موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (91-94)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات :

وَتَقَطَّعُوا أي: اختَلَفوا، وتفَرَّقوا، وأصلُ (قطع): يدُلُّ على صَرمٍ، وإبانةِ شيءٍ مِن شيءٍ .
فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ: أي: لاجحودَ لعملِه، ولا تضييعَ لجزائِه، وأصلُ (كفر): يدلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ، والسعيُ: المشيُ السريعُ، وأكثرُ ما يُستعمَلُ في الأفعالِ المحمودةِ .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ
قَولُه: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً: أُمَّتُكُمْ خبَرُ لـ إِنَّ، ونُصِبَ أُمَّةً على الحالِ من أُمَّتُكُمْ، أو نُصِبَ على البدَلِ مِن هَذِهِ، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبَرِ بين البَدَلِ والمُبدَلِ منه .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- مَريمَ التي حَفِظَت فَرْجَها مِنَ الحَرامِ، فأرسلَ اللهُ إليها جِبريلَ عليه السَّلامُ، فنفخَ في جَيبِ قَميصِها، فوصَلَت النَّفخةُ إلى فَرجِها، فحَمَلت بعِيسى عليه السَّلامُ، وجعَلها الله هي وابنَها علامةً للناسِ تدلُّهم على قُدرتِه.
إنَّ مِلَّةَ الإسلامِ أيُّها الناسُ هي مِلَّتُكم الَّتي يَجِبُ أن تكونوا عليها لا تنحرِفونَ عنها، مِلَّةً واحِدَةً غيرَ مختلفةٍ. واللهُ سُبحانَه وتعالى ربُّكم فاعبُدوه -أيُّها النَّاسُ- وَحْدَه لا شَريكَ له. لكِنَّ النَّاسَ تفرَّقوا في الدِّينِ شِيَعًا وأحزابًا، وكُلُّهم راجِعونَ إلينا ومُحاسَبونَ على ما فَعَلوا. فمَن عَمِلَ مِن صالحِ الأعمالِ طاعةً لله وعبادةً له وهو مُؤمِنٌ، فلا يُضِيعُ اللهُ عَمَلَه ولا يُبطِلُه، بل يُثيبُه عليه يومَ القيامةِ، وإنَّا نكتُبُ أعمالَه الصَّالِحةَ كُلَّها، وسيَجِدُ ما عَمِلَه في كتابِه يومَ يُبعَثُ بعدَ مَوتِه.

تفسير الآيات:

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّه خَرَق العادةَ في إبداعِ يحيى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ والِدَينِ لا يُولَدُ لِمِثلِهما، تلاه بإبداعِ ابنِ خالتِه عيسى عليه السَّلامُ الذي هو عَلَمٌ للسَّاعةِ، على حالٍ أغرَبَ مِن حالِه، فأخرَجَه مِن أُنثى بلا ذَكَرٍ ، فقال تعالى:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- مَريمَ التي حَفِظَت فَرْجَها من الحَرامِ، فأمَرْنا جبريلَ أن يَنفُخَ الرُّوحَ في جَيبِ درعِها ، فبَلَغَت النَّفخةُ فَرْجَها، فحَمَلت بعِيسى .
كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] .
وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ.
أي: وجعَلْنا مَريمَ وابنَها عيسى عَلامةً عَظيمةً للنَّاسِ تدُلُّهم على اللهِ، وعلى قُدرتِه وعَظيمِ سُلْطانِه .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92).
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.
أي: إنَّ مِلَّةَ الإسلامِ أيُّها الناسُ هي مِلَّتُكم الَّتي يَجِبُ أن تُحافِظوا على حدودِها، وتُراعوا حقوقَها، وأنْ تكونوا عليها، لا تنحرِفونَ عنها، مِلَّةً واحِدَةً، غيرَ مختلفةٍ .
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
أي: وأنا -لا غيري- مَنْ خلَقْتُكم وربَّيتُكم بنِعَمي، فما دام أنَّ الرَّبَّ واحِدٌ والدِّينَ واحِدٌ، فأفرِدُوني بالعِبادةِ، ولا تُشرِكوا بي، ولا تختَلِفوا في ذلك .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 51- 52] .
وقال سُبحانَه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أنا أَولى النَّاسِ بعِيسى ابنِ مَريمَ في الأُولى والآخرةِ. قالوا: كيفَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الأنبياءُ إِخوةٌ مِن عَلَّاتٍ ، وأمَّهاتُهم شَتَّى، ودينُهم واحِدٌ، فليس بيننا نبيٌّ )) .
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93).
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.
أي: وتفرَّق النَّاسُ في دينِهم الذي شرَعَه اللهُ لهم، فصاروا فيه فِرَقًا وأحزابًا شَتَّى .
كما قال تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] .
كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ.
أي: كُلُّ أولئك المتفَرِّقينَ المُختَلِفينَ في دينِ اللهِ صائِرونَ إلينا يَومَ القيامةِ، فنحكُمُ بينهم ونُجازيهم على أعمالِهم؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94).
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ.
أي: فمَن يعمَلْ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ وهو مُؤمِنٌ باللهِ ورُسُلِه، والحالُ أنَّه مُوَحِّدٌ لله تعالى مُخلِصٌ له في عَمَلِه؛ فلن يجحَدَ اللهُ عَمَلَه ولن يُضِيعَه، بل يُثيبُه عليه يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 30، 31].
وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ.
أي: ونحن نكتُبُ أعمالَه الصَّالِحةَ كُلَّها، صَغيرَها وكَبيرَها، لا نَترُكُ منها شَيئًا، وما كتَبْناه غيرُ ضائعٍ، بل هو باقٍ لصاحِبِه؛ لِنُطلِعَه عليه يومَ الجَزاءِ، ونجازيَه على ما قدَّمَ .

الفوائد التربوية:

1- قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فيه حَثٌّ على الاجتِماعِ، وتجنُّبِ الاختِلافِ ، ولا شَكَّ أنَّ تحَزُّبَ المُسلِمينَ إلى أحزابٍ مُتَفَرِّقةٍ مُتناحِرةٍ مُخالِفٌ لِما تقتَضيه الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ مِن الائتِلافِ والاتِّفاقِ، موافِقٌ لِما يريدُه الشَّيطانُ مِن التَّحريشِ بينَ المُسلِمينَ، وإيقاعِ العَداوةِ والبَغضاءِ، وصَدِّهم عن ذِكرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ؛ قال الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وفي الآيةِ الأُخرى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [المؤمنون: 52] ، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ، وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .
2- المرادُ بقولِه تعالى: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ترغيبُ العبادِ في التمسُّكِ بطاعةِ الله تعالى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا أنَّ مَن قذَف مريمَ -والعياذُ بالله- فإنَّه يُقتَلُ؛ لأنَّه حتى لو فرَضْنا أنَّه ليس مِن بابِ القَذفِ؛ فهو مِن بابِ تكذيبِ القرآنِ .
2- في قولِه تعالى: أُمَّةً وَاحِدَةً أي: دينًا واحدًا -وهو الإسلامُ- غيرَ مختلفٍ؛ فأبطَل ما سِوَى الإسلامِ مِن الأديانِ .
3- قول الله تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، لما كان المقصودُ تعيينَ المرادِ مِن غيرِ لبسٍ، عدَل عن صيغةِ العظمةِ، فقال: وَأَنَا رَبُّكُمْ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ
- قولُه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا عبَّرَ عن مَريمَ عليها السَّلامُ بالموصولِ؛ دَلالةً على أنَّها قدِ اشتُهِرَتْ بمَضمونِ الصِّلةِ، وأيضًا لِمَا في الصِّلةِ مِن معنى تَسفيهِ اليهودِ الَّذين تَقوَّلوا عنها إفْكًا وزُورًا، ولِيُبْنَى على تلك الصِّلةِ ما تَفرَّعَ عليها مِن قولِه تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا الَّذي هو في حُكْمِ الصَّلةِ أيضًا، فكأنَّه قِيلَ: والَّتي نَفَخْنا فيها من رُوحِنا؛ لأنَّ كِلَا الأمْرينِ مُوجِبٌ ثَناءً .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ، وقال في سُورةِ (التَّحريمِ): وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم: 12] ، ففي الأُولى فِيهَا، وفي الثَّانيةِ فِيهِ، فوقَعَ اختلافٌ في الضَّميرينِ مع اتِّحادِ المعنى؛ ووَجْهُه: أنَّه لمَّا كان القصْدُ في سُورةِ (الأنبياءِ) إلى الإخبارِ عن حالِ مَريمَ وابْنِها، وأنَّهما جُعِلَا آيةً للنَّاسِ، وكان النَّفخُ فيها ممَّا جعَلَها حامِلًا، والحامِلُ صِفَةٌ للجُملةِ؛ فلمَّا كان القصْدُ التَّعجُّبَ مِن حالَيْهما، وأنَّها بالنَّفخِ صارت حامِلًا، رُدَّ الضَّميرُ إلى جُمْلَتِها؛ إذ كان النَّفخُ في فَرْجِها نَفْخًا فيها، أوجَبَ القصْدُ إلى وَصْفِها بعْدَ النَّفخِ بصِفَةٍ تَرجِعُ إلى جُمْلَتِها دونَ بَعْضِها، كان قولُه: فَنَفَخْنَا فِيهَا [الأنبياء: 91] أَولى مِن قولِه: فَنَفَخْنَا فِيهِ [التحريم: 12] . وأمَّا قولُه في سُورةِ (التَّحريمِ): فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] ، فكان الكلامُ مقصورًا على ذكرِ إِحصانِها، وتصديقِها بكلماتِ ربِّها، وكان النفخُ أَصاب فرجَها، وهو مذكَّر، فجاء اللَّفظُ على أصْلِه، والمعنى: نَفَخْنا في فَرْجِها، ولم يُسَقِ الكلامُ إلى ما سِيقَ إليه في سُورةِ (الأنبياءِ) مِن وَصْفِ حالِها بعْدَ النَّفخِ؛ فاخْتَلَفا لذلك . وقيل غيرُ ذلك .
- والظَّرفيَّةُ المُفادَةُ بـ (في) كَونُ مَريمَ ظَرْفًا لحُلولِ الرُّوحِ المنفوخِ فيها؛ إذ كانت وِعاءَهُ؛ ولذلك قيل: فِيهَا ولم يُقَلْ: (فِيهِ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الحَمْلَ الَّذي كُوِّنَ في رَحِمِها حَمْلٌ مِن غيرِ الطَّريقِ المُعتادِ، كأنَّه قِيلَ: فنفَخْنا في بَطْنِها، وذلك أعرَقُ في مُخالَفةِ العادةِ؛ لأنَّ خَرْقَ العادةِ تَقْوى دَلالتُه بمِقْدارِ ما يَضمحِلُّ فيه مِن الوسائلِ المُعتادةِ .
- ومن المُناسَبةِ أيضًا: ذِكْرُ مَريمَ وابْنِها عليهما السَّلامُ في سُورةِ (الأنبياءِ)، وذِكْرُ مَريمَ فقطْ في سُورةِ (التَّحريمِ)؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (الأنبياءِ) ورَدَت معطوفةً على آياتٍ تَضمَّنْت ذِكْرَ جُملةٍ من الرُّسلِ، فلمَّا ذُكِر هؤلاء الرُّسلُ عليهم السَّلامُ بخَصائصَ ومِنَحٍ، ناسَبَ ذلك ذِكْرُ مَريمَ وابْنِها بما مُنِحَا عليهما السَّلامُ. وأمَّا آيةُ (التَّحريمِ) فمَقصودٌ فيها ذِكْرُ عَظيمتينِ جَليلتينِ يُبَيَّنُ بهما حُكْمُ سَبقيَّةِ القَدَرِ بالإيمانِ والكُفْرِ، وهما قَضيَّةُ امرأتيْ نُوحٍ ولُوطٍ، وأنَّ انضواءَهما إلى هذينِ النَّبيَّينِ الكَريمينِ عليهما السَّلامُ انضواءُ الزَّوجيَّةِ الَّتي لا أقرَبَ منها، ومع ذلك لم يُغْنِيا عنهما مِن اللهِ شَيئًا، وقِصَّةُ امرأةِ فِرْعونَ، وقدِ انضوتْ إلى أكفَرِ كافرٍ، فلم يَضُرَّها كُفْرُه، ثمَّ ذُكِرَت مَريمُ عليها السَّلامُ؛ لِلالتقاءِ في الاختصاصِ وسَبقيَّةِ السَّعادةِ، ولم يَدْعُ داعٍ إلى ذِكْرِ ابْنِها، فلا وَجْهَ لذِكْرِه هنا، وأمَّا آيةُ (الأنبياءِ) فلِذِكْرِه هناك أوضَحُ حاملٍ؛ فجاء كلٌّ على ما يَجِبُ، ولا يُمكِنُ فيه عَكْسُ الواردِ .
- قولُه: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا إضافةُ الرُّوحِ إلى اللهِ تعالى إضافةُ تَشريفٍ، حيث أسنَدَ النَّفخَ إليه تعالى لمَّا كان ذلك مِن جِبْريلَ بأْمِرِه تعالى تَشريفًا؛ فإنَّه رُوحٌ مَبعوثٌ مِن لَدُنِ اللهِ تعالى بدُونِ وَساطةِ التَّطوُّراتِ الحيوانيَّةِ للتَّكوينِ النَّسْليِّ .
- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ قَدَّمَها على الابنِ لَمَّا كان السِّياقُ في ذكرِها في قولِه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، ولذلك قَدَّمَ الابنَ في قولِه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وحسَّنَه تَقَدُّمُ موسَى في الآيةِ قبلَه .
- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ عبَّرَ عنهما بـ آَيَةً بالإفرادِ؛ لأنَّ حالَهما لمَجموعِهما آيةٌ واحدةٌ؛ وهي وِلادتُها إيَّاهُ مِن غيرِ فَحْلٍ. وقيل: أُرِيدَ بالآيةِ الجِنْسُ الشَّاملُ لِمَا لكلِّ واحدٍ منهما مِن الآياتِ المُستقلَّةِ. وقيل: المعنى: وجعَلْناها آيةً، وابْنَها آيةً، فحُذِفَتِ الأُولى؛ لدَلالةِ الثَّانيةِ عليها .
2- قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ابتداءُ كلامٍ مَحْكِيٍّ بقَولٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، والخِطابُ للأنبياءِ المَذْكورينَ في الآياتِ السَّابقةِ -على قولٍ في التفسير-، والتَّقديرُ: قائلينَ لهم: إنَّ هذه أُمَّتُكم... إلى آخِرِه، والتَّأكيدُ بـ  إِنَّ على هذا الوَجْهِ؛ لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبَرِ؛ لِيتلقَّاهُ الأنبياءُ بقُوَّةِ عَزْمٍ، أو رُوعِيَ فيه حالُ الأُمَمِ الَّذين يَبلُغُهم ذلك. ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ استئنافًا، والخِطابُ لأُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: إنَّ هذه المِلَّةَ -وهي الإسلامُ- هي مِلَّةٌ واحدةٌ لسائرِ الرُّسلِ، والتَّأكيدُ على هذا لِرَدِّ إنْكارِ مَن يُنكِرُ ذلك مِثْلُ المُشرِكينَ .
- وتَعريفُ الإضافةِ في قولِه: أُمَّتُكُمْ لِلاختصاصِ، أي: هذه المِلَّةُ مُتعيِّنةٌ لكم؛ فلا مَجالَ للانحرافِ عنها .
- قولُه: أُمَّةً وَاحِدَةً حالٌ مُؤكِّدةٌ، أفادتِ التَّمييزَ والتَّشخيصَ لحالِ الشَّرائعِ الَّتي عليها الرُّسلُ، أو الَّتي دعا إليها محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
- وأفادَ قولُه: وَأَنَا رَبُّكُمْ الحصْرَ، أي: أنا لا غَيري؛ بقَرينةِ السِّياقِ والعطْفِ على أُمَّةً وَاحِدَةً؛ إذ المعنى: وأنا ربُّكم ربًّا واحدًا، ولذلك فرَّعَ عليه الأمْرَ بعِبادتِه، أي: فاعْبُدونِ دونَ غَيري .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وقال في سُورةِ (المُؤمِنون): وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] ؛ فوقَعَ اختلافٌ بين قولِه: فَاعْبُدُونِ، وقولِه: فَاتَّقُونِ في الآيتينِ؛ ووَجْهُه: أنَّ سُورةَ (الأنبياءِ) لم يَرِدْ فيها ذِكْرُ لفْظِ التَّقوى في أمْرٍ ولا خبَرٍ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، وورَدَ الأمْرُ بالعبادةِ في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وأمَّا سُورةُ (المُؤمِنون) فتكرَّرَ فيها ذِكْرُ التَّقوى في ثَلاثةِ مَواضِعَ؛ أوَّلُها: قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 23] ، وفيما بعْدَ الآيةِ المُتكلَّمِ فيها: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 87] ؛ فرُوعِيَ في الأُولى ما تَقدَّمَها، ونُوسِبَ بالثَّانيةِ ما اكْتَنَفَها. وأيضًا فإنَّ العِبادةَ مأْمورٌ بها ليَحصُلَ الاتِّقاءُ، فهي مُقدَّمةٌ في الطَّلبِ لتَحصيلِ ما يَتسبَّبُ عنها إذا كانت الإجابةُ، وعلى ذلك ورَدَ دُعاءُ الخَلْقِ؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ؛ فالاتِّصافُ بالتَّقوى ثانٍ عن الاتِّصافِ بالعِبادةِ، فقيل في (الأنبياءِ): فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] ، وفي سُورةِ (المُؤمِنون): فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 87] ، وكِلَاهما ذُكِرَ على مُقْتضى التَّرتيبِ . وقيل غيرُ ذلك .
3- قولُه تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ضَمائرُ الغَيبةِ فيه عائدةٌ إلى مَفهومٍ مِن المَقامِ، وهم الَّذين مِن الشَّأْنِ التَّحدُّثُ عنهم في القُرآنِ المَكِّيِّ بمِثْلِ هذه المَذامِّ، وهم المُشرِكونَ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الضَّمائرُ عائدةً إلى أُمَمِ الرُّسلِ؛ فعلى أنَّ ضَمائرَ الخِطابِ في قولِه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء: 92] للرُّسلِ، يكونُ الكلامُ انتقالًا مِن الحِكايةِ عن الرُّسلِ إلى الحِكايةِ عن حالِ أُمَمِهم في حَياتِهم، أو الَّذين جاؤوا بعْدَهم مِثْلُ اليهودِ والنَّصارى؛ إذ نَقَضوا وَصايَا أنبيائِهم. وعلى أنَّ ضَمائرَ الخِطابِ لأُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تكونُ ضَمائرُ الغَيبةِ الْتِفاتًا؛ لمَّا كان هذا الفِعْلُ من أقبَحِ المُرتكَباتِ، عُدِلَ عن الخِطابِ إلى لَفظِ الغَيبةِ؛ كأنَّ هذا الفِعْلَ ما صَدَرَ مِن المُخاطَبِ؛ لأنَّ في الإخبارِ عنهم بذلك نَعْيًا عليهم ما أفْسَدوهُ، وكأنَّه يُخبِرُ غيرَهم ما صَدَرَ مِن قَبيحِ فِعْلِهم، ويقولُ: ألَا تَرى إلى ما ارتكَبَ هؤلاء في دِينِ اللهِ؛ جَعَلوا أمْرَ دِينِهم قِطعًا كما يَتوزَّعُ الجَماعةُ الشَّيءَ، لهذا نَصيبٌ، ولهذا نَصيبٌ؛ تَمثيلًا لاختِلافِهم .
- قولُه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فيه إسنادُ التَّقطُّعِ إليهم؛ لأنَّهم جَعَلوا أنفُسَهم فِرَقًا؛ فعَبَدوا آلِهةً مُتعدِّدةً، واتَّخذَت كلُّ قَبيلةٍ لنَفْسِها إلِهًا مِن الأصنامِ مع اللهِ، فشَبَّه فِعْلَهم ذلك بالتَّقطُّعِ، وزِيادةُ بَيْنَهُمْ؛ لإفادةِ أنَّهم تَعاونوا وتَظاهَروا على تَقطُّعِ أمْرِهم؛ فرُبَّ قَبيلةٍ اتَّخذَتْ صَنمًا لم تكُنْ تَعبُدُه قَبيلةٌ أُخْرى، ثمَّ سَوَّلوا لِجيرَتِهم وأحلافِهم أنْ يَعبُدوهُ، فألْحَقوه بآلِهَتِهم ، وهذا على أنَّ المرادَ بهم المشركونَ.
- وجُملةُ: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لجَوابِ سُؤالٍ يَجيشُ في نَفْسِ سامِعِ قولِه تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ، وهو مَعرِفةُ عاقبةِ هذا التَّقطُّعِ. وفيه تَعريضٌ بالتَّهديدِ، ودَلَّ على ذلك التَّفريعُ في قولِه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ إلى آخِرِه .
- في قولِه: إِلَيْنَا رَاجِعُونَ أورَدَ اسمَ الفاعلِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والتَّحقُّقِ .
4- قولُه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ تَفصيلٌ للجزاءِ . وفُرِّعَ قولُه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... على الوعيدِ المُعرَّضِ به في قولِه تعالى: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء: 94] ، وهو تَفريعٌ بَديعٌ مِن بَيانِ صِفَةِ ما تُوعِّدوا به، وذلك من قولِه تعالى: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] الآياتِ. وقَدَّمَ وَعْدَ المُؤمِنين بجَزاءِ أعمالِهم الصَّالحةِ؛ اهتمامًا به، ولوُقوعِه عَقِبَ الوعيدِ؛ تَعجيلًا لِمَسرَّةِ المُؤمِنين قبْلَ أنْ يَسمَعوا قَوارِعَ تَفصيلِ الوعيدِ؛ فليس هو مَقصودًا مِن التَّفريعِ، ولكنَّه يُشبِهُ الاستطرادَ تَنويهًا بالمُؤمِنين، كما سيُعْتَنى بهم عَقِبَ تَفصيلِ وَعيدِ الكافرينَ بقولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ... [الأنبياء: 101] إلى آخِرِ السُّورة .
- قولُه: فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ عبَّرَ عن ذلك بالكُفرانِ الَّذي هو سَتْرُ النِّعمةِ وجُحودُها؛ لِبَيانِ كَمالِ نَزاهِته تعالى عنه بتَصويرِه بصُورةِ ما يَستحيلُ صُدورُه عنه تعالى مِن القبائحِ، وإبرازِ الإثابةِ في مَعرِضِ الأُمورِ الواجبةِ عليه تعالى، ونَفَى نَفْيَ الجِنْسِ؛ للمُبالَغةِ في التَّنزيهِ، وعبَّرَ عن العمَلِ بالسَّعيِ؛ لإظهارِ الاعتدادِ به .
- وأكَّدَ ذلك بـ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ مُؤكَّدًا بحَرْفِ التَّأكيدِ؛ للاهتمامِ به .
- والكِتابةُ في كَاتِبُونَ كِنايةٌ عن تَحقُّقِه، وعدَمِ إضاعتِه؛ لأنَّ الاعتناءَ بإيقاعِ الشَّيءِ يَستلزِمُ الحِفْظَ عن إهمالِه وعن إنكارِه، وذلك مع كونِ الكِتابةِ مُستعمَلةً في مَعناها الأصليِّ، كما جاءت بذلك الظَّواهرُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ .