موسوعة التفسير

سورةُ التَّحريمِ
الآيات (10-12)

ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

أَحْصَنَتْ: أي: حَفِظَت، وأصلُ (حصن): يدُلُّ على حِفظٍ وحِياطةٍ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/575)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 240). .
الْقَانِتِينَ: أي: المُطيعينَ الخاضِعينَ، والقُنوتُ: لُزومُ الطَّاعةِ مع الخُضوعِ، أو الطَّاعةُ الدَّائمةُ، وأصلُ (قنت): يدُلُّ على طاعةٍ وخَيرٍ في دِينٍ [233] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 382)، ((تفسير ابن جرير)) (23/117)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 378)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/31)، ((المفردات)) للراغب (ص: 684)، ((تفسير القرطبي)) (18/204)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/5، 7). .

المعنى الإجمالي:

يَضرِبُ الله تعالى المثَلَ مبيِّنًا أنَّ اتِّصالَ الكافرِ بالمؤمنِ وقُرْبَه منه لا يُفيدُه شيئًا، فيقولُ: ضَرَب اللهُ مَثَلًا للَّذين كفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانَتا زَوجتَينِ لعَبدَينِ صالِحَينِ مِن عِبادِ اللهِ تعالى، فخانَتاهما ولم يُؤْمِنا برِسالَتِهما؛ فلم يَدفَعْا عن امرأتَيهما شَيئًا مِن عَذابِ اللهِ، وقيل لامرأتَيْ نُوحٍ ولُوطٍ: ادخُلا النَّارَ مع غَيرِكما مِنَ الدَّاخِلينَ فيها.
ثمَّ يضربُ الله تعالى مثَلًا آخَرَ مبيِّنًا أنَّ اتِّصالَ المؤمنِ بالكافرِ لا يَضُرُّه شيئًا معَ قيامِه بالواجبِ عليه، فيقولُ: وضَرَب اللهُ مثَلًا للَّذين آمَنوا امرأةَ فِرعَونَ حينَ قالت: يا ربِّ ابنِ لي في جِوارِك بَيتًا في الجنَّةِ، وخَلِّصْني مِن فِرعَونَ وتَسَلُّطِه وكُفْرِه، وخَلِّصْني مِن قَومِ فِرعَونَ المُشرِكينَ، ومريمَ بِنتَ عِمْرانَ الَّتي حَفِظَت فَرْجَها، فنفَخَ جِبريلُ بأَمْرِنا في فَرْجِها، فحَمَلَت بابنِها عيسى عليه السَّلامُ، وآمَنَت بكَلِماتِ اللهِ وكُتُبِه، وكانت مِنَ المُطيعينَ للهِ، المواظِبينَ على طاعتِه.

تفسير الآيات:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أمْرُ الاستِئصالِ في الإنجاِء والإهلاكِ أشْبَهَ شَيءٍ بحالِ أهلِ الآخِرةِ في الدَّينونةِ بالعَدْلِ والفَضْلِ، وكان المفتَتَحُ به السُّورةُ عِتابَ النِّساءِ، ثمَّ أُتْبِعَ بالأمْرِ بالتَّأديبِ لجَميعِ الأمَّةِ، إلى أنْ خُتِم بهلاكِ المخالِفِ في الدَّارَينِ، وكان للكُفَّارِ قَراباتٌ بالمُسلِمينَ، وكانوا يَظُنُّونَ أنَّها رُبَّما تَنفَعُهم، وللمُسلِمينَ قَراباتٌ بالكُفَّارِ، وكانوا رُبَّما توَهَّموا أنَّها تضُرُّهم- قال مُجيبًا لِما يُتخَيَّلُ مِن ذلك؛ تأديبًا لِمَن يُنكِرُ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ النِّساءِ وغَيرِهنَّ [234] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/207، 208). :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ.
أي: جَعَل اللهُ مَثَلًا للَّذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ، مبيِّنًا أنَّ اتِّصالَ الكافرِ بالمؤمنِ، ومعاشرتَه له، وقُربَه منه؛ لا يُفيدُه شيئًا، ولا يَنفَعُه عندَ الله [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/111)، ((تفسير ابن كثير)) (8/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/373، 374). قال الواحدي: (خوَّفَ عائِشةَ وحَفْصةَ في تظاهُرِهما على الرَّسولِ، وذكَرَ أنَّهما إن عَصَتا ربَّهما لم يُغْنِ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهما شيئًا، وضرَبَ لهما امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لُوطٍ مَثَلًا!). ((الوسيط)) (4/322). وقال القرطبي: (ضرَبَ اللهُ تعالى هذا المثَلَ تنبيهًا على أنَّه لا يُغْني أحدٌ في الآخرةِ عن قريبٍ ولا نَسيبٍ إذا فرَّق بيْنَهما الدِّينُ). ((تفسير القرطبي)) (18/201). !
كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا.
أي: كانت امرأةُ نُوحٍ وامرأةُ لُوطٍ زَوجتَينِ لعَبدَينِ صالِحَينِ مِن عِبادِ اللهِ تعالى، وهما نوحٌ ولُوطٌ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فخانتاهما ولم يُؤْمِنا برِسالَتِهما، ويَتْبَعاهما على دينِهما [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/111)، ((تفسير ابن كثير)) (8/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). قال ابن كثير: (خانَتاهما في الدِّين فلمْ تَتْبَعاهما فيه، وليس المرادُ أنَّهما كانتَا على فاحشةٍ -حاشا وكلَّا-؛ فإنَّ اللهَ لا يُقَدِّرُ على نبيِّه أن تَبغيَ امرأتُه، كما قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه مِن أئمَّةِ السَّلفِ والخلَفِ: «ما بَغَتِ امرأةُ نبيٍّ قَطُّ». ومَن قال خِلافَ هذا فقد أخطأ خطأً كبيرًا). ((البداية والنهاية)) (1/422). وقال ابنُ تيميةَ عن امرأةِ لوطٍ عليه السلامُ: (كانت في الظَّاهرِ مسلمةً على دينِ زوجِها لوطٍ، وفي الباطنِ منافقةً على دينِ قومِها لا تقلي عملَهم كما قلاه لوطٌ؛ فإنَّه أنكَره ونهاهم عنه وأبغَضه). ((مجموع الفتاوى)) (15/288). !
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: فلم يَدفَعْ نُوحٌ ولوطٌ عن امرأتَيْهما شَيئًا مِن عَذابِ اللهِ، ولم يَنفَعاهما؛ لكُفْرِهما [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/113)، ((تفسير القرطبي)) (18/202)، ((تفسير ابن كثير)) (8/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/376). .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ أُنزِلَ عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] : ((يا مَعشَرَ قُرَيشٍ اشتَرُوا أنفُسَكم مِنَ اللهِ لا أُغْني عنكم مِنَ اللهِ شَيئًا، يا بَني عبدِ المُطَّلِبِ لا أُغْني عنكم مِنَ اللهِ شَيئًا، يا عبَّاسُ بنَ عبدِ المطَّلِبِ لا أُغْني عنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا، يا صَفيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللهِ لا أُغني عنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا، يا فاطِمةُ بِنتَ رَسولِ اللهِ سَلِيني بما شِئْتِ، لا أُغني عنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا!)) [238] رواه البخاريُّ (2753)، ومسلمٌ (206) واللَّفظُ له. .
وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.
أي: وقيل لامرأتَيْ نُوحٍ ولُوطٍ: ادخُلا النَّارَ مع غَيرِكما مِنَ الدَّاخِلينَ فيها [239] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/114)، ((تفسير السمرقندي)) (3/471)، ((تفسير ابن كثير)) (8/171). قال البيضاوي: (وَقِيلَ أي: لهما عندَ مَوتِهما، أو يومَ القيامةِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/ 226). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/304). .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ مَثَلَ النِّذارةِ بأنَّ طاعةَ المُطيعِ لا تَنفَعُ العاصيَ، وإنْ كان أقرَبَ النَّاسِ إلى المُطيعِ، إلَّا إن كان له أساسٌ يَصِحُّ البِناءُ عليه، ويجوزُ الاعتدادُ به والنَّظَرُ إليه؛ أتْبَعَه مَثَلَ البِشارةِ، بأنَّ عِصيانَ العاصي لا يَضُرُّ المُطيعَ [240] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/210). .
وأيضًا لَمَّا ضُرِبَ المثَلُ للَّذينَ كفَروا، أُعْقِبَ بضَرْبِ مَثَلٍ للَّذينَ آمَنوا؛ لتَحصُلَ المُقابَلةُ، فيتَّضِحَ مَقصودُ المثَلَيْنِ معًا، وجَرْيًا على عادةِ القُرآنِ في إتْباعِ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/376). .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ.
أي: وجَعَل اللهُ مَثَلًا للَّذين آمَنوا امرأةَ فِرعَونَ، مبيِّنًا أنَّ اتِّصالَ المؤمنِ بالكافرِ لا يَضُرُّه شيئًا معَ قيامِه بالواجبِ عليه [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/114)، ((البسيط)) للواحدي (22/29)، ((تفسير أبي السعود)) (8/270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/373-377). قال السمعاني: (هي آسيةُ بِنتُ مُزاحِمٍ، وكانت آمَنَت باللهِ وبموسى عليه السَّلامُ سِرًّا ثمَّ أظهَرَت). ((تفسير السمعاني)) (5/479). وقال القرطبي: (قال يحيى بنُ سلامٍ: قَولُه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا مثَلٌ ضرَبَه اللهُ يحَذِّرُ به عائِشةَ وحَفصةَ في المخالفةِ حينَ تَظاهرَتَا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ ضَرَب لهما مَثَلًا بامرأةِ فِرعَونَ، ومريمَ بنتِ عِمرانَ؛ ترغيبًا في التَّمَسُّكِ بالطَّاعةِ، والثَّباتِ على الدِّينِ). ((تفسير القرطبي)) (18/202). ويُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/10). .
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
أي: حينَ قالت امرأةُ فِرعَونَ: يا ربِّ ابنِ لي في جِوارِك بَيتًا في الجنَّةِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/114)، ((تفسير ابن كثير)) (8/172)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
عن سَلْمانَ الفارِسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كانت امرأةُ فِرعَونَ تُعذَّبُ بالشَّمسِ، فإذا انصَرَفوا عنها أظلَّتْها الملائِكةُ بأجنِحَتِها، وكانت ترى بَيْتَها في الجنَّةِ) [244] أخرجه الحاكمُ (3834)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1637). صحَّحه على شَرطِ الشَّيخَينِ: الحاكمُ، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 36)، ووثَّق رُواتَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/233). .
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ.
أي: وخَلِّصْني مِن صُحْبةِ فِرعَونَ وتَسَلُّطِه، ومِن كُفْرِه وضَلالِه [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/116)، ((تفسير القرطبي)) (18/203)، ((تفسير ابن كثير)) (8/172)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/377). قال ابن عطية: (قولُها: وَعَمَلِهِ معناه: وكُفْره، وما هو عليه مِن الضَّلالةِ، وهذا قولُ كافَّةِ المفسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/335). وقال القرطبي: (وقيل: مِن عمَلِه: مِن عذابِه وظُلمِه وشماتتِه). ((تفسير القرطبي)) (18/203). .
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أي: وخَلِّصْني مِن قَومِ فِرعَونَ المُشرِكينَ [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/116)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/377). .
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ المثَلَ بمَن أساءَتا الأدَبَ، فلم تَنفَعْهما الوُصلةُ بالأولياءِ، بل زادَتْهما ضَرَرًا؛ للإعراضِ عن الخَيرِ مع قُرْبِه وتَيسُّرِه، وبمَنْ أحسَنَت الأدَبَ فلم تَضُرَّها الوُصلةُ بأعدى الأعداءِ، بل زادَتْها خَيرًا- ضَرَب مثَلًا بقَرينتِها، ومع مُقارَنتِها لها في الكَمالِ فبيْنَ حالَيهما في الثُّيوبةِ والبُكورةِ طِباقٌ، فلم يَبْتَلِها سُبحانَه بخُلْطةِ زَوجٍ؛ جمعًا بيْن ما تقدَّمَ مِن صِنْفَيِ الثَّيِّباتِ والأبكارِ، اللَّاتي يُعْطيهما لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأحسَنَت الأدَبَ في نَفْسِها مع اللهِ، ومع سائِرِ مَن لَزِمَها الأدَبُ معه مِن عِبادِه؛ فأحسَنَ إليها رعايةً لها [247] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/212). .
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا.
أي: وضرَب اللهُ مَثَلًا للَّذين آمَنوا مريمَ بِنتَ عِمْرانَ الَّتي حَفِظَت فَرْجَها وصانَته مِنَ الفاحِشةِ؛ لكَمالِ عِفَّتِها وصَلاحِها [248] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/99)، ((تفسير القرطبي)) (18/203، 204)، ((تفسير ابن جزي)) (2/393)، ((تفسير ابن كثير)) (8/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). قال السمعاني في قولِه تعالى: أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا: (أشهَرُ القَولَينِ أنَّه الفَرْجُ بعَينِه. والعَرَبُ تَقولُ: أحصَنَت فُلانةُ فَرْجَها: إذا عَفَّت عن الزِّنا. والقَولُ الثَّاني: أنَّ الفَرْجَ هاهنا: هو الجَيبُ). ((تفسير السمعاني)) (5/479). والقَولُ الأوَّلُ: استظهره أبو حيَّانَ، وذهب إليه ابنُ جُزَي، والألوسيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/463)، ((تفسير ابن جزي)) (2/393)، ((تفسير الألوسي)) (14/358، 359)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). وممَّن ذهب إلى القولِ الثَّاني: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ إلى الجمهورِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/169)، ((تفسير ابن جرير)) (23/116)، ((تفسير ابن عطية)) (5/335). .
كما قال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] .
وعن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لم يَكمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَريمُ بِنتُ عِمرانَ، وآسيةُ امرأةُ فِرعَونَ)) [249] رواه البخاريُّ (3433) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2431). .
وعن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا فاطِمةَ عامَ الفَتحِ فناجاها فبَكَت، ثمَّ حَدَّثَها فضَحِكَت! قالت: فلمَّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سألْتُها عن بُكائِها وضَحِكِها. قالت: أخبَرَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه سلَّم أنَّه يَموتُ، فبَكَيتُ، ثمَّ أخبَرَني أنِّي سَيِّدةُ أهلِ الجنَّةِ إلَّا مَريمَ بِنتَ عِمرانَ، فضَحِكتُ)) [250] أخرجه الترمذيُّ (3893) واللَّفظُ له، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (8513). قال الترمذي: (حسَنٌ غَريبٌ مِن هذا الوَجهِ). وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3893). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفضَلُ نِساءِ أهلِ الجنَّةِ: خَديجةُ بِنتُ خُوَيلدٍ، وفاطِمةُ بِنتُ مُحمَّدٍ، وآسِيةُ بِنتُ مُزاحِمٍ؛ امرأةُ فِرعَونَ، ومَريمُ ابنةُ عِمرانَ)) [251] أخرجه النسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (8355)، وأحمدُ (2668) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حبَّانَ في ((الصحيح)) (7010)، والألباني فيُّ ((صحيح الجامع)) (1135)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/539)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/ 232)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (4/409)، وحسَّن إسنادَه النَّوويُّ في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/341). .
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا.
أي: فنفَخَ جِبريلُ بأَمْرِنا في فَرْجِها، فحَمَلَت بابنِها عيسى عليه السَّلامُ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/393)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 155، 156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). قال ابن كثير: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا أي: بواسِطةَ الملَكِ، وهو جِبريلُ؛ فإنَّ اللهَ بَعَثه إليها فتمثَّلَ لها في صُورةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، وأمَرَه اللهُ تعالى أن يَنفُخَ بفِيه في جَيبِ دِرعِها، فنزلت النَّفخةُ فوَلَجت في فَرْجِها؛ فكان منه الحَملُ بعيسى عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/173). .
قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 16، 17].
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ.
أي: وآمَنَت مَريمُ بكَلِماتِ اللهِ، وآمَنَت بكُتُبِه، كالتَّوراةِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/117)، ((الوسيط)) للواحدي (4/324)، ((تفسير ابن كثير)) (8/173). قيل: المرادُ بالكَلِماتِ هنا: عيسى عليه السَّلامُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/380)، ((تفسير ابن جرير)) (23/117)، ((تفسير السمرقندي)) (3/472). وقيل: المرادُ بالكَلِماتِ: الشَّرائِعُ الَّتي شرَعَها اللهُ للعبادِ بكَلِماتِه المُنزَّلةِ في كُتُبِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/324)، ((تفسير البغوي)) (5/124)، ((تفسير الخازن)) (4/317)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 754)، ((تفسير الشوكاني)) (5/305). وقيل: الكَلِماتُ هي قَولُ جِبريلَ لمَريمَ عليهما السَّلامُ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [مريم: 19]. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/ 204). وقيل: الكَلِماتُ تَشملُ كَلِماتِ اللهِ الشَّرعيَّةَ والقَدَريَّةَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 875). وقال ابن كثير: (...بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ أي: بقَدَرِه وشَرعِه). ((تفسير ابن كثير)) (8/173). وأمَّا قَولُه تعالى: وَكُتُبِهِ فقيل: المرادُ: الإنجيلُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/380). وقيل: المرادُ: التَّوراةُ والإنجيلُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/117)، ((تفسير ابن عطية)) (5/336). وقيل: المرادُ: التَّوراةُ والزَّبورُ والإنجيلُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: السَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/480). وقال ابنُ عاشور: (آمَنَت بالكتُبِ الَّتي أُنزِلَت قبْلَ عيسى، وهي «التَّوراةُ» و«الزَّبُورُ»، وكُتبُ الأنبياءِ مِن بني إسرائيلَ، و«الإنجيلُ» إن كان قد كَتَبه الحَواريُّونَ في حَياتِها). ((تفسير ابن عاشور)) (28/379). وقال ابن جُزَي: (وكِتَابِهِ بالإفرادِ يحتملُ أن يُريدَ به التَّوراةَ أو الإنجيلَ أو جِنسَ الكُتبِ، وقرأ أبو عَمرٍو وحفصٌ [ويعقوبُ] بالجمعِ يعني: جميعَ كُتبِ الله). ((تفسير ابن جزي)) (2/393). وقراءةُ الإفرادِ قرأ بها الباقونَ. يُنظر: ((إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر)) للبناء (ص: 549). .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران: 45].
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ.
أي: وكانت مَريمُ مِن جُملةِ القَومِ المُطيعينَ للهِ، المواظِبينَ على طاعتِه [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/117)، ((تفسير القرطبي)) (18/204)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). قال الواحدي: (يجوزُ أن يُريدَ بالقانِتينَ: رَهطَها وعَشيرتَها الَّذين كانت منهم مَريمُ، وكانوا مُطيعينَ لله، أهلَ بَيتِ صلاحٍ وطاعةٍ). ((الوسيط)) (4/324). وقال ابن عاشور: (المرادُ بالقانِتينَ: المُكثِرونَ مِن العبادةِ، والمعنى أنَّها كانت سليلةَ قَومٍ صالحينَ، أي: فجاءت على طريقةِ أُصولِها في الخَيرِ والعَفافِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). .
قال تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فيه أنَّ الرَّجُلَ وإن كان في غايةِ الصَّلاحِ فلا يَأمَنُ المرأةَ، ولا يأمَنُ نَفْسَه، كالصَّادِرِ مِن امرأتَيْ نُوحٍ ولُوطٍ [255] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/576). .
2- في قَولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ أنَّ الكافِرَ يُعاقَبُ على كُفْرِه وعداوتِه للهِ ورَسولِه وأوليائِه، ولا يَنفَعُه مع كُفْرِه ما كان بيْنه وبيْن المؤمِنينَ مِن لُحْمَةِ نَسَبٍ، أو صِلَةِ صِهْرٍ، أو سَبَبٍ مِن أسبابِ الاتِّصالِ؛ فإنَّ الأسبابَ كلَّها تَنقَطِعُ يومَ القيامةِ إلَّا ما كان منها مُتَّصِلًا باللهِ وَحْدَه على أيدي رُسُلِه، فلو نَفَعَتْ وُصلةُ القَرابةِ والمُصاهَرةِ أو النِّكاحِ مع عَدَمِ الإيمانِ، لنَفَعَتِ الوُصلةُ الَّتي كانت بيْن لُوطٍ ونُوحٍ وامرأتَيْهما! فلمَّا لم يُغْنِيا عنهما مِن اللهِ شيئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ قَطَعَتِ الآيةُ حينَئذٍ طَمَعَ مَن رَكِبَ معصيةَ اللهِ، وخالَفَ أمْرَه، ورجا أنْ يَنفعَه صلاحُ غيرِه مِن قريبٍ أو أجنبيٍّ، ولو كان بيْنَهما في الدُّنيا أشدُّ الاتِّصالِ، وهذا أصلُ ضَلالِ بني آدمَ وشِرْكِهم، وهو الشِّركُ الَّذي لا يَغفِرُه اللهُ، وهو الَّذي بَعَثَ اللهُ جميعَ رُسُلِه وأنزَلَ جميعَ كُتُبِه بإبطالِه، ومُحارَبةِ أهْلِه ومُعاداتِهم [256] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/144). .
3- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ أنَّ اتِّصالَ المؤمِنِ بالكافِرِ لا يَضُرُّه شَيئًا إذا فارَقَه في كُفْرِه وعَمَلِه؛ فمَعصيةُ الغيرِ لا تَضُرُّ المؤمِنَ المطيعَ شيئًا في الآخِرةِ، وإنْ تَضَرَّرَ بها في الدُّنيا بسَبَبِ العُقوبةِ الَّتي تَحُلُّ بأهلِ الأرضِ إذا أضاعوا أَمْرَ اللهِ، فتأتي عامَّةً؛ فلَمْ يَضُرَّ امرأةَ فِرعونَ اتِّصالُها به وهو مِن أكْفَرِ الكافِرينَ، ولم يَنفَعِ امرأةَ نوحٍ ولوطٍ اتِّصالُهما بهما وهما رَسُولا ربِّ العالَمينَ [257] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/145). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (30/576)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). !
4- في قَولِه تعالى: إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ طلَبَتْ كَوْنَ البَيتِ عندَه قبْلَ طَلَبِها أنْ يكونَ في الجنَّةِ؛ فإنَّ «الجارَ قبْلَ الدَّارِ» [258] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 197). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (8/172). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه دَليلٌ على الالتِجاءِ إلى اللهِ تعالى عندَ المِحَنِ، وسؤالِ الخَلاصِ منها، وأنَّ ذلك مِن سُنَنِ الصَّالِحينَ والأنبياءِ [259] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/216). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قَولِه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا ذَكَر سُبحانَه ثلاثةَ أصنافٍ مِن النِّساءِ: المرأةِ الكافرةِ الَّتي لها وُصلةٌ بالرَّجُلِ الصَّالحِ، والمرأةِ الصَّالحةِ الَّتي لها وُصلةٌ بالرَّجُلِ الكافِرِ، والمرأةِ العَزَبِ الَّتي لا وُصلةَ بيْنَها وبيْنَ أحَدٍ؛ فالأُولى لا تَنفَعُها وُصْلتُها وسَبَبُها، والثَّانيةُ لا تَضُرُّها وُصْلتُها وسَبَبُها، والثَّالِثةُ لا يَضُرُّها عدَمُ الوُصلةِ شَيئًا [260] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/145). .
2- في قَولِه تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ إلى قَولِه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا في هذه الأمثالِ مِن الأسرارِ البَديعةِ ما يُناسِبُ سِياقَ السُّورةِ؛ فإنَّها سِيقَت في ذِكرِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّحذيرِ مِن تَظاهُرِهنَّ عليه، وأنَّهن إنْ لم يُطِعْنَ اللهَ ورَسولَه ويُرِدْنَ الدَّارَ الآخِرةَ، لم يَنفَعْهنَّ اتِّصالُهنَّ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما لم يَنفَعِ امرأةَ نُوحٍ ولوطٍ اتِّصالُهما بهما؛ ولهذا إنَّما ضُرِبَ في هذه السُّورةِ مَثَلُ اتِّصالِ النِّكاحِ دونَ القَرابةِ.
وفي ضَرْبِ المَثَلِ للمُؤمِنينَ بمريمَ -باعتِبارٍ آخَرَ- وهو أنَّها لم يَضُرَّها عندَ اللهِ شيئًا قَذْفُ أعداءِ اللهِ اليهودِ لها، ونِسبَتُهم إيَّاها وابنَها إلى ما بَرَّأَهما اللهُ عنه، مع كَونِها الصِّدِّيقةَ الكُبرى المُصطفاةَ على نساءِ العالَمينَ! فلا يَضُرُّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ قَدْحُ الفُجَّارِ والفُسَّاقِ فيه، وفي هذا تَسليةٌ لعائِشةَ أمِّ المؤمِنينَ، إنْ كانتِ السُّورةُ نَزَلَتْ بعدَ قِصَّةِ الإفكِ، وتوطينُ نَفْسِها على ما قال فيها الكاذِبونَ، إنْ كانت قَبْلَها، كما في ذِكْرِ التَّمثيلِ بامرأةِ نُوحٍ ولوطٍ تحذيرٌ لها ولحَفصةَ ممَّا تعَمَّدَتاه في حَقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فتَضمَّنَتْ هذه الأمثالُ التَّحذيرَ لهنَّ والتَّخويفَ، والتَّحريضَ لهنَّ على الطَّاعةِ والتَّوحيدِ، والتَّسليةَ وتوطينَ النَّفْسِ لِمَن أُوذِيَ مِنهنَّ وكُذِبَ عليه، وأسرارُ التَّنزيلِ فوقَ هذا وأَجَلُّ منه، ولا سيَّما أسرارِ الأمثالِ الَّتي لا يَعْقِلُها إلَّا العالِمونَ [261] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/145). !
3- قد وقَع في القرآنِ الإخبارُ عن أهلِ الإيمانِ بلَفظِ الزَّوْجِ مُفرَدًا وجَمعًا، كما في قولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، وقولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ [الأحزاب: 28، 59]، وقال في حقِّ آدَمَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] [الأعراف: 19] ، ووقَع الإخبارُ عن أهلِ الشِّركِ بلَفظِ المَرأةِ، كما في قولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ، فلَمَّا كانَتا مُشرِكتَينِ أوقَع عليهما اسمَ المرأةِ، وقال في فِرعونَ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا كان هو المُشرِكَ وهي مؤمنةٌ لم يُسَمِّها زَوجًا له، وقال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد: 1 - 4] .
والسِّرُّ في ذِكْرِ المؤمنينَ ونِسائِهم بلَفظِ «الأزواجِ» أنَّ هذا اللَّفظَ مُشْعِرٌ بالمُشاكَلةِ والمجانَسةِ والاقترانِ -كما هو المفهومُ مِن لَفظِه-؛ فإنَّ الزَّوجَينِ هما الشَّيئانِ المُتشابِهانِ المُتشاكِلانِ أو المتَساويانِ، ولا ريبَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قَطَع المُشابَهةَ والمُشاكَلةَ بيْنَ الكافِرِ والمؤمنِ؛ قال تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقَطَع المُقارَنةَ سُبحانَه بيْنَهما في أحكامِ الدُّنيا، فلا يَتوارَثانِ ولا يَتناكَحانِ، ولا يتَولَّى أحدُهما صاحبَه، فكما انقَطَعتِ الوُصلةُ بيْنَهما في المعنى انقطَعتْ في الاسمِ، فأضاف فيها «المرأةَ» بلَفظِ الأنوثةِ المجرَّدِ دونَ لفظِ المشاكَلةِ والمشابَهةِ، وهذا المعنى أشدُّ مُطابَقةً لألفاظِ القُرآنِ ومعانيه؛ ولهذا وَقَع على المُسلِمةِ امرأةِ الكافرِ، وعلى الكافرةِ امرأةِ المؤمِنِ لفظُ «المرأةِ» دونَ «الزَّوجةِ»؛ تحقيقًا لهذا المعنى، واللهُ أعلمُ.
وتأمَّلْ في هذا المعنى في آيةِ المواريثِ وتعليقِه سُبحانَه التَّوارُثَ بلَفظِ الزَّوجةِ دونَ المرأةِ -كما في قَولِه تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء: 12] - إيذانًا بأنَّ هذا التَّوارثَ إنَّما وَقَعَ بالزَّوجيَّةِ المقتَضِيةِ للتَّشاكُلِ والتَّناسُبِ، والمؤمنُ والكافرُ لا تَشاكُلَ بيْنَهما ولا تَناسُبَ؛ فلا يَقَعُ بيْنَهما التَّوارُثُ، وأسرارُ مُفرَداتِ القرآنِ ومُرَكَّباتِه فوقَ عُقولِ العالَمِينَ.
وأمَّا قولُ زكريَّا عليه السَّلامُ: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم: 5] ، وقولُه تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29]، فجَوابُه: أنَّ ذِكْرَ «المرأةِ» ألْيَقُ في هذه المواضعِ؛ لأنَّه في سياقِ ذِكْرِ الحَمْلِ والوِلادةِ، فذِكْرُ «المرأةِ» أَولى به؛ لأنَّ الصِّفةَ -الَّتي هي الأُنوثةُ- هي المقتَضِيةُ للحَمْلِ والوَضعِ لا مِن حيثُ كانت زَوْجًا [262] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 230، 231). .
4- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ أنَّ أنكِحةَ الكُفَّارِ صَحيحةٌ؛ حيثُ سمَّاها سُبحانَه «امرأتَه»، والصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم غالبُهم إنَّما وُلِدوا مِن نكاحٍ كان قبْلَ الإسلامِ في حالِ الشِّركِ، وهم يُنسَبون إلى آبائِهم انتِسابًا لا رَيْبَ فيه عندَ أحدٍ مِن أهلِ الإسلامِ، وقد أسْلَمَ الجَمُّ الغفيرُ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمْ يأمُرْ أحدًا منهم أنْ يُجَدِّدَ عقْدَه على امرأتِه، فلو كانت أنكِحةُ الكُفَّارِ باطِلةً لأمَرَهم بتَجديدِ أنكحتِهم [263] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/614). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا شَهادةُ اللهِ لها بإحصانِ الفَرْجِ، وعليه فمَنْ رماها بما رماها به اليهودُ؛ حيث قالوا: إنَّها زانيةٌ! فإنَّه كافِرٌ مُكَذِّبٌ للهِ عزَّ وجلَّ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/434). .
6- قولُه تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا عطفٌ على اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، فجمَعَ في التَّمثيلِ بيْنَ الَّتي لها زَوجٌ، والَّتي لا زَوجَ لها؛ تَسليةً للأراملِ، وتطْييبًا لأنفُسِهنَّ [265] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/573)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير أبي حيان)) (10/216)، ((تفسير أبي السعود)) (8/270). .
7- في قَولِه تعالى: الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا دَليلٌ على أنَّ اسمَ الإحصانِ يقَعُ على العَفافِ، وأنَّ المرأةَ إذا صانتْ فَرْجَها عن الفاحِشةِ فهي مُحصَنةٌ؛ فالإحصانُ اسمٌ جامِعٌ يَقعُ على هذا، وعلى الإسلامِ والتَّزويجِ، وجِماعُه الحَبْسُ عن الشَّيءِ بالحائلِ دُونَه، فكأنَّها تَحْبِسُ نَفْسَها عن الفاحِشةِ بحاجِزِ الإسلامِ، والتَّعَفُّفِ بالزَّواجِ [266] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/470). .
8- في قَولِه تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا أنَّ الرُّوحَ في الجَسَدِ تُنفَخُ نفخًا، ولكِنْ لا نَعلَمُ الكيفيَّةَ [267] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 92). .
9- قال تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا الروحُ المضافةُ إلى الربِّ هي روحٌ مخلوقةٌ أضافَها إلى نفسِه إضافةَ تخصيصٍ وتشريفٍ. والمضافُ إلى الله سبحانَه نوعانِ:
الأول: صفاتٌ لا تقومُ بأنفسِها، كالعِلمِ والقُدرةِ والكلامِ والسَّمعِ والبصرِ، فهذه إضافةُ صفةٍ إلى الموصوفِ بها، فعلمُه وكلامُه وإرادتُه وقدرتُه وحياتُه صفاتٌ له غيرُ مخلوقةٍ، وكذلك وجهُه ويدُه سبحانَه.
والثاني: إضافةُ أعيانٍ منفصلةٍ عنه، كالبيتِ والنَّاقةِ والعبدِ والرَّسولِ والرُّوحِ، فهذه إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقِه، ومصنوعٍ إلى صانعِه، لكنَّها إضافةٌ تقتضي تخصيصًا وتشريفًا يتميَّزُ به المضافُ عن غيرِه، كبيتِ الله، وإن كانت البيوتُ كلُّها مِلكًا له، وكذلك ناقةُ الله، والنُّوقُ كلُّها مِلكُه وخلقُه، لكنْ هذه إضافةٌ إلى إلهيتِه تقتضي محبتَه لها وتكريمَه وتشريفَه، بخلافِ الإضافةِ العامَّةِ إلى ربوبيتِه حيثُ تقتضي خلقَه وإيجادَه [268] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 154- 156). .
10- في قَولِه تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ اجتَمَع نَوعا كَلِماتِ اللهِ الدِّينيَّةِ والكَونيَّةِ؛ فـ «كُتُبُه» كلماتُه الَّتي يأمُرُ بها ويَنهى، ويُحِلُّ ويُحَرِّمُ، و«كَلِماتُه» هي الَّتي يَخْلُقُ بها ويُكَوِّنُ -وذلك على قولٍ-؛ فأَخبرَ أنَّ مَرْيمَ ليست جَهميَّةً تُنْكِرُ كَلِماتِ دِينِه وكَلِماتِ تكوينِه، وتجعلُها خَلْقًا مِن جملةِ مَخلوقاتِه [269] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 282). !
11- في قَولِه تعالى: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ وكذلك قوله: لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 10] أنَّ الإيمانَ والكَمالَ في الرِّجالِ أكثرُ، لأنَّه لم يَقُلْ: مِن القانتاتِ. ولا: مِن المؤمِناتِ، ولهذا جاء في الحديثِ: ((كَمَلَ مِن الرِّجالِ كثيرٌ، ولم يَكمُلْ مِن النِّساءِ إلا آسيةُ امرأةُ فِرعونَ، ومريمُ بنتُ عِمْرانَ )) [270] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 49). والحديث رواه البخاريُّ (3433) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2431). !
12- في قولِه تعالى: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ إيماءٌ إلى تَبْرئةِ مريمَ ممَّا رَماها به القومُ البُهْتُ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/379). .
13- قال تعالى: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ، في ذِكْرِ القانتينَ إيماءٌ إلى ما أوصَى اللهُ به أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ بقولِه تعالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] الآيةَ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/379). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أُعْقِبَتْ جُملةُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التحريم: 9] الآيةَ -المقصودُ منها تَهديدُهم بعَذابِ السَّيفِ في الدُّنيا، وإنذارُهم بعَذابِ الآخِرةِ، وما قارَنَ ذلكَ مِن مُقابَلةِ حالِهم بحالِ المُؤمِنينَ-؛ بأنْ ضرَب مَثلَيْنِ للفريقَيْنِ بنظيرَيْنِ في حالَيْهما؛ لتَزدادَ الموعظةُ وُضوحًا، ويَزدادَ التَّنويهُ بالمُؤمِنينَ استِنارةً؛ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/373). .
- قولُه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا فيه تَقديمُ المجرورِ باللَّامِ على المفعولِ؛ للاهتمامِ بإيقاظِ الَّذينَ كفَروا [274] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/374). .
- ومِن لَطائفِ التَّقييدِ بقولِه تعالَى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أنَّ المقصدَ الأصليَّ هو ضَرْبُ المثَلِ لِلَّذِينَ كَفَرُو، وذلكَ مِنَ الاحتراسِ مِن أنْ يُحمَلَ التَّمثيلُ على المُشابَهةِ مِن جَميعِ الوُجوهِ، والاحتراسُ بكَثرةِ التَّشبيهاتِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/374). .
- قولُه: اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ مُناسَبةُ ضَرْبِ المثَلِ بامرأةِ نوحٍ وامرأةِ لوطٍ دونَ غيرِهِما مِن قَرابةِ الأنبياءِ، نَحْو أبي إبراهيمَ وابنِ نوحٍ عليهِما السَّلامُ؛ لأنَّ ذِكْرَ هاتَينِ المرأتَينِ لم يَتقدَّمْ، وقد تَقدَّمَ ذِكْرُ أبي إبراهيمَ وابنِ نوحٍ؛ لتَكونَ في ذِكْرِهِما فائدةٌ مُستجَدَّةٌ، ولِيَكونَ في ذِكْرِهما عَقِبَ ما سبَقَ مِن تَمَالُؤِ أُمَّيِ المُؤمِنينَ على زَوجِهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَعريضٌ لَطيفٌ بالتَّحذيرِ مِن خاطرِ الاعتزازِ بغَناءِ الصِّلةِ الشَّريفةِ عنهما في الوَفاءِ بحقِّ ما يجِبُ مِنَ الإخلاصِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليَكونَ الشَّبهُ في التَّمثيلِ أقوى؛ ففي ضَرْبِ هذا المثَلِ: تَعريضٌ بحَفصةَ وعائشةَ رَضيَ اللهُ عنهما المذكورتَينِ في أوَّلِ السُّورةِ، وما فَرَطَ مِنهما مِنَ التَّظاهُرِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما كَرِهَه، وتَحذيرٌ لهما على أغلَظِ وَجْهٍ وأشَدِّه؛ لِمَا في التَّمثيلِ مِن ذِكْرِ الكُفرِ ونَحْوِه، وإشارةٌ إلى أنَّ مِن حقِّهِما أنْ تَكونَا في الإخلاصِ والكِتمانِ فيه كمِثْلِ هاتَينِ المؤمنتَيْنِ، وألَّا تتَّكِلَا على أنَّهما زَوْجَتا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ ذلكَ الفضلَ لا يَنفَعُهما إلَّا مع كَونِهما مُخلِصتَينِ [276] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/571)، ((تفسير أبي حيان)) (10/217)، ((تفسير أبي السعود)) (8/270)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/373، 374)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/143). قال ابنُ عطيَّة: (وقال بعضُ النَّاسِ: إنَّ في المثَلَينِ عِبرةً لزَوجاتِ النَّبيِّ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ تقَدَّم عِتابُهنَّ، وفي هذا بُعْدٌ؛ لأنَّ النَّصَّ أنَّه للكُفَّارِ يُبعِدُ هذا). ((تفسير ابن عطية)) (5/335). وقال ابنُ عاشور مُعَقِّبًا: (ويَدفَعُ اسْتِبعادَه أنَّ دَلالةَ التَّعريضِ لا تُنافي اللَّفظَ الصَّريحَ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/374). وقال السعدي: (فكأنَّ في ذلك إشارةً وتحذيرًا لزَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن المعصيةِ، وأنَّ اتِّصالَهنَّ به صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَنفَعُهنَّ شيئًا مع الإساءةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
- وفي قولِه: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فائدةُ قولِه: مِنْ عِبَادِنَا بعْدَ عَبْدَيْنِ مَدْحُهما والثَّناءُ عليهِما، بإضافتِهما إليه إضافةَ التَّشريفِ والتَّخصيصِ والتَّعظيمِ، وفي ذلكَ مُبالَغةٌ في المعْنى المقصودِ، وهو أنَّ الإنسانَ لا يَنْفَعُه عادةً إلَّا صلاحُ نفْسِه، لا صَلاحُ غَيرِه، وإنْ كانَ ذلكَ الغَيرُ في أعلى المراتِبِ [277] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/519)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 574). .
- وجاءتِ الكِنايةُ عن اسْمِهما العَلَمينِ بقولِه: عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا؛ لِما في ذلك مِن التَّشريفِ بالإضافةِ إليه تَعالى، ولم يأْتِ التَّركيبُ بالضَّميرِ عنهما، فيَكون (تحْتَهما)؛ لِما قُصِدَ مِن ذِكرِ وصْفِهما بقولِه: صَالِحَيْنِ؛ لأنَّ الصَّلاحَ هو الوصفُ الَّذي يَمتازُ به مَن اصطفاهُ اللهُ تعالَى، كقولِه في حقِّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130] ، وفي قولِ يوسفَ عليه السَّلامُ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] ، وقولِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] [278] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/215). ، ولأنَّ ذلك أفخَمُ، فيكونُ أشَدَّ تأثيرًا للمَوعوظِ وأعظَمَ، ودَفعًا لأن يَتوهَّمَ أحَدٌ بشَيءٍ لا يَليقُ بمَقامِهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ [279] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/208). .
- وأيضًا خَصَّ نوحًا ولُوطًا بوَصْفِ عبدَيْنِ صالحَينِ، مع أنَّ وصْفَ النُّبوَّةِ أخصُّ مِن وصْفِ الصَّلاحِ؛ تَنويهًا بوصْفِ الصَّلاحِ، وإيماءً إلى أنَّ النُّبوَّةَ صَلاحٌ؛ ليَعْظُمَ بذلكَ شأنُ الصَّالِحينَ، ولتَكونَ المَوعظةُ ساريةً إلى نِساءِ المُسلِمينَ في مُعامَلتِهنَّ أزواجَهنَّ؛ فإنَّ وصْفَ النُّبوَّةِ قد انْتهَى بالنِّسبةِ للأمَّةِ الإسلاميَّةِ، مع ما في ذلكَ مِن تَهويلِ الأذى لعبادِ اللهِ الصَّالِحينَ، وعِنايةِ ربِّهم بهم، ومُدافَعتِه عنهم [280] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/572)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/375). .
- قولُه: فَخَانَتَاهُمَا بَيانٌ لِما صدَرَ عنهُما مِن الجِنايةِ العَظيمةِ مع تَحقيقِ ما يَنْفِيها مِن صُحبةِ النَّبيِّ، أي: خانَتاهُما بالكُفْرِ والنِّفاقِ، وهذا تَصويرٌ لحالِهما المُحاكيةِ لحالِ هؤلاءِ الكَفرةِ في خِيانتِهم لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالكفْرِ والعِصيانِ، مع تَمكُّنِهمُ التَّامِّ مِنَ الإيمانِ والطَّاعةِ [281] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/270). . وليست هي الخيانةَ بمعنى الزِّنا؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد صان أنبياءَه وعصَمَهم عن تلبُّسِ زَوجاتِهم بالزِّنا.
- قولُه: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا فيه تَنكيرُ شَيْئًا للتَّحقيرِ، أي: أقلَّ غِنًى وأجحَفَه، بَلْهَ الغِنَى المُهِمَّ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/376). .
- قولُه: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ زِيادةُ مَعَ الدَّاخِلِينَ لإفادةِ مُساواتِهِما في العذابِ لغيرِهِما مِنَ الكَفرةِ الخوَنةِ، وذلكَ تأْييسٌ لهُما مِن أنْ تَنْتَفِعا بشَيءٍ مِن حُظوةِ زَوجَيْهِما [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/376). .
2- قولُه تعالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ جُعِلَ المثَلُ للَّذينَ آمَنوا بحالِ امرأتَيْنِ لتَحصُلَ المُقابَلةُ للمَثلَينِ السَّابقَينِ؛ فهذا مِن مُراعاةِ النَّظيرِ في المثلَيْنِ. وجاءَ أحَدُ المَثلَيْنِ للَّذينَ آمَنوا مَثَلًا لإخلاصِ الإيمانِ، والمَثَلُ الثَّاني لشِدَّةِ التَّقْوى؛ فكانَتِ امْرأةُ فِرعونَ مَثَلًا لِمَتانةِ إيمانِ المُؤمِنينَ، ومَريمُ مَثَلًا للقانتِينَ؛ لأنَّ المُؤمِنينَ تَبرَّؤُوا مِن ذَوِي قَرابتِهِمُ الَّذينَ بَقُوا على الكفرِ بمَكَّةَ [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/376). .
- وأرادَتْ بعمَلِ فِرعونَ ظُلْمَه -على قولٍ في التَّفسيرِ-، أي: نجِّني مِن تَبِعَةِ أعمالِه؛ فيكونُ معنى (نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) مِن صُحبتِه، طلَبَتْ لنفْسِها فرَجًا، وهو مِن عطفِ الخاصِّ على العامِّ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/377). .
3- قولُه تعالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
- وُصِفَتْ مريمُ بالمَوصولِ وصِلتِه الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا؛ لأنَّها عُرِفَتْ بتلكَ الصِّلةِ مِن قصَّتِها المعروفةِ مِن تَكرُّرِ ذِكْرِها فيما نزَلَ مِنَ القرآنِ قبْلَ هذه السُّورةِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/379). .
- وتَفريعُ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا تَفريعُ العَطيَّةِ على العَملِ لأجْلِه، أي: جَزَيْناها على إحصانِ فرْجِها، أي: بأنْ كوَّنَ اللهُ فيه نبيًّا بصِفةٍ خارقةٍ للعادةِ؛ فخلَّدَ بذلكَ ذِكْرَها في الصَّالِحاتِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). .
- قَولُه: فَنَفَخْنَا أضاف اللهُ النَّفخَ إليه؛ لأنَّه فِعْلُ رَسولِه الَّذي أرسَلَه لِيَنفُخَ في فَرْجِها، وإضافةُ النَّفخِ إلى اللهِ مع أنَّه كان مِن جبريلَ: كإضافةِ القِراءةِ إلى اللهِ مع أنَّه كان مِن جِبريلَ في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ [القيامة: 18] ؛ فالَّذي يقرأُ جبريلُ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتَّبِعُه [288] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/508). .
- قولُه: رُوحِنَا أضاف اللهُ تعالى الرُّوحَ إلى نَفْسِه إضافةَ مخلوقٍ إلى خالِقِه، وفي ذلك تَشريفٌ له [289] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/393). .
وقيل: إضافةُ الرُّوحِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ لأنَّ تكوينَ المخلوقِ الحيِّ في رَحِمِها كان دونَ الأسبابِ المعتادةِ، أو أُرِيدَ بالرُّوحِ المَلَكُ الَّذي يُؤْمَرُ بنَفخِ الأرواحِ في الأجِنَّةِ؛ فعلى الأوَّلِ تكونُ مِنْ تَبعيضيَّةً، وعلى الثَّاني تكونُ ابتدائيَّةً [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/378). .
- قولُه: وَصَدَّقَتْ عطفٌ على مَحذوفٍ مُقدَّرٍ مُناسِبٍ للسِّياقِ، أي: فحمَلَتْ بعيسى وصدَّقَتْ [291] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/143). .
- قولُه: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ يَجوزُ أنْ تكونَ (مِن) للابتِداءِ، والمعْنى: أنَّها كانت سَليلةَ قومٍ صالحينَ، أي: فجاءتْ على طَريقةِ أُصولِها في الخيرِ والعَفافِ. ويجوزُ جعْلُ (مِن) للتَّبعيضِ، أي: هي بَعضُ مَن قَنَتَ للهِ. وغُلِّبَت صِيغةُ جمْعِ الذُّكورِ، ولم يُقَلْ: مِن القانتاتِ، جرْيًا على طَريقةِ التَّغليبِ، لإطباقِ أهلِ اللِّسانِ العَربيِّ على تغليبِ الذَّكَرِ على الأُنثى في الجَمعِ، وهو مِن تَخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتضَى الظَّاهِرِ، ونُكْتَتُه هنا الإشارةُ إلى أنَّها في عِدادِ أهلِ الإكثارِ مِنَ العبادةِ، وأنَّ طاعتَها لم تَقْصُرْ عن طاعةِ الرِّجالِ الكامِلينَ حتَّى عُدَّتْ مِن جملتِهِم، وأنَّ شأنَ ذلكَ أنْ يكونَ للرِّجالِ؛ لأنَّ نساءَ بَنِي إسرائيلَ كُنَّ مَعْفِيَّاتٍ مِن عِباداتٍ كثيرةٍ، وأيضًا لرِعايةِ الفواصلِ [292] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/573)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير أبي حيان)) (10/217)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 574، 575)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 270)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/379)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 161)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 241)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/143). .