موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (80-84)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

الْفَاحِشَةَ: أي: إِتْيَانَ الذُّكُورِ دُونَ الإناثِ، والفاحِشَةُ: هي الفِعلَةُ المُتناهِيَةُ في القُبحِ والشَّناعةِ؛ فأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبْحٍ في شيءٍ وشَناعَةٍ .
يَتَطَهَّرُونَ: أي: يَتنزَّهونَ عن إتيانِ الرِّجالِ في الأدبارِ، والتَّطَهُّرُ هو التنَزُّه عَنِ الذَّمِّ وكُلِّ قَبيحٍ، وأصل (طهر): يدلُّ على نقاءٍ وزَوَالِ دَنَسٍ، ومن ذلك الطُّهْرُ، خلافُ الدَّنَسِ .
الْغَابِرِينَ: أي: الباقينَ قَبلَ الهَلاكِ، أو الباقينَ في عَذابِ اللهِ، أو الهَالِكينَ، وأصلُ (غبر): يدلُّ على البَقاءِ .

المعنى الإجمالي:

واذكُرْ- يا مُحَمَّدُ- نَبِيَّ اللهِ لوطًا عليه السَّلامُ، حين قال لِقَومِه: أتَفْعلونَ الخَصلةَ التي بلَغَتْ في القُبحِ والشَّناعةِ أقصاها، ما سَبَقَكم بفِعْلِها أحَدٌ مِنَ البَشَرِ؟! إنَّكم تَأتونَ الرِّجالَ في أدبارِهم؛ رغبةً منكم في  ذلك، وتَتْرُكون النِّساءَ اللَّاتي خَلَقَهُنَّ اللهُ لكم، بل أنتم قَومٌ مُسرِفونَ.
فما كان رَدَّ قَومِه إلَّا أنْ قال بعضُهم لبَعضٍ: أخْرِجُوا لُوطًا وأهْلَه مِن قَريَتِكم؛ لأنَّهم أُناسٌ يتنَزَّهونَ عمَّا تَفعلونَه.
فأنجاهُ اللهُ وأهْلَه إلَّا امرأَتَه الكافِرَةَ؛ كانت مِنَ الهالِكينَ البَاقِينَ في العَذابِ، وأمطَرَ اللهُ تعالى على الكُفَّارِ مِن قَومِ لُوطٍ مَطَرًا مِن حِجارةٍ، مِن طِينٍ شديدِ الحرارةِ، فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف هي نهايةُ المُجرمينَ؟!

تفسير الآيات:

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
أي: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- لوطًا عليه السَّلامُ، حين قال لِقَومِه: أتَفْعلونَ الفِعلةَ الشَّنيعةَ المُتَناهِيَةَ في القُبحِ، وهي إتيانُ الذُّكورِ في الأدبارِ .
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
أي: لم يأتِ هذه الفِعلَةَ الشَّنيعةَ أحدٌ مِنَ البَشَرِ قَبلَكُم
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أبهَمَ اللهُ تعالى الفاحِشةَ في الآيةِ السَّابقةِ؛ ليحصُلَ التشوُّفُ إلى مَعرِفَتِها؛ عيَّنَها في قوله تعالى:
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ قراءتانِ:
قراءة إِنَّكُمْ على الخَبَرِ، تفسيرًا للفاحِشَةِ المذكورةِ .
قراءة أَإِنَّكُمْ بالاستفهامِ؛ لتأكيدِ التَّوبيخِ لهم والتَّقريرِ .
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
أي: إنَّكم- أيُّها القومُ- تأتُونَ الرِّجالَ في أدبارِهم؛ رغبةً منكم في ذلك، وتَتْركونَ إتيانَ النِّساءِ اللَّاتي خَلَقَهنَّ اللهُ لكم .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء: 165-166] .
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ
أي: بل أنتم أناسٌ تجاوَزْتُم الحلالَ إلى الحرامِ، وتجَرَّأتُم على مَحارِمِ الله؛ فجَعَلْتُم شَهوَتَكم في غيرِ مَحَلِّها ومَوضِعِها الصَّحيحِ .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 166] .
وقال سُبحانه حاكيًا أيضًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] .
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أُفحِمُوا عن المجادلةِ في شَأنِ فاحِشَتِهم، ابتَدَرُوا بالتآمُرِ على إخراجِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وأهْلِه مِنَ القَريةِ، فقال تعالى :
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
أي: وما كان رَدَّ قَومِ لُوطٍ على لُوطٍ عليه السَّلامُ، حين نهاهم عن هذه الفاحِشَةِ الشَّنيعةِ؛ سِوَى أنْ قال بعضُهم لِبعضٍ: أخرِجُوا لوطًا وأهْلَه مِن قَريَتِكم .
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
أي: أَخرِجُوهم؛ لأنَّهم يتنزَّهونَ عَمَّا نفعَلُه مِن إتيانِ الذُّكورِ في أدْبارِهِم .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
أي: فأنجَينا لُوطًا عليه السَّلامُ وأهْلَه المؤمنينَ به، إلَّا زوجَتَه الكافرةَ؛ كانت مِنَ الهالِكينَ البَاقينَ في العذابِ .
كما قال سبحانه: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35-36].
وقال تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الصافات: 133-135] .
وقال عزَّ وجلَّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10] .
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
أي: وأمطَرْنا على الكُفَّارِ مِن قَومِ لُوطٍ مَطرًا مِن حجارةٍ، مِن طينٍ شديدِ الحرارةِ، فعَذَّبْناهم بها .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82-83] .
وقال سبحانه: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات: 32 - 34].
وقال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34] .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- إلى آخِرِ أمْرِ أولئكَ المُجرمينَ الَّذين كَفَروا باللهِ ورُسُلِه، كانت نهايِتُهم أنْ أخْزَاهم اللهُ تعالى، وأهْلَكَهم بعذابٍ مُستأصِلٍ لهم .
كما قال تعالى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 74-77] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً في التَّقييدِ بالشَّهوةِ وَصْفُهم بالبهيميَّةِ الصِّرفةِ، وفيها أيضًا تنبيهٌ على أنَّ العاقِلَ ينبغي أن يكونَ الدَّاعِي له إلى المُباشَرةِ طَلَبَ الوَلَدِ وبقاءَ النَّوعِ، لا قضاءَ الوَطَرِ فحَسْبُ ، فقَصدُ الشَّهوةِ لِذَاتِها يُفضِي إلى وَضْعِها في غَيرِ مَوضِعها، وإنَّما مَوضِعُها الزَّوجةُ الشَّرعيةُ المُتَّخذةُ للنَّسلِ، وفي الحياةِ الزَّوجيَّةِ الشَّرعيةِ إحصانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوجينِ الآخَرَ بقَصْرِ لَذَّةِ الاستمتاعِ عليه، وجَعْلِه وسيلةً للحياةِ الوالِدِيَّة التي تَنمو بها الأمَّةُ، ويُحفَظُ النَّوعُ البَشَريُّ مِنَ الزَّوالِ .
إنَّ الإسرافَ والاسْتِرسالَ في الشَّهَواتِ قد يصِلُ بالمرءِ إلى أنْ لا يَشفِيَ شَهْوَتَه شيءٌ، لذلك وصَفَ اللهُ قَوْمَ لُوطٍ بالإسرافِ، فقال: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فالقَومُ لَمَّا تَمَكَّنَ منهم الإسرافُ في الشَّهَواتِ؛ اشتَهَوْا شهوةً غَريبةً، لَمَّا سَئِمُوا الشَّهَواتِ المعتادةَ .
مَن رضِي عملَ قومٍ حُشر معهم، كما حُشرت امرأةُ لوطٍ معهم، ولم تكنْ تعملُ فاحشةَ اللواطِ؛ فإنَّ ذلك لا يقعُ مِن المرأةِ، لكنَّها لما رضِيتْ فعلَهم عمَّها العذابُ معهم، قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ .
الحَثُّ على الاعتبارِ بمآلِ مَن أجرَمَ مِن قَوْمِ نُوحٍ وهُودٍ، وصَالحٍ ولُوطٍ، وغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ؛ لِمَا في ذلك مِن إيقاظٍ وازدجارٍ عَن سُلُوكِ مَسْلَكِهم؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى في قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ السَّابقةِ: أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، ومِن بَعْدِه قال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا، وعَدَلَ عن هذا الأُسلوبِ في قِصَّةِ لُوطٍ، فقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ولم يَقُلْ: (إِلَى أهْلِ سَدُوم أخاهُم لوطًا) أو نحوَ ذلك؛ لأنَّ مِن أعظَمِ المقاصِدِ بسياقِ هذه القِصَص تسليةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في مُخالفةِ قَوْمِه له، وعَدَمِ استِجابَتِهم وشِدَّةِ أذاهم، وإنذارَ قومِه أن يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بهذه الأُمَمِ مِنَ العَذاب، وقَصَصُ مَن عدا قَوْمَ لوطٍ مُشابِهةٌ لقِصَّةِ قُريشٍ؛ في الشِّركِ باللهِ، والأذى لعبادِه المُؤمنينَ، وأمَّا قِصَّةُ قَومِ لُوطٍ، فزائدةٌ عن ذلك بأمرٍ فظيعٍ عَظيمِ الشَّناعةِ، شَديدِ العارِ والفُحْشِ؛ فعدَلَ عن ذلك النَّسَقِ؛ تنبيهًا عليه، تَهويلًا للأمر وتبشيعًا له، ليكونَ في التَّسليةِ أشَدَّ، وفي استدعاءِ الحَمدِ والشُّكرِ أتَمَّ ، وقيل: ابتُدِئَتْ بذِكْرِ (لُوطًا) كما ابتُدِئَتْ قِصَّةُ نُوحٍ بذِكْرِ نُوحٍ؛ لأنَّه لم يكُنْ لِقَومِ لُوطٍ اسْمٌ يُعرَفونَ به، كما لم يكُنْ لِقَومِ نُوحٍ اسْمٌ يُعرَفونَ به ، وقيل: إن قَومَ لُوطٍ كانوا خَليطًا مِنَ الكَنْعانِيِّينَ، ومِمَّنْ نَزَلَ حولهم؛ ولذلك لم يُوصَفْ بأنَّه أخُوهم؛ إذ لم يكُنْ مِن قَبائِلِهم، وإنَّما نزَلَ فيهم، واستوطَنَ دِيارَهم، وكان لوطٌ عليه السَّلامُ قد نزلَ ببلادِ (سَدُوم) ولم يكُنْ بينهم وبينه قَرابةٌ .
2- قال اللهُ تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ذَكَرَها اللهُ باسْمِ الفاحشَةِ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّها زنا، كما قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً ، وقيل: فيه دليلٌ على أنَّه يجري مَجرَى الزِّنا: يُرجَمُ مَن أُحصِنَ، ويُجلَدُ مَن لم يُحصَنْ وفَعَلَه .
3- قَولُ اللهِ تعالى حكايةً لِقَولِ لُوطٍ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ لَمَّا كان قَوْلُه: مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ربَّما أوهَمَ إقامةَ عُذْرٍ لهم في عَدَمِ وِجدانِ النِّساءِ، أو عَدَمِ كِفَايَتِهنَّ لهم، أضرَبَ عنه بقَولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ .
4- في قَولِه تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ تسميةُ هذا الفِعلِ الشَّنيعِ فاحشةً وإسرافًا؛ لأنَّه يشتمِلُ على مفاسِدَ كثيرةٍ: منها استعمالُ الشهوةِ الحيوانيَّةِ المغروزةِ في غيرِ ما غُرِزَت عليه؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ في الإنسانِ الشَّهوةَ الحيوانيَّةَ؛ لإرادةِ بَقاءِ النَّوعِ بقانونِ التَّناسُلِ، حتى يكونَ الدَّاعي إليه قهريًّا ينساقُ إليه الإنسانُ بِطَبعِه، فقضاءُ تلك الشَّهوةِ في غير الغَرَضِ الذي وَضَعَها اللهُ لأجله؛ اعتداءٌ على الفطرةِ وعلى النَّوع،ِ ولأنَّه يُغَيِّر خُصُوصيَّةَ الرُّجْلةِ بالنِّسبة إلى المفعولِ به؛ إذ يصيرُ في غيرِ المنزلةِ التي وَضَعه اللهُ فيها بخِلْقَتِه، ولأنَّ فيه امتهانًا مَحضًا للمفعولِ به؛ إذ يُجعَل آلةً لقضاءِ شَهوةِ غَيرِه، على خلافِ ما وَضَعَ اللهُ في نظامِ الذُّكورة والأنوثةِ؛ مِن قَضاءِ الشَّهوتينِ معًا، ولأنَّه مُفضٍ إلى قَطعِ النَّسلِ أو تقليلِه، ولأنَّ ذلك الفِعلَ يجلِبُ أضرارًا للفاعِلِ والمفعولِ؛ بسبَبِ استعمالِ مَحَلَّينِ في غيرِ ما خُلِقَا له .
5- في قَولِه تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مع قَولِه تعالى:بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ في سورةِ الشُّعراء، وقوله تعالى:بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ في سورة النمل، مجموعُ الآياتِ يدلُّ على أنَّهم كانوا مُرزَئين بفسادِ العَقلِ والنَّفس، بجَمْعِهم بين الإسرافِ والعُدوان والجَهلِ؛ فلا هم يعقلونَ ضَرَرَ هذه الفاحشةِ في الجنايةِ على النَّسلِ، وعلى الصِّحَّة، وعلى الفَضيلةِ والآدابِ العامَّة، ولا غيرها مِن مُنكَراتِهم؛ فيَجْتَنِبوها أو يجتَنِبوا الإسرافَ فيها، ولا هم على شيءٍ مِنَ الحياءِ وحُسنِ الخُلُقِ يصرِفُهم عن ذلك، والعِلمُ بالضَّرَرِ وَحدَه لا يصرِفُ عَن السُّوءِ والفسادِ، إذا حُرِمَ صاحِبُه الفضائِلَ ومكارِمَ الأخلاق، بل الفضائِلُ الموهوبةُ بِسلامةِ الفطرةِ؛ عُرضةٌ للفسادِ بِسُوءِ القُدوةِ، إلَّا إذا رَسَخَت بالفضائِلِ المكسوبةِ بتربيةِ الدِّينِ .
6- قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ابتَدَرُوا بالتَّآمُرِ على إخراجِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وأهْلِه مِنَ القَريةِ؛ لأنَّ لُوطًا عليه السَّلامُ كان غَريبًا بينهم، وقد أرادوا الاستراحةَ مِن إنكارِه عليهم، شأنُ مَن يَشْعُرونَ بفَسادِ حالِهِم، المَمْنُوعينَ بِشَهَواتِهم عن الإقلاعِ عَن سَيِّئاتِهم، المُصَمِّمينَ على مُداوَمةِ ذُنُوبِهم؛ فإنَّ صُدُورَهم تَضِيقُ عَن تحمُّلِ المَوعِظةِ، وأسماعَهم تَصَمُّ لِقَبُولِها، ولم يَزَلْ مِن شَأنِ المُنغَمِسينَ في الهَوى تَجَهُّمُ حُلُولِ مَن لا يُشارِكُهم بينهم .
7- قال تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ القَومُ لَمَّا تَمَرَّدوا على الفُسوقِ، كانوا يَعُدُّونَ الكمالَ مُنافِرًا لطِباعِهم، فلا يُطيقونَ مُعاشَرةَ أهلِ الكَمالِ، ويَذُمُّونَ ما لهم مِنَ الكَمالاتِ فيُسَمُّونها ثِقلًا؛ ولذا وَصَفُوا تنَزُّهَ لُوطٍ- عليه السَّلامُ- وآلِه تَطَهُّرًا، بصيغةِ التَّكَلُّفِ والتصَنُّعِ، ويجوز أن يكونَ حِكايةً لِمَا في كَلامِهم مِنَ التَّهَكُّم بلوطٍ- عليه السَّلامُ- وآلِه، وهذا مِن قَلْبِ الحقائِقِ؛ لأجْلِ مُشايَعةِ العَوائِدِ الذَّميمةِ، وأهلُ المُجُونِ والانخلاعِ يُسَمُّون المُتَعَفِّفَ عن سِيرَتِهم، بالتَّائِبِ أو نحوِ ذلك، فقَوْلُهم: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ قصَدُوا به ذَمَّهم .
8- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ استُدِلَّ به على تَحريمِ أدبارِ النِّساءِ، فعن مجاهد في قوله: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ قال: أي: عن أدبارِ الرِّجال وأدبارِ النِّساء .
9- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، (فَأَنْجَيناه) مُقَدَّمٌ مِن تأخيرٍ، والتَّقديرُ: (فأمطَرْنا عليهم مَطرًا وأنجيناه وأهْلَه) فقدَّمَ الخبرَ بإنجاءِ لُوطٍ عليه السَّلامُ على الخَبَرِ بإمطارِهم مطَرَ العَذابِ؛ لقَصدِ إظهارِ الاهتمامِ بأمرِ إنجاءِ لُوطٍ عليه السَّلامُ، ولتعجيلِ المَسَرَّةِ للسَّامعينَ مِنَ المُؤمنينَ، فتطمَئِنَّ قُلوبُهم لحُسنِ عَواقِبِ أسلافِهم مِن مُؤمِني الأُمَمِ الماضِيةِ، فيعلَمُوا أنَّ تلك سُنَّةُ اللهِ في عبادِه .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا، ضمَّن (أمطَرْنا) معنى أرْسَلْنا، فلذلك عَدَّاه بـ (على) .
11- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ العقابُ إمَّا أن يكونَ أثرًا طَبيعيًّا للذَّنبِ؛ كالتَّرَف والسَّرَف في الفِسقِ؛ يُفسِدُ أخلاقَ الأمَّةِ ويَذهَبُ بِبَأسِها، أو يجعَلُه بينها شديدًا بتفَرُّقِ كَلِمَتِها واختلافِ أحزابِها وتعادِيهم، فيترَتَّبُ على ذلك تسَلُّطُ أمَّةٍ أخرى عليها؛ تستَذِلُّها بسَلْبِ استقلالِها، وتسخيرِها في منافِعِها، حتى تكونَ حَرَضًا، أو تكونَ مِنَ الهالكينَ بِذَهابِ مُقَوِّماتِها ومُشَخصاتِها، أو اندِغامِها في الأمَّة الغالِبَةِ، أو انقراضِها، وإمَّا أن يكونَ بما يحدُثُ بسُنَنِ الله تعالى في الأرضِ مِنَ الجوائِحِ الطبيعيَّةِ؛ كالزَّلازلِ والخَسْفِ، وإمطارِ النَّارِ، والموادِّ المُصطَهرةِ التي تقذِفُها البراكينُ مِنَ الأرضِ، والأوبِئَةِ- أو الانقلابات الاجتماعيَّة، كالحُرُوبِ والثَّوْرات والفِتَن .

بلاغة الآيات:

قوله: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ الاستفهامُ للإنكارِ والتَّعظيمِ، والتوبيخِ والتَّشنيعِ، والتَّوقيفِ على هذا الفِعل القبيحِ .
وقولُه: أَتَأْتُونَ أي: أتعملونَ الفاحشةَ؟ وقد كُنِّي بالإتيانِ على العَملِ المَخْصوصِ، وهي كنايةٌ مَشهورةٌ .
والألِف واللَّام في الْفَاحِشَةَ للتعريفِ؛ وذلك لكونِ هذا الفِعل معهودًا قُبحُه ومَركوزًا في العُقولِ فُحشُه؛ فأتى مُعرَّفًا بالألفِ واللَّامِ. أو تكونُ (أل) فيه للجِنسِ على سَبيلِ المبالغةِ؛ كأنَّه لشِدَّة قُبحِه جُعِلَ جَميعَ الفَواحِشِ، وذلك بخِلافِ الزِّنا؛ فإنَّه قال فيه: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء: 32] ، فأَتَى به مُنكَّرًا، أي: فاحشةً مِن الفواحِش، وبهذا يتبيَّنَ تفاوُتُ ما بَينهما، وأنَّه سُبحانَه نَكَّرَ الفاحشةَ في الزِّنا، أي: هو فاحِشَةٌ مِنَ الفَواحِشِ، وعَرَّفَها في اللُّواطِ، وذلك يُفيدُ أنَّه جامِعٌ لمعاني اسمِ الفاحشةِ، كما تقولُ: زَيدٌ الرَّجلُ، ونِعمَ الرَّجُلُ زَيدٌ، أي: أتأتونَ الخَصلةَ التي استقَرَّ فُحْشُها عند كُلِّ أحدٍ؛ فهي لِظُهورِ فُحشِها وكمالِه غَنِيَّةٌ عن ذِكْرِها، بحيثُ لا ينصَرِفُ الاسمُ إلى غَيرِها .
قوله: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ الجملةُ مستأنفةٌ، مسوقةٌ لتأكيدِ النَّكيرِ، وتَشديدِ التوبيخِ والتقريعِ؛ فإنَّ مباشرةَ القبيحِ واختراعَه أقبحُ، ولقدْ أنكر الله تعالى عليهم أولًا إتيانَ الفاحشةِ بقوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، ثُمَّ وبَّخهم بأنَّهم أوَّلُ مَن عمِلها فقال: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ؛ والمرادُ أنَّهم سابِقون لكلِّ مَنْ عداهم مِن العالَمين أي: أنتُم أَوَّلُ مَن عمِلها؛ إذ إنَّ الجملةَ المنفيَّةَ تدلُّ على أنَّهم هم أوَّلُ مَن فَعَل هذه الفَعلةَ القَبيحةَ وأنَّهم مُبتكِروها. أو تكونُ الجملةُ مسوقةً جوابًا عن سُؤالٍ مقدَّرٍ، كأنَّه قيل مِن جِهتهم: لم لا نأتيها؟ فقيل بَيانًا للعِلَّةِ، وإظهارًا للزاجر: ما سَبَقكم بها أحدٌ لعِظَمِ قُبْحِها، وسُوءِ سَبيلها؛ فكيف تفعلونها ؟!
قولُه: مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ فيه مبالغةٌ؛ فـ(مِنْ) صلةٌ لَتوكيدِ نَفْي الجِنسِ، وإفادةِ معنى الاستغراقِ لكلِّ البَشرِ، على الظاهرِ المتبادَر، وفيه مبالغةٌ أيضًا في الإتيانِ بعُمومِ العالَمِينَ جمْعًا .
وفيه مناسَبةٌ حَسنةٌ حيث قال هنا في سورة الأعراف: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وقال في سُورةِ النمل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] ؛ وذلك لأنَّ ذِكْر قِصَّةِ لُوطٍ وقومِه في سُورة الأعراف اشتملَتْ على تَبكيتِهم على الفاحشةِ، بالإخبارِ عن سَبْقِهم إلى هذه الفَعلةِ، وأمَّا في سُورة النَّمل فالمذكورُ فيها صِفةٌ تَرجِع إلى الفَعلةِ نفْسِها وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؛ فإنَّهم لم يكونوا يَتكاتمون بها في مجالِسهم، ولَمَّا كان وصفُهم بأنَّهم لم يُسبَقوا إليها حقُّه أن يجيءَ بعدَ توفيةِ الفاحشةِ حقَّ وصْفِها في نفْسِها، أخَّرَ ذِكرَه إلى حِكايةِ القِصَّةِ في سورة الأعراف؛ إذ هي بعدَ سُورةِ النَّملِ في التَّرتيبِ نُزولًا .
وأيضًا فإنَّ قولَه هنا في سُورةِ الأعراف: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، وكذلك في سُورةِ النَّملِ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، الهمزةُ للاستفهامِ المقصودِ به الإنكارُ، والتعظيمُ في تَوبيخِهم على الفاحِشةِ الشَّنعاء، وجاءَ في سُورة العنكبوت: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [العنكبوت: 28] بالإخبارِ؛ وذلك لمناسَبةٍ حَسنةٍ؛ أنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ الأممِ المكذِّبين، ومُرتَكَباتِهم السيِّئةِ، مِن مُعاندِتهم للرُّسُلِ وتَكذيبهم؛ ممَّا اسْتَوْجَبوا به العذابَ، وأَخْذَ كلِّ طائفةٍ بذَنبِها، ناسَب ذِكرَ الأُممِ المكذِّبين قَبْلَهم تقريعُ هؤلاء بكونِهم أوَّلَ مَن فَعَل تلك الشَّناعة، وأنَّهم لم يَسْبِقْهم بها أحدٌ من الأُمم السابقةِ لهم، فقِيل لهم: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ بالاستفهامِ، أمَّا في سورة العنكبوت فإنَّه لَمَّا تقدَّم في سورتَي الأعرافِ والنَّملِ تقريرُهم تقريعًا وتوبيخًا، وعُرِفوا بذلك مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، وردتْ قصَّتُهم في العنكبوت مُؤكَّدةً بـ(إنَّ) واللام؛ لثُبوتها، فوردتْ موردَ ما يَجيءُ بعدَ القَسَم؛ إذ قد تَقدَّم تقريرُهم التَّوبيخي مرَّتينِ فجاءَ الإخبارُ بعدُ بِما به يُخبَر عن المتقرِّرِ الثابت، ولم يَكُن ليناسبَ العكس، وهذا على مُقتضَى الترتيبِ في السُّورِ والآي؛ فجاءَ كلٌّ على ما يجِبُ .
قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ استئنافٌ بيانيٌّ لتِلك الفاحشةِ، وفي زيادةِ (إنَّ) واللام في قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ مَزيدُ توبيخٍ وتقريعٍ؛ كأنَّ ذلك أمرٌ لا يُتحقَّقُ صُدورُه عن أحدٍ، فيُؤكَّد تأكيدًا قويًّا، وفي إيرادِ لفْظ الرِّجال دُون الغِلمان والمردان ونحوهما مبالغةٌ في التوبيخِ كذلِك .
وقوله: مِنْ دُونِ النِّسَاءِ فيه زيادةٌ في التَّفظيعِ، وقطعٌ للعُذرِ في فِعلِ هذه الفاحشةِ .
وقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضرابٌ عن الإنكارِ إلى الإخبارِ عن حالِهم التي أدَّتْ بهم إلى ارتكابِ أمثالها، وهي اعتيادُ الإسراف في كلِّ شيء، أو إضرابٌ عن الإنكارِ عليها إلى الذمِّ على جميعِ مَعايبِهم، أو عن مَحذوفٍ، والتقديرُ: لا عُذْرَ لكم فيه، بل أنتم قومٌ عادتُكم الإسرافُ .
ومُسْرِفُونَ اسمُ فاعلٍ، وهو يدُلُّ على الثُّبوتِ؛ فلا يَزالُ صاحبُ هذا الفِعلِ يُعاوِدُه حتَّى يَكونَ مَلَكةً راسخةً له؛ فتكرارُ العملِ يُكوِّن المَلكةَ، والمَلَكةُ تَدْعو إلى تَكرارِ العَملِ والإصرارِ عليه، وهذا وجهُ إضرابِ الانتقالِ مِن إسنادِ إتيانِ الفاحشةِ إليهم بفِعلِ المضارعِ المفيدِ للتَّكرارِ والاستمرارِ إلى إسنادِ صِفةِ الإسرافِ إليهم بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، أي: لستُم تأتون هذه الفاحشةَ المرَّةَ بعدَ المرَّةِ بعدَ نَدمٍ وتوبةٍ عقِبَ كلِّ مرَّةٍ، بل أنتُم مُسرِفون فيها وفي سائرِ أعمالِكم، لا تَقِفون عندَ حدِّ الاعتدالِ في عَمَلٍ مِن الأعمالِ .
وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بلفظ السَّرفِ والاسمِ، وفي سورة النَّمل قال: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ، بلفظِ الجهلِ والفِعل؛ ووجه ذلك أنَّه يجوزُ أنْ يكونَ لوطٌ عليه السَّلامُ لَمَّا كانتْ له مع قومِه مَقاماتٌ قال في بعضِها هذا اللفظ، وفي بعضِها اللفظَ الآخَر؛ تكثيرًا للفائدةِ في التَّعبيرِ عن المرادِ بلفظيْن مُتساوييْن معنًى؛ إذْ كلُّ سَرَفٍ جهلٌ، وبالعكسِ؛ والمسرِفُ مُجهَّل بإسرافِه، والجاهِل مُسرِفٌ بأفعالِه؛ إذ الإسرافُ مجاوزةُ الحدِّ الواجبِ إلى الفسادِ. وأمَّا اختصاصُ مُسْرِفِينَ بسُورةِ الأعراف، فلأنَّ الآياتِ التي قَبْلها فواصلُها أسماءٌ جُمِعت هذا الجمع وهي: (مفسدين- مؤمنون- كافرون- العالمين- المرسلين- النَّاصحين... إلى آخَرِها)، وهكذا إلى أنِ انْتَهى إلى هذه الآيةِ، فكانَ الاسمُ أحقَّ بالوضعِ في هذا المكانِ؛ لتَتساوَى الفواصلُ. وأمَّا في سورة النَّملِ فتقدَّم الآيةَ التي فاصلتُها: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] أفعالٌ، وهي: (يعلمون- يتقون- يبصرون)؛ فلمَّا تناسقتْ هذه الأفعالُ في هذه الفواصِلِ كان بناءُ قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] على ما قَبْلَها بلفظِ الفِعلِ أَوْلى بها، فجاءَ تَجْهَلُونَ في هذا الموضِع، ومُسْرِفُونَ في الأوَّلِ لهذا من القَصْدِ .
وقيل: بلْ قَصَد بما ذَكَر في سُورةِ الأعراف الإشارةَ إلى التعريفِ بانهِماكهم في الجرائمِ، وقَبيحِ المُرتَكباتِ؛ فنَصَّ على أَفحشِها، وحصَل الإيماءُ إلى ما وراءَ ذلك بما ذُكِر مِن إسرافِهم: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، ولَمَّا قِيل في سورة النَّمل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] ، كان أهمُّ شيءٍ أنْ تُنفَى عنهم فائدةُ الأبصارِ؛ إذ لم تُغْنِ عنهم شيئًا، فأَعْقَب بقولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ،  أي: إنَّ مُرْتَكَبَكم مع عِلمكم بشنيعِ ما فيه مِن أقبحِ ما يَرتكِبُه الجُهَّالُ، ولم يَذكُرْ هنا إسرافَهم؛ إذ قدْ حصَل فيما ذُكِر في الأعراف .
وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ أُخرَى حيثُ عَدَل في سُورةِ العنكبوتِ عن قوله: شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الذي هنا في الأعرافِ إلى قولِه: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ؛ لقصدِ تَفصيلِ ما أُشير إليه في الأعرافِ مِن شَنيعِ ما ارْتَكبوه مِن إسرافِهم، فقيل: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ؛ فورَد أوَّلًا- بحسَبِ التَّرتيبِ المتقرِّر عليه السورُ والآيات- في الأعرافِ ذِكرُ أفحشِ مُرتَكَباتِهم، ثم أَجْملَ القولَ في سائرِ جرائمِهم، ثم أتْبع في السُّورةِ الثانيةِ (سورة النمل) بشَنيعِ حالهم في تِلك الفَعلةِ المنصوصِ عليها مِن حيثُ بيانُ فُحشِها للأبصارِ والبصائرِ، ثمَّ أَتْبَع ذلك في السورة الثالثةِ (سورة العنكبوت) بتَفصيلِ بعضِ قبائِحِ أفعالِهم والتنصيصِ عليها، وجاءَ كلُّه على ما يَجِبُ، ولا يُمكن العكسُ فيما ورَدَ .
قوله: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَنْ قَالُوا أخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قاله هنا في الأعراف بالواوِ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ، وقال فيما أَشْبَهه مِن سُورتَي النمل والعنكبوت: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ [النمل: 56، العنكبوت:29] بالفاءِ؛ وذلِك لأنَّ ما هُنا في الأعراف تَقدَّمه اسمٌ هو: مُسْرِفُونَ، والاسمُ لا يُناسبه التعقيبُ، وما في النَّمل تَقدَّمه فِعلٌ هو: تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ، وفي العنكبوت تَقدَّمه فِعلٌ أيضًا: تَقْطَعُونَ وتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ، والفعلُ يُناسِبُه التعقيبُ، فناسبَ ذكرُ الفاءِ الدَّالة عليه .
وأيضًا قال الله تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، وفي سورة النَّمل قال: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ [النمل: 56] ، وفي سُورة العنكبوت قال: قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت: 29] ؛ وذلك لمناسَبةٍ حَسنةٍ؛ وهي أنَّه لَمَّا زِيد في تَعنيفِهم في النَّمل بقولِه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 57] ، وتعريفِهم بإتيانِهم الفاحشةَ على عِلمٍ بها أو مع مُشاهَدةِ بعضِهم بعضًا، وعدمِ استخفائِهم بها، وذلك أقبحُ في المُرتَكَب؛ زِيدَ في الإخراجِ التنصيصُ على الآلِ؛ لأنَّ قوله: آلَ لُوطٍ  أنصُّ في إخراجِ جميعِ مَن للوطٍ عليه السلام مِن ذَويه وأهلِه مِن قوله: أَخْرِجُوهُمْ، فكانتْ زيادةُ التنصيصِ الأعمِّ بإزاءِ الأزيدِ في التقريعِ. ولَمَّا عدَّد مِن قبائحِ مُرتَكباتهم في سورةِ العنكبوت ما عدَّد بقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ، فكان تَعدادُ مُرتكباتِهم أشدَّ توبيخًا في تقريعِهم وأَنْكأَ، كان مَظِنَّةَ تَهيجٍ، واشتعالٍ لسَيِّئ أخلاقِهم، وقبيحِ جوابِهم، فجاوبوا جوابَ مَن استحكَم حنْقُه، وطُبِع على قلبِه فقالوا: ائْتِنَا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] ؛ تحكيمًا وتحقيقًا لتَكذيبِهم، وشاهدًا بتَصميمِهم على المعاندةِ والكُفرِ .
وفي قولِه: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ جِيء بالخبرِ جُملةً فِعليَّةً مُضارعيَّةً يَتَطَهَّرُونَ؛ لدَلالتِها على أنَّ التَّطهُّرَ مُتكرِّرٌ منهم ومُتجدِّد، وذلك أَدْعَى لمُنافرتِهم طِباعَهم والغضبِ عليهم، وتَجهُّم إنكارِ لوطٍ عليه السَّلام عليهم؛ فهم قدْ عَلِموا هذا التطهُّرَ مِن خُلُقِ لُوطٍ عليه السلام وأهلِه؛ لأنَّهم عاشَرُوهم، ورَأَوْا سِيرتَهم .
قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ قال: مِنَ الْغَابِرِينَ ولم يقُل: (مِن الغابرات) مِن باب تَغليبِ الذُّكورِ إذا اجْتَمَعوا مع الإناثِ، ولبيانِ استِحقاقِها لِمَا يَستحقُّه المباشِرون للفاحشةِ. وجملةُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نَشأَ عن استثنائِها مِن حُكمِ الإنجاءِ، كأنَّه قيل: فماذا كان حالُها؟ فقيل: كانتْ مِن الغابرينَ .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعراف: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وقال في سورة النمل: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ، وفي سُورة الحِجر قال: قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 60] ، ووجْهُ ذلك أنَّ اختصاصَ كَانَتْ بآيةِ الأعراف؛ مُناسِبٌ إيجازًا لقولِه: أَخْرِجُوهُمْ، وقولَه في النَّمل: قَدَّرْنَاهَا مُناسِبٌ لقولِه: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ، وقولَه في الحِجر: قَدَّرْنَا إِنَّهَا يَجري مع ما وُكِد قبلُ بـ(إنَّ) ويُناسِبه، كقوله: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 58-59] ، فقيل مُناسبًا لذلك: قَدَّرْنَا إِنَّهَا [الحجر: 60] .
وقِيل: إنَّ القِصَّةَ التي في سُورة النَّمل نازلةٌ قبلَ القِصَّة التي في سُورةِ الأعراف، بدليلِ الإضمارِ والإظهارِ؛ فلمَّا ذَكَر في الآيةِ المنزلةِ أوَّلًا قولَه: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ، أحال في الثانية على الأُولى في البيانِ، فقال: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، أي: في تَقديرِ الله الذي قَدَّرَه لها، وأَخْبَر فيما قبلُ عن حُكمِه عليها .
قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
تَنكيرُ مَطَرًا للتَّعظيمِ والتعجُّب، أي: مَطرًا عجيبًا مِن شأنِه أن يُهلِكَ القُرَى .
وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ الأعراف: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وفي سُورةِ النَّملِ قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] ، فاختَلفَ التعقيبُ في الآيتَينِ؛ لأنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ قوله: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ حصَل منه أنَّ ارتكابَهم ما لم يَسْبِقْ إليه غَيرُهم قد جَمَعَ إلى قَبيحِ الفُحشِ الاجترامَ، مِن حيثُ لم يَفعلْ تلك الفَعلةَ الشَّنعاءَ مَن تَقدَّمهم؛ فلمَّا أُجْمِع إلى الفُحشِ الاجترام أُعْقِب بقولِه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ولَمَّا تقدَّم في سورة النَّمل قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 54] حصَل منه تَعنيفٌ وإنذارٌ لم يقَعْ مِثلُه في الأعرافِ؛ إذ ليس موقعُ قولِه: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] في الإنذارِ والتعنيفِ كموقعِ تعريفِهم بعِلمهم بها، وشناعةِ مُعاينةِ بعضِهم بعضًا مِن ارتكابِها؛ فناسَب إنذارَهم بهذا ما أَعْقَب به مِن قولِه: فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] ، ولو أُعْقِبتْ آيةُ الأعراف بهذا أو آيةُ النمل بما أُعقبتْ به آيةُ الأعراف لم يَكُن مُتناسِبًا .