موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (1-6)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ

غريب الكلمات:

وَهَنَ الْعَظْمُ: أي: رقَّ وضَعُف، وأصلُ (وهن): يدُلُّ على ضَعفٍ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/454)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/149)، ((المفردات)) للراغب (ص: 887)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 951). .
وَاشْتَعَلَ: أي: انتَشَر، والاشتعالُ في الأصلِ: انتشارُ شُعاعِ النَّارِ، وأصلُ (شعل): يدُلُّ على انتِشارٍ وتفَرُّقٍ في الشَّيءِ الواحِدِ مِن جَوانِبِه [11] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/189)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457)، ((تفسير القرطبي)) (11/77)، ((تفسير الشوكاني)) (3/379). .
شَقِيًّا: أي: خائبًا؛ يُقالُ لكُلِّ مَن سعى في أمرٍ فبطَلَ سَعيُه: قد شَقِيَ به، وإذا أدركَه قيل: قد سَعِدَ به، وأصْلُ (شقي): يدُلُّ على المعاناةِ، وخِلافِ السُّهولةِ والسَّعادةِ [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 272)، ((الغريبين)) للهروي (3/1023)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/202)، ((المفردات)) للراغب (ص: 460)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 221)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 541). .
الْمَوَالِيَ: أي: الأقاربَ والعَصَبةَ مِن الوَرَثةِ الذين يَلونَه في النَّسَبِ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 272)، ((تفسير ابن جرير)) (6/671)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141). .
عَاقِرًا: أي: لا تَلِدُ؛ يُقالُ: عَقَرْتُ النَّخلَ: إذا قطعتَه مِن أصلِه، فإذا لم تلِدْ كأنَّها تعقرُ النسلَ، أي: تقطعُه. وقيل: العاقِرُ: الرَّملةُ التي لا نَبْتَ فيها، ومنه قيل للمرأةِ التي لا تَلِدُ: عاقرٌ [14] يُنظر: ((المنتخب من كلام العرب)) لكراع النمل (ص: 661)، ((تفسير ابن جرير)) (15/457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/90)، ((تفسير الماوردي)) (3/357)، ((المفردات)) للراغب (ص: 577)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
رَضِيًّا: أي: مَرضيًّا في أخلاقِهِ وأفعالِه، وأصلُ (رضي): يدُلُّ على خِلافِ السُّخْطِ [15] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/402)، ((تفسير القرطبي)) (11/82)، ((تفسير ابن كثير)) (5/214). .

المعنى الإجمالي:

ابتدأ الله هذه السورةَ بالحُروفِ المقَطَّعةِ التي تُبيِّنُ إعجازَ القرآنِ؛ فتُبرِزُ عجزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها!
ثمَّ قال تعالى: هذا الذي نَتلوه عليك ذِكْرُ رَحمةِ رَبِّك عَبدَه زكريَّا؛ إذ دعا ربَّه سرًّا، قال: رَبِّ إني كَبِرْتُ، ورقَّ عَظمي، وانتشَرَ الشَّيبُ في رأسي، ولم أكُنْ مِن قَبلُ حين أدعوك مَحرومًا من إجابةِ الدُّعاءِ، وإنِّي خِفتُ أقاربي وعَصَبتي مِن بعدِ مَوتي أن يُضَيِّعوا الدِّينَ والعِلمَ، ولا يقوموا بهما حَقَّ القيامِ، وكانت زوجَتي عاقِرًا لا تَلِدُ؛ فارزُقْني مِن عِندِك وَلَدًا يَرِثُ عِلْمي ونبُوَّتي، ونبُوَّةَ أجدادِه آلِ يَعقوبَ، واجعَلْ هذا الولَدَ مَرضِيًّا عندَك وعندَ عِبادِك.

تفسير الآيات:

كهيعص (1).
هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها [16] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/24). .
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2).
أي: هذا الذي نَتلوه في هذه الآياتِ، قِصَّةُ رَحمةِ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- عَبدَه زكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/453)، ((الوسيط)) للواحدي (3/175)، ((تفسير البيضاوي)) (4/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489). والمرادُ برحمةِ الله لزكريَّا هنا: إجابتُه إيَّاه حينَ دعاه، وسألَه الولَدَ. وممَّن قال بذلك: الواحدي، والرسعني، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/175)، ((تفسير الرسعني)) (4/387)، ((تفسير الشوكاني)) (3/379)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/63). .
قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام: 85] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان زكريَّاءُ نجَّارًا) ) [18] رواه مسلم (2379). .
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3).
أي: إذ [19] قال ابنُ عاشور: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ ظَرفٌ لـ رَحْمَةِ. أي: رحمةِ اللهِ إيَّاه في ذلك الوقتِ؛ أو بدلٌ مِن ذِكْرُ، أي: ذِكْرُ ذلك الوَقتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/62). دعا زكريَّا رَبَّه، وسأَله بنداءٍ خَفيٍّ عن النَّاسِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/453)، ((الوسيط)) للواحدي (3/175)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/62). واختُلِف في سببِ إخفائِه هذا النِّداءَ: فقيل: أخفاه مِن قَومِه؛ لئلَّا يُلامَ على مسألةِ الولَدِ عند كِبَرِ السِّنِّ، فيقولوا: انْظُروا إلى هذا الشَّيخِ يَسألُ على كبرِه الولَدَ. وقيل: لأنَّ الإخفاءَ أقربُ إلى الإخلاصِ، وأبعدُ مِن الرياءِ. وقيل: إنَّه دعا في جوفِ اللَّيلِ، وهو ساجدٌ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/277)، ((تفسير القرطبي)) (11/76)، ((تفسير ابن جزي)) (1/477)، ((تفسير الشوكاني)) (3/379). .
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4).
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي.
أي: قال زكريَّا: يا رَبِّ، إنِّي رقَّ عَظمي، وضعُفَت قُوَّةُ بَدَني [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/454)، ((تفسير ابن كثير)) (5/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/62)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/359). .
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.
أي: وانتشَرَ بَياضُ الشَّيبِ في رأسي [22] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/189)، ((تفسير القرطبي)) (11/77)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/360). قال ابنُ كثيرٍ: (المرادُ من هذا: الإخبارُ عن الضَّعفِ والكِبَرِ، ودلائِلِه الظَّاهرةِ والباطِنةِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/211). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489). .
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
أي: ولم أكُنْ حين أدعوك مِن قَبلُ -يا رَبِّ- خائبًا مَحرومًا مَردودَ الدَّعوةِ، بل عوَّدْتَني إجابةَ دَعوتي، وقَضاءَ حاجَتي [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/455)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/4)، ((تفسير ابن كثير)) (5/212)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/361). .
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5).
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.
أي: وإنِّي -يا ربِّ- خِفتُ أن يُضَيِّعَ أقاربي مِن بَعدِ موتي الدِّينَ والعِلمَ، ولا يَقوموا بحَقِّهما [24] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/175، 176)، ((تفسير الزمخشري)) (3/4)، ((تفسير القرطبي)) (11/78)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/224-225)، ((تفسير ابن كثير)) (5/212-213)، ((تفسير الشوكاني)) (3/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/361). قال ابن كثير: (وجهُ خوفِه أنَّه خَشِي أنْ يتصرَّفُوا مِن بعدِه في النَّاسِ تصرُّفًا سيِّئًا). ((تفسير ابن كثير)) (5/212). .
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا.
أي: وكانت امرأتي عَقيمًا لا تَلِدُ أصلًا [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/457)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/365). .
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.
أي: فارْزُقْني -يا رَبِّ- مِن عِندِك ولدًا يقومُ بالدِّينِ مِن بعدي حَقَّ القيامِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/457)، ((تفسير ابن جزي)) (1/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/361). قال ابنُ عاشورٍ: (ومَعنى مِنْ لَدُنْكَ: أنَّه مِن عندِ اللهِ عِنديَّةً خاصَّةً؛ لأنَّ المتكَلِّمَ يَعلَمُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ مِن عندِ اللهِ بتقديرِه وخَلْقِه الأسبابَ ومُسَبِّباتِها تَبعًا لخَلقِها، فلمَّا قال: مِنْ لَدُنْكَ؛ دلَّ على أنَّه سأل وليًّا غيرَ جارٍ أمرُه على المعتادِ مِن إيجادِ الأولادِ؛ لانعدامِ الأسبابِ المعتادةِ، فتكونُ هِبَتُه كرامةً له). ((تفسير ابن عاشور)) (16/67). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/169). قال الشنقيطي: (وقولُه تعالَى في هذه الآيةِ الكريمةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يعني بهذا الولِيِّ الولَدَ خاصَّةً دونَ غيرِه مِنَ الأولياءِ، بدليلِ قولِه تعالَى في القصَّةِ نفسِها: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الآيةَ [آل عمران: 38] ، وأشارَ إلى أنَّه الولَدُ أيضًا بقولِه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89]، فقولُه: لَا تَذَرْنِي فَرْدًا، أي: واحدًا بلا وَلَدٍ). ((أضواء البيان)) (3/365). .
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38] .
وقال سُبحانَه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89] .
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6).
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ.
أي: يَرِثُ عِلمي ونبُوَّتي، ويَرِثُ مِن أجدادِه آلِ يَعقوبَ العِلمَ والنبُوَّةَ، فيكونُ نبيًّا، داعيًا إلى الله، قائمًا بدِينِه [27] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/5)، ((تفسير القرطبي)) (11/78)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/224، 225)، ((تفسير ابن جزي)) (1/477)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/67)، ((تفسير ابن كثير)) (5/213)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/361). .
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
أي: واجعَلْ وَلَدي -يا رَبِّ- مَرْضيًّا عندك وعندَ عِبادِك، صالحًا في دينِه وخُلُقِه وأعمالِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/461)، ((تفسير القرطبي)) (11/82)، ((تفسير ابن كثير)) (5/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/366). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا سنقُصُّه عليك، ونفصِّلُه تَفصيلًا يُعرَفُ به حالةُ نبيِّه زكريَّا، وآثارُه الصَّالحةُ، ومَناقِبُه الجميلةُ؛ فإنَّ في قَصِّها عِبرةً للمُعتبرينَ، وأُسوةً للمُقتَدينَ، ولأنَّ في تفصيلِ رحمتِه لأوليائِه، وبأيِّ سبَبٍ حَصَلتْ لهم: ما يدعو إلى محبَّةِ الله تعالى، والإكثارِ مِن ذِكرِه، ومَعرفتِه، والسَّبَبِ المُوصلِ إليه [29] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489). .
2- قال الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه استِحبابُ الإسرارِ بالدُّعاءِ [30] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 173). ، وفي إخفاءِ الدُّعاءِ والإسرارِ به فوائِدُ عديدةٌ:
أحدُها: أنَّه أعظَمُ إيمانًا؛ لأنَّ صاحِبَه يعلَمُ أنَّ اللهَ يَسمَعُ الدُّعاءَ الخَفيَّ.
ثانيها: أنَّه أعظَمُ في الأدبِ والتعظيمِ؛ لأنَّ الملوكَ لا تُرفَعُ الأصواتُ عِندَهم، ومَن رفَعَ صَوتَه لديهم مَقَتوه، ولله المثَلُ الأعلى.
ثالثها: أنَّه أبلَغُ في التضَرُّعِ والخُشوعِ الذي هو رُوحُ الدُّعاءِ ولُبُّه ومَقصودُه.
رابعُها: أنَّه أبلَغُ في الإخلاصِ.
خامسها: أنَّه أبلَغُ في جَمعيَّةِ القَلبِ على الذِّلَّةِ في الدُّعاءِ؛ فإنَّ رَفعَ الصَّوتِ يُفَرِّقُه، فكلَّما خَفَض صَوتَه كان أبلغَ في تجريدِ هِمَّتِه وقَصدِه للمَدعُوِّ سُبحانَه.
سادسها - وهو مِن النُّكَتِ البَديعةِ جِدًّا: أنَّه دالٌّ على قُربِ صاحِبِه للقَريبِ، لا مسألةَ نداءِ البعيدِ للبَعيدِ؛ ولهذا أثنى اللهُ على عَبدِه زكريَّا بقَولِه عزَّ وجَلَّ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ، فلمَّا استحضَرَ القَلبُ قُربَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّه أقرَبُ إليه مِن كُلِّ قَريبٍ؛ أخفى دُعاءَه ما أمكَنَه.
سابعها: أنَّه أدعى إلى دوامِ الطَّلَبِ والسُّؤالِ؛ فإنَّ اللِّسانَ لا يَمَلُّ، والجوارِحَ لا تتعَبُ، بخلافِ ما إذا رَفَع صَوتَه، فإنَّه قد يَمَلُّ اللِّسانُ وتَضعُفُ قُواه.
ثامنها: أنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ له من القواطِعِ والمشَوِّشاتِ؛ فإنَّ الدَّاعيَ إذا أخفى دُعاءَه لم يَدرِ به أحَدٌ، فلا يحصُلُ على هذا تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جهَرَ به فَرَطَت له الأرواحُ البشَريَّةُ -ولا بُدَّ- ومانعَتْه وعارضَتْه، ولو لم يكُنْ إلَّا أنَّ تعَلُّقَها به يُفزِعُ عليه همَّته، فيُضعِفُ أثَرَ الدُّعاءِ، ومن له تجرِبةٌ يَعرِفُ هذا، فإذا أسَرَّ الدُّعاءَ أمِنَ هذه المَفسَدةَ.
تاسعها: أنَّ أعظَمَ النِّعمةِ الإقبالُ والتعَبُّدُ، ولكُلِّ نِعمةٍ حاسِدٌ على قَدْرِها، دَقَّت أو جَلَّت، ولا نِعمةَ أعظَمُ مِن هذه النِّعمةِ؛ فإنَّ أنفُسَ الحاسِدينَ مُتعَلِّقةٌ بها، وليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمتِه عن الحاسِدِ.
عاشرها: أنَّ الدُّعاءَ هو ذِكرٌ للمَدعُوِّ سُبحانَه وتعالى، متضَمِّنٌ للطَّلَبِ والثَّناءِ عليه بأوصافِه وأسمائِه، فهو ذِكرٌ وزيادةٌ، كما أنَّ الذِّكرَ سُمِّيَ دُعاءً لتضَمُّنِه للطَّلَبِ. والمقصودُ: أنَّ كُلَّ واحدٍ من الدُّعاءِ والذِّكرِ يتضَمَّنُ الآخَرَ ويدخُلُ فيه، وقد قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فأمَرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَذكُرَه في نَفسِه [31] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/15- 18). .
3- قال الحَسَنُ البَصريُّ: (لقد أدرَكْنا أقوامًا ما كان على الأرضِ مِن عَمَلٍ يَقدِرونَ على أن يَعمَلوه في السِّرِّ، فيَكونُ علانيةً أبدًا، ولقد كان المُسلِمونَ يجتَهِدونَ في الدُّعاءِ، وما يُسمَعُ لهم صَوتٌ، إنْ كان إلَّا هَمسًا بينهم وبين رَبِّهم عزَّ وجَلَّ؛ ذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، وذلك أنَّ الله تعالى ذكَرَ عَبدًا صالِحًا ورَضِيَ قَولَه، فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ) [32] يُنظر: أخرجه ابن المبارك في الزهد (140)، وابن جرير في ((تفسيره)) (10/248). .
4- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِن فوائِدِ هذه القِصَّةِ تعليمُ آدابِ الدُّعاءِ، وهي مِن جِهاتٍ:
أحدُها: قَولُه: نِدَاءً خَفِيًّا وهو يدُلُّ على أنَّ أفضَلَ الدُّعاءِ ما هذا حالُه، ويؤكِّدُ قَولَه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، ولأنَّ رَفعَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالقُوَّةِ والجَلادةِ، وإخفاءَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالضَّعفِ والانكسارِ، وعُمدةُ الدُّعاءِ الانكِسارُ والتبَرِّي عن حولِ النَّفسِ وقُوَّتِها، والاعتمادُ على فَضلِ اللهِ تعالى وإحسانِه.
ثانيها: أنَّ المُستحَبَّ للدَّاعي أن يَذكُرَ في مُقَدِّمةِ الدُّعاءِ عَجزَ النَّفسِ وضَعفَها، كما في قولِ الله تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [33] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/519). ، فالشَّيبُ دَليلُ الضَّعفِ والكِبَرِ، ورسولُ الموتِ ورائِدُه، ونذيرُه، فتوسَّلَ إلى الله تعالى بضَعفِه وعَجزِه، وهذا مِن أحَبِّ الوَسائِلِ إلى الله؛ لأنَّه يدُلُّ على التبَرِّي من الحَولِ والقُوَّةِ، وتعلُّقِ القَلبِ بحَولِ اللهِ وقُوَّتِه [34] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489). .
ويُستحَبُّ له أيضًا أن يَذكُرَ كَثرةَ نِعَمِ الله، على ما في قولِه تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ أيضًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
ثالثُها: أن يكونَ الدُّعاءُ لأجلِ شَيءٍ مُتعَلِّقٍ بالدِّينِ، لا لِمَحضِ الدُّنيا، كما قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.
رابعُها: أن يكونَ الدُّعاءُ بلَفظِ (يا رَبِّ)، على ما في هذا الموضِعِ [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/519). .
5- قَولُه تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه التوسُّلُ إلى اللهِ بنِعَمِه وعوائدِه الجَميلةِ [36] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:173). . وهذه وَسيلةٌ حَسَنةٌ: أن يُتشَفَّعَ إليه بنِعَمِه، ويُستَدَرَّ فَضلُه بفَضلِه [37] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/80). ، فزكريا عليه السلامُ توسَّل إلى الله بإنعامِه عليه، وإجابةِ دعواتِه السابقةِ، فسأل الذي أحسَنَ سابقًا، أن يتمِّمَ إحسانَه لاحقًا [38] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ... فافتُتِحَتْ قِصَّةُ مريمَ وعيسى بما يتَّصِلُ بها من شُؤونِ آلِ بيتِ مريمَ وكافِلِها؛ لأنَّ في تلك الأحوالِ كلِّها تذكيرًا برحمةِ اللهِ تعالى وكرامتِه لأوليائِه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/62). .
2- قولُ الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وصَفَه بالعبوديَّةِ؛ تَشريفًا له، وإعلامًا له بتَخصيصِه وتَقريبِه [40] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/477). .
3- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه سؤالٌ: أنَّ مِن شَرطِ النِّداءِ الجَهرَ، فكيف الجَمعُ بينَ كَونِه (نداءً) و(خَفيًّا)؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ زكريَّا -عليه السَّلامُ- أتَى بأقصى ما قدَرَ عليه مِن رَفعِ الصَّوتِ، إلَّا أنَّ الصَّوتَ كان ضَعيفًا لنهايةِ الضَّعفِ؛ بسبَبِ الكِبَرِ، فكان نداءً نظرًا إلى قَصدِه، وخفيًّا نظرًا إلى الواقِعِ.
الوجه الثاني: أنَّه دعا في الصَّلاةِ؛ لأنَّ الله تعالى أجابه في الصَّلاةِ؛ لِقَولِه تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39] ، فكَونُ الإجابةِ في الصَّلاةِ يدُلُّ على كَونِ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ؛ فوجب أن يكونَ النداءُ فيها خَفيًّا [41] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٠٧). .
الوجهُ الثالث: أنَّه لا مُنافاةَ بينَ كَونِه (نداءً) وكونِه (خفيًّا)؛ لأنَّه نداءُ مَن يَسمَعُ الخَفاءَ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/63). .
4- قولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه شَفَقةُ زكريَّا عليه السَّلامُ ونُصحُه، وأنَّ طَلَبَه للوَلدِ ليس كطَلَبِ غَيرِه؛ قَصْدُه مجرَّدُ المصلحةِ الدُّنيويَّة، وإنَّما قَصدُه مصلحةُ الدِّينِ، والخَوفُ مِن ضَياعِه [43] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489). قال القرطبي: (قال العلماءُ: دعاءُ زكريا عليه السلام في الولَدِ إنَّما كان لإظهارِ دينِه، وإحياءِ نُبوَّتِه، ومُضاعفةً لأجرِه، لا للدُّنيا). ((تفسير القرطبي)) (11/80). .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي في الإخبارِ بـ خِفْتُ بلَفظِ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العَهدِ في ذلك [44] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٠٩). .
6- في قولِه تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا حُجَّةٌ في تسميةِ المخلوقينَ بأسماءِ اللهِ؛ إِذِ الوَليُّ اسمٌ مِن أسمائِه [45] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/224). لكنْ في ذلك تفصيلٌ؛ فقد جاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ: (ما كان من أسماءِ الله تعالى عَلَم شَخصٍ، كلَفظِ «الله»: امتنع تسميةُ غيرِ الله به؛ لأنَّ مُسمَّاه مُعيَّنٌ لا يَقبَلُ الشَّرِكةَ، وكذا ما كان من أسمائِه في معناه في عدَمِ قَبولِ الشَّرِكةِ، كالخالقِ والبارئِ؛ فإن الخالِقَ: مَن يُوجِدُ الشَّيءَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، والبارئَ: من يوجِدُ الشَّيءَ بريئًا من العيبِ، وذلك لا يكونُ إلَّا من الله وحده؛ فلا يُسمَّى به إلَّا اللهُ تعالى. أمَّا ما كان له معنًى كُلِّيٌّ تتفاوتُ فيه أفرادُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، كالملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر؛ فيجوزُ تسميةُ غيرِه بها؛ فقد سمَّى الله نفسَه بهذه الأسماءِ، وسمَّى بعضَ عبادِه بها). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (2/368). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: يَرِثُنِي استدَلَّ به من قال: إنَّ الأنبياءَ يُورَثونَ، ورُدَّ بأنَّ المرادَ إرثُ العِلمِ والنبُوَّةِ، والأنبياءُ أعظَمُ مِن أن يهتَمُّوا بإرثِ المالِ، ويدُلُّ له قَولُه: وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ [46] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:173). قال ابنُ كثير: (... سألَ اللَّهَ ولدًا، يكونُ نبيًّا مِن بعدِه؛ ليسوسَهم بنُبُوَّتِه وما يُوحَى إليه. فأُجِيب في ذلك، لا أنَّه خَشِي مِنْ وِراثَتِهم له مالَه؛ فإنَّ النَّبيَّ أعظمُ منزلةً وأجلُّ قدرًا مِنْ أنْ يُشْفِقَ على مالِه إلى ما هذا حدُّه أنْ يأنفَ مِنْ وراثةِ عَصباتِه له، ويسألَ أنْ يكونَ له وَلَدٌ، فيحوزَ ميراثَه دونَهم. هذا وجهٌ. الثَّاني: أنَّه لم يُذْكَرْ أنَّه كان ذا مالٍ، بل كان نَجَّارًا يأكلُ مِنْ كسبِ يديه، ومِثْلُ هذا لا يجمعُ مالًا، ولا سِيَّما الأنبياءُ، عليهم السَّلامُ؛ فإنَّهم كانوا أزهدَ شيءٍ في الدُّنيا. الثَّالثُ: أنَّه قد ثَبَت في الصَّحيحينِ مِن غيرِ وجهٍ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قالَ: «لا نُورَثُ، ما تركْنا فهو صدقةٌ»، وفي روايةٍ عندَ التِّرمذيِّ بإسنادٍ صحيحٍ: «نحنُ معشرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ»، وعلى هذا فتعَيَّن حملُ قولِه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي على ميراثِ النُّبوَّةِ؛ ولهذا قال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ، كما قال تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النَّمل: 16] أي: في النُّبوَّةِ؛ إذ لو كان في المالِ لَمَا خصَّه مِن بينِ إخوتِه بذلك، ولَمَا كان في الإخبارِ بذلك كبيرُ فائدةٍ؛ إذ مِن المعلومِ المستقِرِّ في جميعِ الشَّرائعِ والمِلَلِ أنَّ الولدَ يَرِثُ أباه، فلولا أنَّها وِراثَةٌ خاصَّةٌ لَمَا أخبَر بها). ((تفسير ابن كثير)) (5/212). .
8- قَولُ الله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ خُصَّ اسمُ (يعقوب) اقتداءً به نفسِه؛ إذ قال ليوسُفَ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ [يوسف: 6] ، ولأنَّ إسرائيلَ صار عَلَمًا على الأسباطِ كُلِّهم، وكانت قد غَلَبَت عليهم الأحداثُ [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/١٦٩). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا جاء نظْمُ هذا الكلامِ على طريقةٍ بديعةٍ من الإيجازِ، والعُدولِ عن الأُسلوبِ المُتعارَفِ في الإخبارِ، وأصْلُ الكلامِ: ذِكْرُ عبْدِنا زكريَّا إذ نادى ربَّه، فقال: ربِّ... إلخ، فرحِمه ربُّك؛ فكان في تَقديمِ الخبرِ بأنَّ اللهَ رحِمَه: اهتمامٌ بهذه المَنقبةِ له، والإنباءُ بأنَّ اللهَ يرحَمُ مَن الْتجَأَ إليه [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/61-62). .
- وفي التَّعرُّضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ -رَبِّكَ- المُنبئةِ عنِ التَّبليغِ إلى الكمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إيذانٌ بأنَّ تنزيلَ السُّورةِ عليه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تكميلٌ له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/253). ، وأيضًا في إضافةِ (ربِّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِه: رَبِّكَ، وإلى ضَميرِ زكريَّا في قولِه: عَبْدَهُ: تَنويهٌ بهما [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/62). .
2- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
- جُملةُ: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مُبيِّنةٌ لجُملةِ نَادَى رَبَّهُ، وهي وما بعدَها تَمهيدٌ للمقصودِ من الدُّعاءِ، وهو قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا؛ وإنَّما كان ذلك تَمهيدًا لِما يتضمَّنُه من اضطرارِه لسُؤالِ الولدِ، واللهُ يُجيبُ المُضطَرَّ إذا دعاهُ؛ فليس سُؤالُه الولدَ سُؤالَ توسُّعٍ لمُجرَّدِ تَمتُّعٍ أو فخْرٍ، ووصَفَ من حالِه ما تشتَدُّ معه الحاجةُ إلى الولدِ حالًا ومآلًا؛ فكان وهْنُ العظْمِ وعُمومُ الشَّيبِ حالًا مُقتضيًا للاستعانةِ بالولدِ، مع ما يَقْتضيه مِن اقترابِ إبَّانِ الموتِ عادةً؛ فذلك مقصودٌ لنفْسِه، ووسيلةٌ لغيرِه وهو الميراثُ بعدَ الموتِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/63). .
- وقَولُه: قَالَ رَبِّ بحَذفِ أداةِ النِّداءِ؛ للدَّلالةِ على غايةِ القُربِ [52] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/168)، ((تفسير الشربيني)) (2/413). .
- قولُه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فيه تأكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ)؛ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتَحقيقِ مَضمونِها [53] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/253). .
- والخبرانِ من قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا مُستعملانِ في لازمِ الإخبارِ، وهو الاسترحامُ لحالِه؛ لأنَّ المُخْبَرَ عالمٌ بما تَضمَّنَه الخبرانِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/63). .
- وقولُه: وَهَنَ الْعَظْمُ فيه إسنادُ الوهْنِ إلى العظْمِ؛ لأنَّه عمودُ البدَنِ، وبه قوامُه، وهو أصلُ بِنائِه، فإذا وهَنَ تداعى وتساقطَتْ قُوَّتُه، ولأنَّه أشدُّ ما فيه وأصلَبُه، فإذا وهَنَ كان ما وراءَه أوهَنَ. ووحَّدَه -حيث لم يقُل: (العِظام)-؛ لأنَّ الواحِدَ هو الدَّالُّ على معنى الجِنسيَّةِ، وقصْدُه: أنَّ هذا الجنسَ الَّذي هو العمودُ والقوامُ وأشَدُّ ما تركَّبَ منه الجسدُ قد أصابَه الوهْنُ، ولو جمَعَ لكان قاصدًا معنًى آخرَ، وهو أنَّه لم يَهِنْ منه بعضُ عِظامِه ولكنْ كلُّها [55] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/4)، ((تفسير البيضاوي)) (4/5)، ((تفسير أبي حيان)) (7/239)، ((تفسير أبي السعود)) (5/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/64). .
- وفي قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إطنابٌ؛ فقدِ انتقَلَ أوَّلًا: من (شِخْتُ) الدَّالِّ على ضعْفِ البدَنِ وشيْبِ الرَّأسِ إجْمالًا إلى هذا التَّفصيلِ؛ لمزيدِ التَّقريرِ. وثانيًا: من هذه المرتبةِ إلى ثالثةٍ أبلَغَ منها، وهي الكِنايةُ الَّتي هي أبلَغُ من التَّصريحِ. وثالثًا: من هذه المرتبةِ إلى رابعةٍ أبلَغَ في التَّقريرِ، وهي بِناءُ الكنايةِ على المبتدأِ، أي قولُك: أنا وهنَتْ عِظامُ بَدَني. ورابعًا: من هذه المرتبةِ إلى خامسةٍ أبلَغَ، وهي إدخالُ (إنَّ) على المبتدأِ (إنِّي وهنَتْ عِظامُ بَدَني). وخامسًا: إلى مرتبةٍ سادسةٍ، وهي سُلوكُ طريقِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، أي: (إنِّي وهنَتِ العِظامُ من بَدَني). وسادسًا: إلى مرتبةٍ سابعةٍ، وهي ترْكُ توسيطِ البدَنِ لادِّعاءِ اختصاصِها بالبدَنِ، بحيث لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ بالبدنِ. وسابعًا: إلى مرتبةٍ ثامنةٍ، وهي ترْكُ جمْعِ العظْمِ إلى الإفرادِ؛ لشُمولِ الوهْنِ العِظامَ فردًا فردًا [56] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/62). ؛ وكان الأصْلُ (اشتعَلَ شيْبُ رأْسي)، فأسنَدَ الاشتعالَ إلى الرَّأسِ؛ لإفادةِ شُمولِه لكلِّها؛ فإنَّ وِزانَه بالنِّسبةِ إلى الأصْلِ وِزانُ: (اشتعَلَ بيتُه نارًا) بالنِّسبةِ إلى (اشتعَلَ النَّارُ في بيتِه)، ولزيادةِ تَقريرِه بالإجمالِ أوَّلًا، والتَّفصيلِ ثانيًا، ولمَزيدِ تَفخيمِه بالتَّنكيرِ [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/253). ، وشبَّه بياضَ الشيبِ وانتشارَه في الرأسِ بشعاعِ النارِ وانتشارِها، وأضاف الاشتعالَ إلى مكانِ الشعرِ ومنبتِه وهو الرأسُ، ولم يُضِف الرأسَ؛ اكتفاءً بعلمِ المخاطبِ أنَّه رأسُ زكريَّا عليه السلامُ [58] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/189)، ((تفسير القرطبي)) (11/77). . وقيل: أسندَ الاشتِعالَ إلى الرَّأسِ، وهو مكانُ الشَّعرِ الذي عَمَّه الشَّيبُ؛ لأنَّ الرَّأسَ لا يَعمُّه الشَّيبُ إلَّا بعد أن يَعُمَّ اللِّحيةَ غالِبًا، فعُمومُ الشَّيبِ في الرَّأسِ أمارةُ التوغُّلِ في كِبَرِ السِّنِّ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/64). .
- قولُه: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقولُه: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه: التَّعرُّضُ في الموضعينِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ المُنبئةِ عن إضافةِ ما فيه صَلاحُ المربوبِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا سِيَّما توسيطِه بين (كان) وخبَرِها؛ لتَحريكِ سلسلةِ الإجابةِ بالمُبالغةِ في التَّضرُّعِ [60] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/254). .
- وجُملةُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أطلَقَ نفْيَ الشَّقاوةِ، والمُرادُ حُصولُ ضِدِّها -وهو السَّعادةُ- على طريقِ الكِنايةِ؛ إذ لا واسطةَ بينهما عُرْفًا، ومثْلُ هذا التَّركيبِ جَرى في كلامِ العربِ مَجْرى المثَلِ في حُصولِ السَّعادةِ من شَيءٍ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/65). .
3- قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ عطْفٌ على قولِه تعالى: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مُترتِّبٌ مضمونُه على مَضمونِه؛ فإنَّ ضَعْفَ القُوى وكِبَرَ السِّنِّ من مبادئِ خوْفِه عليه السَّلامُ مَن يَلِي أمْرَه بعدَ موتِه [62] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/254). .
- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ يَنساقُ إليه الذِّهنُ، أي: فِعْلَ الموالي مِن بعدي، أو جَورَ الموالي [63] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/4)، ((تفسير البيضاوي)) (4/6)، ((تفسير أبي السعود)) (5/254). .
- قولُه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا أتى بفعْلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العَقْرَ مُتمكِّنٌ منها، وثابتٌ لها؛ فلذلك حُرِمَ من الولدِ منها [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/67). .
- قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا الفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها؛ فإنَّ ما ذكَرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كِبَرِ السِّنِّ، وضعْفِ القُوى، وعَقْرِ المرأةِ: مُوجِبٌ لانقطاعِ رجائِه عليه السَّلامُ عن حُصولِ الولَدِ بتوسُّطِ الأسبابِ العاديَّةِ، واستيهابِه على الوجْهِ الخارقِ للعادةِ، ولا يقدَحُ في ذلك أنْ يكونَ هناك داعٍ آخرُ إلى الإقبالِ على الدُّعاءِ المذكورِ من مُشاهدتِه عليه السَّلامُ للخوارقِ الظَّاهرةِ في حَقِّ مريمَ، كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران: 38] الآيةَ، وعدَمُ ذِكْرِه هاهنا للتَّعويلِ على ذِكْرِه هناك، كما أنَّ عدَمَ ذِكْرِ مُقدِّمةِ الدُّعاءِ هناك للاكتفاءِ بذكْرِه هاهنا؛ فإنَّ الاكتفاءَ بما ذُكِرَ في موطنٍ عمَّا تُرِكَ في موطنٍ آخرَ من النُّكتِ التَّنزيليَّةِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/254). .
- وإنَّما قدَّمَ لِي على مِنْ لَدُنْكَ؛ لأنَّه الأهمُّ في غرَضِ الدَّاعي، وهو غرَضٌ خاصٌّ يُقدَّمُ على الغرضِ العامِّ [66] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/67). .
- وقولُه: مِنْ لَدُنْكَ تأكيدٌ لكونِه وَلِيًّا مرضيًّا، بكونِه مُضافًا إلى اللهِ تعالى، وصادرًا من عندِه [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/5)، ((تفسير أبي حيان)) (7/241). .
- وتأخيرُ وَلِيًّا عن الجارَّينِ -لِي مِنْ لَدُنْكَ-؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بكونِ الهبةِ له على ذلك الوجْهِ البديعِ، مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حَقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تَبْقَى النَّفسُ مُستشرِفةً، فعندَ وُرودِه لها يتمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ فيه نوعَ طولٍ بما بعدَه من الوصفِ، فتأخيرُهما عن الكلِّ أو توسيطُهما بين الموصوفِ والصِّفةِ ممَّا لا يليقُ بجَزالةِ النَّظمِ الكريمِ [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/254). .
4- قوله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
- قولُه: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ، أي: يرِثُني به وارثٌ، ويُسمَّى في علْمِ البيانِ التَّجريدَ [69] التجريد: هو أنْ ينتزِعَ المُتكلِّمُ من أمْرٍ ذي صِفَةٍ أمرًا آخرَ بمثالِه له فيها؛ مُبالغةً لكمالِها فيه، كأنَّه بلَغَ من الاتِّصافِ بتلك الصِّفةِ إلى حيثُ يصِحُّ أنْ يُنتزَعَ منه موصوفٌ آخرُ بتلك الصِّفةِ. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) (6/62)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (ص: 243). ، وهذا التَّجريدُ في الآيةِ هنا بـ (مِن) التَّجريديَّةِ كقولِهم: لي من فُلانٍ صديقٌ حميمٌ [70] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/62). .
- قولُه: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه توسيطُ (رَبِّ) بين مَفْعولي (اجعَلْ)؛ للمُبالغةِ في الاعتناءِ بشأْنِ ما يَسْتدعيه [71] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/255). .