موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (57 - 61)

ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

هُزُوًا: أي: سُخريًّا واستِهزاءً وتلعبًا .
تَنْقِمُونَ: تَكْرَهُونَ وتُنكِرون وتَعيبون، مِن نَقِمْتُ الشَّيءَ: إذا أنكرْتَه، إمَّا باللِّسانِ، وإمَّا بالعقوبةِ، وأَصْلُ (نقم): يدلُّ على إنكارِ شيءٍ وعَيبِه .
أُنَبِّئُكُمْ: أُخْبِرُكم، والنَّبأ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ من مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّي الخبَرُ نبأً لانتقالِه من مكانٍ إلى مكانٍ .
مَثُوبَةً: أي: جزاءً ثابتًا، أو ثوابًا، وهو عبارةٌ عن المنفعةِ الخالِصةِ المقرونةِ بالتعظيمِ، والمثوبةُ مختصَّةٌ بالخيرِ؛ كما أنَّ العقوبةَ مختصَّةٌ بالشرِّ .
لَعَنَهُ: طَردَه وأبْعَدَه، واللَّعْن: الطردُ والإبعادُ على سَبيل السَّخطِ .
الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنَسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه .

مشكل الإعراب:

1- قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَالْكُفَّارَ: قُرِئ بالنَّصب وبالجرِّ؛ فعلى النَّصب فهو عطفٌ على الَّذِينَ المنصوبة في قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا...، أي: لا تَتَّخِذوا المُسْتَهْزئينَ ولا الكُفَّار أولياءَ؛ فيَخرُجون مِن الوَصفِ بالهزُء واللَّعبِ. وعلى الجرِّ فهو عَطفٌ على الَّذِينَ المجرورةِ في قولِه: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا؛ ومعناها: أنَّه نَهاهُم أن يَتَّخِذوا المُستهزئينَ أولياءَ، وبيَّنَ أنَّ المُستهزئينَ صِنفانِ: أهلُ كِتابٍ مُتقَدِّمٍ؛ وهم اليَهودُ والنَّصارى، وكُفَّارٌ عبَدَةُ أوثانٍ؛ فيكونونَ موصوفينَ باللَّعب والهزء، كما وُصِف به الَّذين أُوتوا الكِتابَ؛ والمعنيانِ صَحيحانِ .
2- قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ: أُنَبِّئُكُمْ فِعلٌ وفاعِلٌ، والكاف مَفعولٌ أوَّلُ، وبِشَرٍّ جارٌّ ومَجرورٌ، وهو في مَحلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ(أُنَبِّئ) .
مَنْ لَعَنَهُ اللهُ: مَنْ: موصولةٌ بمَعْنَى الذي، وقد حَمَلَ على لفظِها فأفرَدَ في قوله: لَعَنَهُ وعَلَيْهِ، ثمَّ حَمَل على معناها فجَمَع في قوله: مِنْهُمُ القِرَدَةَ. ويجوزُ في إعرابِ مَنْ: أنْ يكونَ في محلِّ رفْع على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو مَن لَعَنه اللهُ. ويجوز أنْ يكون مَن في موضِعِ جرٍّ على البَدلِ مِن لَفْظِ بِشَرٍّ بدَلَ الشَّيءِ من الشَّيء، والتقدير: (أَؤُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللهُ). ويجوزُ أنْ يكونَ في مَوضِع نصْبٍ على البَدلِ مِن مَحلِّ قولِه: بِشَرٍّ؛ إذ محلُّه النَّصبُ، أو في مَوضِع نَصْبٍ بفِعلٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه أُنبِّئُكم، أي: أُعرِّفكم مَن لَعَنَه اللهُ .

المعنى الإجمالي:

يَنهَى اللهُ تعالى المؤمنينَ عن اتِّخاذِ أعدائِهم حُلفاءَ وأنصارًا وأعوانًا، الذين مِن صِفاتهم أنَّهم يَستهزِئونَ بشعائرِ الدِّينِ القويم ويَحتقرونها؛ مِن اليهودِ والنصارى وغيرِهم من الكفَّارِ، ثم يَأمُرُهم بتقواه في ذلك، إنْ كانوا حقًّا مؤمنينَ.
ثم يُخبِرُ اللهُ تعالى المؤمنين عن بعض مظاهرِ استهزاءِ هؤلاء الأعداءِ بالدِّين، فهم إذا سمِعوا الأَذانَ يُنادَى للصَّلاةِ اتَّخذَها هؤلاءِ الكفارُ من اليهودِ والنصارى، والمشركين سُخريةً ولعبًا؛ وذلك لكونِهم قومًا لا يَعقلونَ.
ثم يَأمُرُ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لأهلِ الكتابِ: يا أهلَ الكتابِ إنَّكم بمعاداتِكم لنا، وحَرْبِكم علينا، ما تَكْرَهون منَّا، ولا تَعِيبونَ علينا إلا إيمانَنا باللهِ، وبالقرآنِ الذي أُنزِل علينا، وإيمانَنا بما أُنْزِلَ مِن قبلُ كالتَّوراةِ والإِنجيلِ، وأنَّ أكثرَكم فاسقونَ.
ويأمُرُ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَقولَ لهم أيضًا: هل أُخْبِرُكم- يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى- بِشَرٍّ جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا مَن طردَهم اللهُ مِن رَحْمتِه، وأنزل عليهم غضبَه، ومسخَ بعضَهم إلى قرودٍ وخنازيرَ، وجعَل منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ؛ هؤلاء المذكورون بهذه الخصال القبيحة هم شرٌّ منزلةً في الدُّنيا والآخِرة مما تظنونه بنا .
ثم يُخبرُ اللهُ الذين آمنوا أنَّ المنافقين من اليهودِ إذا أَتَوهم قالوا لهم كَذِبًا: إنَّهم آمنوا، والحقيقة أنـَّهم متمسِّكون بكُفرِهم، قد دخلوا بكُفرِهم عليكم، وخرَجوا به كما قد دَخَلوا، لم ينفعْهم ما يَسمَعونه عندَكم من العِلم والمواعِظ، واللهُ تعالى هو أعلمُ بما يُسرُّونه ويُخفونَه.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ.
أي: لا تتَّخذوا- أيُّها المؤمنونَ- الَّذين يَستهزِئون بشعائرِ دِينكم، ويَرمُقونها بعينِ الاحتقارِ والسُّخرية، ويعتقدونها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ في نظرِهم الفاسدِ؛ مِن اليهودِ والنَّصارى ومن سائرِ الكفَّارِ والمشركين- لا تتَّخذوا هؤلاءِ ولا هؤلاءِ أنصارًا لكم وحُلفاءَ وأعوانًا .
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نهَى الله تعالى المؤمنين عن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّار أولياءَ، أمَرَهم بتقواه؛ فإنَّها هي الحاملةُ على امتثالِ الأوامرِ، واجتنابِ النواهي، أي: اتَّقوا اللهَ في موالاة الكفَّار، ثم نبَّه على الوصفِ الحاملِ على التقوى، وهو الإيمانُ ، فقال تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: امتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك ترْكُ اتِّخاذِ هؤلاءِ الأعداءِ لكم ولدِينِكم أولياءَ، إنْ كنتم مؤمنين حقًّا بشَرْعِ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي اتَّخذَه هؤلاءِ هُزُوًا ولعبًا .
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى عن أهلِ الكِتابِ والكفَّارِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ المسلمين هُزوًا ولعبًا، ذكَر هاهنا بَعضَ ما يتَّخِذونه مِن هذا الدِّينِ هُزوًا ولعبًا ، فقال:
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا.
أي: وإذا أذَّنْتُم للصَّلاة- أيُّها المؤمنون- سَخِرَ منها هؤلاءِ الكفَّارُ من اليهود والنصارى والمشركين، واعتقدوها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّما تقَعُ منهم السُّخريةُ بالصَّلاةِ، ويَتَّخذونُها لَعبًا؛ لعدمِ عَقلِهم، ولجهلِهم العظيمِ بربِّهم، وبمعاني عِبادَتِه وحَقيقةِ شرائِعِه، وإلَّا فلو كانتْ لهم عقولٌ راشدةٌ لعظَّموا هذه العبادةَ العظيمةَ .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى تعالى عنهم في الآيةِ السَّابقةِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ الإسلامِ هُزوًا ولَعِبًا، أمَرَ بسؤالهم: ما الذي تَنقِمون من هذا الدِّينِ، وما الذي تَجِدون فيه ممَّا يوجِبُ اتخاذَه هُزوًا ولعبًا ؟! فقال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ الذين اتَّخذوا دِينَكم هزوًا ولعبًا من أهل الكِتابِ: يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى، ما لكم علينا مِن مطعَنٍ أو عيبٍ إلَّا إيمانُنا باللهِ تعالى وبالقرآنِ الذي أُنزِلَ إلينا وبالكتُبِ الإلهيَّة السابقةِ التي أُنْزِلَت مِن قبلنا، وإلَّا إيمانُنا بأنَّ أكثرَكم خارجونَ عن طاعةِ اللهِ العظيم، ناكِبون عن الطَّريق المستقيم؛ فهل يُعدُّ هذا عيبًا؟! وكيف تَعيبوننا بهذا الذي هو أوجبُ الواجباتِ، وأعظمُ المهمَّات ؟!
كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 8-9] .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بكَّتَ اللهُ اليهودَ والنصارَى، وأقامَ الحُجَّة على هُزْئهم ولَعِبِهم بما تقدَّم، انتقَل عزَّ وجلَّ إلى ما هو أشدُّ تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، بما فيه مِن التذكيرِ بسوءِ حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائِهم على فِسقِهم، وتمرُّدِهم بأشدِّ ما جازَى اللهُ تعالى به الفاسقينَ الظَّالِمين لأنفسِهم، وهو اللَّعنُ والغَضَب، والمسخُ الصوريُّ أو المعنويُّ، وعبادةُ الطاغوتِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر أنَّ أهلَ الكتابِ يعيبونَ المسلمينَ بالإيمانِ باللهِ ورُسُلِه- ذكَر عيوبَ أهلِ الكتابِ في مقابلةِ ذلك ردًّا عليهم ، فقال:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قل- يا محمَّدُ- هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتابِ بشرٍّ عندَ اللهِ مِن الذي نَقَمتُم فيه علينا ثوابًا وجزاءً ؟
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
أي: هو مَن طَردَه اللهُ تعالى وأَبْعَدَه مِن رَحمتِه، وأحلَّ عليه غضبَه .
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ.
أي: ومَسَخَ بعضَهم إلى قردةٍ وخنازيرَ؛ خِزيًا ونكالًا في الدُّنيا .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قولِه تعالى: عَبَدَ قِراءتان:
1- عَبُدَ بجَعْل عَبُد اسمًا مُفردًا ليس بجَمْع، على وزن (فَعُل)، الذي يُفيدُ معنى المبالغةِ والكثرةِ؛ فالعَبُدُ هو المبالِغُ في العُبوديةِ المنتهِي فيها؛ كما يُقال: فَطُن وحَذُر، للبليغِ في الفِطنة والحَذَر، فيكون (وَعَبُدَ) اسمًا مُضافًا إلى الطَّاغوتِ، وهو منصوبٌ عطفًا على القِرَدَةَ ، وقيل: إنَّ (عَبُد) جمْع (عَبْد)، أي: خَدَمًا للطَّاغوتِ .
2- عَبَدَ بجَعْل عَبَدَ فعلًا ماضيًا عطفًا على لَعَنَهُ اللهُ ونُصِبَ الطَّاغُوتَ بِه .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
أي: ومَن عبَدوا الطَّاغوتَ، (وهو كلُّ ما تجاوزَ به العبدُ حَدَّه مِن معبودٍ أو مَتبوعٍ أو مطاعٍ ورضِي بذلك) .
أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
أي: هؤلاءِ الذين وصَفَهم اللهُ تعالى هُم في الحَقيقةِ شرٌّ مكانًا ومنزلةً في الدُّنيا والآخِرة عند اللهِ تعالى مِنَ المؤمنين؛ الذين نَقَمتُم عليهم إيمانَهم باللهِ وبما أُنزل إليهم وبما أُنزل مِن قَبلِهم، وهم أيضًا أشدُّ بُعدًا عن الطَّريقِ القويم .
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61).
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ.
أي: وإذا جاءَكم- أيُّها المؤمنون- هؤلاءِ المنافقون من اليهودِ ، قالوا لكم بألسنتِهم كذبًا ومكرًا: آمنَّا، والحالُ أنَّهم دخلوا وهم مُقيمونَ على كُفْرِهم الذي تَنطوي عليه قلوبُهم .
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ.
أي: وقدْ خرَجوا بالكُفرِ مِن عندِكم كما دَخَلوا به عليكم، لم يَرجِعوا بمجيئِهم إليكم عن كُفرِهم الكامِنِ فيهم، فلم يَنتفعوا بما قد سَمِعوا منكم من العِلم، ولا نجعتْ فيهم المواعظُ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ.
أي: واللهُ عالمٌ بما انطوتْ عليه قلوبُهم، وإنْ أظهروا للناسِ خلافَ ذلك؛ فإنَّ عالمَ الغيبِ والشَّهادة أعلمُ بهم منهم، وسيُجازيهم على ذلك .

الفوائد التربوية:

1- التَّحذيرُ التَّامُّ مِن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّارِ أولياءَ، وذلك بإثارة الحميَّة والغَيرةِ في قوله: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا؛ لأنَّ أيَّ إنسانٍ يشعرُ بأنَّ شخصًا يَهْزَأُ به في دِينه ويقول: هذا الدِّين لعبٌ لا فائدةَ منه؛ لا شكَّ أنَّه سيثورُ .
2- أنَّ العِلمَ قد يكون وبالًا على صاحبِه؛ لقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فإنَّ هؤلاءِ أُعطُوا العِلْمَ، ووُصِفَ لهم الرسولُ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة والإنجيل وصفًا يَجعلهم يَعرِفونه كما يَعرِفون أبناءَهم، ومع ذلك لم ينفعْهم هذا العلمُ .
3- أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ مُقتضٍ للتَّقْوى؛ لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
4- يُستفادُ من قولِه: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ تعظيمُ الصَّلاةِ حيث يُنادَى لها، وحتى يَعلمَ الناسُ دُخولَ وقتِها؛ فيُصلُّوا ويحضُروا إنْ كانوا ممَّن يجِبُ عليهم الحضورُ للجماعة .
5- أنَّ القيام بالصَّلاة دليلٌ على كمالِ العقل، وأنَّ مَن لم يهتمَّ بها فإنَّ ذلك دليلٌ على نقْصِ عقلِه؛ لقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ فتكونُ إقامةُ الصلاةِ مِن تمامِ العقولِ، والتهاونُ بها مِن نقصِ العقولِ، كما أنَّه نقصٌ في الدِّينِ .
6- أنَّه ينبغي للمؤمِنِ أن يكونَ صريحًا، فلا يُداهِن؛ لقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وهذه مقابلةٌ صريحةٌ بوصفهم بالفِسْق .
7- أنَّ العِبرةَ إنَّما تكون بالمنزلةِ عندَ الله لا عند النَّاس؛ لقوله: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ، ويتفرَّع على هذا: أنَّه يَنبغي لنا ألَّا ننظُرَ إلى منزلتنا عند النَّاسِ، وإنما ننظُرُ إلى منزلتِنا عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإذا صحَّحنا ذلك كفانا اللهُ مؤونةَ النَّاسِ .
8- يُستفادُ مِن قَوْلِه: وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ التَّحذيرُ مِن المنافقين؛ لأنَّ اللهَ لم يَقصَّ علينا قَصَصَهم أو حالَهم إلَّا لنحْذرَ، لا لنعلمَ فقط .
9- أنَّه ليس لنا أن نَحكُمَ إلَّا بما ظهَر؛ لقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ؛ لأنَّ اللهَ لم يُخبِرْنا إلَّا لنحذرَ، ولو أنَّنا بَقِينا على ما يَبدو لنا لكانَ هؤلاءِ مؤمنينَ حسَبَ ما يقولون، لكنَّ اللهَ أخبَرَنا بهذا لنحذرَهم .
10- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ تحذيرُ المرءِ مِن أن يُبطِنَ في قلبِه ما يُخالِفُ لسانَه، وهذه مسألةٌ يجب علينا أن نُعالِجَ أنفسَنا منها، احذرْ أن تُضمرَ في قلبِك ما يُخالِفُ ما تَنطِقُ به بلسانِك، أو تفعله بجوارحِك؛ يجب أن تُصفِّيَ القلبَ أوَّلًا، وتُطهِّر القلبَ، ثم بعدَ ذلك تَبني أعمالَك على حسَبِ هذه التصفيةِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا إظهارُ عداوةِ هؤلاءِ الكفَّار من أهل الكتاب والكفَّار للإسلام، وأنَّ عداوَتَهم ظاهرةٌ .
2- مشروعيَّةُ النِّداءِ للصَّلاةِ؛ لقوله: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، والنداء يعني الأذانَ، ففيه دلالةٌ على ثُبوتِ الأذانِ بنصِّ الكتابِ لا بالمنامِ وحْدَه .
3- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ أنَّه إذا كان النِّداءُ للصَّلاة مشروعًا، كان عبادةً يتقرَّب به المنادي إلى اللهِ، وهو كذلك، فالأذانُ مِن أفضلِ الأعمالِ .
4- قوله تعالى: اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا أصلٌ في تكفيرِ المُستهزئ بشيءٍ من الشَّريعةِ .
5- في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ سؤال: كيف يَنقِم اليهودُ على المسلمين مع كونِ أكثرِ اليهودِ فاسقين؟ والجواب من وجوه:
الأوَّل: قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تخصيصٌ لهم بالفِسق، فيدلُّ على سبيلِ التعريض أنَّهم لم يتَّبعوهم على فِسقهم، فكان المعنى: وما تَنقِمون منَّا إلَّا أنَّ آمنَّا، وما فسَقْنا مثلَكم.
الثاني: لَمَّا ذكَر تعالى ما يَنقِمُ اليهودُ عليهم مِن الإيمانِ بجميعِ الرُّسل، وليس ذلك ممَّا يُنقَم، ذكَر في مقابله فِسقَهم، وهو ممَّا يُنقَم، ومِثل هذا حسنٌ في الازدواج؛ يقول القائل: هل تنقم منِّي إلَّا أني عفيفٌ وأنك فاجرٌ، وأنِّي غنيٌّ وأنت فقيرٌ، فيَحسُن ذلك لإتمامِ المعنى على سبيلِ المقابلة.
والثَّالث: أنْ يكونَ الواو بمعنى (مع)، أي: وما تَنقِمون منَّا إلَّا الإيمانَ بالله مع أنَّ أكثرَكم فاسقون، فإنَّ أحدَ الخَصمين إذا كان موصوفًا بالصفات الذميمةِ، واكتسب الثاني شيئًا كثيرًا من الصِّفات الحميدة، كان اكتسابُه للصفات الحميدة مع كونِ خصمِه مكتسِبًا للصفات الذَّميمة أشدَّ تأثيرًا في وقوعِ البُغض والحسَد في قلبِ الخَصم.
والرابع: أن يكونَ على تقديرِ حذْفِ المضافِ، أي: واعتقاد أنَّكم فاسقون.
الخامس: أن يكونَ التقدير: وما تنقمون منَّا إلَّا بأنْ آمنَّا بالله وبأنَّ أكثرَكم فاسقون، يعني بسبب فسِقكِم نَقَمتُمُ الإيمانَ علينا.
السادس: يجوز أن يكون تعليلًا معطوفًا على تعليلٍ محذوف، كأنَّه قيل: وما تَنقِمون منَّا إلَّا الإيمانَ؛ لقلَّة إنصافِكم، ولأجْلِ أنَّ أكثرَكم فاسقون .
6- يُستفاد مِنْ قَوْلِه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فضيلةُ هذه الأمَّة، وأنَّ هذه الأمَّةَ لها فَضلٌ ومَزيةٌ على الأُمم السَّابقة؛ لأنَّها تؤمنُ بالله وما أُنْزِلَ إليها وما أُنْزِلَ من قبلُ، وهذا لا يوجدُ في أممٍ آخرين؛ لا يُوجد إلَّا في هذه الأُمَّة .
7- قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ النبأ إنما يُرادُ به الشيءُ المهمُّ العظيمُ؛ كما قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص: 67] ، بخلاف الخَبَر، الذي قد يكونُ في أمورٍ تافهةٍ، لكنَّ النبَأَ لا يكون إلَّا في أمورٍ مهمَّة؛ ولعلَّ ذلك- واللهُ أعلم- لأنَّ أحد اشتقاقاتِه مِن النَّبْوَة، والنَّبوة: بمعنى الارتفاعِ .
8- في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ... الآية، قد يتساءَلُ متسائلٌ: المثوبةُ مختصَّةٌ بالإحسان؛ فكيف جاءتْ في الإساءةِ؟ فالجواب: أنَّ هذا مِن الكلامِ الذي يُقصَد به الاستهزاءُ الزائد في غَيظِ المستهْزَأِ به كما يقول الرجلُ لعدوِّه: أبْشِرْ بقتْلِ ذُرِّيَّتِك ونهْبِ مالك! فهي على سبيلِ التهكُّم، أو لأنَّ المثوبةَ هنا وُضِعتْ موضِعَ عُقوبة .
9- مسَخ بعضَهم إلى قِرَدةٍ وخنازيرَ، كما في قوله: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ لما لنوعَيِ القِردةِ والخنازيرِ مِن الخسَّة والحَقارة، وما لهما في صدورِ الدَّهماءِ والخاصَّة من القُبحِ والتشويهِ، وشَناعةِ المنظَر، ونذالَة النَّفْس، وحقارة القَدْر، ووضاعة الطَّبْع، وقُبح الصوتِ، ودناءةِ الهمَّة، ممَّا ليس لغيرِهما مِن سائرِ أنواع الحيوانِ .
10- لا نَسْلَ لِمَن مُسِخوا قردةً وخنازيرَ ، فعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، ((أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، القردةُ والخنازيرُ، هي ممَّا مُسِخَ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُهلِكْ قومًا، أو يُعذِّب قومًا، فيجعل لهم نَسلًا، وإنَّ القردةَ والخنازيرَ كانوا قبلَ ذلك )) .
11- أنَّ اسمَ التَّفضيل قد يقَعُ بين شيئين لا يَشترِكان في أصلِ المعنى، فيكون المرادُ به مطلقَ الاتصاف، لا معنى التفضيل؛ لقوله سبحانه: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ؛ لأنَّ المعنى: بأشرَّ مِن ذلك، وكذلك في الخَيرِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] ، ولا خيرَ في مستقرِّ أهلِ النارِ . وقيل: إنَّ مكان هؤلاء في الآخرة شرٌّ وأضلُّ من مكان المؤمنين في الدنيا؛ لِمَا يَلحقُهم فيها من الشرِّ والضلال الحاصلِ لهم بالهموم الدنيويَّة، كسماع الأذى وغيرِه، أو أنَّ ذلك على سبيلِ التنزُّلِ والتسليمِ للخَصمِ على زعْمِه إلزامًا بالحُجَّة ؛ فيكون فيه إخراجُ الكلامِ على حسَبِ قولِهم واعتقادِهم؛ لأنَّهم لَمَّا حَكموا بأنَّ دينَ الإسلام شرٌّ، فقيل لهم: هَبُوا الأمرَ كذلك، ولكنْ لَعنةُ الله تعالى وغضبُه، والإبعادُ عن رحمتِه، والطردُ من ساحة رِضاه، ومَسْخُ الصورةِ إلى أقبحِ أنواعِ الحيوانِ وأرذَلِه، شرٌّ مِن ذلك الذي تَزعُمون أنَّه شرٌّ .
12- إثباتُ الغَضبِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وهو من الصِّفات الفعليَّة .
13- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أنَّ كلَّ مَن عبدَ غيرَ الله فقد عبدَ الطاغوت، يعني: عبَد عِبادةَ الطاغوت، يعني الطغيانَ .

بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
- الجُملةُ استئنافيَّة، جاءتْ لتأكيدِ بَعضِ مضمونِ الكلامِ الذي قَبْلَها .
- وقد رتَّب النَّهيَ عن موالاتِهم على اتِّخاذهم دِينَهم هزوًا ولعبًا؛ إيماءً إلى العلَّة، وتنبيهًا على أنَّ مَن هذا شأنُه بعيدٌ عن الموالاةِ، جديرٌ بالمعاداةِ والبغضاءِ .
2- قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه: بيانٌ للمُستهزئين، والتعرُّض لعنوانِ إيتاءِ الكِتابِ؛ لبيانِ كَمالِ شَناعتِهم، وغايةِ ضلالتِهم؛ لأنَّ إيتاءَ الكتابِ وازعٌ لهم عن الاستهزاءِ بالدِّين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابِهم .
3- قوله: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا... هذه الآيةُ كالتوكيدِ للآيةِ قَبلَها .
- وفيه: بيانٌ لاستهزائِهم بحُكم خاصٍّ من أَحكامِ الدِّينِ، بعدَ بيان استهزائِهم بالدِّين على الإطلاقِ؛ إظهارًا لكَمالِ شَقاوتِهم .
4- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ:
- في هذه الآيةِ نوعٌ طَريفٌ مِن البَلاغة، وهو توكيدُ المدحِ بما يُشبِه الذمَّ ، وهو ذائعُ الشُّهرة، ولكنَّه قَليلُ الأمثلةِ، ومنه هذه الآيةِ؛ فإنَّ الاستثناءَ بعدَ الاستفهامِ الجاري مَجرَى التوبيخِ على ما عابوا به المؤمنين مِن الإيمان يُوهِم بأنْ يأتي بعدَ الاستفهامِ ما يجب أن يُنقَمَ على فاعِلِه بما يُذَمُّ به، فلمَّا أتى بعد الاستفهامِ ما يُوجِبُ مدْحَ فاعِلِه، كان الكلامُ متضَمِّنًا تأكيدَ المدحِ بما يُشْبِه الذمَّ؛ فكأنَّه قال: أنتُم لا تَعيبونَ علينا شيئًا هو عيبٌ، بل تَعيبونَ علينا شيئًا هو كمالٌ، وهو الإيمانُ باللهِ وبما أُنزل إلَيْنا !
- وفي قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أمرٌ لرَسولِ الله بطريقِ تلوينِ الخِطابِ حيثُ قال: قُلْ مُخاطبًا الرَّسول، بعدَ نهي المؤمنينَ عن تولِّي المستهزئينَ، في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا... [المائدة: 84- 85] فأمَرَه أنْ يُخاطِبَهم، ويُبيِّن أنَّ الدِّينَ مُنزَّهٌ عَمَّا يُصحِّح صدورَ ما صدَر عنهم من الاستهزاءِ، ويُظهِرُ لهم سَببَ ما ارتكبوه، ويُلْقِمهم الحجرَ! أي: قُلْ لأولئك الفَجَرةِ .
- والاستفهامُ في قوله: هَلْ تَنْقِمُونَ إنكاريٌّ وتعجُّبي؛ فالإنكارُ دلَّ عليه الاستثناءُ، والتعجُّبُ دلَّ عليه أنَّ مفعولاتِ تَنْقِمُونَ كلَّها محامِدُ لا يحقُّ نَقمُها، أي: لا تجِدون شيئًا تنقِمونه غير ما ذُكِر .
5- قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ...
- فيه عرْضُ الخِطابِ بصِيغةِ الاستفهام هَلْ أُنَبِّئُكُمْ؛ لأنَّ ذلك أمكَنُ في النَّفْسِ، وأحضَرُ للقلب .
6- قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ فيه: وضْعُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ موضعَ الضَّمير؛ لتربيةِ المهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ، وتهويلِ أمْر اللَّعن وما تبِعه، والموصول مَنْ عبارةٌ عن المخاطبَين؛ حيث أبعدَهم اللهُ تعالى من رحمتِه، وسَخِط عليهم بكُفرِهم وانهماكِهم في المعاصي بعدَ وضوحِ الآياتِ .
7- قوله: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ جُعِلتِ الشَّرارةُ للمَكانِ، وهي لأهْلِه؛ ليكونَ أبلغَ في الدَّلالةِ على شَرارتِهم؛ ففي قوله: شَرٌّ مَكَانًا مبالغةٌ ليستْ في قولِ: (أولئك شرٌّ وأضلُّ)؛ لدخولِه في بابِ الكِنايةِ .
- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ عبارةٌ عمَّن ذُكِرت صفاتُهم الخبيثةُ، وما فيه مِن معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنْزلتِهم في الشَّرارةِ .
8- قوله: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ: أفاد دخولُ قَدْ- مع إفادتِها تقريبَ الماضي مِن الحالِ؛ ليصحَّ أن يقعَ حالًا لِمَا فيها من التوقُّع-: أنَّ أمارةَ النِّفاقِ كانتْ لائحةً عليهم .
9- قوله: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه فيه تأكيد وصْفِهم بالكُفر بتَكرار المسنَدِ إليه وَهُمْ؛ تَنْبيهًا على تحقُّقهم بالكُفْر، وتماديهم عليه؛ وأنَّ رُؤيةَ الرَّسولِ- إن كان الخطاب في جَاؤُوكُمْ للرسول- لم تُجْدِ معهم، ولم يتأثَّروا لها، وكذلك إنْ كان ضميرُ الخطاب في: وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا للمؤمنين؛ كان يَنبغي لهم أن يُؤمنوا ظاهرًا وباطنًا لِمَا يرونَ مِن المؤمنين من التصديقِ للرَّسولِ، والاعتمادِ على الله تعالى، والرَّغبة في الآخرة، والزُّهد في الدُّنيا، وهذه حالُ مَن ينبغي موافقتُه؛ فكان يَنبغي لهم ألَّا يَخرُجوا بالكفر؛ لأنَّ رُؤيتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كافيةٌ في الإيمانِ، ألَا ترى إلى قولِ بعضِهم حين رأى الرسولَ: علمتُ أنَّ وجْهَه ليس بوجهِ كذَّابٍ، مع ما يَظهَرُ لهم مِن خوارقِ الآياتِ، وباهِرِ الدَّلالاتِ، فكان المناسبُ أنَّهم وإنْ كانوا دخلوا بالكفر ألَّا يَخرُجوا به، بل يخرجون بالرسولِ مُؤمنِينَ ظاهرًا وباطنًا، وكان ينبغي إذْ شاهدوهم أن يَتَّبعوهم على دِينهم، وأن يكونَ إيمانُهم بالقولِ موافقًا لاعتقاد قلوبِهم . وفيه- مع تأكيد إضافةِ الكُفرِ إليهم- نفْيُ أن يكونَ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك فِعلٌ .
10- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ خبرٌ الغرضُ منه المبالغةُ فيما في قلوبِهم من الجدِّ والاجتهادِ في المكرِ بالمسلمين، والكيدِ بهم، والبُغض والعداوةِ لهم ، وفيه: وعيدٌ شديدٌ لهم؛ فعِلمُه محيطٌ بهم وسَيجزيهم عليه .