موسوعة التفسير

سورةُ البُرُوجِ
الآيات (1-9)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

الْبُرُوجِ: أي: النُّجومِ؛ لأنَّها تتبَرَّجُ، أي: تظهَرُ، أو مَنازِلِ الشَّمسِ والقَمَرِ، وهي اثنا عَشَرَ بُرجًا، وسُمِّيت بالبُروجِ؛ لأنَّها بالنِّسبةِ لهذه الكواكِبِ كالمنازِلِ لساكِنيها، وأصلُ (برج): البُروزُ والظُّهورُ، وأيضًا الملجأُ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 522)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/238)، ((تفسير ابن عطية)) (5/460)، ((تفسير الألوسي)) (15/294). .
الْأُخْدُودِ: أي: الشَّقِّ العَظيمِ في الأرضِ يُحفَرُ مُستطيلًا، وأصلُ (خدد): يدُلُّ على امتدادٍ إلى السُّفلِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 522)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/149)، ((المفردات)) للراغب (ص: 275)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 457). .
الْوَقُودِ: أي: الحَطَبِ المَجعولِ للاتِّقادِ، وأصلُ (وقد): يدُلُّ على اشتِعالِ النَّارِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 43)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 879). .
نَقَمُوا: أي: كَرِهُوا وأنكَروا وعابُوا، وأصلُ (نقم): يدُلُّ على إنكارِ شَيءٍ وعَيْبِه [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/574)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 139)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/464)، ((المفردات)) للراغب (ص: 822)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 84)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 322). .
الْعَزِيزِ: أي: الَّذي اتَّصَف بالعِزَّة التَّامَّةِ: عِزَّةِ القَدْرِ -فهو عظيمُ القَدْرِ، لا يَبلُغُ أحدٌ قَدْرَه، فلا مِثلَ له، ولا نَظيرَ-، وعِزَّةِ القَهْرِ -فهو قاهرٌ غالِبٌ لا يَغلِبُه شَيءٌ-، وعِزَّةِ الامتِناعِ، فهو مُمْتَنِعٌ عليه النَّقصُ بأيِّ وجْهٍ مِنَ الوُجوهِ، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ وما ضاهاهما مِن غَلَبةٍ وقَهْرٍ [9] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) للزَّجَّاجي (ص: 239)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/241)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/10)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 40)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 36). قال الخَطَّابيُّ: (والعِزُّ في كلامِ العَرَبِ على ثلاثةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: بمعنَى الغَلَبةِ، ومنه قولُهم: مَنْ عزَّ بزَّ، أي: مَنْ غَلَب سَلَبَ... والثَّاني: بمعنَى الشِّدَّةِ والقوَّةِ... والوجهُ الثَّالثُ: أنْ يكونَ بمعنَى نَفاسةِ القَدْرِ... فيتأوَّلُ معنى العزيزِ على هذا؛ أنَّه الَّذي لا يُعادِلُه شَيءٌ، وأنَّه لا مِثلَ له ولا نَظيرَ). ((شأن الدعاء)) (ص: 47، 48). وقال الزَّجَّاجي: (العزيزُ في كلامِ العربِ على أربعةِ أوجُهٍ: العزيزُ: الغالبُ القاهرُ، والعِزَّةُ: الغَلَبةُ، والمُعازَّةُ: المُغالَبةُ، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص: 23] ، أي: غلَبَني في مُحاوَرةِ الكلامِ... والعزيزُ: الجليلُ الشَّريفُ، ومنه قولُهم: إذا عَزَّ أخوك فهُنْ، وقولُهم: فُلانٌ يَعتَزُّ بفُلانٍ، أي: يَتجالَلُ به ويَتشرَّفُ ويَتكبَّرُ. وكذلك قولُه عزَّ وجلَّ: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] ، أي: لَيُخرِجَنَّ الجليلُ الشَّريفُ منها الذَّليلَ... والوجهُ الثَّالثُ: أن يكونَ العزيزُ بمعنى القويِّ... والوجهُ الرَّابعُ: أن يكونَ العزيزُ بمعنى الشَّيءِ القليلِ الوُجودِ، المُنقطِعِ النَّظيرِ، يُقالُ: عزَّ الشَّيءُ عِزَّةً فهو عزيزٌ؛ غيرُ موجودٍ. فهذه أربعةُ أوجُهٍ في العزيزِ، يجوزُ وصْفُ الله عزَّ وجلَّ بها؛ يُقالُ: «اللهُ العزيزُ» بمعنى الغالِبِ القاهِرِ، و«اللهُ العزيزُ» أي: هو الجليلُ العظيمُ، و«اللهُ العزيزُ» بمعنى القويِّ... و«اللهُ العزيزُ» أي: هو غيرُ مَوجودِ النَّظيرِ والمِثلِ جلَّ وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا). ((اشتقاق أسماء الله)) (ص: 237). وقال ابن القيِّم: (والعِزَّةُ يُرادُ بها ثلاثةُ مَعانٍ: عزَّةُ القوَّةِ، وعزَّةُ الامتِناعِ، وعزَّةُ القهرِ، والرَّبُّ تبارك وتعالى له العزَّةُ التَّامَّةُ بالاعتِباراتِ الثَّلاثِ). ((مدارج السالكين)) (3/241). .
الْحَمِيدِ: أي: المحمودِ على كلِّ حالٍ، وفي جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والمحمودِ على ما لَه مِن الكَمالِ، وعلى نِعَمِه الَّتي أنْعَمها على خَلْقِه، المُستحِقِّ لكلِّ حمْدٍ، والحمدُ إخبارٌ عن مَحاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وإجلالِه وتَعظيمِه، وقيل: هو أيضًا بمعنى حامِدٍ، يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه، وأصلُ (حمد): يدُلُّ على خِلافِ الذَّمِّ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/571)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/100)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 256)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/93)، ((تفسير ابن كثير)) (1/699)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208، 758)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). .
شَهِيدٌ: أي: شاهِدٌ، حاضرٌ، مُطَّلِعٌ، فلا يَغيبُ عنه شَيءٌ، يَسمَعُ جميعَ الأصواتِ خَفِيِّها وجَلِيِّها، ويُبصِرُ جميعَ الموجوداتِ دقيقِها وجَليلِها، صغيرِها وكبيرِها، قد أحاط عِلْمُه بكلِّ شَيءٍ، ويَشهَدُ لعِبادِه وعلى عِبادِه بما عَمِلوه، وأصلُ (شهد): يدُلُّ على حُضورٍ وعِلْمٍ وإعْلامٍ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 16)، ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 53)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 132)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 948)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 129). قال ابن الأثير: («فَعِيلٌ» مِن أبنيةِ المُبالَغةِ في «فاعِلٍ»، فإذا اعْتُبِرَ العِلمُ مُطْلَقًا فهو العَليمُ، وإذا أُضيفَ إلى الأُمورِ الباطِنةِ فهو الخَبيرُ، وإذا أُضيفَ إلى الأُمورِ الظَّاهِرةِ فهو الشَّهيدُ، وقد يُعتبَرُ مع هذا أن يَشهَدَ على الخَلْقِ يَومَ القيامةِ بما عَلِم). ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/513). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
قَولُه تعالى: قُتِلَ: قيل: هو جوابُ القَسَمِ على حَذفِ اللَّامِ منه للطُّولِ، والأصلُ «لَقُتِلَ». وقيل: على حَذفِ اللَّامِ و(قد)، والأصلُ «لَقَدْ قُتِلَ»، وعلى هذا فقَولُه: قُتِلَ خبرٌ لا دُعاءٌ عليهم. وقيل: بل هو دُعاءٌ عليهم، فلا يكونُ جوابًا. وعلى هذا فجُملةُ قُتِلَ دُعائيَّةٌ دالَّةٌ على الجَوابِ المحذوفِ، كأنَّه قيل: أُقسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ لَمَلعونونَ أحِقَّاءُ بأن يُقالَ فيهم: قُتِلوا، كما هو شأنُ أصحابِ الأُخدودِ. وقيل: الجوابُ مَذكورٌ، وهو قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] ، أو هو قولُه تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] .
- قَولُه تعالى: النَّارِ: مجرورٌ، بَدَلُ اشتِمالٍ [12] سيأتي تعريفُه (ص: 229). مِن الْأُخْدُودِ؛ لأنَّ الأخدودَ مُشتَمِلٌ عليها، والرَّابِطُ مُقَدَّرٌ، تقديرُه: «النَّارِ فيه»، أو أُقيِمَت «أل» في النَّارِ مُقامَ الضَّميرِ، تقديرُه: نارِه، ثمَّ حُذِفَ الضَّميرُ، وعُوِّضَ عنه «أل». وقيل: بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، على نِيَّةِ حَذْفِ مُضافٍ، تقديرُه: أُخدودِ النَّارِ [13] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/253)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1280)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/743-745)، ((تفسير الألوسي)) (15/297- 299). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالقَسَمِ بالسَّماءِ ذاتِ النُّجومِ العَظيمةِ الَّتي هي بمنزلةِ مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ في مَسيرِهما، وبيَومِ القيامةِ الموعودِ، وبكلِّ شاهِدٍ وكلِّ مَشهودٍ؛ ثمَّ قال سبحانَه: أُهْلِكَ ولُعِنَ الكَفَرةُ الَّذين شَقُّوا في الأرضِ خَنْدَقًا كَبيرًا متأجِّجًا بالنَّارِ العَظيمةِ الاشتِعالِ، لُعِنوا حينَ كانوا قاعِدينَ على جوانِبِ الأُخدودِ وهم يُشاهِدونَ المؤمِنينَ يَحتَرِقونَ فيه!
ثمَّ بيَّن سُبحانَه ما حمَلَهم على فِعلِ ما فعَلوا، فقال: وما أنكَرَ الكُفَّارُ وكَرِهوا مِن المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ إلَّا إيمانَهم باللهِ الغالِبِ الَّذي لا يُغلَبُ، المحمودِ على جميعِ صِفاتِه وأفعالِه، الَّذي يَملِكُ وَحْدَه السَّمَواتِ والأرضَ وما فيهِنَّ مِنَ الخلائِقِ، واللهُ مُطَّلِعٌ على كُلِّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1).
أي: أُقسِمُ بالسَّماءِ ذاتِ النُّجومِ العَظيمةِ الَّتي هي بمنزلةِ مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ في مَسيرِهما [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/260)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 88)، ((تفسير ابن كثير)) (8/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالبروجِ: منازلُ الشَّمسِ والقَمرِ، وهي البروجُ الاثنا عشرَ: ابنُ جرير، والزَّمخشري، والرَّسْعني، والنَّسفي، وابنُ جُزَي، والخازنُ، وجلال الدِّينِ المحلي، والعُلَيمي، ونسَبه ابنُ عطيَّةَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/260)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 729)، ((تفسير الرسعني)) (8/562)، ((تفسير النسفي)) (3/622)، ((تفسير ابن جزي)) (2/467)، ((تفسير الخازن)) (4/411)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 800)، ((تفسير العليمي)) (7/327)، ((تفسير ابن عطية)) (5/460). وهذه البروج هي: الحَمَلُ والثَّورُ والجَوْزاءُ والسَّرطانُ والأسدُ والسُّنبُلةُ والمِيزانُ والعَقْربُ والقَوسُ والجَدْيُ والدَّلْوُ والحُوتُ، فثلاثةٌ منها للرَّبيعِ، وثلاثةٌ للصَّيفِ، وثلاثةٌ للخريفِ، وثلاثةٌ للشِّتاءِ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/256)، ((تفسير ابن عثيمين: جزء عم)) (ص: 124). قال ابنُ جرير: (هي اثنا عَشَرَ بُرْجًا، فمَسيرُ القَمَرِ في كُلِّ بُرجٍ منها يَومانِ وثُلُثٌ، فذلك ثمانيةٌ وعِشرونَ منزلًا، ثمَّ يَسْتَسِرُّ لَيلتَينِ، ومَسيرُ الشَّمسِ في كُلِّ بُرجٍ منها شَهرٌ). ((تفسير ابن جرير)) (24/262). وقال ابنُ عاشور: (البُرجُ السَّماويُّ يتألَّفُ مِن مجموعةِ نُجومٍ قَريبٍ بَعضُها مِن بعضٍ، لا تختَلِفُ أبعادُها أبدًا، وإنَّما سُمِّيَ بُرجًا؛ لأنَّ المُصطَلِحِينَ تخَيَّلوا أنَّ الشَّمسَ تحُلُّ فيه مدَّةً... ولَمَّا وَجَدوا كلَّ مجموعةٍ منها يُخالُ منها شَكلٌ لو أُحيطَ بإطارٍ لِخَطٍّ مفروضٍ لَأَشْبَهَ مُحيطُها مُحيطَ صُورةٍ تخيُّليَّةٍ لبعضِ الذَّواتِ مِن حَيوانٍ أو نباتٍ أو آلاتٍ؛ مَيَّزوا بعضَ تلك البُروجِ مِن بعضٍ بإضافتِه إلى اسمِ ما تُشبِهُه تلك الصُّورةُ تقريبًا... وهذه البُروجُ هي في التَّحقيقِ: سُمُوتٌ تُقابِلُها الشَّمسُ في فَلَكِها مُدَّةَ شَهرٍ كاملٍ مِن أشهُرِ السَّنةِ الشَّمسيَّةِ، يُوَقِّتونَ بها الأشهُرَ والفُصولَ بمَوقِعِ الشَّمسِ نهارًا في المكانِ الَّذي تطلُعُ فيه نجومُ تلك البُروجِ ليلًا). ((تفسير ابن عاشور)) (30/238). وقيل: المرادُ بالبروجِ: النُّجومُ، وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والسَّمعاني، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 647)، ((تفسير السمعاني)) (6/194)، ((تفسير ابن كثير)) (8/363). وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/240)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/256). .
كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان: 61] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر: 16] .
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2).
أي: وأُقسِمُ بيَومِ القيامةِ الَّذي وَعَد اللهُ تعالى عِبادَه بمَجيئِه والقَضاءِ فيه بيْنَهم، فيَبعَثُهم ويُحاسِبُهم ويُجازيهم فيه على أعمالِهم [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/262)، ((تفسير القرطبي)) (19/283)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 125). حكى الواحديُّ وابنُ عطيَّةَ اتِّفاقَ المفَسِّرينَ على أنَّ المرادَ بـ (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): يومُ القيامةِ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/457)، ((تفسير ابن عطية)) (5/460). .
كما قال تبارك وتعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ [المعارج: 44] .
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الجَمْعُ مِن أجْلِ العَرْضِ، وكان العَرْضُ لا بُدَّ فيه مِن شُهودٍ ومَشهودٍ عليهم وجدالٍ على عُهودٍ؛ قال [16] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/355). :
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3).
أي: وأُقسِمُ بكلِّ شاهِدٍ وكلِّ مَشهودٍ [17] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/300)، ((تفسير ابن جزي)) (2/467)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/238، 239). اختَلَف المفَسِّرون في معنى الشَّاهِدِ والمشهودِ اختِلافًا كبيرًا، والأكثَرونَ على أنَّ الشَّاهِدَ: هو يومُ الجُمُعةِ، والمشهودَ: هو يومُ عَرَفةَ. وممَّن نسَبَه إلى الجُمهورِ: الواحديُّ، ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/458)، ((تفسير الرسعني)) (8/562). قال الرَّسْعَني: (وإلى هذا القَولِ ذَهَب عليٌّ، وابنُ عبَّاسٍ في بعضِ الرِّواياتِ عنه، وهو قَولُ أكثَرِ المفَسِّرينَ. قال بعضُهم: سُمِّيَ يومُ الجُمُعةِ شاهِدًا؛ لأنَّه يَشهَدُ على كُلِّ عامِلٍ بما عَمِلَ فيه، وسُمِّيَ يومُ عرفةَ مَشهودًا؛ لأنَّ النَّاسَ يَشهَدونَ فيه [مَوسِمَ] الحَجِّ، وتَشهَدُه الملائكةُ). ((تفسير الرسعني)) (8/562). وقيل: الشَّاهِدُ: هم الخلائِقُ، والمشهودُ: هو ما في يومِ القيامةِ مِنَ العَجائبِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: الزمخشريُّ، والنَّسَفيُّ، وأبو السعودِ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/729)، ((تفسير النسفي)) (3/622)، ((تفسير أبي السعود)) (9/135)، ((تفسير الشوكاني)) (5/499). وقيل: الشَّاهِدُ: هو اللهُ تعالى، والمشهودُ: هم المَعرُوضونَ للحِسابِ يومَ القيامةِ. وقد جَوَّز هذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/239). قال ابن عثيمين: (ذكَرَ عُلَماءُ التَّفسيرِ في الشَّاهِدِ والمشهودِ عِدَّةَ أقوالٍ يَجمَعُها أنَّ اللهَ أقسَمَ بكلِّ شاهِدٍ وبكُلِّ مَشهودٍ، والشُّهودُ كثيرونَ؛ منهم محمَّدٌ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ شهيدٌ علينا، كما قال الله تعالى: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]، ومنهم هذه الأمَّةُ شُهَداءُ على النَّاسِ وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143]، وأعضاءُ الإنسانِ يومَ القيامةِ تَشهَدُ عليه بما عَمِلَ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، كما قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24]، ومنهم الملائكةُ يَشهَدونَ يومَ القيامةِ، فكُلُّ مَن شَهِد بحَقٍّ فهو داخِلٌ في قَولِه: وَشَاهِدٍ. وأمَّا المشهودُ فهو يومُ القيامةِ وما يَعرِضُ فيه مِن الأهوالِ العظيمةِ، كما قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] ، فأقسَمَ اللهُ بكُلِّ شاهدٍ وبكُلِّ مَشهودٍ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 125). وقال ابنُ القيِّم: (أقسَمَ سُبحانَه بالشَّاهِدِ والمَشهودِ مُطلَقَينِ غَيرَ مُعيَّنَينِ، وأعَمُّ المعاني فيه أنَّه المُدْرِكُ والمُدْرَكُ، والعالِمُ والمعلومُ، والرَّائي والمَرْئيُّ، وهذا ألْيَقُ المعاني به، وما عَداه مِن الأقوالِ ذُكِرَت على وَجهِ التَّمثيلِ، لا على وَجْهِ التَّخصيصِ). (التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 89). وقال السعدي: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وشمِل هذا كلَّ مَنِ اتَّصَف بهذا الوصفِ، أي: مُبصِرٍ ومُبصَرٍ، وحاضرٍ ومَحضورٍ، وراءٍ ومَرئيٍّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 918). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/241)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/423-425). .
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4).
أي: أُهْلِكَ ولُعِنَ أولئك الكَفَرةُ الَّذين شَقُّوا في الأرضِ خَنْدَقًا كَبيرًا [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/270، 277، 278)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366)، ((تفسير الشوكاني)) (5/500)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/240)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 125). قال ابن كثير: (هذا خَبَرٌ عن قَومٍ مِن الكفَّارِ عَمَدوا إلى مَن عِندَهم مِن المؤْمِنينَ بالله عزَّ وجَلَّ، فقَهَروهم وأرَادوهم أنْ يَرْجِعوا عن دِينِهم، فأبَوْا عليهم، فحَفَروا لهم في الأرضِ أُخْدُودًا وأجَّجوا فيه نارًا، وأعَدُّوا لها وَقُودًا يُسَعِّرونَها به، ثُمَّ أرادوهم فلم يَقْبَلوا منهم، فَقَذَفوهم فيها). ((تفسير ابن كثير)) (8/366). ويُنظر للخِلافِ في أهلِ هذه القِصَّةِ، مَن هم، وأين كانوا: ((تفسير الرسعني)) (8/571)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366). وقد اختَلَف المفسِّرونَ في جوابِ القَسَمِ؛ فقيل هو قولُه تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] . ومِمَّن ذهب إليه: المُبَرِّدُ، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنِين. يُنظر: ((المقتضب)) للمُبَرِّد (2/337)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/307)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/115). ونسَبَ السَّمعانيُّ هذا القولَ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/200). وقيل: هو قولُه تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] . ومِمَّن ذهب إليه: الأخفَشُ، والخازنُ، وأبو حيَّان، والسَّمينُ الحلبيُّ، والشَّوكانيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (2/575)، ((تفسير الخازن)) (4/411)، ((تفسير أبي حيان)) (10/443)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/743)، ((تفسير الشوكاني)) (5/499)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 125). وذهب ابنُ الأنباريِّ ومكِّيٌّ والزمخشريُّ إلى أنَّ جوابَ القَسَمِ محذوفٌ، وقيل إنَّ تقديرَه: لَتُبْعَثُنَّ، وذهب الزمخشريُّ وتبعه البيضاويُّ والعُلَيميُّ إلى أنَّ تقديرَه: إنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ مَلْعونونَ كما لُعِن أصحابُ الأخدودِ. يُنظر: ((إيضاح الوقف والابتداء)) لابن الأنباري (2/972، 973)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8172)، ((تفسير الزمخشري)) (4/729)، ((تفسير البيضاوي)) (5/300)، ((تفسير العليمي)) (7/328). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (19/286). وقال ابنُ القَيِّم: (الأحسَنُ أن يكونَ هذا القَسَمُ مُستغنيًا عن الجوابِ؛ لأنَّ القِصَّةَ للتَّنبيهِ على المقسَمِ به، وأنَّه مِن آياتِ الرَّبِّ العظيمةِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 91). وقال الواحديُّ: (وقُتِلَ معناه: لُعِنَ. في قَولِ جميعِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (23/384). وقال أيضًا: (قال ابنُ الأنباريِّ: والقَتلُ إذا أُخبِرَ عن اللهِ به كان بمعنى اللَّعنةِ؛ لأنَّ مَن لَعَنَه اللهُ كان بمنزلةِ المقتولِ الهالكِ). ((الوسيط)) (4/174). .
عن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قَبْلَكم، وكان له ساحِرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إنِّي قد كَبِرْتُ، فابعَثْ إلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْه السِّحرَ، فبَعَث إليه غُلامًا يعَلِّمُه، فكان في طريقِه إذا سلَكَ راهِبٌ، فقَعَد إليه وسَمِعَ كلامَه، فأعجَبَه، فكان إذا أتى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقَعَد إليه، فإذا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبه، فشكا ذلك إلى الرَّاهِبِ، فقال: إذا خَشِيتَ السَّاحِرَ فقُلْ: حَبَسَني أهلي، وإذا خَشِيتَ أهْلَك فقُلْ: حَبَسَني السَّاحِرُ، فبَيْنَما هو كذلك إذ أتَى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَتِ النَّاسَ، فقال: اليَومَ أعلَمُ آلسَّاحِرُ أفضَلُ أمِ الرَّاهِبُ أفضَلُ؟ فأخَذ حَجَرًا، فقال: اللَّهُمَّ إن كان أمرُ الرَّاهبِ أحَبَّ إليك مِن أمرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هذه الدَّابَّةَ؛ حتَّى يَمضِيَ النَّاسُ، فرماها فقَتَلها، ومضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهِبَ فأخبَرَه، فقال له الرَّاهِبُ: أيْ بُنَيَّ، أنت اليَومَ أفضَلُ مِنِّي، قد بلَغ مِن أمْرِك ما أرَى! وإنَّك ستُبتلَى، فإنِ ابتُلِيتَ فلا تَدُلَّ علَيَّ، وكان الغُلامُ يُبرِئُ الأكْمَهَ [19] الأكْمَهَ: هو الَّذي يُولدُ أعمى. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/209). والأبْرَصَ، ويُداوي النَّاسَ مِن سائرِ الأدواءِ، فسَمِعَ جَليسٌ للمَلِكِ كان قد عَمِيَ، فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: ما هاهنا لك أجْمَعُ إنْ أنت شفَيْتَني، فقال: إنِّي لا أَشْفي أحدًا، إنَّما يَشفي اللهُ، فإنْ أنت آمَنْتَ باللهِ دَعَوتُ اللهَ فشَفاك، فآمَنَ باللهِ فشَفاه اللهُ، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليه كما كان يجلِسُ، فقال له الملِكُ: مَن رَدَّ عليك بَصَرَك؟! قال: رَبِّي، قال: ولك ربٌّ غيري؟! قال: رَبِّي ورَبُّك اللهُ! فأخَذه فلم يَزَلْ يُعَذِّبُه حتَّى دَلَّ على الغلامِ، فجِيءَ بالغُلامِ، فقال له الملِكُ: أيْ بُنَيَّ، قد بلَغ مِن سِحْرِك ما تُبرِئُ الأَكْمْهَ والأبْرَصَ، وتفعَلُ وتفعَلُ! فقال: إنِّي لا أَشفي أحدًا، إنَّما يَشْفي اللهُ، فأخَذَه فلم يَزَلْ يُعَذِّبُه حتَّى دَلَّ على الرَّاهِبِ، فجيءَ بالرَّاهِبِ، فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبَى، فدَعا بالمِئْشارِ [20] المِئْشارُ والمِنشارُ: هو آلةُ النَّشرِ والقطعِ الَّذي يُشَقُّ بها الخشَبُ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/181)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3467). ، فوضَع المِئْشارَ في مَفرِقِ رأسِه [21] مَفرِقِ رأسِه: هو المكانُ الَّذي يفترِقُ فيه الشَّعرُ في وسَطِ الرَّأسِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/398). ، فشَقَّه حتَّى وقع شِقَّاه! ثمَّ جيءَ بجليسِ المَلِكِ فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبى، فوُضِعَ المِئْشارُ في مَفرِقِ رأسِه، فشَقَّه به حتَّى وقع شِقَّاه! ثمَّ جيءَ بالغلامِ، فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبى، فدفعَه إلى نَفَرٍ مِن أصحابِه، فقال: اذهَبوا به إلى جبلِ كذا وكذا، فاصعَدوا به الجَبَلَ، فإذا بلَغْتُم ذِرْوتَه [22] ذِرْوتَه: أي: أعلاه. وذروةُ كلِّ شَىءٍ: أعلاه. يُنظر: ((إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/556). ، فإنْ رَجَع عن دينِه وإلَّا فاطْرَحوه، فذَهَبوا به، فصَعِدوا به الجَبَلَ، فقال: اللَّهمَّ اكْفِنِيهم بما شِئْتَ، فرَجَف بهم الجبلُ فسَقَطوا، وجاء يمشي إلى الملِكِ! فقال له المَلِكُ: ما فعَلَ أصحابُك؟! قال: كَفانِيهِمُ اللهُ، فدفعه إلى نَفَرٍ مِن أصحابِه، فقال: اذهَبوا به فاحمِلوه في قُرقُورٍ [23] قُرْقُورٍ: هو السَّفينةُ العظيمةُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/48). ، فتوسَّطوا به البَحْرَ، فإن رجَعَ عن دينِه وإلَّا فاقذِفوه، فذَهَبوا به، فقال: اللَّهمَّ اكفِنِيهم بما شِئتَ، فانكفَأَتْ [24] انكَفَأَت: أي: انْقَلَبَت. يُنظر: ((شرح السيوطي على مسلم)) (6/306). بهم السَّفينةُ، فغَرِقوا، وجاء يمشي إلى المَلِكِ! فقال له الملِكُ: ما فعل أصحابُك؟! قال: كفانيهم اللهُ، فقال للمَلِكِ: إنَّك لستَ بقاتِلي حتَّى تَفعَلَ ما آمُرُك به، قال: وما هو؟ قال: تجمَعُ النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتَصلِبُني على جِذْعٍ، ثمَّ خُذْ سَهمًا من كِنانتي [25] الكِنانة: الوِعاءُ الَّذي فيه السِّهامُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/21). ، ثمَّ ضَعِ السَّهمَ في كَبِدِ القَوسِ [26] كَبِدِ القَوسِ: أي: وسَطِها. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/209). ، ثمَّ قُلْ: باسْمِ اللهِ ربِّ الغلامِ، ثمَّ ارمِني؛ فإنَّك إذا فعَلْتَ ذلك قتَلْتَني، فجَمَع النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثمَّ أخذَ سَهمًا مِن كنانتِه، ثمَّ وَضَع السَّهمَ في كَبِدِ القَوسِ، ثمَّ قال: باسمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، ثمَّ رماه فوقع السَّهمُ في صُدْغِه [27] صُدْغِه: هو ما بيْنَ العَينِ إلى شَحمةِ الأذُنِ. يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (1/168). ، فوَضَع يَدَه في صُدْغِه في موضِعِ السَّهمِ، فمات، فقال النَّاسُ: آمَنَّا برَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا برَبِّ الغلامِ، آمَنَّا برَبِّ الغلامِ، فأُتيَ المَلِكُ فقيل له: أرأَيْتَ ما كنتَ تَحذَرُ؟ قد -واللهِ- نزَل بك حَذَرُك؛ قد آمَنَ النَّاسُ! فأَمَر بالأُخدودِ في أفواهِ السِّكَكِ [28] أفواهِ السِّكَكِ: أي: أبوابِ الطُّرُقِ. يُنظر: ((شرح السيوطي على مسلم)) (6/306). ، فخُدَّتْ [29] فخُدَّتْ: أي: شُقَّتِ الأخاديدُ. يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (1/169). ، وأَضرَمَ النِّيرانَ، وقال: مَن لم يَرجِعْ عن دينِه فأَحْمُوه [30] فأَحْمُوه: أي: ارْمُوه. يُنظر: ((شرح السيوطي على مسلم)) (6/306). فيها، أو قيل له: اقتَحِمْ، ففعَلوا، حتَّى جاءت امرأةٌ ومعها صَبيٌّ لها، فتقاعَسَت [31] فتَقاعَسَتْ: أي: توَقَّفَت، ولَزِمَت مَوضِعَها. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/133). أن تقَعَ فيها، فقال لها الغُلامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِري؛ فإنَّكِ على الحَقِّ )) [32] رواه مسلم (3005). .
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَمَّهم سُبحانَه وتعالى، بَيَّن وَجْهَ ذَمِّهم ببَدَلِ اشتِمالٍ [33] سيأتي تعريفُه (ص: 229). مِن أُخْدودِهم، فقال [34] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/356). :
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5).
أي: وذلك الأُخدودُ متأجِّجٌ بالنَّارِ الَّتي أُضرِمَت بالحَطَبِ أو غَيرِه حتَّى اشتَدَّ توَقُّدُها ولهيبُها، واشتَعَلَت اشتِعالًا عَظيمًا [35] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/278)، ((تفسير القرطبي)) (19/287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/356)، ((تفسير الألوسي)) (15/299)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 126). .
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6).
أي: لُعِنَ أولئك الكُفَّارُ حينَ كانوا قاعِدينَ على جوانِبِ الأُخدودِ وحافَاتِه [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/278)، ((تفسير القرطبي)) (19/294)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 91)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/356، 357)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/242)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 126). قال الرَّسْعَني: (قَولُه: إِذْ ظَرْفٌ لـ «قُتِلَ»، على معنى: لُعِنوا حينَ قَعَدوا على حافَاتِ الأُخدُودِ يَعرِضونَ المؤمِنينَ على الكُفرِ أو الإحراقِ. قال مجاهِدٌ: كانوا قُعودًا على الكراسيِّ عندَ الأُخدودِ). ((تفسير الرسعني)) (8/572). !
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7).
أي: وهم يُشاهِدونَ المؤمِنينَ يَحتَرِقونَ فيه [37] يُنظر: ((تفبسير ابن جرير)) (24/279)، ((تفسير القرطبي)) (19/294)، ((تفسير ابن جزي)) (2/469)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 91)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 126). .
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
أي: وما أنكَرَ الكُفَّارُ وكَرِهوا مِن المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ شَيئًا سِوى إيمانِهم باللهِ الممتَنِعِ عليه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، الغالِبِ الَّذي لا يُغلَبُ، المحمودِ على جميعِ صِفاتِه وأفعالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/279)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 91)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/357، 358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 126، 127). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59] .
وعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان الرَّجُلُ فيمَنْ قَبْلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ، فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رأسِه، فيُشَقُّ باثنتَينِ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه ، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحَديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عَظمٍ أو عَصَبٍ [39] ما دُونَ لَحمِه: أي تحتَه أو عندَه. وفيه مِن المُبالَغةِ أنَّ الأمشاطَ تَنفُذُ مِن اللَّحمِ إلى العَظمِ والعصَبِ؛ لِحِدَّتِها وقوَّتِها. يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطِّيبي (12/3734)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/60). ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه !)) [40] رواه البخاري (3612). .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى الأوصافَ الَّتي يَستَحِقُّ بها أن يؤمَنَ به ويُعبَدَ -وهو كَونُه عزيزًا غالِبًا قادِرًا يُخشَى عِقابُه، حميدًا مُنعِمًا يجِبُ الحَمدُ على نِعَمِه، ويُرجى ثوابُه-؛ قَرَّر ذلك بقَولِه تعالى [41] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/732)، ((تفسير البيضاوي)) (5/301)، ((تفسير الشربيني)) (4/513). :
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: الَّذي يَملِكُ وَحْدَه جَميعَ السَّمَواتِ السَّبْعِ والأرضِ، وما فيهِنَّ مِنَ الخلائِقِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/279)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 129). .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أي: واللهُ مُطَّلِعٌ على كُلِّ شَيءٍ، فلا يَخفى عليه شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ومِن ذلك إحراقُ الكافِرينَ للمُؤمِنينَ في الأُخدُودِ، وسيُجازيهم عليه [43] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/279)، ((تفسير القرطبي)) (19/295)، ((تفسير ابن كثير)) (8/366)، ((تفسير السعدي)) (ص: 918)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 129). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في هذه الآيةِ مِنَ العِبَرِ: أنَّ هؤلاء الكفَّارَ لم يأخُذوا على المسلمينَ ذَنْبًا إلَّا شيئًا واحدًا، وهو: أنَّهم يُؤمِنونَ باللهِ العزيزِ الحَميدِ! وهذا ليس بذَنْبٍ، بل هذا هو الحقُّ، ومَن أنْكَرَه فهو الَّذي يُنْكَرُ عليه [44] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 131). ، وهكذا المُشرِكُ؛ إنَّما يَنْقِمُ على الموحِّدِ تجريدَه للتَّوحيدِ، وأنَّه لا يَشُوبُه بالإشراكِ، وهكذا المبتدِعُ؛ إنَّما يَنقِمُ على السُّنِّيِّ تجريدَه مُتابَعةَ الرَّسولِ، وأنَّه لم يَشُبْها بآراءِ الرِّجالِ، ولا بشَيءٍ ممَّا خالَفَها، فصَبرُ الموحِّدِ المتَّبِعِ للرَّسولِ على ما يَنقِمُه عليه أهلُ الشِّركِ والبِدْعةِ خَيرٌ له وأنفَعُ، وأسهَلُ عليه مِن صَبْرِه على ما يَنقِمُه اللهُ ورَسولُه عليه مِن مُوافَقةِ أهلِ الشِّركِ والبِدْعةِ [45] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/67). .
2- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أنَّه سُبحانَه عالِمٌ بأعمالِ خَلْقِه، لا يخفَى عليه خافيةٌ، وهذا وعدٌ عَظيمٌ للمُطيعينَ، ووعيدٌ للمُجرِمينَ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (20/253). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ إنْ قيلَ: ما وَجهُ الارتباطِ بيْن هذه الأُمورِ الثَّلاثةِ المُقسَمِ بها؟
قيل: هي بحَمْدِ اللهِ في غايةِ الارتباطِ، والإقسامُ بها مُتناوِلٌ لكُلِّ مَوجودٍ في الدُّنيا والآخِرةِ، وكُلٌّ منها آيةٌ مُستقِلَّةٌ دالَّةٌ على رُبوبيَّتِه وإلهيَّتِه؛ فأقسَمَ بالعالَمِ العُلويِّ، وهو السَّماءُ وما فيها مِن البُروجِ الَّتي هي أعظَمُ الأمكِنةِ وأوسَعُها، ثمَّ أقسَمَ بأعظَمِ الأيَّامِ، وأجَلِّها قَدْرًا، الَّذي هو مَظهَرُ مُلْكِه، وأمْرِه ونَهْيِه، وثَوابِه وعِقابِه، ومَجمَعُ أوليائِه وأعدائِه، والحُكْم بَيْنَهم بعِلْمِه وعَدْلِه، ثمَّ أقسَمَ بما هو أعَمُّ مِن ذلك كُلِّه، وهو الشَّاهِدُ والمشهودُ، وناسَبَ هذا القسَمَ ذِكرُ أصحابِ الأُخدودِ الَّذين عَذَّبوا أولياءَه وهم شُهودٌ على ما يَفعَلونَ بهم [47] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 89، 90). .
2- قال عزَّ وجَلَّ: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ذكَرَ اللهُ تعالى الأوصافَ الَّتي بها يَستَحِقُّ الإلهُ أن يُؤمَنَ به ويُعبَدَ:
فأوَّلُها: العزيزُ، وهو القادِرُ الَّذي لا يُغلَبُ، والقاهِرُ الَّذي لا يُدفَعُ، وبالجُملةِ فهو إشارةٌ إلى القُدْرةِ التَّامَّةِ.
وثانيها: الحميدُ، وهو الَّذي يَستَحِقُّ الحَمدَ والثَّناءَ على ألْسِنَةِ عِبادِه المؤمنينَ، وإن كان بَعضُ الأشياءِ لا يَحمَدُه بلِسانِه فنَفْسُه شاهدةٌ على أنَّ المحمودَ في الحقيقةِ هو هو، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ، وذلك إشارةٌ إلى العِلْمِ؛ لأنَّ مَن لا يكونُ عالِمًا بعواقِبِ الأشياءِ لا يُمكِنُه أن يَفعَلَ الأفعالَ الحَميدةَ، فالحَميدُ يدُلُّ على العِلْمِ التَّامِّ مِن هذا الوَجْهِ.
وثالِثُها: الَّذي له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، وهو مالِكُهما والقَيِّمُ بهما، ولو شاء لَأَفْناهما، وهو إشارةٌ إلى المُلْكِ التَّامِّ، وإنَّما أخَّرَ هذه الصِّفةَ عن الأوَّلَينِ؛ لأنَّ المُلْكَ التَّامَّ لا يَحصُلُ إلَّا عندَ حُصولِ الكَمالِ في القُدرةِ والعِلْمِ؛ فثَبَت أنَّ مَن كان مَوصوفًا بهذه الصِّفاتِ كان هو المُستَحِقَّ للإيمانِ به، وغَيرُه لا يستَحِقُّ ذلك البتَّةَ، فكيف حَكَم أولئك الكُفَّارُ الجُهَّالُ بكونِ مِثْلِ هذا الإيمانِ ذَنْبًا [48] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/112). ؟!
3- قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ شأنُ أعداءِ الله دائمًا أنَّهم يَنقِمونَ على أوليائِه ما يَنبغي أن يُحَبُّوا ويُكْرَموا مِن أجْلِه، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59] . كذلك اللُّوطيَّةُ نقَموا مِن عِبادِ الله تَنَزُّهَهُم عن مِثلِ فِعلِهم، فقالوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] . وكذلك أهلُ الإشراكِ يَنقِمونَ مِن الموحِّدينَ تجريدَهم التَّوحيدَ وإخلاصَ الدَّعوةِ والعُبوديَّةِ لله وحْدَه. وكذلك أهلُ البِدَعِ يَنقِمونَ مِن أهلِ السُّنَّةِ تجريدَ مُتابَعتِها، وتَرْكَ ما خالَفَها. وكذلك المُعَطِّلةُ يَنقِمونَ مِن أهلِ الإثباتِ إثباتَهم لله صِفاتِ كَمالِه، ونُعوتَ جلالِه، وعُلُوَّه على مَخلوقاتِه، ويُعادُونَهم على ذلك، ويَرمُونَهم مِن أجْلِه بالعَظائمِ. وكذلك الرَّافِضةُ يَنقِمونَ على أهلِ السُّنَّةِ مَحَبَّتَهم للصَّحابةِ جميعِهم، وتَرَضِّيَهم عنهم، وولايتَهم إيَّاهم، وتقديمَ مَن قدَّمه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم منهم، وتنزيلَهم مَنازِلَهم الَّتي أنزَلَهم اللهُ ورسولُه بها. وكذلك أهلُ الرَّأيِ المُحْدَثِ يَنقِمونَ على أهلِ الحديثِ وحزبِ الرَّسولِ أخْذَهم بحديثِه، وتَرْكَهم ما خالفه. وكلُّ هؤلاء لهم نصيبٌ مِن هذه الآيةِ، وفيهم شَبَهٌ مِن أصحابِ الأُخدودِ، وبيْنَهم وبيْنَهم نسَبٌ قريبٌ أو بعيدٌ [49] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 91، 92). .
4- إنَّما قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا؛ لأنَّ التَّعذيبَ إنَّما كان واقعًا على الإيمانِ في المستقبَلِ، ولو كَفَروا في المستقبَلِ لم يُعذَّبوا على ما مَضَى، فكأنَّه قال: إلَّا أنْ يَدومُوا على إيمانِهم [50] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/112)، ((تفسير ابن جزي)) (2/469)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445). .
5- قال عزَّ وجَلَّ: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في قَولِه تعالى: الْعَزِيزِ إشارةٌ إلى أنَّه لو شاء لَمَنَع أولئك الجبابِرةَ مِن تعذيبِ أولئك المؤمِنينَ، ولَأطفَأَ نيرانَهم، ولَأماتَهم، وأشار بقَولِه: الْحَمِيدِ إلى أنَّ المُعتَبَرَ عندَه سُبحانَه مِن الأفعالِ عَواقِبُها؛ فهو وإن كان قد أمهَلَ لكِنَّه ما أهمَلَ؛ فإنَّه تعالى يُوصِلُ ثوابَ أولئك المؤمِنينَ إليهم، وعِقابَ أولئك الكَفَرةِ إليهم [51] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/112). . وقيل: جاء وَصْفُه بالحميدِ؛ لِيُشعِرَ بأمْرَينِ؛ الأوَّلُ: أنَّ المؤمِنينَ آمَنوا رغبةً ورَهبةً؛ رغبةً في الْحَمِيدِ، ورهبةً مِنَ الْعَزِيزِ، وهذا كمالُ الإيمانِ -رغبةٌ ورَهبةٌ- وأحسَنُ حالاتِ المؤمِنِ. والأمرُ الثَّاني: حتَّى لا يَيأَسَ أولئك الكُفَّارُ مِن فَضْلِه ورَحمتِه، كما قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج: 10] ؛ إذ إعطاؤُهم المُهْلةَ مِن آثارِ صِفتِه الحَميدِ سُبْحانَه [52] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/486). .
6- قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إذا كان رَبُّ العِزَّةِ سُبحانَه وتعالى، وهو على كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ، وبكُلِّ شَيءٍ عليمٌ، ومُوكِّلٌ حَفَظةً يَكتُبونَ أعمالَ العِبادِ، ومع ذلك لم يَقْضِ بيْن الخلائِقِ بما يَعلَمُه منهم، ولا بما سجَّلَتْه ملائكتُه، ويَستَنطِقُ أعضاءَهم، ويَستَشهِدُ الرُّسُلَ على الأُمَمِ، والرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الرُّسُلِ، أي: بأنَّهم بَلَّغوا أُمَمَهم رسالاتِ اللهِ إليهم؛ فلَأَلَّا يَقضيَ القاضي بعِلْمِه مِن بابِ أَوْلى [53] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/480). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
- ابتُدِئتْ أغراضُ هذه السُّورةِ الكريمةِ بضَربِ المَثَلِ للَّذين فَتَنوا المُسلِمينَ بمكَّةَ بأنَّهم مِثلُ قَومٍ فَتَنوا فريقًا ممَّن آمَنَ بالله، فجَعَلوا أُخْدودًا مِن نارٍ لتَعْذيبِهم؛ ليَكونَ المَثَلُ تَثْبيتًا للمُسلِمينَ، وتَصْبيرًا لهم على أذَى المُشرِكين، وتذكيرًا لهم بما جَرى على سَلَفِهم في الإيمانِ مِن شِدَّةِ التَّعذيبِ الَّذي لم يَنَلْهم مِثلُه، ولم يَصُدَّهم ذلك عن دِينِهم. وإشعارِ المُسلِمينَ بأنَّ قوَّةَ اللهِ عَظيمةٌ، فسَيَلْقى المُشرِكون جَزاءَ صَنيعِهم، ويَلْقى المُسلِمونَ النَّعيمَ الأَبَديَّ والنَّصرَ. والتَّعريضِ للمُسلِمينَ بكَرامتِهم عندَ اللهِ تعالَى. وضربِ المثَلِ بقَومِ فِرعونَ وبثَمودَ، وكيف كانت عاقِبةُ أَمْرِهم لَمَّا كَذَّبوا الرُّسُلَ، فحَصَلَتِ العِبْرةُ للمُشرِكين في فَتْنِهم المُسلِمينَ، وفي تَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّنويهُ بشَأنِ القُرآنِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/236، 237). .
- وفي افتِتاحِ السُّورةِ بهذا القَسَمِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ تَشويقٌ إلى ما يَرِدُ بعْدَه، وإشْعارٌ بأهمِّيَّةِ المُقسَمِ عليه، وهو معَ ذلك يَلْفِتُ أَلْبابَ السَّامِعينَ إلى الأُمورِ المُقسَمِ بها؛ لأنَّ بَعضَها مِن دَلائلِ عَظيمِ القُدرةِ الإلَهيَّةِ المُقتَضيةِ تَفرُّدَ اللهِ تعالَى بالإلَهيَّةِ، وإبْطالَ الشَّريكِ، وبَعضَها مُذَكِّرٌ بيَومِ البَعثِ المَوعودِ، ورَمزٌ إلى تَحقيقِ وُقوعِه؛ إذ القَسَمُ لا يَكونُ إلَّا بشَيءٍ ثابِتِ الوُقوعِ، وبَعضَها بِما فيه مِن الإبْهامِ يوَجِّهُ أَنفُسَ السَّامِعينَ إلى تَطَلُّبِ بَيانِه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/237). .
- وأيضًا مُناسَبةُ القَسَمِ لِما أُقسِمَ عليه أنَّ المُقسَمَ عليه تَضمَّنَ العِبرةَ بقِصَّةِ أصحابِ الأُخْدودِ، ولَمَّا كانت الأخاديدُ خُطوطًا مَجْعولةً في الأرضِ مُستَعِرةً بالنَّارِ، أُقسِمَ على ما تَضمَّنَها بالسَّماءِ، بقَيدِ صِفةٍ مِن صِفاتِها الَّتي يَلوحُ فيها للنَّاظِرينَ في نُجومِها ما سَمَّاه العرَبُ بُروجًا، وهي تُشبِهُ داراتٍ مُتلَألِئةً بأنوارِ النُّجومِ اللَّامِعةِ الشَّبيهةِ بتَلَهُّبِ النَّارِ. والقَسَمُ بـ (السَّماءِ) بوَصفِ (ذاتِ البُروجِ) يَتَضمَّنُ قَسَمًا بالأمْرَينِ معًا؛ لتَلْتَفِتَ أفكارُ المُتَدبِّرينَ إلى ما في هذه المَخلوقاتِ وهذه الأحوالِ مِن دَلالةٍ على عَظيمِ القُدرةِ، وسَعةِ العِلمِ الإلَهيِّ؛ إذ خَلَقَها على تلك المَقاديرِ المَضبوطةِ؛ ليَنتفِعَ بها النَّاسُ في مَواقيتِ الأشهُرِ والفُصولِ. وأمَّا مُناسَبةُ القَسَمِ باليَومِ المَوعودِ فلأنَّه يَومُ القِيامةِ؛ لأنَّ اللهَ وَعَدَ بوُقوعِه؛ قال تعالَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 44] ، مع ما في القَسَمِ به مِن إدماجِ [56] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). الإيماءِ إلى وَعيدِ أصْحابِ القِصَّةِ المُقسَمِ على مَضمونِها، ووَعيدِ أمثالِهم المُعرَّضِ بهم. ومُناسَبةُ القسَمِ بـ (شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قَريبةٌ مِن مُناسَبةِ القسَمِ باليَومِ الموعودِ، ويُقابِلُه في المُقسَمِ عليه قولُه: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/237، 238). .
- وتَنكيرُ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ إمَّا للمُبالَغةِ في الكثرةِ، كأنَّه قيلَ: وما أُفرِطَتْ كَثرتُه مِن شاهِدٍ ومَشهودٍ، وإمَّا للإبْهامِ في الوصْفِ، كأنَّه قيلَ: وشاهِدٍ ومَشهودٍ لا يُكتَنَهُ وَصْفُهما [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/729)، ((تفسير البيضاوي)) (5/300)، ((تفسير أبي السعود)) (9/135). .
وقيلَ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ هذان مُنكَّرانِ، ويَنبَغي حَمْلُهما على العُمومِ؛ كقولِه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] ، وإنْ كان اللَّفظُ لا يَقتَضيه، لكنَّ المَعنى يَقتَضيه؛ إذ لا يُقسَمُ بنَكِرةٍ ولا يُدْرَى مَن هي، فإذا لُوحِظَ فيها مَعنى العُمومِ اندَرَجَ فيها المَعرِفةُ؛ فحَسُنَ القَسَمُ [59] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/442). .
وقيلَ: الشَّاهِدُ: يومُ الجُمُعةِ، والمَشهودُ: يومُ عَرَفةَ، ونَكَّرَهما دُون بَقيَّةِ ما أَقسَمَ به؛ لاختِصاصِهما مِن بيْنِ الأيَّامِ بفَضيلةٍ ليست لغَيرِهما، فلمْ يَجْمَعْ بيْنَهما وبيْنَ البَقيَّةِ بلامِ الجِنسِ، وإنَّما لم يُعرَّفَا بلامِ العَهدِ؛ لأنَّ التَّنكيرَ أدَلُّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ [60] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 605). .
وقيل: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ مُرادٌ بهما النَّوعُ، فالشَّاهِدُ: الرَّائي، أو المَخبِرُ بحَقٍّ لإلْزامِ مُنكِرِه، والمَشهودُ: المَرئيُّ أو المَشهودُ عليه بحَقٍّ، وحُذِفَ مُتَعلَّقُ الوَصفَينِ؛ لدَلالةِ الكَلامِ عليه. وعلى مُختَلِفِ الوُجوهِ، فالمُناسَبةُ ظاهِرةٌ بيْنَ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، وبيْنَ ما في المُقسَمِ عليْه مِن قولِه: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/238، 239). .
2- قولُه تعالَى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
- قولُه: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ جُملةٌ دُعائيَّةٌ -على قولٍ- دالَّةٌ على الجَوابِ، كأنَّه قيلَ: أُقسِمُ بهذه الأشياءِ السَّابِقةِ، إنَّهم -أي: كُفَّارَ مَكَّةَ- مَلْعونون، كما لُعِنَ أصحابُ الأُخْدودِ؛ لِمَا أنَّ السُّورةَ ورَدَتْ لتَثبيتِ المُؤمِنينَ على ما هُم عليه مِنَ الإيمانِ، وتَصبيرِهم على أذيَّةِ الكَفَرةِ، وتَذْكيرِهم بما جَرى على مَن تَقدَّمَهم مِنَ التَّعذيبِ على الإيمانِ وصَبرِهم على ذلك؛ حتَّى يأْتَسُوا بهم، ويَصبِروا على ما كانوا يَلْقَون مِن قَومِهم، ويَعلَموا أنَّ هؤلاءِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ بمَنزِلةِ أولئك المُعَذِّبين؛ مَلْعونون مِثلَهم، أَحِقَّاءُ بأنْ يُقالَ فيهم ما قد قيلَ فيهم. فالجَوابُ دَليلٌ على لَعنةِ اللهِ على مَن فعَلَ ذلك، وطَرْدِه مِن رحمةِ اللهِ، وتَنبيهٌ لكُفَّارِ قُرَيشٍ الَّذين يُؤذونَ المُؤمِنينَ ليَفتِنوهم عن دِينِهم، على أنَّهم مَلْعونونَ، بجامِعِ ما اشتَرَكا فيه مِن تَعذيبِ المُؤمِنينَ. وقيل: تَقديرُ الجوابِ: إنَّ الأمرَ لَحقٌّ في الجزاءِ على الأعمالِ، أو: لَتُبعَثُنَّ [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/729، 730)، ((تفسير البيضاوي)) (5/300)، ((تفسير أبي حيان)) (10/443، 444)، ((تفسير أبي السعود)) (9/135، 136)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/239، 240). .
وقيلَ: الجوابُ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ؛ فيكونُ قُتِلَ خبَرًا لا دُعاءً ولا شَتْمًا، ولا يَلزَمُ ذِكرُ (قدْ) في الجوابِ مع كَونِ الجوابِ ماضيًا؛ لأنَّ (قد) تُحذَفُ بِناءً على أنَّ حَذْفَها ليس مَشروطًا بالضَّرورةِ. ويَتعيَّنُ على هذا أنْ يكونَ الخبَرُ مُستعمَلًا في لازمِ مَعناهُ مِن الإنذارِ للَّذين يَفتِنونَ المؤمنينَ بأنْ يَحُلَّ بهم ما حلَّ بفاتِني أصحابِ الأُخدودِ، وإلَّا فإنَّ الخبَرَ عن أصحابِ الأُخدودِ لا يَحتاجُ إلى التَّوكيدِ بالقسَمِ؛ إذ لا يُنكِرُه أحدٌ، فهو قِصَّةٌ مَعلومةٌ للعرَبِ، وتَقديرُ الكلامِ: لَقَدْ قُتِلَ أصحابُ الأُخدودِ، فيَكونُ المُرادُ مِن أصحابِ الأُخدودِ الَّذين أُلقُوا فيه، وعُذِّبوا به، ويَكونُ لَفظُ (أَصْحَابُ) مُستعمَلًا في مَعنى مُجرَّدِ المُقارَنةِ والمُلازَمةِ [63] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/443، 444)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/240، 241). .
وقيلَ: الجَوابُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ، أو جُملةُ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج: 11] ، والكَلامُ الَّذي بيْنَهما اعتِراضٌ قُصِدَ به التَّوطِئةُ للمُقسَمِ عليه، وتَوكيدُ التَّحقيقِ الَّذي أفادَه القَسَمُ بتَحقيقِ ذِكرِ النَّظيرِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/239، 240). .
- وقيل: صِيغةُ قولِه: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ تُشعِرُ بأنَّه إنشاءُ شَتْمٍ لهم؛ شَتْمِ خِزيٍ وغضَبٍ، وهؤلاء لم يُقتَلوا، ففِعلُ قُتِلَ ليس بخَبَرٍ، بل شَتْمٌ، نَحوَ قولِهم: قاتَلَه اللهُ! وصُدورُه مِن اللهِ يُفيدُ مَعنى اللَّعنِ، ويدُلُّ على الوَعيدِ؛ لأنَّ الغضَبَ واللَّعنَ يَستَلزِمانِ العِقابَ على الفِعلِ المَلْعونِ مِن أجْلِه. وقيلَ: هو دُعاءٌ على أَصحابِ الأُخْدودِ بالقَتلِ، والقَتلُ مُعبَّرٌ به عن أشدِّ العَذابِ، كما يُقالُ: أَهلَكَه اللهُ، أي: أَوقَعَه في أَشدِّ العَناءِ. وأيًّا ما كان فجُملةُ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ على هذا مَعترِضةٌ بيْنَ القَسَمِ وما بعْدَه [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/240). .
- قولُه: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ النَّارِ بدَلُ اشتِمالٍ [66] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ(خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) لابن مالك (3/ 249). مِن الأُخدودِ، وذَاتِ الْوَقُودِ وصْفٌ لها بأنَّها نارٌ عظيمةٌ لها ما يَرتفِعُ به لهبُها مِن الحَطَبِ الكثيرِ وأبدانِ النَّاسِ، وهو وصْفٌ للنَّارِ بغايةِ العِظَمِ [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/731)، ((تفسير البيضاوي)) (5/301)، ((تفسير أبي السعود)) (9/136). .
- قولُه: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ضَميرُ هُمْ عائِدٌ إلى أصحابِ الأُخْدودِ؛ فإنَّ المَلِكَ يَحضُرُ تَنفيذَ أَمرِه ومعه مَلَؤُه، أو أُريدَ بهم المأْمورونَ مِن المَلِكِ، والقُعودُ: الجُلوسُ، كُنِّيَ به عن المُلازَمةِ للأُخْدودِ؛ لئلَّا يَتهاوَنَ الَّذين يُوقِدونَ النَّارَ بتَسعيرِها، و(عَلى) للاستِعلاءِ؛ لأنَّهم لا يَقعُدونَ فوقَ النَّارِ، ولكنْ حوْلَها، وإنَّما عَبَّرَ عن القُربِ والمُراقَبةِ بالاسِتعلاءِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/242). .
- وضَميرُ يَفْعَلُونَ يَجوزُ أنْ يَعودَ إلى أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ؛ فمَعْنى كَونِهم شُهودًا على ما يَفعَلونه: أنَّ بَعضَهم يَشهَدُ لبَعضٍ عندَ المَلِكِ بأنَّ أَحَدًا لم يُفرِّطْ فيما وُكِّلَ به مِن تَحريقِ المُؤمِنينَ، فضَمائرُ الجَمْعِ وصِيغتُه مُوزَّعةٌ. ويَجوزُ أنْ يَعودَ ضَميرُ يَفْعَلُونَ إلى ما تَقتَضيه دَلالةُ الاقتِضاءِ [69] دلالةُ الاقتضاءِ: هي دلالةُ اللَّفظِ على مقصودٍ محذوفٍ لا بدَّ مِن تقديرِه؛ لتوقُّفِ الصِّدقِ أو الصِّحَّةِ عليه. يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) لابن الأمير (ص: 355)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). مِن تَقسيمِ أصحابِ الأُخْدودِ إلى أُمَراءَ ومَأْمورينَ، شأْن الأعمالِ العَظيمةِ، فلمَّا أخبَرَ عن أصحابِ الأُخْدودِ بأنَّهم قُعودٌ على النَّارِ عُلِمَ أنَّهم المُوَكَّلونَ بمُراقَبةِ العُمَّالِ، فعُلِمَ أنَّ لهم أتْباعًا مِن سَعَّارينَ ووَزَعةٍ [70] الوَزَعةُ: جَمعُ وازعٍ، وهو: الَّذي يتقدَّمُ الصَّفَّ فيُصلِحُه ويُقَدِّمُ ويؤخِّرُ، ويَحبِسُ أوَّلَهم على آخِرِهم. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (3/1297). ، فـ(هُمْ) مُعادُ ضَميرِ (يَفْعَلُونَ)، وعلى هذا الوَجْهِ يَجوزُ أنْ يَكونَ شُهُودٌ جَمْعَ شاهِدٍ، بمَعْنى: مُخبِرٍ بحَقٍّ، وأنْ يَكونَ بمَعْنى حاضِرٍ ومُراقِبٍ؛ لظُهورِ أنَّ أحَدًا لا يَشهَدُ على فِعلِ نفْسِه [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/243). .
- وجُملةُ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ في مَوضِعِ الحالِ مِن ضَميرِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، كأنَّه قيلَ: قُعودٌ شاهِدينَ على فِعلِهم بالمُؤمِنينَ، وفائِدةُ هذه الحالِ تَفظيعُ ذلك القُعودِ وتَعظيمُ جُرْمِه؛ إذ كانوا يُشاهِدون تَعذيبَ المُؤمِنينَ، لا يَرْأَفون في ذلك ولا يَشمَئزُّون، وبذلك فارَقَ مَضمونُ هذه الجُملةِ مَضمونَ جُملةِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، باعتِبارِ تَعلُّقِ قولِه: بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/243). .
- وفي الإتْيان بالمَوصولِ في قولِه: مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِن الإبْهامِ ما يُفيدُ أنَّ لِمُوقِدي النَّارِ مِن الوَزَعةِ والعَمَلةِ، ومَن يُباشِرون إلْقاءَ المُؤمِنينَ فيها، غِلْظةً وقَسوةً في تَعذيبِ المُؤمِنينَ وإهانتِهم والتَّمثيلِ بهم، وذلك زائِدٌ على الإحْراقِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/243). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- في قولِه: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بتَوكيدِ المَدحِ بِما يُشبِهُ الذَّمَّ؛ فهو استئِنافٌ مُفصِحٌ عن بَراءتِهم عمَّا يُعابُ ويُنكَرُ بالكُلِّيَّةِ [74] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/731)، ((تفسير البيضاوي)) (5/301)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445)، ((تفسير أبي السعود)) (9/137)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/432). .
- وقيل: جُملةُ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ في مَوضِعِ الحالِ، والواوُ واوُ الحالِ، أو عاطِفةٌ على الحالِ الَّتي قبْلَها، والمَقصودُ التَّعجيبُ مِن ظُلمِ أهلِ الأُخْدودِ أنَّهم يأْتون بمِثلِ هذه الفَظاعةِ، لا لجُرْمٍ مِن شأْنِه أنْ يُنقَمَ مِن فاعِلِه، فإنْ كان الَّذين خَدَّدوا الأُخْدودَ يَهودًا -كما كان غالِبُ أهْلِ اليَمَنِ يَومَئذٍ- فالكَلامُ مِن تأْكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه، أي: ما نَقَموا منهم شَيئًا يُنقَمُ، بل لأنَّهم آمَنوا باللهِ وحْدَه كما آمَنَ به الَّذين عَذَّبوهم. وإنْ كان الَّذين خَدَّدوا الأُخْدودَ مُشرِكين فليس الاستِثناءُ مِن تأْكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه؛ لأنَّ شأْنَ تأكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه أنْ يَكونَ ما يُشبِهُ ضِدَّ المَقصودِ هو في الواقِعِ مِن نَوعِ المَقصودِ، فلذلك يُؤكَّدُ به المَقصودُ، وما هُنا ليس كذلك؛ لأنَّ المَلِكَ وجُندَه نَقَموا منهم الإيمانَ باللهِ حَقيقةً إنْ كان المَلِكُ مُشرِكًا [75] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/244). .
- وإجْراءُ الصِّفاتِ الثَّلاثِ على اسمِ الجَلالةِ -وهي: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ-؛ لزِيادةِ تَقريرِ أنَّ ما نَقَموه منهم ليس مِن شأْنِه أنْ يُنقَمَ، بل هو حَقيقٌ بأنْ يُمدَحوا به؛ لأنَّهم آمَنوا برَبٍّ حَقيقٍ بأنْ يُؤمَنَ به مِن أجْلِ صِفاتِه الَّتي تَقتَضي عِبادتَه، ونَبْذَ ما عَداه؛ لأنَّه يَنصُرُ مَواليَه ويُثيبُهم، ولأنَّه يَملِكُهم، وما عَداه ضَعيفُ العِزَّةِ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يَملِكُ منهم شَيئًا، فيَقْوى التَّعجيبُ منهم بهذا [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/732)، ((تفسير البيضاوي)) (5/301)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445)، ((تفسير أبي السعود)) (9/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/244). .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذييلٌ بوَعيدٍ للَّذين اتَّخَذوا الأُخْدودَ وعَذَّبوا المُؤمِنينَ، وبوَعدِ الَّذين عُذِّبوا في جَنْبِ اللهِ، ووَعيدٌ لأَمثالِ أولئك مِن كُفَّارِ قُريشٍ وغَيرِهم مِن كُلِّ مَن تَصَدَّوْا لأَذى المُؤمِنينَ، ووَعدُ المُسلِمينَ الَّذين عَذَّبَهم المُشرِكون، مِثلَ بِلالٍ وعَمَّارٍ وصُهَيبٍ وسُمَيَّةَ؛ فإنَّ عِلمَه تعالى بجَميعِ الأشياءِ -الَّتي مِن جُملتِها أعمالُ الفَريقَينِ- يَستَدْعي تَوفيرَ جَزاءِ كُلٍّ منهما حَتْمًا [77] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/372)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445)، ((تفسير أبي السعود)) (9/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/244). .