موسوعة التفسير

سورةُ المعارجِ
الآيات (8 - 18)

ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

كَالْمُهْلِ: المُهلُ: نَوعٌ مِن القَطِرانِ شَبيهٌ بعَكَرِ الزَّيتِ قد انتهى حَرُّه، وما أُذيبَ مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ والرَّصاصِ، وأصلُ (مهل): يدُلُّ على جِنسٍ مِن الذَّائباتِ [47] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/282)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 273)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). .
كَالْعِهْنِ: أي: الصُّوفِ المصبوغِ، وأصلُ (عهن): يدُلُّ على لِينٍ وسُهولةٍ [48] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 485)، ((تفسير ابن جرير)) (23/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/175)، ((المفردات)) للراغب (ص: 592)، ((تفسير القرطبي)) (18/284)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
حَمِيمٌ: أي: قَريبٌ مُشفِقٌ، وحميمُ الرَّجُلِ: خاصَّتُه، مِنْ (حَمَّ): إذا دنا وقَرُبَ، فهو أخصُّ مِن الصَّديقِ [49] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/197)، ((الغريبين)) للهروي (2/497)، ((البسيط)) للواحدي (22/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 255). .
يُبَصَّرُونَهُمْ: أي: يُعَرَّفونَهم، أي يُعرَّفُ الحميمُ حميمَه حتَّى يعرِفَه، يُقالُ: بصَّرْتُ زيدًا بكذا، وبصَّرتُه كذا: إذا عرَّفْتَه إياه، وأصلُ (بصر) هنا: العلمُ بالشَّيءِ [50] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 485)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253)، ((الوسيط)) للواحدي (4/352)، ((البسيط)) للواحدي (22/215)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 416). .
 وَفَصِيلَتِهِ: أي: عَشيرتِه وأقارِبِه، وفَصيلةُ الرَّجُلِ: رَهْطُه الأدْنَوْنَ، والفَصيلةُ أقرَبُ وأخَصُّ في النَّسَبِ مِنَ القَبيلةِ، والفَصيلةُ: القِطْعةُ مِن أعضاءِ الجَسَدِ، وسُمِّيتْ عشيرةُ الرَّجُلِ فَصيلةً؛ تَشبيهًا بالبَعضِ منه، وأصلُ (فصل): يدُلُّ على تمييزِ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ، وإبانتِه عنه [51] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/269)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((البسيط)) للواحدي (22/217)، ((المفردات)) للراغب (ص: 638)، ((تفسير القرطبي)) (18/286). .
لَظَى: هي اسمٌ مِن أسماءِ جَهنَّمَ، عَلَمٌ مَنقولٌ مِن اسمِ اللَّهبِ، لا تَنصَرِفُ؛ فلذلك لا تُنَوَّنُ، واللَّظى: اللَّهَبُ الخالِصُ، يُقالُ: تلَظَّت النَّارُ تتلَظَّى تَلَظِّيًا: أي: توقَّدَت وتوهَّجَت وتلَهَّبَت [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 404)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 426)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 802). .
لِلشَّوَى: أي: الأطرافِ -اليَدينِ والرِّجْلينِ- وجِلْدِ الرَّأسِ، وأصلُ (شوي): يدُلُّ على الأمرِ الهَيِّنِ؛ مِن حيثُ إنَّ الشَّوى ليس بمَقْتَلٍ [53] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/224)، ((المفردات)) للراغب (ص: 471)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 426)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 542). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا جانبًا مِن أهوالِ يومِ القيامةِ: يومَ تكونُ السَّماءُ كالشَّيءِ المائعِ الَّذي بَلَغ أقصَى الغايةِ في شِدَّةِ الحرارةِ، وتكونُ الجِبالُ يَومَ القيامةِ كالصُّوفِ المصبوغِ، ولا يَسأَلُ يومَ القيامةِ قَريبٌ قَريبًا عن حالِه وشأنِه؛ لشِدَّةِ ما يَعتريه مِن الهَولِ والفَزَعِ!
يُعرَّفُ كُلُّ حميمٍ بحَميمِه، ومع ذلك لا يَسأَلُ عن حالِه وشأنِه!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حالةَ المجرمينَ في هذا اليومِ، فيقولُ: يَتمنَّى الكافِرُ في ذلك اليومِ أن يَفتديَ مِن عذابِ اللهِ تعالى ذلك اليومَ بأبنائِه، وزَوجتِه، وإخوانِه، وعَشيرتِه الَّتي كانت تَنصُرُه وتُعينُه، ومَن في الأرضِ جميعًا، ثمَّ ينجُو هو بنفْسِه!
كلَّا! ذلك أمرٌ بعيدٌ! إنَّها نارٌ مُتلَهِّبةٌ مُتوَقِّدةٌ شَديدةُ الحرارةِ، تَنزِعُ أطرافَ الأبدانِ وجِلدةَ الرُؤوسِ!
تدعو تلك النَّارُ إليها كلَّ مَنْ أدْبرَ في الدُّنيا عن الحَقِّ، وتولَّى عنه إلى الباطِلِ، وجمَعَ الأموالَ فكَنَزَها، ومَنَع حَقَّ اللهِ فيها.

تفسير الآيات:

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عن يومِ القيامةِ ما يَبعَثُ على السُّؤالِ عنه؛ استأنَفَ بَيانَه مُبَيِّنًا عظَمَتَه [54] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394). ، فقال:
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8).
أي: يومَ [55] في مُتعَلَّقِ يَوْمَ هنا أوجُهٌ: أحدُها: أنَّه متعلِّقٌ بـ قَرِيبًا، والتقديرُ: ونراه قَريبًا يومَ تكونُ السَّماءُ كالمُهْلِ. وثانيها: أنَّه متعلِّقٌ بمضمَرٍ يدُلُّ عليه وَاقِعٍ وهو يقعُ، أي: يقعُ يومَ تكونُ كالمُهْلِ. والثَّالثُ: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ مقدَّرٍ بعدَه، أي: يومَ تكونُ السَّماءُ كالمُهْلِ كان كذا وكذا. والرَّابعُ: أن يكونَ بدَلًا مِن «يَوْمٍ»، والتَّقديرُ: سأل سائِلٌ بعذابٍ واقعٍ في يومٍ كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سَنةٍ يومَ تكونُ السَّماءُ كالمُهْلِ. وقيل: يَتعَلَّقُ بفعلِ تَعْرُجُ، وقيل: يَتعَلَّقَ بـ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/640)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/451)، ((تفسير الألوسي)) (15/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). تكونُ السَّماءُ كالشَّيءِ المائعِ الَّذي بَلَغ أقصَى الغايةِ في شِدَّةِ الحرارةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/248-251) و(23/256)، ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/ 119)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). قيل: المرادُ بالمُهْلِ: عَكَرُ الزَّيتِ [أي: ما غلُظَ ورَسَب منه]. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والسمعاني، وابن عطية، وابن جُزَي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/436)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 267)، ((تفسير السمرقندي)) (3/495)، ((تفسير الثعلبي)) (10/37)، ((تفسير السمعاني)) (6/46)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير ابن جزي)) (2/410)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/57) و(23/256)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/35)، ((البسيط)) للواحدي (22/212)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/281). قيل: المرادُ بهذا أنَّ السَّماءَ تكونُ كذلك؛ لسَوادِها وانكِدارِ أنوارِها يومَ القيامةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/366). وقيل: المرادُ: تشبيهُ السَّماءِ في انحلالِ أجزائِها بالزَّيتِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالمُهْلِ في الجملةِ: ما أُذِيب مِن النُّحاسِ والرَّصاصِ والفِضَّةِ: الشَّوكانيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ الله بنُ مسعودٍ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/57) و(23/256)، ((البسيط)) للواحدي (22/212). قال السعدي: (هو الرَّصاصُ المُذابُ مِن تشَقُّقِها، وبُلوغِ الهَولِ مِنها كُلَّ مَبلَغٍ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 886). وقيل: المُهلُ: ما أُذيبَ مِن فِضَّةٍ ونَحوِها، فيَجيءُ له ألوانٌ وتمَيُّعٌ مُختَلِطٌ، فالسَّماءُ تصيرُ مِثلَ ذلك؛ للأهوالِ الَّتي تُصيبُها. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/366). قال ابن جرير: (يَقولُ تعالى ذِكْرُه: يومَ تكونُ السَّماءُ كالشَّيءِ المُذابِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/256). وقال أيضًا بعدَ أن ذكَرَ الخِلافَ في تفسيرِ المُهلِ في سورةِ (الكهفِ): (وهذه الأقوالُ وإنِ اختلَفَتْ بها ألفاظُ قائِليها، فمُتَقارِباتُ المعنَى؛ وذلك أنَّ كلَّ ما أُذيبَ مِن رَصاصِ أو ذهَبٍ أو فِضَّةٍ فقد انْتَهى حَرُّه، وأنَّ ما أُوقِدَتْ عليه مِن ذلك النَّارُ حتَّى صار كدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، فقد انْتَهى أيضًا حَرُّه... فالمُهْلُ إذًا هو كلُّ مائِعٍ قد أُوقِدَ عليه حتَّى بَلَغ غايةَ حَرِّه، أو لم يَكُنْ مائِعًا فانْماع بالوَقودِ عليه، وبَلَغ أقصَى الغايةِ في شِدَّةِ الحرِّ). ((تفسير ابن جرير)) (15/250، 251). وقد تقدَّمَ الكلامُ عن المُهْلِ في تفسير سورةِ (الكهف) من هذا ((التفسير المحرَّر)) الآية (29). .
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9).
أي: وتكونُ الجِبالُ يَومَ القيامةِ كالصُّوفِ المصبوغِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/256)، ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير القرطبي)) (18/284، 285)، ((تفسير ابن كثير)) (8/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). وممَّن ذهب إلى أنَّ العِهْنَ هو الصُّوفُ المصبوغُ: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ فارس، والواحديُّ، والسمعاني، والراغب، والزمخشري، والقرطبي، والبِقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/309)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/177)، ((البسيط)) للواحدي (22/213)، ((تفسير السمعاني)) (6/46)، ((المفردات)) للراغب (ص: 592)، ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير القرطبي)) (18/284)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). قال السمعاني: (العِهْنُ: الصُّوفُ المصبوغُ، وشبَّهه به في ضَعفِه وَلِينِه). ((تفسير السمعاني)) (6/46). وقال ابنُ عاشور: (العِهنُ: الصُّوفُ المصبوغُ؛ قيل: المصبوغُ مُطلَقًا، وقيل: المصبوغُ ألوانًا مختَلِفةً). ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). و يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/366). وممَّن نصَّ على تخصيصِه بالمصبوغِ ألوانًا: أبو عُبَيْدةَ، والزمخشريُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/309)، ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394). وقال الحسَنُ: كالصُّوفِ الأحمَرِ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/37). وقيل: العِهنُ هو الصُّوفُ، دونَ تقييدٍ. وممَّن اختاره: ابنُ عطيَّة، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/366)، ((تفسير ابن جزي)) (2/410). قال ابن جُزَي: (العِهنُ هو الصُّوفُ، شبَّه الجبالَ به في انتِفاشِه وتخلخلِ أجزائِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/410). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ العِهْنَ هو الصُّوفُ: مجاهدٌ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 257)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/281). .
كما قال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5].
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: وَلَا يُسْأَلُ على معنى: لا يُسأَلُ قَريبٌ عن قريبِه، أو على معنى: لا يُقالُ لحَميمٍ: أينَ حَميمُك؟ أي: لا يُطالَبُ قَريبٌ بأن يُحضِرَ قَريبَه؛ لأنَّه لا جَوْرَ هناك، بخِلافِ ما يُفعَلُ في الدُّنيا أحيانًا بأن يُؤخَذَ الجارُ بالجارِ، والحَميمُ بالحَميمِ [58] قرأ بها: أبو جعفر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/390). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (23/259)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/89)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 722). .
2- قراءةُ: وَلَا يَسْأَلُ على معنى: لا يَسألُ قَريبٌ قريبَه عن حالِه وشأنِه [59] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/390). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (23/259)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/89)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 722). .
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10).
أي: ولا يَسأَلُ يومَ القيامةِ قَريبٌ في غايةِ القُربِ والصَّداقةِ قَريبًا مِثْلَه عن حالِه وشأنِه؛ لشُغلِ كلِّ إنسانٍ بنَفْسِه عن غيرِه؛ لشِدَّةِ ما يَعتريه مِن الهَولِ والفَزَعِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/257)، ((تفسير القرطبي)) (18/285)، ((تفسير ابن كثير)) (8/224)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). !
كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101] .
وقال سبحانه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] .
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11).
يُبَصَّرُونَهُمْ.
أي: يُعرَّفُ كُلُّ حميمٍ بحَميمِه حتَّى يَعرِفَه، ويَرى ما فيه مِن كَربٍ وشِدَّةٍ، ومع ذلك لا يَسأَلُ عن حالِه وشأنِه؛ لشدَّةِ انشِغالِه بنَفْسِه [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/257، 258)، ((الوسيط)) للواحدي (4/352)، ((تفسير القرطبي)) (18/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). !
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12).
أي: يَرغَبُ الكافِرُ في ذلك اليومِ ويتمَنَّى أن يُقبَلَ منه تقديمُ أبنائِه وزَوجتِه وإخوانِه؛ لإنقاذِ نَفْسِه مِنَ العَذابِ، فيُعذَّبون عِوَضًا عنه، ويَسلَمُ هو [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/259)، ((تفسير القرطبي)) (18/286)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/160، 161). قال ابنُ عطيةَ: (المجرِمُ في هذه الآيةِ: الكافِرُ؛ بدليلِ شِدَّةِ الوَعيدِ، وذِكرِ لَظَى، وقد يَدخُلُ مُجرِمُ المعاصي فيما ذُكِرَ مِنَ الافتداءِ!). ((تفسير ابن عطية)) (5/367). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/395). !
كما قال الله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس: 34 - 36] .
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن بَقِيَ مِن الأقاربِ مُتقارِبينَ في الرُّتبةِ؛ ذَكَر أقرَبَهم، فقال: وَفَصِيلَتِهِ، أي: عَشيرتِه الَّذين هم أقرَبُ مَن فُصِلَ عنه [63] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/396). .
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13).
أي: ويَوَدُّ أن يُقبَلَ مِنه تقديمُ عَشيرتِه الَّتي كانت في الدُّنيا تضُمُّه وتَنصُرُه وتُعينُه، فتُعذَّبُ هي عِوَضًا عنه [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/259)، ((تفسير القرطبي)) (18/286)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/396، 367)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). قال ابنُ عاشور: (الفصيلةُ: الأقرِباءُ الأَدْنَونَ مِنَ القَبيلةِ، وهم الأقرِباءُ المفصولُ منهم، أي: المُستَخرَجُ منهم، فشَمِلَت الآباءَ والأمَّهاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/161). وقال القَلْقَشَنْدي: (قد عدَّ أهلُ اللُّغةِ طبَقاتِ الأنسابِ سِتَّ طبَقاتٍ: الطَّبقةُ الأولى: الشَّعبُ، بفتحِ العَينِ، وهو النَّسبُ الأبعَدُ؛ كعَدْنانَ مثلًا... الطَّبقةُ الثَّانيةُ: القَبيلةُ، وهي ما انقسَمَ فيه الشَّعبُ؛ كرَبيعةَ ومُضَرَ... الطَّبقةُ الثَّالثةُ: العِمارةُ، بكسرِ العَينِ المُهمَلةِ، وهي ما انقسَم فيه أنسابُ القَبيلةِ؛ كقُرَيشٍ وكِنانةَ. وتُجمَعُ على عِماراتٍ، وعَمائرَ. الطَّبقةُ الرَّابعةُ: البَطنُ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ العِمارةِ؛ كبَني عبدِ مَنافٍ، وبَني مَخزومٍ. ويُجمعُ: على بُطونٍ، وأبْطُنٍ. الطَّبقةُ الخامِسةُ: الفَخِذُ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ البَطنِ؛ كبَني هاشمٍ، وبني أُمَيَّةَ. وتُجمعُ على: أفخاذٍ. الطَّبقةُ السَّادسةُ: الفَصيلةُ، بالصَّادِ المُهمَلةِ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ الفَخِذِ؛ كبَني العبَّاسِ... وبالجُملةِ فالفَخِذُ يَجمَعُ الفصائلَ، والبطنُ يجمعُ الأفخاذَ، والعِمارةُ يجمعُ البُطونَ، والقبيلةُ تَجمعُ العَمائرَ، والشَّعبُ يجمعُ القبائلَ ... وزاد بعضُهم العَشيرةَ قبْلَ الفَصيلةِ). ((قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان)) (ص: 14). ويُنظر: ((الأحكام السلطانية)) للماوَرْدي (ص: 304)، ((تفسير الزمخشري)) (4/374). وقال الشنقيطي: (ولم يُذكَرْ مِن هذه السِّتِّ في القرآنِ إلَّا ثلاثٌ: الشُّعوبُ والقَبائلُ...، والفَصيلةُ في «المَعارِجِ»، في قولِه: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ). ((أضواء البيان)) (7/418). .
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14).
أي: ويَرغَبُ في تقديمِ جَميعِ مَن في الأرضِ مِن أصدقائِه وغَيرِهم، فيُعذَّبون بَدَلًا منه، وينجُو بذلك مِن عَذابِ اللهِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/259)، ((الوسيط)) للواحدي (4/352)، ((تفسير القرطبي)) (18/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886). قال الزمخشري: (ثُمَّ لاستبعادِ الإنجاءِ، يعني: تمنَّى لو كان هؤلاء جميعًا تحتَ يَدِه، وبَذَلَهم في فِداءِ نَفْسِه، ثمَّ يُنجِيه ذلك، وهَيْهاتَ أن يُنْجِيَه!). ((تفسير الزمخشري)) (4/610). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/397). .
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15).
أي: لن يكونَ للمُجرِمِ ما تمَنَّاه مِنَ الافتداءِ مِن عَذابِ اللهِ، فليس يُنجِيه مِن النَّارِ شَيءٌ؛ إنَّها نارٌ مُتلَهِّبةٌ مُتوَقِّدةٌ شَديدةُ الحرارةِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/260)، ((تفسير البغوي)) (5/152)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 886)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). قال الواحدي: (لَظَى: مِن أسماءِ النَّارِ، ومَعناها في اللُّغةِ: اللَّهَبُ الخالِصُ). ((الوسيط)) (4/352). ويُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/284). وقال الشوكاني: (كَلَّا يأتي بمعنى: «حقًّا»، وبمعنى: «لا»، مع تضَمُّنِها لمعنى الزَّجْرِ والرَّدْعِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/347). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/287). !
كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14] .
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16).
أي: تَنزِعُ تلك النَّارُ أطرافَ أبدانِ المجرِمينِ -كاليَدينِ والرِّجْلينِ-، وجِلدةَ رُؤوسِهم [67] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/261)، ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225). قال ابنُ القيِّم: (في الآيةِ تفسيرانِ مَشهورانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الشَّوى: الأطرافُ الَّتي ليست مَقاتِلَ؛ كاليَدينِ، والرِّجْلَينِ، تَنزِعُها عن أماكِنِها... التَّفسيرُ الثَّاني: أنَّ الشَّوى جمعُ شَواةٍ، وهي جِلدةُ الرَّأسِ وفَروتُه). ((بدائع الفوائد)) (3/114، 115). وممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ -أنَّ الشَّوى: الأطرافُ الَّتي ليست مَقاتِلَ؛ كاليدَينِ والرِّجلَينِ-: الراغبُ، والبَغَويُّ، والخازن، وابن جُزَي. يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 471)، ((تفسير البغوي)) (5/153)، ((تفسير الخازن)) (4/341)، ((تفسير ابن جزي)) (2/411). قال السَّمْعانيُّ: (الأكثَرونَ أنَّ الشَّوى هو الأطرافُ؛ مِثلُ اليَدينِ، والرِّجلَينِ، وغَيرِ ذلك). ((تفسير السمعاني)) (6/47). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو صالحٍ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/263)، ((تفسير الثعلبي)) (10/38)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/282). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: ابنُ قُتَيْبةَ، والغَزْنَوي، والقرطبي، والبِقاعي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 486)، ((باهر البرهان)) للغزنوي (3/1550)، ((تفسير القرطبي)) (18/ 288)، ((التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)) للقرطبي (ص: 833)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/398). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وسعيدُ ابنُ جُبَيرٍ، وقُرَّةُ بنُ خالدٍ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/262)، ((تفسير البغوي)) (5/153)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/282). قال البقاعي: (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى أي: هي شديدةُ النَّزعِ لجُلودِ الرُّؤوسِ، بليغَتُه، فما الظَّنُّ بغيرِه مِن الجِلدِ؟! وقال في القاموس: الشَّوى: اليَدانِ والرِّجلانِ والأطرافُ، وقِحْفُ الرَّأسِ وما كان غيرَ مَقْتَلٍ. انتهى. وقيل: والجِلدُ كُلُّه واللَّحمُ. تَنزِعُ ذلك، ثمَّ يعودُ كما كان في الحالِ). ((نظم الدرر)) (20/398، 399). وقال ابن جرير جامعًا بيْن القولَينِ: (تَنْزِعُ جِلدةَ الرَّأسِ، وأطرافَ البدنِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/261). وقال العُلَيميُّ: (وهي جِلدةُ الرَّأسِ وما ليست مَقتَلًا، كالأطرافِ، تَلخيصُه: تَقتلِعُ النَّارُ منهم كلَّ عُضْوٍ غير مَقتَلٍ، ثمَّ يَعودُ هكذا أبدًا). ((تفسير العليمي)) (7/159). وقال قَتادةُ: نَزَّاعَةً لِلشَّوَى أي: نَزَّاعةً لهامَتِه، ومَكارِمِ خَلقِه وأطرافِه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/263). .
تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17).
أي: تدعو تلك النَّارُ إليها كلَّ مَنْ أدْبرَ في الدُّنيا عن الحَقِّ، وتولَّى عنه إلى الباطِلِ [68] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/437)، ((تفسير ابن جرير)) (23/264)، ((تفسير القرطبي)) (18/289)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225). قال ابنُ كثير: (أي: تَدعو النَّارُ إليها أبناءَها الَّذين خلَقَهم اللهُ لها، وقدَّرَ لهم أنَّهم في الدَّارِ الدُّنيا يَعمَلونَ عمَلَها، فتَدْعوهم يومَ القيامةِ بلِسانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ، ثمَّ تَلتَقِطُهم مِن بيْنِ أهلِ المحشَرِ، كما يلتَقِطُ الطَّيرُ الحَبَّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/225). .
كما قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [التغابن: 12] .
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18).
أي: وجمَعَ الأموالَ فكَنَزَها، ومَنَع حَقَّ اللهِ فيها، فلم يُنفِقْ منها فيما أمَرَه [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/265)، ((الوسيط)) للواحدي (4/353)، ((تفسير الزمخشري)) (4/611)، ((تفسير القرطبي)) (18/289)، ((تفسير ابن كثير)) (8/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/165). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35].
وقال سبحانه: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة: 2 - 4].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ إذا كان هذا القَلَقُ والانزعاجُ لهذه الأجرامِ الكبيرةِ الشَّديدةِ، فما ظَنُّك بالعَبدِ الضَّعيفِ الَّذي قد أثقَلَ ظَهْرَه بالذُّنوبِ والأوزارِ؟ أليس حقيقًا أن ينخَلِعَ قَلبُه، ويَنزَعِجَ لُبُّه، ويَذهَلَ عن كلِّ أحَدٍ [70] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 886). ؟!
2- قال اللهُ تعالى: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا؛ لأنَّه قد كُشِفَ لهم أنَّه لا تُغْني نَفْسٌ عن نفْسٍ شيئًا، وأنَّه قد تقطَّعَت الأسبابُ، وتلاشت الأنسابُ، لَمَّا كَشَف الابتلاءُ عن أنَّه لا عِزَّ إلَّا بالتَّقوى [71] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/394). !
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَمَعَ فَأَوْعَى فيه إشارةٌ إلى حُبِّ الدُّنيا؛ فـ (جَمَع) إشارةٌ إلى الحِرصِ، و(أوعى) إشارةٌ إلى الأمَلِ، ولا شَكَّ أنَّ مَجامِعَ آفاتِ الدِّينِ ليست إلَّا هذه [72] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/643). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (29/166). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لم يُخبِرِ اللهُ تعالى أنَّ العالَمَ في يومِ القيامةِ يُعْدَمُ ويَفْنَى بحيثُ لا يبقَى شَيءٌ، بل أخبَر باستحالةِ العالَمِ؛ قال تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] ، وقال تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن: 37]، وقال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [الواقعة: 4 - 7] ، وقال تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 4-5] ، وأمثال هذه النُّصوصِ الَّتي تُبَيِّنُ الاستِحالةَ والتَّغَيُّرَ على السَّمَواتِ والأرضِ والجِبالِ، وأنَّها تستحيلُ أنواعًا مِنَ الاستحالةِ؛ لتعَدُّدِ الأوقاتِ [73] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/225). . وذلك بِناءً على القولِ بأنَّ التَّبديلَ للسَّمواتِ والأرضِ تبديلُ صِفاتٍ لا ذاتٍ.
2- قال اللهُ تعالى: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ بدأ جَلَّ ثناؤُه بذِكرِ البَنينَ، ثمَّ الصَّاحِبةِ، ثمَّ الأخِ؛ إعلامًا منه عِبادَه أنَّ الكافِرَ مِن عَظيمِ ما يَنزِلُ به يومَئِذٍ مِنَ البَلاءِ يَفْتَدي نَفْسَه -لو وجَدَ إلى ذلك سبيلًا- بأحَبِّ النَّاسِ إليه [74] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/259). !
3- قولُه تعالى: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ... الآياتِ: فيه أنَّ غيرَ المجرمِ لا يَوَدُّ ذلك؛ لأنَّه قد افتدَى في الدُّنيا مِن عذابِ يومئذٍ بالتَّقوَى والإيمانِ، وإنَّما هو في هذا اليومِ لا يَحزُنُه الفزعُ الأكبرُ، ويُؤمِّلُ اجتماعَه بمَن صلَح مِن آبائِه وأبنائِه وأحبابِه في جنَّاتِ النَّعيمِ [75] يُنظر: ((المواهب الربانية من الآيات القرآنية)) للسعدي (ص: 15). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ
- قولُه: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ يَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بـ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ؛ قُدِّمَ عليه للاهتِمامِ بذِكرِ اليَومِ، فيَكونَ قولُه: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ابتِداءَ كَلامٍ، والجُملةُ المَجعولةُ مَبدأَ كَلامٍ تُجعَلُ بدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، ويَجوزُ أنْ يَتعَلَّقَ بفِعلِ تَعْرُجُ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). .
- وفي قولِه: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ تَشبيهٌ مُرسَلٌ [77] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذِي وصْفٍ في وَصْفِه. وقيل: هو إثباتُ حُكمٍ مِن أحكامٍ المُشبَّهِ به للمُشبَّهِ. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ عِدَّةَ تَقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّةٍ؛ فمنه: التَّشبيهُ البليغُ: وهو ما كانتْ أداةُ التَّشبيهِ فيه مَحذوفةً. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ باعتبارٍ آخَرَ إلى مُؤكَّدٍ: وهو ما حُذِفتْ فيه الأداةُ، نحو: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ، أي: مِثلَ مرِّ السَّحابِ. ومُرْسَلٍ: وهو ما لم تُحذَفْ فيه الأداةُ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ، ووَجْهُ الشَّبهِ التَّلوُّنُ، والمعْنى: تَشبيهُ السَّماءِ في انْحلالِ أجْزائِها بالزَّيتِ، أو كالفِضَّةِ المُذابةِ في تَلوُّنِها [78] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/211). . وذلك على أحدِ الأقوالِ.
- وكذلك في قولِه: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ تَشبيهٌ مُرسَلٌ، ووَجْهُ الشَّبَهِ تَفرُّقُ أجزاءِ الصُّوفِ المَصبوغِ ألْوانًا، فإيثارُ العِهنِ بالذِّكرِ لإكمالِ المُشابَهةِ؛ لأنَّ الجِبالَ ذاتُ ألْوانٍ؛ فمنها جُدَدٌ بِيضٌ، وحُمْرٌ مُختلِفٌ ألوانُها، وغَرابيبُ سُودٌ، فإذا بُسَّت وطُيِّرت في الجوِّ؛ أشْبَهَت العِهنَ المَنفوشَ إذا طيَّرَتْه الرِّيحُ [79] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/609)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/159)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/211). .
2- قولُه تعالَى: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ
- قولُه: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، أي: لشِدَّةِ ما يَعْتري النَّاسَ مِن الهَولِ، فمِن شِدَّةِ ذلك أنْ يَرى الحميمُ حَميمَه في كَرْبٍ وعَناءٍ، فلا يَتفرَّغَ لسُؤالِه عن حالِه؛ لأنَّه في شاغلٍ عنه، فحُذِفَ مُتعلَّقُ يَسْأَلُ؛ لظُهورِه مِن المَقامِ ومِن قولِه: يُبَصَّرُونَهُمْ، أي: يُبصَّرُ الأخِلَّاءُ أحوالَ أخِلَّائِهم مِن الكَرْبِ، فلا يَسأَلُ حَميمٌ حَميمًا [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/159). .
- وحَمِيمٌ حَمِيمًا نَكِرتانِ في سِياقِ النَّفيِ؛ فيَعُمَّانِ، ولذلك جُمِعَ الضَّميرُ في يُبَصَّرُونَهُمْ [81] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/160)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212). .
- قيل: مَوقعُ قولِه: يُبَصَّرُونَهُمْ مَوقعُ الاستئنافِ البيانيِّ؛ لدفْعِ احتمالِ أنْ يَقَعَ في نفْسِ السَّامعِ أنَّ الأَحِمَّاءَ لا يَرى بَعضُهم بعضًا يَومَئذٍ؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ في شاغلٍ، فأُجِيبَ بأنَّهم يُكشَفُ لهم عنْهم ليَرَوا ما هم فيه مِن العذابِ، فيَزْدادوا عذابًا فوقَ العذابِ. ويجوزُ أنْ يكونَ يُبَصَّرُونَهُمْ صِفةً، أي: حَميمًا مُبصَّرين مُعرَّفين إيَّاهم، وقيل غير ذلك [82] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/609، 610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/160)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212). .
- قولُه: يُبَصَّرُونَهُمْ مُضارِعُ (بَصَّرَه بالأمرِ)؛ إذا جَعَلَه مُبصِرًا له، أي: ناظرًا، فأصْلُه: يُبصَّرون بهم، فوَقَعَ فيه حذْفُ الجارِّ، وتَعديةُ الفعلِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/160). .
- قولُه: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ حالٌ مِن أحَدِ الضَّميرينِ؛ المرفوعِ أو المنصوبِ مِن يُبَصَّرُونَهُمْ، أو استئنافٌ يدُلُّ على أنَّ اشتغالَ كلِّ مُجرِمٍ بنفْسِه بحيثُ يَتمنَّى أنْ يَفتدِيَ بأقرَبِ النَّاسِ إليه، وأعْلَقِهم بقَلْبِه، فَضلًا أنْ يَهتَمَّ بحالِه ويَسأَلَ عنها [84] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31). .
- والتَّنوينُ في قولِه: يَوْمِئِذٍ عِوَضٌ عن جُمَلٍ مَحذوفةٍ، والتَّقديرُ: يومِ إذ تكونُ السَّماءُ كالمُهلِ، وتكونُ الجِبالُ كالعِهنِ، ولا يَسأَلُ حَميمٌ حَميمًا [85] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212). . فـ يَوْمِئِذٍ هو يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ؛ فإنْ كان قولُه: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ مُتعلِّقًا بـ يَوَدُّ، فقولُه: يَوْمِئِذٍ تأكيدٌ لـ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وإنْ كان مُتعلِّقًا بقولِه: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ [المعارج: 4] ، فقولُه: يَوْمِئِذٍ إفادةٌ لكونِ ذلك اليومِ هو يَومَ يَودُّ المجرِمُ لو يَفْتدي مِن العذابِ بمَن ذُكِرَ بعْدَه [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/160). .
- والفَصيلةُ: الأقرباءُ الأدْنَون مِن القَبيلةِ، وهم الأقرباءُ المَفصولُ منهم، أي: المُستخرَجُ منهم؛ فشَمِلَتِ الآباءَ والأُمَّهاتِ؛ فالفصيلةُ دلَّت على الآباءِ باللَّفظِ، وتُستفادُ الأُمَّهاتُ بدَلالةِ لَحنِ الخِطابِ [87] لحنُ الخِطابِ: هو أن يكونَ المَسكوتُ عنه موافِقًا للمَنطوقِ فى الحُكمِ، ويُسمَّى أيضًا: فَحْوى الخِطابِ. وقيل: إنْ كان أَوْلى بالحُكمِ مِن المنطوقِ به فيُسَمَّى فَحْوى الخِطابِ، وإن كان مساويًا فيُسَمَّى لحنَ الخطابِ. وقيلَ غيرُ ذلك. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 53)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/641)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 132)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/37). . وقيل: الفصيلةُ هي أُمُّه، ويُفهَمُ منها الأبُ بطَريقِ لحْنِ الخِطابِ؛ فيَكونُ قدِ استَوفى ذِكرَ أقرَبِ القَرابةِ بالصَّراحةِ والمَفهومِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/161). .
- وقد رُتِّبَت الأقرِباءُ على حسَبِ شِدَّةِ المَيلِ الطَّبيعيِ في العُرْفِ الغالبِ؛ لأنَّ المَيلَ الطَّبيعيَّ يَنشَأُ عن المُلازَمةِ وكَثرةِ المُخالَطةِ، ولم يُذكَرِ الأبَوانِ لدُخولِهما في الفصيلةِ؛ قَصْدًا للإيجازِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/161). .
فلـمَّا ذكَر ألصقَ النَّاسِ بالفؤادِ، وأعزَّ مَن يلزمُه نصرُه والذَّبُّ عنه؛ أتبعَه ما يَليه في الرُّتبةِ والمودَّةِ، وما الافتداءُ به -لا سيَّما عندَ العربِ- مِن أقبحِ العارِ، فقال: وَصَاحِبَتِهِ، ولَمَّا ذَكَر الصَّاحِبةَ لِما لها مِن تمامِ الوُصْلةِ؛ أتْبَعَها الشَّقيقَ الَّذي لا يَلزَمُ مِنَ الذَّبِّ عنه ما يلزَمُ مِنَ الذَّبِّ عن الحريمِ، ورُبَّما كان مُبايِنًا، ولما كان مَن بقِي مِن الأقاربِ بعدَ ذلك متقاربينَ في الرُّتبةِ؛ ذكَر أقربَهم، فقال: وَفَصِيلَتِهِ أي: عشيرتِه، ولما خصَّ هنا عمَّ فقال: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [90] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/396). .
- وفي قولِه: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه هنا لَمَّا كان السِّياقُ للافتِداءِ، بدَأَ بأعَزِّهم في ذلك، بخِلافِ ما في سُورةِ (عَبَسَ)، فقال: بِبَنِيهِ؛ لشِدَّةِ ما يَرى. ولَمَّا كانت هذه الآيةُ في الفِديةِ، قدَّمَ الأبعَدَ عن ذلك فالأبعَدَ مِن جِهةِ النَّفعِ والمَعرَّةِ. ولَمَّا كانتْ آيةُ سُورةِ (عَبَسَ) في الفِرارِ والنَّفرةِ، قدَّمَ الألْصَقَ فالألْصَقَ، والأعلَقَ في الأُنسِ فالأعلَقَ [91] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/396، 397). .
- والإيواءُ: الضَّمُّ والانحيازُ، والَّتِي تُؤْوِيهِ: إنْ كانت القبيلةَ، فالإيواءُ عُبِّر به عن الحِمايةِ والنَّصرِ، أي: ومع ذلك يَفْتدي بها؛ لعِلمِه بأنَّها لا تُغْني عنه شيئًا يَومَئذٍ، وإنْ كانت الأُمَّ فالإيواءُ باعتِبارِ الماضي، وصِيغةُ المُضارِعِ لاستِحضارِ الحالةِ، أي: يَوَدُّ لو يَفْتدي بأُمِّه مع شِدَّةِ تَعلُّقِ نفْسِه بها؛ إذ كانت تُؤوِيه، فإيثارُ لَفظِ (فَصِيلَتِهِ) وفِعلِ تُؤْوِيهِ هنا مِن إيجازِ القرآنِ وإعجازِه؛ ليَشملَ هذه المعانيَ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/161، 162). .
- قولُه: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، أي: ومَن له في الأرضِ ممَّا يَعِزُّ عليه مِن أخِلَّاءَ، وقَرابةٍ، ونَفائسِ الأموالِ، ممَّا شأْنُ النَّاسِ الشُّحُّ ببَذْلِه، والرَّغبةُ في استبقائِه، و(مَن) المَوصولةُ لتَغليبِ العاقلِ على غَيرِه؛ لأنَّ منهم الأخِلَّاءَ [93] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). .
- وحرْفُ (ثُمَّ) في قولِه: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ للتَّراخي الرُّتبيِّ، أي: يَوَدُّ بَذْلَ ذلك، وأنْ يُنجِيَه الفِداءُ مِن العذابِ، فالإنجاءُ مِن العذابِ هو الأهمُّ عندَ المُجرِمِ في وِدادتِه [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). . وقيل: (ثُمَّ) تُفيدُ استبعادَ الإنجاءِ لشِدَّةِ الهَولِ، يعْنى: تَمنَّى لو كان هؤلاء جميعًا تحتَ يَدِه وبَذَلَهم في فِداءِ نفْسِه، ثمَّ يُنجِيه ذلك، وهَيهاتَ [95] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212). !
- والمَعطوفُ بـ (ثُمَّ) هو المُسبَّبُ عن الوِدادةِ، فلذلك كان الظاهرُ أنْ يُعطَفَ بالفاءِ، وهو الأكثَرُ في مِثلِه، كقولِه تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89] ، وقولِه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] ، فعُدِلَ عن عطْفِه بالفاءِ هنا إلى عطْفِه بـ (ثُمَّ)؛ للدَّلالةِ على شِدَّةِ اهتمامِ المُجرِمِ بالنَّجاةِ بأيَّةِ وَسيلةٍ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). .
- ومُتعلَّقُ يُنْجِيهِ مَحذوفٌ، يدُلُّ عليه قولُه: مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). .
3- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى
- قولُه: كَلَّا حرْفُ رَدْعٍ وإبطالٍ لكلامٍ سابقٍ، ولا يَخْلو مِن أنْ يُذكَرَ بعْدَه كَلامٌ، وهو هنا لإبطالِ ما يُخامِرُ نُفوسَ المُجرِمِ مِن الوِدادةِ، وتَصريحٌ بامتناعِ إنجاءِ الافتداءِ، نُزِّلَ مَنزِلةَ الكلامِ؛ لأنَّ اللهَ مطَّلِعٌ عليه، أو لإبطالِ ما يَتفوَّهُ به مَن تَمنَّى ذلك؛ قال تعالَى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [98] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/162)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212). [النبأ: 40] .
- وجُملةُ إِنَّهَا لَظَى استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عمَّا أفادَهُ حرْفُ (كلَّا) مِن الإبطالِ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/162). .
- قولُه: إِنَّهَا لَظَى الضَّميرُ للنَّارِ، ولم يَجْرِ لها ذِكرٌ؛ لأنَّ ذِكرَ العذابِ دلَّ عليها، أو مُبهَمٌ يُفسِّرُه لَظَى [100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274)، ((تفسير أبي السعود)) (9/31، 32)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/163). .
- والمَقصودُ التَّعريضُ بأنَّ النَّارَ أُعِدَّت له، أي: أنَّها تُحرِقُك وتَنزِعُ شَواكَ، وقدْ صُرِّحَ بما وَقَعَ التَّعريضُ به في قولِه: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 17، 18]، أي: تَدْعوك يا مَن أدْبَرَ عن دَعوةِ التَّوحيدِ، وتَولَّى عنها، ولم يَعبَأْ إلَّا بجمْعِ المالِ. وحرْفُ (إنَّ) إمَّا للتَّوكيدِ مُتوجِّهًا إلى المعْنى التَّعريضيِّ، وإمَّا لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالجُملةِ الَّتي بعْدَه؛ لأنَّ الجُمَلَ المُفتتَحةَ بضَميرِ الشَّأنِ مِن الأخبارِ المُهتَمِّ بها [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/163). .
- والنَّزَّاعةُ: مُبالَغةٌ في النَّزعِ، وهو الفصْلُ والقطْعُ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/164). .
- قولُه: نَزَّاعَةً قُرِئَ نَزَّاعَةٌ بالرَّفعِ على التَّهويلِ، أي: هي نَزَّاعةٌ، وقُرِئَ بالنَّصبِ [103] قرأ حفص نَزَّاعَةً بالنَّصبِ، وقرأ الباقونَ بالرَّفعِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/390). على الحالِ المُؤكِّدةِ، أو المُتنقِّلةِ على أنَّ لَظَى بمعنى مُتلظِّية، أو على الاختِصاصِ للتَّهويلِ [104] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/610)، ((تفسير البيضاوي)) (5/245)، ((تفسير أبي حيان)) (10/274، 275)، ((تفسير أبي السعود)) (9/32)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/163)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/212، 213). .
- والشَّوى: اسمُ جمْعِ شَوَاةٍ، وهي العضْوُ غيرُ الرَّأسِ، مِثلُ اليدِ والرِّجْلِ؛ فالجمْعُ باعتبارِ ما لكلِّ أحدٍ مِن شَوى. وقيل: الشَّوَاةُ: جِلدةُ الرَّأسِ، فالجمْعُ باعتِبارِ كَثرةِ النَّاسِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/164). .
- والإدبارُ: ترْكُ شَيءٍ في جِهةِ الوَراءِ؛ لأنَّ الدُّبُرَ هو الظَّهرُ، فأدْبَر: جَعَل شيئًا وَراءَه بألَّا يُعرِّجَ عليه أصْلًا، أو بأنْ يُقبِلَ عليه ثمَّ يُفارِقَه. والتَّولِّي: الإدبارُ عن شَيءٍ والبُعدُ عنه، وأصْلُه مُشتَقٌّ مِن الوَلايةِ، وهي المُلازَمةِ، ثمَّ قالوا: ولَّى عنه، أرادوا: اتَّخَذ غيرَه وليًّا، أي: ترَكَ وَلايتَه إلى ولايةِ غيرِه، ففي التَّولِّي معْنى إيثارِ غيرِ المُتولَّى عنه؛ ولذلك يكونُ بيْن التَّولِّي والإدبارِ فرْقٌ، وباعتبارِ ذلك الفرْقِ عُطِفَ وَتَوَلَّى على أَدْبَرَ، أي: تَدْعو مَن ترَكَ الحقَّ، وتَولَّى عنه إلى الباطلِ. وهذه دَقيقةٌ مِن إعجازِ القُرآنِ؛ بأنْ يكونَ الإدبارُ إدْبارَ غَيرِ تَوَلٍّ، أي: إدبارًا مِن أوَّلِ وَهْلةٍ، ويكونَ التَّولِّي مُرادًا به الإعراضُ بعْدَ مُلابَسةٍ؛ ولذلك يكونُ الإدبارُ مُعبَّرًا به عن عدَمِ قَبولِ القُرآنِ، ونفْيِ استماعِ دَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو حالُ الَّذين قال اللهُ فيهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ [فصلت: 26]، والتَّولِّي مُعبَّرًا به عن الإعراضِ عن القُرآنِ بعْدَ سَماعِه، وللنُّفورِ عن دَعوةِ الرَّسولِ، كما قال تعالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] ، وكِلا الحالَينِ حالُ كفْرٍ، ومُحِقَّةٌ للعِقابِ، وهما مُجتَمِعَتانِ في جَميعِ المُشرِكين، والمقصودُ مِن ذِكرِهما معًا تَفظيعُ أصحابِهما [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/165). .
- يجوزُ أن يكونَ متعلَّقُ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى متحدًا يَتنازَعُه كِلا الفِعلَينِ، ويُقدَّرُ بنحوِ: عن الحقِّ؛ إذ العِبرةُ باختلافِ معنَيَيِ الفِعلَينِ، وإن كان متعلَّقُهما متَّحدًا. ويجوزُ أن يُقدَّرَ لكلِّ فعلٍ متعلَّقٌ هو أشدُّ مُناسَبةً لمعناه، فقيل: أدبَر عن الحقِّ، وتولَّى عن الطَّاعةِ، أي: لم يَقبَلِ الحقَّ، وهو الإيمانُ مِن أصلِه، وأعرَض عن طاعةِ الرَّسولِ بعدَ سماعِ دعوتِه. وقيل عكسُه: أدبَر عن طاعةِ الله، وتولَّى عن كتابِ الله [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/165). .
- والجمْعُ والإيعاءُ في قولِه: وَجَمَعَ فَأَوْعَى مُرتَّبٌ ثانِيهما على أوَّلِهما، فيدُلُّ تَرتُّبُ الثَّاني على الأوَّلِ أنَّ مَفعولَ (جَمَعَ) المحذوفَ هو شَيءٌ ممَّا يُوعَى، أي: يُجعَلُ في وِعاءٍ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/166). .
- وقيل: وَجَمَعَ فَأَوْعَى، أي: كان جَموعًا للخَبيثِ، فيُقدَّرُ لـ (جَمَعَ) مَفعولٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: وزادَ على إدبارِه وتَولِّيه أنَّه جَمَع الخبائثَ، وعليه يكونُ فَأَوْعَى مُعبَّرًا به عن مُلازَمتِه ما فيه مِن خِصالِ الخَبائثِ واستِمرارِه عليها، فكأنَّها مُختزَنةٌ لا يُفرِّطُ فيها [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/166). .