موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (38-41)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غريب الكلمات:

خَوَّانٍ: أي: مُبالِغٍ في الخيانةِ بالإصرارِ عليها، والخِيانةُ: مُخالفةُ الحَقِّ بنَقضِ العَهدِ، وأصلُ (خون): يدُلُّ على نُقصانِ الوَفاءِ [666] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/231)، ((المفردات)) للراغب (ص: 305)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 103)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437). .
صَوَامِعُ: أي: مَنازِلُ الرُّهبانِ، جَمعُ صَومَعةٍ، وهي كلُّ بناءٍ مُتَصَمِّعِ الرَّأسِ، أي: متلاصقِه، وسُمِّيَت صومعةً؛ لانضمامِ طرَفَيْها، أو لأنَّها دقيقةُ الرَّأْسِ، وأصلُ (صمع): يدُلُّ على لَطافةٍ في الشَّيءِ وتَضامٍّ [667] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 300)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/310)، ((التلخيص في معرفة أسماء الأشياء)) للعسكري (ص: 177)، ((البسيط)) للواحدي (15/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 493)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 303)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/442). .
وَبِيَعٌ: أي: كنائِسُ النَّصارى، جَمعُ بِيعَةٍ، ولا يُعرَفُ أصلُ اشتِقاقِها، ولعَلَّها مُعَرَّبةٌ عن لُغةٍ أُخرى، قيل: هي الفارسيةُ [668] يُنظر: ((العين)) للخليل (2/265) ، ((البسيط)) للواحدي (15/431)، ((المعرب)) للجواليقي (ص: 129)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/278). .
وَصَلَوَاتٌ: أي: كَنائِسُ اليَهودِ، وهي بالعِبرانيَّةِ صَلُوتَا، وقيل: مواضعُ صلواتٍ، ويُسمَّى موضعُ العبادةِ الصَّلاةَ [669] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 293)، ((تفسير ابن جرير)) (16/583)، ((البسيط)) للواحدي (15/431)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 491)، ((تفسير القرطبي)) (12/71)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 246)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (38/440). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا: الَّذِينَ في محلِّ جرٍّ نعتٌ للمَوصولِ الأوَّلِ في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، أو بدلٌ منه. ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المَدحِ، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مُبتدأٍ.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا المصدَرُ المؤوَّلُ مَنصوبٌ على الاستثناءِ المُنقَطِعِ، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبِه؛ لأنَّه مُنقَطِعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه؛ لأنَّك لو قلتَ: (الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارِهم إلَّا أَنْ يقولوا ربُّنا اللهُ) لم يَصحَّ. وقيل: إنَّ الاستثناءَ مُتَّصِلٌ مِن عُمومِ الحَقِّ، فـ أَنْ يَقُولُوا في مَوْضِع جَرٍّ على البَدَلِ مِن حَقٍّ؛ لِما في (غَيْرِ) من معنى النَّفي، والمعنى: أُخرِجُوا بلا حَقٍّ إلَّا بِقَولِهم رَبُّنا اللهُ، أي: أُخرِجوا بغيرِ مُوجِبٍ سِوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أن يكونَ مُوجِبَ الإقرارِ والتَّمكينِ، لا الإخراجِ والتَّسييرِ. وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّهُ، ويُسمَّى عند أهلِ البَديعِ: تأكيدَ المَدحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ، ومِثلُه قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] ، أي: لا تَجِدونَ شَيئًا تَنقِمونَه غيرَ ما ذُكِرَ، وكُلُّ ذلك ليس حقيقًا بأن يُنقَمَ [670] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (15/428)، ((تفسير الزمخشري)) (3/160)، ((تفسير ابن عطية)) (4/124)، ((تفسير أبي حيان)) (7/515)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/282)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (6/299)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/275). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: إنَّ اللهَ تعالى يَدفَعُ عن المُؤمِنينَ عُدوانَ الكُفَّارِ، وكَيدَ الأشرارِ؛ لأنَّه عَزَّ وجَلَّ لا يُحِبُّ كُلَّ خوَّانٍ لأمانةِ رَبِّه، جَحودٍ لنِعمَتِه.
أَذِنَ اللهُ للمُسلِمينَ في القِتالِ؛ بسَبَبِ ما وقَعَ عليهم مِن الظُّلْمِ والعُدوانِ، وإنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على نَصرِهم، وإذلالِ عَدوِّهم؛ الذين أخرَجَهم الكُفَّارُ ظُلمًا مِن ديارِهم، لا لِشَيءٍ فَعَلوه إلَّا لأنَّهم أسلَموا وقالوا: ربُّنا اللهُ وَحْدَه. ولولا ما شَرَعَه اللهُ مِن دَفْعِ المُشرِكينَ بالمُجاهِدينَ بتشريع الجهادِ، لَخُرِّبَت الأرضُ، وهُدِّمَت فيها أماكِنُ العِبادةِ؛ مِن معابدِ الرُّهبانِ، ومعابدِ النَّصارى، ومَعابِدِ اليَهودِ، ومساجِدِ المُسلِمينَ التي يُصَلُّونَ فيها، ويَذكُرونَ اسمَ اللهِ فيها كثيرًا.
ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يجاهِدُ في سَبيلِه؛ لِتَكونَ كَلِمتُه هي العُليا؛ إنَّ اللهَ لَقَويٌّ لا يُغالَبُ، عزيزٌ لا يُرامُ.
الذينَ إنْ مكَّنَّاهم في الأرضِ، واستَخْلَفْناهم فيها، وأظهَرْناهم على عَدُوِّهم؛ أقاموا الصَّلاةَ، وأخرَجوا زكاةَ أموالِهم إلى أهلِها، وأمَروا بالمعروفِ، ونَهَوا عن المنكَرِ، ولله وَحْدَه مَصيرُ الأمورِ كُلِّها.

تفسير الآيات:

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى جُملةً مِمَّا يُفعَلُ في الحَجِّ، وكان المُشرِكونَ قد صَدُّوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عام الحُدَيبيَةِ، وآذَوا مَن كان بمكَّةَ مِن المُؤمِنينَ- أنزل اللهُ تعالى هذه الآياتِ مُبَشِّرةً المُؤمِنينَ بدَفْعِه تعالى عنهم، ومُشيرةً إلى نَصرِهم، وإذْنِه لهم في القِتالِ، وتَمكينِهم في الأرضِ برَدِّهم إلى ديارِهم، وفَتْحِ مَكَّةَ، وأنَّ عاقبةَ الأمورِ راجِعةٌ إلى اللهِ تعالى [671] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/514). .
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ يَدْفَعُ مِن دَفَع يَدفَعُ، والفِعلُ مِن طَرَفِه وَحْدَه [672] قرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب البصري. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/326). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/182)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 477، 478)، ((الكشف)) لمكي (2/120). .
2- قراءة يُدَافِعُ مِن دافَع يُدافِعُ، وهو بمعنى دفَعَ، وإن كان مِنَ المُفاعَلةِ، مِثلُ: عاقَبْتُ اللِّصَّ، وعافاه اللهُ. وقيل: على معنى تكَرُّرِ الفِعلِ؛ أي: يدفَعُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ [673] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/326). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/182)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 478)، ((الكشف)) لمكي (2/120)، ((البسيط)) للواحدي (15/422). .
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: إنَّ اللهَ يدْفَعُ شرَّ الكُفَّارِ وكَيدَ المُشرِكينَ عن عبادِه المُؤمِنينَ، فيُنَجِّيهم، ويَحفَظُهم، ويَنصُرُهم [674] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/571)، ((تفسير ابن كثير)) (5/433)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/271)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/261، 262). وهذا المعنى المذكورُ هو في الجُملة اختيار: ابنِ جَرير، وابن كَثير، وابنِ عاشور، والشِّنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وذهَب السعديُّ إلى معنًى أعمَّ من ذلك، فقال: (الله يُدافِعُ عنهم كلَّ مكروهٍ، ويَدفعُ عنهم كُلَّ شرٍّ بسَببِ إيمانِهم؛ مِن شرِّ الكفَّارِ، وشرِّ وَسوسةِ الشَّيطانِ، وشُرورِ أنفُسِهم، وسيِّئاتِ أعمالِهم، ويَحمِلُ عنهم عندَ نزولِ المكارهِ ما لا يَتحمَّلونَ، فيُخفِّفُ عنهم غايةَ التَّخفيفِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 539). .
كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مَن يَخونُ أمانَتَه فيَبخَسُ حُقوقَ اللهِ عليه، ويُخالِفُ أمْرَه ونَهْيَه، ويَخونُ حُقوقَ عِبادِه فيَنقُضُ العَهدَ الذي بينه وبينَهم، ويَجحَدُ نِعَمَ اللهِ عليه، ولا يَشكُرُه عليها [675] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/571)، ((تفسير ابن كثير)) (5/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/261، 262). .
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39).
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ يُقَاتَلُونَ على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ أي: يقاتِلُهم الكُفَّارُ [676] قرأ بها نافعٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ، وابنُ عامر، وأبو جعفر المدني. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/326). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/281)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/182)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 478، 479). .
2- قراءةُ يُقَاتِلُونَ بإسنادِ الفِعلِ إلى الفاعِلِ؛ أي: هم يُقاتِلون الكفَّارَ الذين بَدؤُوهم بالقتالِ [677] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/326). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (16/571)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/281)، ((الكشف)) لمكي (2/121)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/262). قال ابن زَنْجَلَة: (قال عاصمٌ: لو كانتْ «يُقاتِلون» بكسر التاء، ففيمَ أُذِنَ لهم؟ فكأنَّهم ذهبوا إلى أن المشركين قد كانوا بَدؤوهم بالقتال، فأذِن اللهُ لهم حين قاتلوا أنْ يُقاتِلوا مَن قاتلهم. وهو وجهٌ حسَنٌ). ((حجة القراءات)) (ص: 479). .
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.
أي: أَذِنَ اللهُ للمُؤمِنينَ في قِتالِ الكُفَّارِ الذين يُقاتِلونَهم؛ وذلك بسَبَبِ ظُلمِهم لهم، بمُحارَبتِهم في دِينِهم وأذِيَّتِهم، وإخراجِهم مِن ديارِهم [678] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/262). قال مكيُّ بن أبي طالب: (الآيةُ ناسِخةٌ عند الجَميعِ لكُلِّ ما في القرآنِ مِن الأمرِ بالصَّفحِ عنهم، والصَّبرِ على أذاهم، والمَنعِ مِن قتالِهم). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (7/4898). وقال أبو بكرِ بنُ العربيِّ: (هذه الآيةُ ناسِخةٌ لكُلِّ آيةٍ في القُرآنِ تَقتَضي التوقُّفَ عن القِتالِ؛ مِن تَركٍ وإعراضٍ، وصَفحٍ ونحوِه...)، ثمَّ ذَكَر قَولَ مَن قال: إنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ بقَولِه تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] ، وقال: (بل الآيةُ بالإذنِ في القتالِ نَسَخَت هذه الآيةَ؛ لأنَّها نَسَخَت أمثالَها بإجماعٍ مِن الأمَّةِ، ويَستحيلُ أن يبقى التَّركُ مع الأمرِ بالقتالِ، فكُلُّ ما في القرآنِ مِن نَظائِرِه فإنَّه جميعَه منسوخٌ به). ((الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم)) (2/304). ويُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) للنحاس (ص: 570). قال الشوكاني: (هذه الآيةُ مقرِّرةٌ أيضًا لمضمونِ قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ؛ فإنَّ إباحةَ القتالِ لهم هي مِن جملةِ دفْعِ اللهِ عنهم). ((تفسير الشوكاني)) (3/540). وقال ابنُ تيميَّةَ: (أوَّلُ آيةٍ نَزَلت في القتالِ قَولُه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج 39]، فأذِنَ اللهُ لهم أوَّلًا فيه، ثمَّ كُتِبَ عليهم ثانيًا فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة 216]). ((الصفدية)) (2/317). وقال البِقاعي: (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ أي: للَّذين فيهم قوَّةُ المدافعة، في المدافعةِ بالقِتالِ بعدَ أنْ كانوا يُمنَعون منه بمكَّة ويُؤمَرون بالصفح). ((نظم الدرر)) (13/56). وقال الشِّنقيطيُّ: (دلَّ قوله: يُقَاتَلُونَ على أنَّ المرادُ مَن يَصلُح للقِتالِ منهم دونَ مَن لا يصلُحُ له؛ كالأعمى والأعرجِ، والمريضِ والضعيفِ، والعاجزِ عن السَّفرِ للجِهادِ لفَقرِه). ((أضواء البيان)) (5/262). .
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
أي: وإنَّ اللهَ على نَصرِ المُؤمِنينَ على أعدائِهم لقدِيرٌ، ولو بغيرِ قِتالٍ [679] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/577)، ((تفسير ابن كثير)) (5/434)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/264، 265). قال السعدي: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فليَسْتنصروه، وليَسْتَعينوا به). ((تفسير السعدي)) (ص: 539). .
كما قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4].
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ المؤمنينَ إنما أُذِن لهم في القتالِ لأجْلِ أنَّهم ظُلِموا؛ بيَّن تعالى ظُلمَهم لهم بهذينِ الوجهينِ: أحدُهما: أنَّهم أخرجوهم من ديارِهم، والثاني: أنَّهم أخرجوهم بسبَبِ أنَّهم قالوا: رَبُّنَا اللَّهُ [680] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/229). ، فقال:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.
أي: الذين أخرَجَهم الكُفَّارُ ظُلمًا مِن دِيارِهم بغيرِ حَقٍّ يُوجِبُ ذلك، وما كان لهم ذَنبٌ يَنقِم عليهم أعداؤُهم بسَبَبِه إلَّا أنَّهم قالوا ربُّنا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له! [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/577)، ((تفسير القرطبي)) (12/69)، ((تفسير ابن كثير)) (5/435)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539).
كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] .
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ.
أي: ولولا كَفُّ اللهِ المُشرِكينَ بالمُجاهِدينَ المُوحِّدينَ، وشَرْعُه جهادَهم، لهدَّمَ المُشرِكونَ مَواضِعَ العِبادةِ التي اتُّخِذَت قبْلَ الإسلامِ مِن أتباعِ الأديانِ السَّماويَّةِ قبْلَ تَحريفِها وتَبديلِها، فأذِنَ للمُسلِمينَ بالقِتالِ كما أذِنَ لأُمَمِ التَّوحيدِ مِن قَبلِهم؛ لكيلا يطغَى عليهم المُشرِكونَ، ولولا ذلك لهَدَّموا المعابِدَ الصَّغيرةَ التي للرُّهبانِ [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/579، 586)، ((تفسير ابن عطية)) (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (12/70)، ((تفسير ابن كثير)) (5/435)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539). قال ابن عطية: (قَولُه وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ  ... الآيةَ، تقويةٌ للأمرِ بالقتالِ، وذَكَرَ الحُجَّةَ بالمصلحةِ فيه، وذكر أنَّه متقَدِّمٌ في الاسمِ، وبه صلحت الشرائِعُ، واجتمعت المتعَبَّداتُ، فكأنَّه قال: أُذِنَ في القتالِ فلْيُقاتِلِ المؤمنونَ، ولولا القتالُ والجهادُ لتُغُلِّبَ على الحَقِّ في كلِّ أمَّةٍ. هذا أصوبُ تأويلاتِ الآيةِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/124). وقال أيضًا: (ومعاني هذه الأسماءِ هي في الأُمَمِ التي لها كتابٌ على قديمِ الدَّهرِ، ولم يُذكَرْ في هذه المجوسُ ولا أهلُ الإشراك؛ لأنَّ هؤلاء ليس لهم ما تجِبُ حمايتُه، ولا يوجَدُ ذِكرُ اللهِ إلَّا عند أهلِ الشَّرائعِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/125). وقال القرطبيُّ: (أي: لولا ما شرَعه اللهُ تعالى للأنبياءِ والمؤمِنينَ مِن قِتالِ الأعداءِ لاستولَى أهلُ الشِّركِ، وعطَّلوا ما بَنَتْه أربابُ الدِّياناتِ مِن مواضِعِ العباداتِ، ولكنَّه دفَع بأنْ أوجبَ القِتالَ؛ ليتفرَّغَ أهلُ الدِّينِ للعبادةِ؛ فالجهادُ أمرٌ متقدِّمٌ في الأمَمِ، وبه صَلَحت الشَّرائعُ، واجتَمَعت المُتعبَّداتُ، فكأنَّه قال: أُذِنَ في القتالِ، فليُقاتِل المؤمِنونَ، ثم قُوِّيَ هذا الأمرُ في القِتال بقَولِه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآيةَ، أي: لولا القتالُ والجِهادُ لتُغلِّبَ على الحقِّ في كلِّ أمَّةٍ؛ فمَن  استَبشَع مِن النَّصارى والصَّابئين الجِهادَ فهو مُناقِضٌ لِمَذهبِه؛ إذ لولا القتالُ لَمَا بقِيَ الدِّينُ الذي يَذُبُّ عنه، وأيضًا هذه المواضِعُ التي اتُّخِذَت قبْلَ تحريفِهم وتبديلِهم، وقبل نسْخِ تلك المِلل بالإسلامِ: إنَّما ذُكِرَتْ لهذا المعنى، أي: لولا هذا الدَّفعُ لهُدِّمَ في زَمَنِ موسى الكنائِسُ، وفي زمَن عيسى الصَّوامِعُ والبِيَعُ، وفي زَمَنِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المساجِدُ). ((تفسير القرطبي)) (12/70). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: لولا دِفاعُ النَّاسِ عن مواضِعِ عِبادةِ المُسلِمينَ لضَرِيَ [أي: لاجْتَرأَ] المُشرِكونَ، ولَتَجاوَزوا فيه المُسلِمين إلى الاعتداءِ على ما يُجاوِرُ بلادَهم مِن أهلِ المِللِ الأخرى المُناويةِ لمِلَّةِ الشِّركِ، ولهدَّموا معابدَهم مِن صوامعَ وبِيَعٍ وصلواتٍ ومساجِدَ يُذكرُ فيها اسمُ اللهِ كثيرًا؛ قصدًا منهم لمحوِ دعوةِ التَّوحيدِ، ومَحْقًا للأديانِ المخالِفةِ للشِّركِ... ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ: لولا ما سبَق قبلَ الإسلامِ مِن إذنِ اللهِ لأُمَمِ التَّوحيدِ بقِتالِ أهلِ الشِّركِ -كما قاتَلَ داوودُ جالوتَ، وكما تغلَّب سُليمانُ على مَلِكةِ سَبَأٍ- لَمَحَق المُشرِكونَ معالِمَ التَّوحيدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/276، 277). .
كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].
وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.
أي: ولهَدَّمَ المُشرِكونَ معابِدَ كَبيرةً للنَّصارى، وكنائِسَ لليَهودِ، ومساجدَ للمُسلِمينَ، يُذكَرُ فيها [683] قيل: الضَّميرُ في فِيهَا يعودُ على أقرَبِ مذكورٍ، وهو المساجِدُ، وممَّن قال بذلك: ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/586). وقيل: هو عائدٌ على جميعِ المعابِدِ المذكورةِ: (الصَّوامِعُ، والبِيَعُ، والصَّلواتُ، والمساجِدُ)، وممن قال بذلك: السعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 539)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/278). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الضحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2497)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/241). قال ابنُ عاشور: (جملةُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا صفةٌ، والغالب في الصِّفة الواردة بعد جُمَلٍ متعاطفة فيها أنْ تَرجِع إلى ما في تلك الجُمل من الموصوف بالصِّفة؛ فلذلك قيل برُجوع صِفة يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ إلى صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ؛ للأربعة المذكورات قَبْلَها، وهي مُعاد ضمير فِيهَا. وفائدةُ هذا الوصف الإيماءُ إلى أنَّ سبب هدْمِها أنَّها يُذكَر فيها اسمُ الله كثيرًا، أي: ولا تُذكَر أسماءُ أصنام أهل الشرك؛ فإنَّهم لَمَّا أَخرجوا المسلمين بلا سببٍ إلَّا أنهم يَذْكرون اسمَ الله، فيقولون: ربُّنا الله؛ لِمَحْوِ ذِكرِ اسمِ الله مِن بلدهم؛ لا جرَمَ أنَّهم يُهدِّمون المواضعَ المجعولةَ لذِكر اسم الله كثيرًا، أي: دون ذِكر الأصنام). ((تفسير ابن عاشور)) (17/278). اسمُ اللهِ كَثيرًا [684] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/582، 586)، ((تفسير ابن عطية)) (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (12/71)، ((تفسير ابن كثير)) (5/435، 436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/278). .
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.
أي: ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يجاهِدُ في سَبيلِه؛ لِتَكونَ كَلِمتُه هي العُليا [685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/587)، ((البسيط)) للواحدي (15/434)، ((تفسير القرطبي)) (12/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 539)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/265). وقال الشِّنقيطيُّ: (بيَّن اللهُ جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّه أقسَمَ ليَنصُرَنَّ مَن يَنصُرُه، ومعلومٌ أنَّ نَصْرَ اللهِ إنَّما هو باتِّباعِ ما شرَعه؛ بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه، ونُصرةِ رُسُلِه وأتْباعِهم، ونُصرةِ دينِه، وجِهادِ أعدائِه وقَهرِهم؛ حتى تكونَ كَلِمتُه جلَّ وعلا هي العُليا، وكلمةُ أعدائِه هي السُّفلى). ((أضواء البيان)) (5/265). .
كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7] .
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أي: إنَّ اللهَ لقَوِيٌّ كاملُ القوةِ، عزيزٌ منيعٌ، غالبٌ لا يُغلَبُ ولا يُقهَرُ، ومَن كان القويُّ العزيزُ ناصِرَه، فهو المنصورُ ولو كان هو الأضعَفَ، وعَدُوُّه هو المقهورُ ولو كان هو الأقوى [686] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/587)، ((تفسير ابن كثير)) (5/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 540). .
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وصَفَ اللهُ سُبحانه نفْسَه بما يقتضي تمكينَ مَنصورِه الذي يَنصُرُه؛ وصَفَهم بما يُبَيِّنُ أنَّ قتالَهم له لا لهم، بعْدَ أن وصَفَهم بأنَّهم أُوذوا بالإخراجِ مِن الدِّيارِ، الذي يعادِلُ القَتلَ، فقال [687] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/59). :
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ.
أي: الذين إنْ وَطَّنَّا لهم في البلادِ فقَهَروا المُشرِكينَ، وصارت لهم السُّلطةُ والغَلَبةُ والمُلْكُ، أقاموا الصَّلاةَ بحُدودِها وأركانِها وشُروطِها وواجباتِها، وأعطَوا زكاةَ الأموالِ لِمُستَحقِّيها [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/587)، ((تفسير السعدي)) (ص: 540)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/280). قال القرطبي: (قال الضحَّاكُ: هو شَرطٌ شَرَطه اللهُ عَزَّ وجَلَّ على مَن آتاه المُلْكَ. وهذا حَسَنٌ). ((تفسير القرطبي)) (12/73). .
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.
أي: وأمَروا النَّاسَ بالإيمانِ وتَوحيدِ اللهِ وطاعتِه، ونَهَوهم عن الكُفرِ والشِّركِ به ومَعصِيتِه [689] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/130)، ((تفسير ابن جرير)) (16/587)، ((تفسير ابن عطية)) (4/126)، ((تفسير الألوسي)) (9/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 540). قال السعدي: (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وهذا يَشمَلُ كُلَّ معروفٍ حُسنُه شَرعًا وعَقلًا مِن حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ الآدميِّينَ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ كُلِّ مُنكَرٍ شَرعًا وعَقلًا مَعروفٍ قُبحُه، والأمرُ بالشَّيءِ والنَّهيُ عنه يدخُلُ فيه ما لا يَتِمُّ إلَّا به؛ فإذا كان المعروفُ والمُنكَرُ يتوقَّفُ على تعلُّمٍ وتعليمٍ أجبَروا النَّاسَ على التعَلُّم والتَّعليمِ، وإذا كان يَتوقَّفُ على تأديبٍ مُقدَّرٍ شَرعًا أو غيرِ مُقدَّرٍ -كأنواعِ التَّعزيرِ- قاموا بذلك، وإذا كان يَتوقَّفُ على جَعْل أُناسٍ مُتصدِّين له لزِمَ ذلك، ونحوُ ذلك ممَّا لا يتمُّ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ إلَّا به). ((تفسير السعدي)) (ص: 540). .
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
أي: وإلى الله وَحْدَه تَرجِعُ أمورُ الخَلقِ، وتَصيرُ إليه سُبحانَه [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/588)، ((البسيط)) للواحدي (15/436)، ((تفسير الشوكاني)) (3/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 540). قيل: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: في الآخرةِ. وممن قال بذلك: مقاتلُ بن سليمان، وابن جرير، والسمرقندي، والواحدي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/130)، ((تفسير ابن جرير)) (16/588)، ((تفسير السمرقندي)) (2/462). ((الوجيز)) للواحدي (ص: 735)، ((تفسير البغوي)) (3/344). قال ابنُ جرير: (يقولُ: ولله آخرُ أمورِ الخلقِ؛ يعني: أنَّ إليه مصيرَها في الثوابِ عليها، والعقابِ في الدارِ الآخرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (16/588). وقال البغوي: (يعني: آخرُ أمورِ الخلقِ ومَصيرُهم إليه؛ يعني: يُبْطَلُ كلُّ مُلْكٍ سِوَى ملكِه، فتصيرُ الأمورُ كلُّها إليه، بلا مُنازِعٍ ولا مُدَّعٍ). ((تفسير البغوي)) (3/344). وقال السعديُّ: (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: جميع الأمور تَرجِع إلى الله، وقد أخبر أنَّ العاقبة للتقوى؛ فمَن سلَّطه اللهُ على العِباد من الملوك، وقام بأمْرِ الله، كانتْ له العاقبةُ الحميدة، والحالةُ الرشيدة، ومَن تَسلَّط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوَى نفْسِه، فإنَّه وإنْ حصَل له مُلكٌ مُوقَّتٌ، فإنَّ عاقبتَه غيرُ حميدة؛ فولايتُه مشؤومة، وعاقبتُه مذمومة). ((تفسير السعدي)) (ص: 540). وقال البِقاعي: (وَلِلَّهِ، أي: المَلِكِ الأعلى المحيط بكُلِّ شيء عَاقِبَةُ الْأُمُورِ فتَمكينُهم كائنٌ لا محالةَ، لكنْ ذِكرُه للعاقبةِ وطيُّه للبادئةِ مُنبِّهٌ على أنه تعالى يَجعلُ للشيطان -كما هو المشاهَد في الأغلب- حظًّا في البادئة؛ ليتبينَ الصادقُ من الكاذب، والمزلزلُ مِن الثابت، وأمَّا العاقبةُ فهي مُتمحِّضة له إلى أنْ يكونَ آخِرُ ذلك القيامةَ التي لا يكونُ لأحدٍ فيها أمرٌ، حتى إنَّه لا يَنطِقُ أحدٌ إلَّا بإذنٍ خاصٍّ). ((نظم الدرر)) (13/60). .
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران: 109-111] .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا هذا إخبارٌ ووَعدٌ وبِشارةٌ مِن اللهِ للذين آمنوا، وكُلُّ مُؤمِنٍ له مِن هذه المدافَعةِ والفَضيلةِ بحَسَبِ إيمانِه، فمُستَقِلٌّ ومُستَكثِرٌ [691] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 539). ، فبحَسَبِ إيمانِه يكونُ دِفاعُ اللهِ عنه؛ فإنْ كَمَل إيمانُه كان دَفْعُ اللهِ عنه أتمَّ دَفعٍ، وإنْ مَزَج مُزِجَ له، وإن كان مرَّةً ومرَّةً فاللهُ له مرَّةً ومرَّةً، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: مَن أقبَلَ على اللهِ بكُلِّيَّتِه أقبل اللهُ عليه جُملةً، ومن أعرَضَ عن الله بكُلِّيَّتِه أعرضَ اللهُ عنه جملةً، ومن كان مرَّةً ومرَّةً فاللهُ له مرَّةً ومرَّةً [692] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/245). .
2- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن أخلَصَ لله، صوَّبَ النَّاسُ إليه سِهامَ مَكرِهم، ولم يَدَعوا في أذاهُ شَيئًا مِن جُهدِهم [693] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/57). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فيه التَّنبيهُ على الشُّكرِ على نِعمةِ النَّصرِ، بأن يأتُوا بما أمَرَ اللهُ به مِن أصولِ الإسلامِ؛ فإنَّ بذلك دوامَ نَصرِهم، وانتِظامَ عَقدِ جماعتِهم، والسَّلامةَ مِن اختلالِ أمرِهم، فإن حادُوا عن ذلك فقد فرَّطوا في ضَمانِ نَصرِهم، وأمْرُهم إلى اللهِ؛ فأمَّا إقامةُ الصَّلاةِ فلِدَلالتِها على القيامِ بالدِّينِ وتجديدٍ لِمَفعولِه في النفوسِ، وأمَّا إيتاءُ الزَّكاةِ فلِيَكونَ أفرادُ الأمَّةِ مُتقاربينَ في نظامِ مَعاشِهم، وأمَّا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ فلِتَنفيذِ قوانينِ الإسلامِ بين سائِرِ الأمَّةِ مِن تلقاءِ أنفُسِهم [694] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/280). .
4- في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ بيانُ شُروطِ النَّصرِ وأسبابِه، فإذا تمَّت هذه الأسبابُ حَصَل النَّصرُ، أمَّا إذا تخَلَّف واحِدٌ منها فإنَّه يَفوتُ النَّصرُ بقَدرِ ما تخَلَّفَ [695] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 5). .
5- في قَولِه تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ دَليلٌ على وُجوبِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ لأنَّ نُصرةَ اللهِ -لا محالةَ- نُصرةُ دينِه؛ إذ هو جلَّ وتعالى قَوِيٌّ عزيزٌ -كما قال- لا يُرامُ، فإنَّما الواجِبُ على أهل دينِه نُصرةُ دينِه الذي شرعَه لهم، ولا وصولَ إليه إلَّا بإيجابِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ إذ لو كانا غيرَ مفترَضينِ لَوَسِعَ القعودُ عنهما، وارتفعتِ المآثِمُ في تضييعِهما مِن أجل أنَّ أحدًا لا يُجبَرُ على عَمَلِ تَطَوُّعٍ، ولا يُحرجُ بتَركِه، وفي ذلك زوالُ النُّصرةِ عن دينِ الله، ودخولُ الوَهَن عليه، وسببُه قعودُ الآمِرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المُنكَرِ عنه، وهم قادِرونَ على التَّغييرِ، فلم يَجُزْ أن يُسَمَّى نهوضُهم إليه تطَوُّعًا [696] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/328). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا وجهُ المُفاعَلةِ (المُدافَعة): أنَّ الكُفَّارَ يَستعمِلون كُلَّ ما في إمكانِهم لإضرارِهم بالمؤمِنينَ، وإيذائِهم، واللهُ جلَّ وعلا يَدْفَعُ كَيدَهم عن المُؤمنين؛ فكان دَفْعُه جلَّ وعلا لقُوَّةٍ عَظيمةٍ، أهلُها في طُغيانٍ شَديدٍ، يُحاولونَ إلحاقَ الضَّرَرِ بالمُؤمنَينَ، وبهذا الاعتبارِ كان التعبيرُ بالمفاعلةِ في قوله: يُدَافِعُ، وإنْ كان جلَّ وعلا قادرًا على إهلاكِهم، ودفْعِ شَرِّهم عن عِبادِه المُؤمنِينَ [697] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/262). .
2- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الخَوَّان) و(الكَفور) كِلاهما صِيغةُ مُبالَغةٍ، والمُقرَّرُ في عِلمِ العَربيَّةِ: أنَّ نفْيَ المُبالغةِ في الفِعلِ لا يَستلزمُ نفْيَ أصْلِ الفِعلِ؛ فلو قُلتَ: زيدٌ ليسَ بقَتَّالٍ للرِّجالِ، فقدْ نَفيتَ مُبالَغتَه في قتْلِهم، ولم يَستلزمْ ذلك أنَّه لم يَحصُلْ منه قتْلٌ لبعضِهم، ولكنَّه لم يُبالِغْ في القَتْلِ؛ وعلى هذه القاعدةِ العربيَّةِ المعروفةِ: فإنَّ الآيةَ قدْ صرَّحتْ بأنَّ اللهَ لا يُحبُّ المُبالِغينَ في الكُفرِ والمُبالِغينَ في الخِيانةِ، ولم تَتعرَّضْ لِمَنْ يتَّصِفْ بمُطلَقِ الخِيانةِ ومُطلقِ الكُفرِ مِن غَيرِ مُبالَغةٍ فيهما، ولا شكَّ أنَّ اللهَ يُبغِضُ الخائنَ مُطلقًا، والكافِرَ مُطلقًا، وقدْ أوْضَح -جلَّ وعلا- ذلك في بعضِ المواضِعِ، فقال في الخائِنِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58] ، وقال في الكافِرِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [698] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/262).   ل عمران: 32].
3- قَولُ اللهِ تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه سؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ الكَريمةَ تَدُلُّ على أنَّ قِتالَ الكُفَّارِ مَأذونٌ فيه لا واجِبٌ، وقد جاءت آياتٌ تَدُلُّ على وجوبِه؛ كقَولِ الله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ، وقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ؟
الجَوابُ ظاهِرٌ: وهو أنَّه تعالى أَذِنَ فيه أولًا مِن غيرِ إيجابٍ، ثمَّ أوجَبَ بعد ذلك، ويدُلُّ لهذا ما قاله ابنُ عَبَّاسٍ، وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، وزَيدُ بنُ أسلَمَ، ومُقاتِلُ بنُ حَيَّانَ، وقَتادةُ، ومجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وغَيرُ واحدٍ -كما نقَلَه عنهم ابنُ كَثيرٍ وغَيرُه- مِن أنَّ آيةَ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ هي أوَّلُ آيةٍ نَزَلت في الجِهادِ، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى [699] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 158). .
4- إنَّ اللهَ تبارك وتعالى لعِظَمِ حِكمتِه في التَّشريعِ إذا أراد أن يُشَرِّعَ أمرًا شاقًّا على النُّفوسِ كان تَشريعُه على سبيلِ التَّدريجِ؛ لأنَّ إلزامَه بَغتةً في وقتٍ واحدٍ مِن غيرِ تدريجٍ: فيه مشقَّةٌ عظيمةٌ على الذين كُلِّفوا به. قالوا: فمِن ذلك الجِهادُ؛ فإنَّه أمرٌ شاقٌّ على النُّفوسِ؛ لِما فيه من تعريضِها لأسبابِ الموتِ، ومع تعريضِ النُّفوسِ فيه لأعظَمِ أسبابِ الموتِ فإنَّه يُنفَقُ فيه المالُ أيضًا، كما قال تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] ، قالوا: ولَمَّا كان الجِهادُ فيه هذا مِن المشَقَّةِ، وأراد اللهُ تَشريعَه، شَرَعه تدريجًا، فأذِنَ فيه أوَّلًا مِن غيرِ إيجابٍ، بقَولِه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآية [الحج: 39] ، ثمَّ لَمَّا استأنَسَت به نفوسُهم بسَبَبِ الإذنِ فيه أوجب عليهم قتالَ مَن قاتَلَهم دونَ مَن لم يُقاتِلْهم، بقَولِه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا [البقرة: 190] ، وهذا تدريجٌ مِن الإذنِ إلى نوعٍ خاصٍّ مِن الإيجابِ، ثمَّ لَمَّا استأنَسَت نفوسُهم بإيجابِه في الجُملةِ أوجَبَه عليهم إيجابًا عامًّا جازِمًا في آياتٍ مِن كِتابِه؛ كقَولِه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5] ، وقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] ، وقَولِه تعالى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] ... إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ [700] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/263). .
5- قولُه تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يُشيرُ إلى مَعنيَينِ:
أحدُهما: أنَّ فيه الإشارةَ إلى وعْدِه للنبيِّ وأصحابِه بالنَّصرِ على أعدائِهم، كما قال قَبْلَه قريبًا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 38] .
والمعنى الثاني: أنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يَنصُرَ المُسلِمينَ على الكافِرينَ مِن غَيرِ قِتالٍ؛ لقُدرتِه على إهلاكِهم بما شاءَ، ونُصرةِ المُسلِمينَ عليهم بإهلاكِه إيَّاهم، ولكنَّه شرَع الجِهادَ لحِكَمٍ؛ منها: اختبارُ الصادِقِ في إيمانِه، وغيرِ الصادِقِ فيه. ومنها: تَسهيلُ نَيلِ فَضلِ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ بقَتْلِ الكُفَّارِ لشُهداءِ المُسلِمينَ، ولولا ذلك لَمَا حصَّلَ أحدٌ فضْلَ الشهادةِ في سَبيلِ اللهِ، إلى غيرِ ذلك [701] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/264، 265). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يدُلُّ على حِكمةِ الجِهادِ، وأنَّ المَقصودَ منه إقامةُ دِينِ اللهِ، وذَبُّ الكُفَّارِ المُؤذِينَ للمُؤمِنينَ، البادِئينَ لهم بالاعتِداءِ، عن ظُلمِهم واعتِدائِهم- والتمَكُّنُ مِن عِبادةِ الله، وإقامةُ الشَّرائعِ الظَّاهِرةِ [702] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 539). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ فيه تَحريضٌ على القِتالِ المأذونِ فيه قَبْلُ، وأنَّه تعالى أجرى العادةَ بذلك في الأُمَمِ الماضيةِ، بأن ينتَظِمَ به الأمرُ، وتَقومَ الشَّرائِعُ، وتُصانَ المتعَبَّداتُ مِنَ الهَدمِ، وأهلُها مِن القَتلِ والشَّتاتِ [703] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/516). .
8- قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا فلولا مُدافَعةُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهم ببَعضٍ بأسبابٍ مُتعدِّدةٍ، وطُرُقٍ مُتنَوِّعةٍ قَدَريَّةٍ وشَرعيَّةٍ، وأعظَمُها وأجَلُّها وأزكاها الجِهادُ في سَبيلِه- لاستولى الكُفَّارُ الظَّالِمون، ومَحَقوا أديانَ الرُّسُلِ، فقَتَلوا المؤمِنينَ بهم، وهَدَّموا مَعابِدَهم، ولكِنَّ ألطافَ اللهِ عظيمةٌ، وأياديَه جَسيمةٌ، وبهذا وشِبْهِه يُعرَفُ حِكمةُ الجِهادِ الدِّينيِّ، وأنَّه مِن الضَّروريَّاتِ، لا كقِتالِ الظَّلَمةِ المبنيِّ على العَداواتِ والجَشَعِ، والظُّلمِ والاستِعبادِ للخَلْقِ، بل الجِهادُ الإسلاميُّ مَرماه وغَرَضُه الوحيدُ إقامةُ العَدلِ، وحُصولُ الرَّحمةِ، واستِعبادُ الخَلقِ لخالِقِهم، وأداءُ الحُقوقِ كُلِّها، ونَصرُ المظلومينَ، وقَمعُ الظَّالِمين، ونَشرُ الصَّلاحِ والإصلاحِ المُطلَقِ بكُلِّ وَجهٍ واعتِبارٍ، وهو مِن أعظَمِ محاسِنِ دينِ الإسلامِ [704] يُنظر: ((تيسير اللطيف المنان)) للسعدي (1/109). .
9- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا دَلالةٌ على أنَّ مِن الفَسادِ في الأرضِ هَدْمَ بيوتِ العبادةِ؛ لقوله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251] ، فما في آيةِ (الحجِّ) هنا تفسيرٌ لقولِه تعالى في سورةِ (البقرة): لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ؛ أو هو ذكرٌ لنوعٍ مِن الفسادِ [705] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (3/233). . وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ هذه المواضعَ المذكورةَ لا يجوزُ أن تُهْدَمَ على مَن كانَ له ذِمَّةٌ أو عهدٌ مِن الكفَّارِ [706] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/83). .
10- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ لقائلٍ أنْ يقولَ: أيُّ مِنَّةٍ على المؤمنينَ في حِفظِ الصَّوامعِ والبِيَعِ والصَّلَوَاتِ عن الهَدْمِ، حتَّى امتنَّ عليهم بذلك؟!
فالجواب: المِنَّةُ عليهم فيها أنَّ الصَّوامعَ والبِيَعَ في حَرسهِم وحِفظهم؛ لأنَّ أهلَهما مُحترَمون. أو المرادُ لهدِّمتْ صوامعُ وبِيعٌ في زَمَن عيسى عليه السَّلام، وكَنائِسُ في زمَن موسى عليه السَّلام، ومَساجِدُ في زَمنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالامتنانُ على أهلِ الأديانِ الثلاثةِ، لا على المؤمنين خاصَّةً [707] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 383، 384). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا فلولَا دفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببَعضٍ، لاسْتولَى الكُفَّارُ على المُسلِمينَ، فخرَّبوا مَعابِدَهم، وفَتنوهم عن دِينِهم؛ فدلَّ هذا على أنَّ مما شُرعِ له الجِهادُ دَفْعَ الصائِلِ والمُؤذِي، ودَلَّ ذلك على أنَّ البُلدانَ التي حَصَلتْ فيها الطُّمأنينةُ بعِبادةِ الله، وعَمَرتْ مَساجِدُها، وأُقيِمَت فيها شَعائِرُ الدينِ كُلُّها؛ مِن فَضائِلِ المجاهِدينَ، وببَركتِهم دَفَعَ اللهُ عنها الكافِرينَ [708] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 539). .
12- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا لم يَذكُرْ بُيوتَ الشِّركِ، كبُيوتِ الأصنامِ والمَشاهِدِ، ولا ذكَرَ بُيوتَ النَّارِ؛ لأنَّ الصَّوامِعَ والبِيَعَ لأهلِ الكتابِ، فالممدوحُ من ذلك ما كان مبنيًّا قبل النَّسخِ والتَّبديلِ، كما أثنى على اليَهودِ والنَّصارى والصَّابِئينَ الذين كانوا قبْلَ النَّسخِ والتَّبديلِ يُؤمِنونَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ ويَعمَلونَ صالِحًا، بخلافِ بُيوتِ الأصنامِ وبُيوتِ النَّارِ، وبُيوتِ الصَّابئةِ المُشرِكينَ [709] يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/566). .
13- الجِهادُ أمرٌ مُتقَدِّمٌ في الأُمَمِ، وبه صَلَحَت الشَّرائِعُ، واجتَمَعت المتعَبَّداتُ؛ قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [710] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/70). .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فيه تَرغيبٌ في الجهادِ مِن حَيثُ وَعَدَهم النَّصرَ [711] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/230). .
15- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فيه أخذُ العَهدِ على مَن مكَّنَه اللهُ أن يَفعَلَ ما رُتِّبَ على التَّمكينِ في الآيةِ [712] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/518). .
16- في قَولِه تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالةٌ على أنَّ إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ النَّصرِ [713] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (1/365). .
17- الحُكمُ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ مِن أعظَمِ أسبابِ تَغييرِ الدُّوَلِ، ومَن أراد اللهُ سَعادتَه جعَلَه يَعتَبِرُ بما أصاب غَيرَه، فيَسلُكُ مَسلَكَ مَن أيَّدَه اللهُ ونصَرَه، ويجتَنِبُ مَسلَكَ مَن خذَلَه اللهُ وأهانَه؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في كتابه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فقد وعَدَ اللهُ بنَصرِ مَن يَنصُرُه، ونَصْرُه هو نَصرُ كِتابِه ودِينِه ورَسولِه، لا نَصرُ مَن يَحكُمُ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ، ويتكَلَّمُ بما لا يعلَمُ [714] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/388). .
18- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ ...  دَليلٌ على أنَّه لا وَعْدَ مِن اللهِ بالنَّصرِ إلَّا مع إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ فالذين يُمكِّنُ اللهُ لهم في الأرضِ ويَجعَلُ الكَلِمةَ فيها والسُّلطانَ لهم، ومع ذلك لا يُقيمونَ الصَّلاةَ ولا يُؤتُونَ الزَّكاةَ، ولا يأمُرونَ بالمَعروفِ ولا يَنهَونَ عن المُنكَرِ- فليس لهم وَعدٌ مِنَ اللهِ بالنَّصرِ؛ لأنَّهم ليسوا مِن حِزبِه، ولا مِن أوليائِه الذين وعَدَهم بالنَّصرِ، بل هم حِزبُ الشَّيطانِ وأولياؤُه [715] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/266). !
19- قال الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ هذه الآياتُ تدُلُّ على صِحَّةِ خِلافةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ؛ لأنَّ اللهَ نَصَرَهم على أعدائِهم، لأنَّهم نَصَروه فأقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ، وأمَروا بالمعروفِ ونَهَوا عن المُنكَرِ، وقد مَكَّنَ لهم واستخلَفَهم في الأرضِ، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآيةَ [النور: 55] ، والحَقُّ أنَّ الآياتِ المذكورةَ تَشمَلُ أصحابَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلَّ مَن قام بنُصرةِ دِينِ اللهِ على الوَجهِ الأكمَلِ [716] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/266). .
20- قال تعالى: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ جَمَعتِ الآيةُ بينَ الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ -مع أنَّ كلًّا منهما آيلٌ إلى الآخَرِ- باعتبارِ أوَّلِ ما تَتوجَّهُ إليه نُفوسُ النَّاسِ عندَ مُشاهدَةِ الأعمالِ، ولِتَكونَ مَعرفةُ المعروفِ دَليلًا على إنكارِ المُنكَرِ وبالعكسِ؛ إذ بضِدِّها تَتمايَزُ الأشياءُ [717] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/281). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا استئنافٌ بَيانيٌّ، جوابًا لسُؤالٍ يَخطُرُ في نُفوسِ المُؤمنينَ، ينشَأُ مِن قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآيةَ. والكلامُ مُوجَّهٌ إلى المُؤمنينَ؛ ولذلك فافتِتاحُه بحَرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) إمَّا لمُجرَّدِ تَحقيقِ الخبرِ، وإمَّا لِتَنزيلِ غيرِ المُتردِّدِ مَنزِلةَ المُتردِّدِ؛ لشِدَّةِ انتظارِهم النَّصرَ واستبطائِهم إيَّاهُ، والتَّعبيرُ بالموصولِ الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لِمَا فيه مِن الإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وأنَّ دِفاعَ اللهِ عنهم لأجْلِ إيمانِهم [718] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/271). .
- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا لم يَذكُرْ تعالى ما يَدفَعُه عنهم؛ لِيَكونَ أفخَمَ وأعظَمَ وأعمَّ [719] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/515). . أو حُذِفَ مَفعولُ يُدَافِعُ؛ لدَلالةِ المَقامِ، أي: يُدافِعُ الكافرينَ الخائنينَ [720] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/271، 272). .
- وصِيغةُ المُفاعَلةِ يُدَافِعُ إمَّا للمُبالَغةِ، أو الدَّلالةِ على تَكرُّرِ الدَّفعِ؛ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وُقوعِ الفِعْلِ المُتكرِّرِ مِن الجانبَينِ؛ فيَبْقَى تَكرُّرُه كما في المُمارَسةِ، أي: يُبالِغُ في دَفْعِ غائلةِ المُشركينَ وضَرَرِهم الَّذي مِن جُملَتِه الصَّدُّ عَن سَبِيلِ اللهِ مُبالَغةَ مَن يُغالبُ فيه، أو يَدفَعُها عنهم مَرَّةً بعْدَ أُخرَى حسبما تَجدَّدَ منهم القصْدُ إلى الإضرارِ بالمُسلمينَ [721] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/159)، ((تفسير البيضاوي)) (4/72)، ((تفسير أبي السعود)) (6/108). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تَعليلٌ لِمَا في ضِمْنِ الوعدِ الكريمِ من الوعيدِ للمُشركينَ، وإيذانٌ بأنَّ دَفْعَهم بطَريقِ القَهْرِ والخِزْيِ [722] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/271). .
- وأفادتْ (كل) في سِياقِ النَّفْيِ عُمومَ نَفْيِ مَحبَّةِ اللهِ عن جَميعِ الكافرينَ [723] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/272). .
- وصِيغَةُ المُبالَغةِ في خَوَّانٍ كَفُورٍ؛ لبَيانِ أنَّهم كذلك، لا لتَقييدِ البُغْضِ بغايةِ الخِيانةِ والكُفْرِ، أو للمُبالَغةِ في نَفْيِ المَحبَّةِ على اعتبارِ النَّفْيِ أوَّلًا، وإيرادِ معنى المُبالَغةِ ثانيًا [724] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/108). .
وقيل: أَتى بالصِّفتَينِ على صيغة المُبالغةِ؛ لأنَّ نقائصَ الإنسانِ لا يُمكِنُه أنْ يَفعلَها خاليةً عن المبالَغةِ؛ لأنَّه يَخونُ نفْسَه بالعَزمِ أوَّلًا، والفِعلِ ثانيًا، وغَيْرَه مِنَ الخَلْقِ ثالثًا، وكذا يَخون ربَّه سُبحانَه، وهكذا في الكُفرِ وغَيرِه، ولَمَّا كانت الخيانةُ مَنبَعَ النَّقائصِ، كانت المبالَغةُ فيها أَكثَرَ [725] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/55). .
2- قولُه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فالمأْذونُ فيه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المذكورِ عليه؛ فإنَّ مُقاتَلةَ المُشركينَ إيَّاهُم دَالَّةٌ على مُقاتلَتِهم إيَّاهم دَلالةً نَيِّرةً [726] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/160)، ((تفسير البيضاوي)) (4/73)، ((تفسير أبي السعود)) (6/108). .
- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وَعْدٌ لهم بالنَّصرِ، وتأْكيدٌ لِمَا مَرَّ من العِدَةِ الكريمةِ بالدَّفعِ، وتَصريحٌ بأنَّ المُرادَ به ليس مُجرَّدَ تَخليصِهم مِن أيدي المُشركينَ، بل تَغليبُهم وإظْهارُهم عليهم. والإخبارُ بقُدرتِه تعالى على نَصْرِهم واردٌ على سَننِ الكِبرياءِ، وتأْكيدُه بكلمةِ التَّحقيقِ (إنَّ) واللَّامِ في لَقَدِيرٌ؛ لِمَزيدِ تَحقيقِ مَضمونِه، وزِيادةِ تَوطينِ نُفوسِ المُؤمنينَ، أو تَعريضٌ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ المُتردِّدِ في ذلك؛ لأنَّهم استبْطَؤوا النَّصرَ [727] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/160)، ((تفسير أبي السعود)) (6/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/274). . وأصْلُ الكلامِ: (قاتِلوا الَّذين ظَلَموكم، وإنيِّ أنصُرُكم الْبَتَّةَ)؛ فعُدِلَ إلى لفْظِ العَظمةِ والكِبْرياءِ بقولِه: أُذِنَ؛ لِمَا عُلِمَ أنَّ الآذِنَ في مِثْلِ هذا الخِطابِ مَن هو. وقيل في جانبِ المَظلومِ: لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، كأنَّه لا يُرِيدُ المُخاطَبينَ، يعني: لِمَن هذا شأْنُه وعادتُه [728] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/494). .
3- قَولُه تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
- قولُه: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ الاستثناءُ فيه مُنْقطِعٌ، بمعنى: لكنْ أُخْرِجوا بقولِهم: ربُّنا اللهُ. أو هو مِن بابِ تَعقيبِ المَدْحِ بما يُشْبِهُ الذَّمَّ؛ فيُسْتفادُ مِن ذلك تأْكيدُ عدَمِ الحقِّ عليهم بسبَبِ استِقراءِ ما قد يُتخيَّلُ أنَّه حَقٌّ عليهم. وهذا مِن تأْكيدِ الشَّيءِ بما يُوهِمُ نَقْضَه [729] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/73)، ((تفسير أبي السعود)) (6/109)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 383)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/275). .
- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ اعتراضٌ بين جُملةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج: 39] إلخ، وبينَ قولِه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ... [الحج: 41] إلخ؛ فالواوُ في قولِه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ... اعتراضيَّةٌ، وتُسمَّى واوَ الاستئنافِ، ومُفادُ هذه الجُملةِ: تَعليلُ مَضمونِ جُملةِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ إلخ؛ فتكونُ هذه الجُملةُ تَذييلًا لجُملةِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/276، 277). .
- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... ذِكْرُ الصَّوامعِ والبِيَعِ إدماجٌ [731] الإدماجُ، لُغةً: الإدخالُ؛ يُقال: أدْمَجَ الشيءَ في ثَوبٍ، إذا لَفَّه فيه. واصطلاحًا: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعل المتكلِّمُ الكلامَ الذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ؛ كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ، فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مبالغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لِيَنْتَبِهوا إلى تأْييدِ المُسلمينَ؛ فالتَّعريفُ في (النَّاس) تَعريفُ العهْدِ، أي: النَّاسَ الَّذين يَتقاتلونَ، وهم المُسلمونَ ومُشرِكو أهْلِ مكَّةَ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: لولا ما سبَقَ قبْلَ الإسلامِ مِن إذْنِ اللهِ لِأُمَمِ التَّوحيدِ بقِتالِ أهْلِ الشِّركِ، لَمَحَقَ المُشرِكونَ معالِمَ التَّوحيدِ؛ فتكونَ هذه الجُملةُ تَذييلًا لجُملةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39] ، أي: أُذِنَ للمُسلمينَ بالقِتالِ كما أُذِنَ لِأُمَمٍ قبْلَهم؛ لكَيْلا يَطْغى عليهم المُشرِكون كما طَغَوا على مَن قبْلَهم حين لم يأذَنِ اللهُ لهم بالقتالِ؛ فالتَّعريفُ في (النَّاس) تَعريفُ الجِنْسِ [732] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/276، 277). .
- قولُه: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا لمَّا كانتِ المواضِعُ كثيرةً ناسَبَ مَجِيءُ التَّضعيفِ لَهُدِّمَتْ؛ لكَثرةِ المواضِعِ؛ فتَكرَّرَ الهَدْمُ لتَكثيرِها، والأظهَرُ أنَّه قُصِدَ بها المُبالَغةُ في ذِكْرِ المُتعبَّداتِ [733] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/517، 518). . أو للمُبالَغةِ في الهَدْمِ، أي: لَهُدِّمَت هَدْمًا ناشِئًا عن غَيظٍ بحيث لا يُبْقُون لها أثَرًا [734] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/277). .
- وفيه تَرتيبٌ حَسنٌ؛ حيث قُدِّمَ الصَّوامِعُ في الذِّكْرِ على ما بعْدَه؛ لأنَّ صَوامِعَ الرُّهبانِ كانت أكثَرَ في بلادِ العرَبِ مِن غَيرِها، وكانت أشهَرَ عنْدَهم؛ لأنَّهم كانوا يَهْتَدون بأضوائِها في أسفارِهم، ويأْوونَ إليها، وتَعقيبُها بذِكْرِ البِيَعِ للمُناسَبةِ؛ إذ هي مَعابِدُ النَّصارى مِثْلُ الصَّوامعِ. وأمَّا ذِكْرُ الصَّلواتِ بعْدَهما؛ فلأنَّه قد تهيَّأَ المَقامُ لذِكْرِها. وتأْخيرُ المساجِدِ: إمَّا لأجْلِ قِدَمِ تلك وحُدوثِ هذه، وإمَّا لانتقالٍ مِن شَريفٍ إلى أشرَفَ، وإمَّا لأنَّها أعَمُّ، وشأْنُ العُمومِ أنْ يُعَقَّبُ به الخُصوصُ؛ إكْمالًا للفائدةِ [735] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/517، 518)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/279). .
- قولُه: وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا خُصَّتِ المساجِدُ بالصِّفةِ المادحةِ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا؛ دَلالةً على فَضْلِها وفَضْلِ أهْلِها [736] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/73)، ((تفسير أبي السعود)) (6/109). ، وهذا على القولِ بأنَّ الضميرَ في فِيهَا يرجِعُ إلى (مَسَاجِدُ).
- قولُه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فيه تأكيدٌ لِمَا وعَدَهُ مِن إظهارِ أوليائِه وإعلاءِ كَلِمَتِهم [737] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/161). ؛ حيث أُكِّدَ بلامِ القَسَمِ ونُونِ التَّوكيدِ في وَلَيَنْصُرَنَّ. وهذه الجُملةُ تَذييلٌ؛ لِمَا فيها مِن العُمومِ الشَّاملِ للمُسلمينَ الَّذين أخرَجَهم المُشرِكون [738] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/279). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لجُملةِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، أي: كان نَصْرُهم مَضْمونًا؛ لأنَّ ناصِرَهم قَديرٌ على ذلك بالقُوَّةِ والعِزَّةِ [739] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/279). .
4- قَولُه تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
- قولُه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بَدلٌ مِن الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وما بَينهما اعتراضٌ؛ فالمُرادُ مِن الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 41] : المهاجِرونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ بَدلًا مِن (مَن) الموصولةِ في قولِه: مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: 40] ؛ فيكون المُرادُ: كلَّ مَن نَصَرَ الدِّينَ مِن أجيالِ المُسلمينَ، أي: مكَّنَّاهم بالنَّصرِ الموعودِ به إنْ نَصَروا دِينَ اللهِ. وعلى الاحتمالينِ فالكلامُ مَسوقٌ للتَّنبيهِ على الشُّكرِ على نِعمةِ النَّصرِ بأنْ يأْتوا بما أمَرَ اللهُ به مِن أُصولِ الإسلامِ؛ فإنَّ بذلك دوامَ نَصْرِهم [740] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/280). .
- قولُه: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ تَقديمُ المجرورِ هنا؛ للاهتمامِ، والتَّنبيهِ على أنَّ ما هو للهِ فهو يُصرِّفُه كيف يشاءُ. وفيه: تأْنيسٌ للمُهاجرينَ؛ لِئلَّا يَسْتبطِئوا النَّصرَ [741] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/282). . وفيه كذلك: تأكيدٌ لِمَا وعَدَه سبحانه مِن إظهارِ أوليائِه، وإعلاءِ كَلِمَتِهم [742] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/161)، ((تفسير البيضاوي)) (4/73)، ((تفسير أبي السعود)) (6/109). .