله: فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، لكن إنْ خِيفَ أنَّ إلقاءَهُ السِّلاحَ خيانةٌ وخِداعٌ فإنَّه لا عِبْرَة بإلقائه؛ لأنَّ العَدُوَّ قد يُلْقي السِّلاحَ غَدْرًا وخيانةً، وقد ينهزم أيضًا أمام جيوشنا غَدْرًا وخيانةً، فالواجب التَّنَبُّهُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/63). .
20- أنَّ الشَّرْع مَنْعًا ودفعًا وإذنًا كلُّه لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمرَ بِيَدِ الله؛ فهو الَّذي يحكم بما شاء من حِلٍّ وحُرْمَةٍ وإيجابٍ وغيرِ ذلك يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/64). .
21- عِلْمُ الله عزَّ وجلَّ بالغيب؛ لقوله: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/66). .
22- إثباتُ الإرادة للعبدِ، وتؤخَذُ من قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/66). .
23- أنَّه لا يمكن الجمعُ بين الوَلاية والعَدَاوة، ولا يُمْكن أن يكون الإنسانُ وَلِيًّا لأولياءِ الله، وولِيًّا لأعداءِ الله، هذا شيء لا يمكنُ؛ لقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، وهذا قالَهُ في مقامِ الذَّمِّ لا في مقام المدْحِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/66). .
24- أنَّ هؤلاءِ القومَ لَمَّا لم يكونوا صادقين في الإيمان؛ كانوا كلَّما رُدُّوا إلى الفتنة أُرْكِسُوا فيها، وهكذا كل إنسانٍ ليس صادقًا في إيمانه، فإنَّه كُلَّما رُدَّ إلى الفتنة ازدادَ شرًّا وَرِكْسًا،  قال تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/67). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ: الاستفهام للإنكارِ، والتعجُّبِ مِن الانقسامِ إلى فِئتينِ في شأنِ المنافقين؛ والنَّفيُ والخِطابُ لجميعِ المؤمنين، لكنْ ما فيه مِن معنى التَّوبيخِ متوجِّهٌ إلى بعضِهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/149)، ((تفسير أبي السعود)) (2/212)، ((تفسير أبي حيان)) (4/29). .
2- قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: استئنافٌ بيانيٌّ نشَأ عن اللَّومِ والتعجُّب الذي في قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ؛ لأنَّ السَّامعين يَترقَّبون بيانَ وجْهِ اللَّوم، ويَتساءلون عمَّاذا يتَّخذون نحوَ هؤلاء المنافقين. والاستفهام للإنكار، وقد دلَّ هذا الاستفهامُ الإنكاريُّ المشوبُ باللَّومِ على جملة محذوفةٍ هي محلُّ الاستئنافِ البيانيِّ، وتقديرُها: إنَّهم قد أضلَّهم الله، أتُريدون أن تَهْدُوا من أضلَّ الله؛ هذا بناءً على أنَّ قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ليس المرادُ منه أنَّه أضلَّهم، بل المراد منه: أساءَ حالَهم، وسوءُ الحال أمرٌ مُجمَل يفتقرُ إلى البيان، فيكون فصْلُ الجملةِ فصلَ الاستئناف. وأمَّا على أنَّ المعنى: أنَّه ردَّهم إلى الكفر، تكون جملةُ أَتُرِيدُونَ استئنافًا ابتدائيًّا، ووجْه الفَصْل-أي: عدم العطفِ- أنَّه إقبالٌ على اللوم والإنكار بعدَ جملة وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ التي هي خبريَّة؛ فالفصلُ لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافِ الغرَضينِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/150). .
- وفيه تجريدٌ للخِطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانِهم مِن الفئتين، وتوبيخٌ لهم على زعْمهم ذلك، وإشعارٌ بأنَّه يؤدِّي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ مَن أضلَّه الله تعالى؛ وذلك لأنَّ الحُكمَ بإيمانهم، وادِّعاء اهتدائِهم- وهم بمَعْزلٍ من ذلك- سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/212).
- ووضْعُ الموصولِ (مَنْ) موضعَ ضميرِ المنافقين (تَهْدُوهم)؛ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِ استحالةِ الهدايةِ بما ذُكر في حيِّزِ الصِّلةِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/212-213 ). .
- وفيه توجيهُ الإنكارِ إلى الإرادةِ في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا، لا إلى مُتعلَّقها- حيث لم يَقُل: (أتهدون... إلخ)-؛ للمبالغةِ في إنكارِه ببيانِ أنَّه ممَّا لا يمكن إرادتُه، فضلًا عن إمكانِ نفْسِه، وحمْل الهدايةِ والإضلالِ على الحُكم بما يأباه يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/29)، ((تفسير أبي السعود)) (2/213). .
- قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا: فيه توجيهُ الخِطابِ إلى كلِّ واحدٍ من المخاطَبينَ؛ للإشعارِ بشُمول عدمِ الوجدان للكلِّ على طريقِ التفصيلِ. وعلى أنَّ الجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر للإنكارِ السَّابق، ومؤكِّد لاستحالة الهداية؛ فحينئذٍ يجوز أن يكون الخِطاب لكلِّ أحد ممَّن يَصلُح له مِن المخاطَبين أولًا ومِن غيرهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/213). .
3- قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كلامٌ مستأنَفٌ مسوقٌ لبيانِ غُلوِّهم وتمادِيهم في الكُفر، وتصدِّيهم لإضلالِ غَيرِهم إثرَ بيانِ كُفْرهم وضلالهم في أنفسهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/213). .
4- قوله: وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ جملةٌ جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لاستثناءِ الطائفةِ الأخيرةِ مِن حُكم الأخْذ والقَتْل، ونظْمُهم في سلكِ الطائفةِ الأولى الجارِيَة مَجرى المعاهَدِينَ مع عدَمِ تَعلُّقهم بنا، ولا بمَن عاهدونا كالطائفةِ الأولى، أي: ولو شاءَ الله لسلَّطهم عليكم بِبَسْطِ صدورهم، وتقويةِ قلوبهم، وإزالة الرُّعْب عنها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/214). .
5- قوله: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا فيه حُسْنُ بلاغة القرآن؛ حيث قال هنا: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وهناك في الآيةِ الأولى قال: حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ؛ لأنَّ اختلافَ الألفاظِ يؤدِّي إلى النَّشَاط، واتفاقها يؤدِّي إلى المَلَل غالبًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/67). .
- وعبَّر باسمِ الإشارةِ وَأُولَئِكُمْ؛ لزيادةِ تمييزِ هؤلاءِ المنافقين يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/155). .