موسوعة التفسير

سُورةُ عَبَسَ
الآيات (33-42)

ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ

غريب الكلمات:

الصَّاخَّةُ: الصَّيحةُ الشَّديدةُ الَّتي تَصُخُّ الآذانَ، أي: تُصِمُّها مِن شِدَّتِها، وأصلُ الصخِّ: الطعنُ والصكُّ، فالصاخَّةُ: الصاكَّةُ لشِدَّةِ صوتِها للآذانِ، والمرادُ بها هنا: النَّفخةُ الثَّانيةُ، وهي اسمٌ مِن أسماءِ القيامةِ، وأصلُ (صخخ): يدُلُّ على صوتٍ .
مُسْفِرَةٌ: أي: مُشْرِقةٌ مُضِيئةٌ مُتهَلِّلةٌ؛ مِن أسفَرَ الصُّبحُ: إذا أضاءَ وأشرَقَ، وأصلُ (سفر): يدُلُّ على انكِشافٍ وجَلاءٍ .
مُسْتَبْشِرَةٌ: أي: فرحةٌ بما نالت مِن كرامةِ الله، واستبشَر: إذا وجَد ما يُبشِّرُه مِن الفَرَحِ، وأصلُ (بشر): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ مع حُسنٍ وجَمالٍ .
غَبَرَةٌ: أي: غُبارٌ وكُدُورةٌ، وأصلُ (غبر) هنا: يدُلُّ على لَونٍ مِنَ الألوانِ .
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ: أي: تَغْشاها وتَعْلوها ظُلْمةٌ وسَوادٌ، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ، وأصلُ (قتر): يدُلُّ على تجميعٍ وتضييقٍ .
الْفَجَرَةُ: جمعُ فاجِرٍ، وهو المُنْبَعِثُ في المعاصي والمحارِمِ، يُقالُ: فَجَرَ يَفْجُرُ فُجُورًا، فهو فاجِرٌ، والفُجورُ: الانبِعاثُ والتَّفَتُّحُ في المَعاصي، وأصلُ (فجر): التَّفَتُّحُ في الشَّيءِ. وقيل: الفَجْرُ: شقُّ الشيء شقًّا واسعًا، والفُجورُ: شقُّ ستر الدِّيانة .

المعنى الإجمالي:

يختمُ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحديثِ عن أحوالِ النَّاسِ يومَ القيامةِ، فيقولُ: فإذا جاءت القيامةُ بصَيْحَتِها العَظيمةِ الَّتي تُصِمُّ الآذانَ؛ مِن شِدَّةِ صَوتِها، وذلك واقِعٌ يومَ يَهرُبُ كُلُّ إنسانٍ مِن أخيه، وأُمِّه وأبيه، وزَوجتِه وأبنائِه؛ لكُلِّ واحدٍ مِن أولئك الأقرِباءِ يومَ القيامةِ أَمْرٌ عظيمٌ يُهِمُّه ويَشغَلُه عن غَيرِه!
وُجوهُ المُؤمِنينَ في ذلك اليَومِ مُضِيئةٌ مُشرِقةٌ، ضاحِكةٌ مُستَبشِرةٌ، ووُجوهُ الكافِرينَ يومَ القيامةِ يَعْلوها غُبارٌ وتَغْشاها ظُلْمةٌ وسَوادٌ، أولئك هم الكَفَرةُ الفَجَرةُ.

تفسير الآيات:

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر ما كان المقصودُ منه أمورًا ثلاثةً؛ أوَّلُها: الدَّلائِلُ الدَّالَّةُ على التَّوحيدِ. وثانيها: الدَّلائلُ الدَّالَّةُ على القُدرةِ على المعادِ. وثالِثُها: أنَّ هذا الإلهَ الَّذي أحسَنَ إلى عَبيدِه بهذه الأنواعِ العَظيمةِ مِنَ الإحسانِ لا يَليقُ بالعاقلِ أن يتمَرَّدَ عن طاعتِه، وأن يتكبَّرَ على عبيدِه- أتْبَعَ هذه الجُملةَ بما يكونُ مُؤَكِّدًا لهذه الأغراضِ، وهو شَرحُ أهوالِ القيامةِ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا سَمِعَها خاف، فيَدْعوه ذلك الخَوفُ إلى التَّأمُّلِ في الدَّلائِلِ، والإيمانِ بها، والإعراضِ عن الكُفرِ، ويدعوه ذلك أيضًا إلى تَرْكِ التَّكَبُّرِ على النَّاسِ، وإلى إظهارِ التَّواضُعِ إلى كُلِّ أحدٍ، فلا جَرَمَ ذَكَرَ القيامةَ .
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33).
أي: فإذا جاءت القيامةُ بصَيحَتِها العَظيمةِ الَّتي تُصِمُّ الآذانَ؛ مِن شِدَّةِ صَوتِها .
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34).
أي: يومَ يَهرُبُ كُلُّ إنسانٍ من أخيه؛ مِن شِدَّةِ الهَولِ !
كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج: 10 - 14] .
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35).
أي: ويَهرُبُ كُلُّ إنسانٍ كذلك مِن أُمِّه وأبيه، فلا يَنفَعُهما بشَيءٍ !
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36).
أي: ومِن زَوجتِه الَّتي كانت مُلازِمةً له في الدُّنيا، ومِن أبنائِه الَّذين هم أحَبُّ النَّاسِ إليه !
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر فِرارَ المرءِ؛ أتْبَعَه بذِكْرِ سَبَبِه .
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37).
أي: لكُلِّ واحدٍ مِن أولئك الأقرِباءِ يومَ القيامةِ أَمْرٌ عظيمٌ يُهِمُّه ويَكفيه، فيَشغَلُه عن النَّظَرِ في أمْرِ غَيْرِه .
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تُحشَرونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا ، فقالت امرأةٌ: أيُبصِرُ أو يَرى بَعْضُنا عَورةَ بَعْضٍ؟! قال: يا فُلانةُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ!)) .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ يومِ القيامةِ في الهَولِ، بَيَّن أنَّ المكَلَّفينَ فيه على قِسمَينِ: منهم السُّعَداءُ، ومنهم الأشقياءُ؛ فوَصَف السُّعَداءَ بقَولِه تعالى :
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38).
أي: وُجوهُ المُؤمِنينَ في ذلك اليَومِ مُضِيئةٌ مُشرِقةٌ .
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39).
أي: تَضحَكُ سُرورًا، وتَفرَحُ مُستَبشِرةً .
كما قال تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] .
وقال سُبحانَه: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 9] .
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الله سبحانه وتعالى أهلَ السَّعادةِ من المؤمنين؛ ذكَرَ أضْدادَهم . فقال تعالى:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40).
أي: ووُجوهُ الكافِرينَ يومَ القيامةِ يَعْلوها غُبارٌ .
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41).
أي: تَغْشاها ظُلْمةٌ وسَوادٌ .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .
وقال سُبحانَه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26-27] .
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42).
أي: أولئك هم الكَفَرةُ الَّذين لم تُؤمِنْ قُلوبُهم بالحَقِّ، الفَجَرةُ الَّذين كانوا يَعمَلونَ السَّيِّئاتِ مُتجَرِّئينَ على إتيانِ المحَرَّماتِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ كونُ أقرَبِ النَّاسِ للإنسانِ يَفِرُّ منهم يَقتضي هَوْلَ ذلك اليومِ؛ بحيثُ إذا رَأى ما يَحُلُّ مِن العذابِ بأقرَبِ النَّاسِ إليه، تَوهَّمَ أنَّ الفِرارَ منه يُنجيهِ مِن الوُقوعِ في مِثلِه؛ إذ قد عَلِم أنَّه كان مماثلًا لهم فيما ارتكَبوهُ مِن الأعمالِ، فذُكِرتْ هنا أصنافٌ مِن القَرابةِ؛ فإنَّ القَرابةَ آصِرةٌ تكونُ لها في النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وحِرصٌ على سلامةِ صاحِبِها وكرامتِه، والإلْفَ يُحدِثُ في النَّفْسِ حرصًا على الملازَمةِ والمقارَنةِ، وكِلا هذينِ الوِجْدانَينِ يصُدُّ صاحِبَه عن المفارَقةِ، فما ظَنُّك بهَولٍ يَغْشى على هذينِ الوِجْدانينِ فلا يَترُكُ لهما مجالًا في النَّفْسِ ؟!
2- في قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ بِشارةٌ للمُؤمِنِ كبيرةٌ؛ لأنَّه -لا مَحالةَ- حاصلٌ له هذا الإخبارُ؛ لأنَّه قال على إِثْرِه: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ فحَصَل هذا للكافرِ، وذلك للمؤمِنِ إنْ شاء اللهُ؛ إذ لَم يَذْكُرْ معهما ثالِثةً .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أتبَعَ وَصْفَ الكَفَرةِ بوَصْفِ الفَجَرةِ، مع أنَّ وَصْفَ الكُفرِ أعظَمُ مِن وَصْفِ الفُجورِ؛ لِما في معنى الفُجورِ مِن خَساسةِ العَمَلِ، فذُكِرَ وَصْفاهم الدَّالَّانِ على مَجموعِ فَسادِ الاعتقادِ وفَسادِ العَمَلِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في بَيانِ أحوالِ مَعادِهم إثرَ بيانِ مَبدأِ خلْقِهم ومَعاشِهم، والفاءُ للدَّلالةِ على تَرتُّبِ ما بعْدَها على ما يُشعِرُ به لَفظُ المتاعِ مِن سُرعةِ زَوالِ هاتِيكَ النِّعمِ، وقُربِ اضْمحلالِها .
وقيل: الفاءُ في فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ للتَّفريعِ على اللَّومِ والتَّوبيخِ في قولِه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] ، وما تَبِعَهُ مِنَ الاستدلالِ على المُشرِكينَ مِن قولِه: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] إلى قولِه: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا [عبس: 25] ، ففُرِّع على ذلك إنذارٌ بيومِ الجزاءِ، مع مُناسبةِ وُقوعِ هذا الإنذارِ عَقِبَ التَّعريضِ والتَّصريحِ بالامتنانِ في قولِه: إِلَى طَعَامِهِ [عبس: 24] ، وقولِه: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 32] .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
- حرْفُ (مِنْ) في قولِه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ يَجوزُ أنْ يكونَ بمعنى التَّعليلِ الَّذي يُعَدَّى به فِعلُ الفِرارِ إلى سَببِ الفرارِ حينَ يُقالُ: فَرَّ مِن الأسدِ، وفَرَّ مِن العدوِّ، وفَرَّ مِن الموتِ. ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى المجاوَزةِ مِثلَ (عَنْ) .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ رُتِّبتْ أصنافُ القَرابةِ في هذه الآيةِ حسَبَ الصُّعودِ مِن الصِّنفِ إلى مَا هو أَقْوَى منه؛ تدَرُّجًا في تَهويلِ ذلك اليومِ؛ فابتُدِئ بالأخِ لشِدَّةِ اتِّصالِه بأخيه مِن زمنِ الصِّبا، فيَنشَأُ بذلك إلْفٌ بيْنَهما يَستمرُّ طولَ الحياةِ، ثمَّ ارتُقِيَ مِن الأخِ إلى الأبوَينِ، وهما أشدُّ قُربًا لابنَيْهما، وانتُقِل إلى الزَّوجةِ والبنينَ، وهما مُجتمَعُ عائلةِ الإنسانِ، وأشَدُّ النَّاسِ قُربًا به ومُلازَمةً، كأنَّه قال: يَفِرُّ مِن أخيه، بل مِن أبوَيْه، بل مِن صاحِبتِه وبَنيهِ؛ لأنَّ تعلُّقَ القلبِ بهما أشدُّ مِن تعلُّقِه بالأبوَينِ . فلمَّا كان السِّياقُ للفِرارِ قدَّمَ أدناهم رُتبةً في الحبِّ والذَّبِّ فأدناهم على سبيلِ التَّرقِّي، وأخَّر الأوجَبَ في ذلك فالأوجَبَ -بخِلافِ ما في سورة (المعارِجِ)- فقال: مِنْ أَخِيهِ؛ لأنَّه يألَفُه صغيرًا، وقد يَركَنُ إليه كبيرًا، مع طولِ الصَّحابةِ، وشِدَّةِ القُربِ في القَرابةِ، فيكون عندَه في غايةِ العِزَّةِ. ولَمَّا كانت الأمُّ مُشارِكةً له في الإلْفِ، ويَلزَمُ مِن حمايتِها أكثَرُ ممَّا يلزَمُ الأخ، وهو لها آلَفُ، وإليها أحَنُّ وعليها أرَقُّ وأعطَفُ؛ قال: وَأُمِّهِ. ولَمَّا كان الأبُ أعظَمَ منها في الإلْفِ؛ لأنَّه أقرَبُ في النَّوعِ، وللولدِ عليه مِنَ العاطِفةِ لِمَا له مِن مَزيدِ النَّفعِ أكثَرُ ممَّنْ قبْلَه؛ قال: وَأَبِيهِ، وأيضًا قُدِّمت الأمُّ للرَّعيِ على الفاصلةِ. ولَمَّا كانت الزَّوجةُ -الَّتي هي أهلٌ لأنْ تُصحَبَ- ألصَقَ بالفؤادِ، وأعرَقَ في الوِدادِ، وكان الإنسانُ أذَبَّ عنها عندَ الاشتدادِ؛ قال: وَصَاحِبَتِهِ، ولعلَّه أفرَدَها إشارةً إلى أنَّها عندَه في الدَّرجةِ العُلْيا مِن الموَدَّةِ، بحيثُ لا يألَفُ غيرَها. ولَمَّا كان للوالدِ إلى الولدِ مِنَ المحَبَّةِ والعاطفةِ، والإباحةِ بالسِّرِّ، والمُشاوَرةِ في الأمرِ ما ليس لغَيرِه؛ ولذلك يضَيِّعُ عليه رزقَه وعُمُرَه؛ قال: وَبَنِيهِ، وإن اجتمَع فيها الصَّغيرُ الَّذي هو عليه أشفَقُ، والكبيرُ الَّذي هو في قلبِه أجَلُّ، وفي عَينِه أنبَلُ، ومَن بيْنَهُما مِنَ الذَّكَرِ والأنثى .
- وأيضًا الابتداءُ يكونُ في كلِّ مَقامٍ بما يُناسِبُه؛ فتارةً يَقتضي الابتداءَ بالأعلى، وتارةً بالأدنى، وهنا المناسَبةُ تقتضي الابتداءَ بالأدنى؛ لأنَّ المقصودَ بيانُ فِرارِه عن أقارِبِه مفصَّلًا شَيئًا بعْدَ شَيءٍ، فلو ذُكِر الأقرَبُ أوَّلًا لم يكُنْ في ذِكرِ الأبعَدِ فائدةٌ طائلةٌ؛ فإنَّه يُعلَمُ أنَّه إذا فَرَّ مِنَ الأقرَبِ فَرَّ مِنَ الأبعَدِ، ولَمَا حصَل للمستمِعِ استِشعارُ الشِّدَّةِ مفصَّلةً، فابتُدئ بنَفيِ الأبعَدِ منتقلًا منه إلى الأقرَبِ، فقيل أوَّلًا: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، فعُلِم أنَّ ثَمَّ شِدَّةً توجِبُ ذلك. وقد يجوزُ أن يَفِرَّ مِن غَيرِه ويجوزُ ألَّا يَفِرَّ، فقيل: وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ؛ فعُلِم أنَّ الشِّدَّةَ أكبَرُ مِن ذلك بحيثُ توجِبُ الفِرارَ مِنَ الأبَوَينِ. ثمَّ قيل: وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ؛ فعُلِم أنَّها طامَّةٌ بحيثُ توجِبُ الفِرارَ ممَّا لا يُفَرُّ منهم إلَّا في غايةِ الشِّدَّةِ، وهي الزَّوجةُ والبَنونَ. ولفظُ وَصَاحِبَتِهِ أحسَنُ مِن زوجتِه .
- وكذلك أُطنِبَ بتَعدادِ هؤلاء الأقرباءِ دونَ أنْ يُقالَ: (يومَ يَفِرُّ المرءُ مِن أقرَبِ قرابتِه) مَثَلًا؛ لإحضارِ صورةِ الهَولِ في نفْسِ السَّامعِ .
- وكلٌّ مِن هؤلاء القَرابةِ إذا قدَّرْتَه هو الفارَّ، كان مَن ذُكِر معه مفرورًا منه، إلَّا قولَه: وَصَاحِبَتِهِ؛ لظُهورِ أنَّ معناهُ: والمرأةُ مِن صاحِبِها؛ ففيه اكتفاءٌ ، وإنَّما ذُكِرَتْ بوصْفِ الصَّاحبةِ الدَّالِّ على القُربِ والمُلازَمةِ دونَ وصْفِ الزَّوجِ؛ لأنَّ المرأةَ قد تكونُ غيرَ حسَنةِ العِشرةِ لزَوجِها، فلا يكونُ فِرارُه منها كِنايةً عن شِدَّةِ الهَولِ، فذُكِرَتْ بوصْفِ الصَّاحبةِ .
- وتعليقُ جارِّ الأقرباءِ بفعلِ يَفِرُّ الْمَرْءُ يَقتضي أنَّهم قد وقَعوا في عذابٍ يَخشَوْنَ تَعدِّيَه إلى مَن يَتَّصِلُ بهم .
- وقد اجتمَعَ في قولِه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ... إلى آخِرِه أبلَغُ ما يُفيدُ هَوْلَ ذلك اليومِ، بحيثُ لا يَترُكُ هَولُه للمرءِ بقيَّةً مِن رُشدِه؛ فإنَّ نفْسَ الفِرارِ للخائفِ مَسَبَّةٌ فيما تَعارَفوهُ؛ لدَلالتِه على جُبنِ صاحِبِه، وهم يَتعيَّرونَ بالجُبنِ، وكونُه يترُكُ أعَزَّ الأعِزَّةِ عليه مَسَبَّةٌ عُظْمى .
3- قولُه تعالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لزيادةِ تهويلِ اليومِ، وحيثُ كان فِرارُ المرءِ مِن الأَقْرِباءِ الخَمسةِ يَقتضي فِرارَ كلِّ قَريبٍ مِن أولئك مِن مِثلِه، كان الاستِئنافُ جامعًا للجميعِ تصريحًا بذلك المُقتضَى، فقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، أي: عن الاشتغالِ بغيرِه مِن المذكوراتِ، بَلْهَ الاشتغالَ عمَّن هو دونَ أولئك في القَرابةِ والصُّحبةِ . أو هو استِئنافٌ واردٌ لبيانِ سببِ الفِرارِ .
- وتَنوينُ شَأْنٌ للتَّعظيمِ. وتَقديمُ الخبَرِ في قولِه: لِكُلِّ امْرِئٍ على المبتدأِ؛ ليَتأتَّى تَنكيرُ شَأْنٌ الدَّالِّ على التَّعظيمِ .
- قولُه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أصْلُ الإغناءِ والغِنى: حُصولُ النَّافعِ المحتاجِ إليه، وقد استُعمِلَ هنا في معْنى الإشغالِ، والإشغالُ أعمُّ، فاستُعمِل الإغناءُ الَّذي هو نفعٌ في معنى الإشغالِ الأعمِّ؛ إيماءً إلى أنَّ المؤمِنينَ يَشغَلُهم عن قَرابتِهم المُشرِكينَ فَرْطُ النَّعيمِ، ورفْعُ الدَّرَجاتِ، كما دَلَّ عليه قولُه عَقِبَه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ إلى آخِرِ السُّورةِ .
4- قولُه تعالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
- جُملةُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ بيانٌ لمآلِ أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السُّعداءِ والأشقياءِ، بعْدَ ذِكرِ وُقوعِهم في داهيةٍ دَهْياءَ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قُدِّم هنا ذِكرُ وُجوهِ أهلِ النَّعيمِ على وُجوهِ أهلِ الجَحيمِ، بخِلافِ قولِه في سورةِ (النازعاتِ): فَأَمَّا مَنْ طَغَى [النازعات: 37] ، ثمَّ قولِه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات: 40] إلى آخِرِه؛ لأنَّ هذه السُّورةَ أُقيمَتْ على عِمادِ التَّنويهِ بشأنِ رجُلٍ مِن أفاضلِ المؤمِنينَ، والتَّحقيرِ لشأنِ عظيمٍ مِن صناديدِ المُشرِكينَ، فكان حظُّ الفريقَينِ مقصودًا مَسوقًا إليه الكلامُ، وكان حظُّ المؤمِنينَ هو المُلتفَتَ إليه ابتِداءً، وذلك مِن قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] إلى آخِرِه، ثمَّ قولِه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5-6] . وأمَّا سورةُ (النازِعاتِ) فقد بُنِيَتْ على تهديدِ المُنكِرينَ للبعثِ ابتِداءً مِن قولِه: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات: 6- 8] ، فكان السِّياقُ للتَّهديدِ والوَعيدِ، وتهويلِ ما يَلقَوْنَه يومَ الحشرِ، وأمَّا ذِكرُ حظِّ المؤمِنينَ يومَئذٍ، فقد دعا إلى ذِكرِه الاسْتِطرادُ، على عادةِ القرآنِ الكريمِ مِن تعقيبِ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ .
- وتَنكيرُ وُجُوهٌ الأوَّلِ والثَّاني للتَّنويعِ، وذلك مُسوِّغُ وُقوعِهما مُبتدأً .
- قولُه: ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ضَاحِكَةٌ كِنايةٌ عن السُّرورِ. والسِّينُ والتَّاءُ في مُسْتَبْشِرَةٌ قيل: هي للمُبالَغةِ، ويُقالُ: بَشَرَ، أيْ: فَرِح وسُرَّ .
- وفي هذه الآياتِ والَّتي تليها احتِباكٌ : ذِكْرُ الإسفارِ والبِشْرِ أوَّلًا يدُلُّ على الخَوفِ والذُّعرِ ثانيًا، وذِكْرُ الغَبَرةِ ثانيًا يدُلُّ عل البياضِ والنُّورِ أوَّلًا، وسِرُّ ذلك أنَّه ذَكَر دليلَ الرَّاحةِ ودليلَ التَّعَبِ لظُهورِهما؛ ترغيبًا وترهيبًا .
5- قولُه تعالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
- قولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ زيادةٌ في تشهيرِ حالِهم الفظيعِ للسَّامعينَ، وجيءَ باسمِ الإشارةِ؛ لزيادةِ الإيضاحِ؛ تشهيرًا بالحالةِ الَّتي سَبَّبتْ لهم ذلك ؛ فـ أُولَئِكَ إشارةٌ إلى أصحابِ تلك الوُجوهِ، وما فيهِ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ درَجتِهم في سُوءِ الحالِ، أي: أولئكَ المَوصوفونَ بسَوادِ الوُجوهِ وغيرِه هُمُ الكفَرةُ الفجَرةُ الجامِعونَ بينَ الكفرِ والفُجورِ؛ فلذلكَ جمَعَ اللهُ تعالى إلى سَوادِ وُجوهِهم الغَبَرةَ .
- وضميرُ الفصلِ هُمُ؛ لإفادةِ التَّقَوِّي .
- وذِكرُ وصفِ الْفَجَرَةُ بدونِ عاطفٍ يُفيدُ أنَّهم جمَعوا بينَ الكُفرِ والفُجورِ .