موسوعة التفسير

سورةُ التَّغابُنِ
الآيات (11-13)

ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا أنَّ كلَّ شيءٍ بقضائِه وقدَرِه: ما أُصيبَ أحدٌ بمُصيبةٍ إلَّا بقَضاءِ اللهِ تعالى ومَشيئتِه، ومَن يُؤمِنْ باللهِ وبأنَّ المصائِبَ بإذْنِه وقَدَرِه، يَهْدِ اللهُ قَلْبَه للحَقِّ، واللهُ بكُلِّ شَيءٍ عليمٌ.
ثمَّ يَحُضُّ الله تعالى عبادَه على طاعتِه والتَّوكُّلِ عليه، فيقولُ: وأطيعوا اللهَ وأطيعوا رَسولَه، فإنْ أعرَضْتُم فإنَّما على رَسولِنا البلاغُ الواضِحُ الَّذي تُقامُ به الحُجَّةُ عليكم، اللهُ لا مَعبودَ بحقٍّ إلَّا هو، وعلى اللهِ وَحْدَه فلْيَعتَمِدِ المؤمِنونَ.

تفسير الآيات:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذه الآيةُ تتعَلَّقُ بقَولِه تعالى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: 8] ؛ لِما أنَّ مَن يُؤمِنُ باللهِ فيُصَدِّقُه يَعلَمُ أنَّه لا تُصيبُه مُصيبةٌ إلَّا بإذنِ اللهِ [193] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/556). .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
أي: ما أُصيبَ أحدٌ بأيِّ مُصيبةٍ كانت إلَّا بقَضاءِ اللهِ تعالى وتَقديرِه ومَشيئتِه [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/11)، ((تفسير القرطبي)) (18/139)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/324)، ((تفسير ابن كثير)) (8/137)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ [الحديد: 22، 23].
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.
أي: ومَن يُؤمِنْ باللهِ ويَعلَمْ أنَّ المصائِبَ بإذْنِه وقَدَرِه، يُوَفِّقِ اللهُ قَلْبَه للحَقِّ؛ فيُسلِّمَ لأمْرِه، ويَرْضَى بقَضائِه، فتَهُونَ عليه مُصيبتُه [195] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/11)، ((تفسير ابن عطية)) (5/319)، ((تفسير القرطبي)) (18/139)، ((تفسير ابن كثير)) (8/137)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 867)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/279، 280). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 - 157].
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ! إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَتْه سَرَّاءُ شَكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له )) [196] رواه مسلم (2999). .
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ ذو عِلمٍ تامٍّ بكُلِّ شَيءٍ، فيَعلَمُ أقوالَ خَلْقِه وأفعالَهم، وضَمائِرَهم وأحوالَهم، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/13)، ((تفسير القرطبي)) (18/140)، ((تفسير البيضاوي)) (5/218). .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان تقديرُ ما سَبَق: فاصبِروا عندَ هُجومِ المصائبِ، عَطَف عليه قَولَه؛ تحذيرًا مِن أن يُشتغَلَ بها، فتُوقِعَ في الهلاكِ، وتَقطَعَ عن أسبابِ النَّجاةِ، دالًّا على تعَلُّمِ أُمورِ الدِّينِ، مُشيرًا إلى أنَّ العبادةَ لا تُقبَلُ إلَّا بالاتِّباعِ لا بالابتِداعِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ الآيةَ [198] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/125). .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
أي: وأطيعوا اللهَ وأطيعوا رَسولَه، بامتِثالِ ما أمَر الله به ورسولُه، واجتنابِ ما نهَى الله عنه ورسولُه [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/13)، ((تفسير القرطبي)) (18/140)، ((تفسير ابن كثير)) (8/138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي: فإنْ أعرَضْتُم عن طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه، فإنَّما على رَسولِنا محمَّدٍ إبلاغُ ما أرسَلَه اللهُ به إبلاغًا واضِحًا تُقامُ به الحُجَّةُ، ويَنقَطِعُ به العُذرُ، وليس عليه حِسابُكم، بل اللهُ تعالى هو الَّذي يتَولَّى ذلك، ويُعاقِبُكم على توَلِّيكم [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/13)، ((تفسير القرطبي)) (18/140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
كما قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13).
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: اللهُ لا مَعبودَ بحقٍّ إلَّا هو وَحْدَه؛ فلا تَصلُحُ العِبادةُ لِغَيرِه [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/13)، ((تفسير القرطبي)) (18/140)، ((تفسير ابن كثير)) (8/138). .
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: وعلى اللهِ وَحْدَه فلْيَعتَمِدِ المؤمِنونَ، ويُفَوِّضوا جميعَ أُمورِهم إليه [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/13)، ((تفسير الشوكاني)) (5/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ هذا عامٌّ لجَميعِ المصائِبِ؛ في النَّفْسِ والمالِ، والولَدِ والأحبابِ ونَحوِهم، فجميعُ ما أصاب العبادَ فبِقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، قد سَبَق بذلك عِلمُ اللهِ تعالى، وجرى به قَلَمُه، ونَفَذَت به مَشيئتُه، واقتَضَتْه حِكمتُه، والشَّأنُ كُلُّ الشَّأنِ: هل يقومُ العَبدُ بالوظيفةِ الَّتي عليه في هذا المقامِ أو لا يقومُ بها؟ فإنْ قام بها فله الثَّوابُ الجَزيلُ، والأجرُ الجَميلُ في الدُّنيا والآخِرةِ، فإذا آمَنَ أنَّها مِن عندِ اللهِ، فرَضِيَ بذلك، وسَلَّم لأمْرِه؛ هدى اللهُ قَلْبَه، فاطمأَنَّ ولم يَنزعِجْ عندَ المصائبِ كما يَجري لِمَن لم يَهْدِ اللهُ قَلْبَه، بل يَرزُقُه الثَّباتَ عندَ وُرودِها، والقيامَ بمُوجَبِ الصَّبرِ؛ فيَحصُلُ له بذلك ثَوابٌ عاجِلٌ، مع ما يَدَّخِرُ اللهُ له يومَ الجَزاءِ مِن الثَّوابِ، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] ، وعُلِم مِن هذا أنَّ مَن لم يُؤمِنْ باللهِ عِندَ وُرودِ المصائِبِ بأنْ لم يَلحَظْ قَضاءَ اللهِ وقَدَرَه، بل وَقَف مع مجرَّدِ الأسبابِ: أنَّه يُخذَلُ، ويَكِلُه اللهُ إلى نفْسِه، وإذا وُكِلَ العَبدُ إلى نفْسِه فالنَّفسُ ليس عِندَها إلَّا الجَزَعُ والهَلَعُ، الَّذي هو عُقوبةٌ عاجِلةٌ على العبدِ قبْلَ عُقوبةِ الآخِرةِ، على ما فَرَّط في واجِبِ الصَّبرِ [203] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ أنَّ مِن الإيمانِ باللهِ الصَّبرَ على أقدارِ اللهِ [204] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/122). .
3- قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ القَصدُ مِن هذا تعليمُ المُسلِمينَ الصَّبرَ على ما يَغلِبُهم مِن مصائِبِ الحوادِثِ؛ لكي لا تُفَلَّ عزائِمُهم، ولا يَهِنوا، ولا يُلهيَهم الحُزنُ عن مُهِمَّاتِ أُمورِهم، وتدبيرِ شُؤونِهم، كما قال تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/279). [الحديد: 23] .
4- مِن فوائِدِ الإيمانِ بالقَدَرِ هَونُ المصائبِ على العَبدِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنَّها مِن عندِ اللهِ هانتْ عليه المُصيبةُ، كما قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [206] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/541). .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فيه أنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ الإيمانَ المأمورَ به؛ مِن الإيمانِ باللهِ، ومَلائِكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليَومِ الآخِرِ، والقَدَرِ؛ خَيرِه وشَرِّه، وصَدَّق إيمانَه بما يَقتَضيه الإيمانُ مِن القيامِ بلَوازِمِه وواجباتِه: أنَّ هذا السَّبَبَ الَّذي قام به العَبدُ أكبَرُ سَبَبٍ لهدايةِ اللهِ له في أحوالِه وأقوالِه وأفعالِه، وفي عِلمِه وعمَلِه. وهذا أفضَلُ جَزاءٍ يُعطيه اللهُ لأهلِ الإيمانِ [207] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 867). .
6- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه عُمومُ عِلمِ اللهِ سُبحانَه، وفائدةُ ذِكْرِ عُمومِ العِلمِ: التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ؛ لأنَّ مَن عَلِم بك مُمتثِلًا أو مخالِفًا فسوف يُجازيك على ذلك، فإنْ كان الأمرُ هكذا ففي كلِّ آيةٍ فيها إثباتُ العِلمِ تحذيرٌ مِن مُخالَفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لئلَّا يَقَعَ الإنسانُ فيما يُسخِطُ اللهَ سُبحانَه وتعالى عليه [208] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النور)) (ص: 445). .
7- في قَولِه تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وُجوبُ طاعةِ اللهِ ورَسولِه [209] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/357). ، وفيه تحذيرٌ مِن عِصيانِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/281). .
8- قَولُ الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه أنَّه بحَسَبِ إيمانِ العَبدِ يكونُ توَكُّلُه؛ فكُلَّما قَوِيَ الإيمانُ قَوِيَ التَّوَكُّلُ [211] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 867). ، فقد ذَكَر سُبحانَه اسمَ الإيمانِ هاهنا دونَ سائرِ أسمائِهم؛ دَلالةً على استدعاءِ الإيمانِ للتَّوَكُّلِ، وأنَّ قُوَّةَ التَّوَكُّلِ وضَعْفَه بحَسَبِ قُوَّةِ الإيمانِ وضَعْفِه، وكُلَّما قَوِيَ إيمانُ العبدِ كان توكُّلُه أقوى، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ التَّوكُّلُ، وإذا كان التَّوكُّلُ ضعيفًا فهو دليلٌ على ضَعْفِ الإيمانِ ولا بُدَّ [212] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 255). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ذِكْرُ الإذْنِ الكَونيِّ -وهو المتعلِّقُ بالخَلْقِ والتَّكوينِ- وهذا لا بُدَّ مِن وُقوعِه، ويُقابِلُه الإذْنُ الشَّرعيُّ -وهو ما يَتعَلَّقُ بالشَّرعِ والعِبادةِ-، مثالُه: قولُه تعالى: قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] ، وقولُه تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، والفرقُ بيْنَهما أنَّ المأذونَ به شرعًا قد يقَعُ وقد لا يقعُ، وأمَّا المأذونُ به قَدَرًا فواقِعٌ لا مَحالةَ، ومِن جهةٍ أُخرى: أنَّ المأذونَ به شرعًا محبوبٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، والمأذونَ به قَدَرًا قد يكونُ محبوبًا، وقد يكونُ غيرَ محبوبٍ [213] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/316). .
2- قال اللهُ تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ التَّنصيصُ على المُصيبةِ هنا؛ ليَدُلَّ أنَّ كُلَّ شَيءٍ يَنالُ العَبدَ إنَّما هو بإذنِ اللهِ؛ لأنَّ الجِبِلَّةَ تأبَى المصائِبَ وتتَوَقَّاها، ومع ذلك تُصيبُه، وليس في مَقدورِه دَفْعُها، بخِلافِ الخَيرِ؛ قد يدَّعي أنَّه حَصَّله باجتِهادٍ منه، كما قال قارونُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [214] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/202). [القصص: 78] .
3- قَولُ الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه رَدٌّ على القَدَريَّةِ [215] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 265). .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أنَّ أسماءَ اللهِ دالَّةٌ على مَعانٍ هي صِفاتُه، فاللهُ تعالى يُعَلِّقُ بأسمائِه المعمولاتِ مِن الظُّروفِ والجارِّ والمجرورِ وغَيرِهما، ولو كانت أعلامًا مَحْضَةً لم يَصِحَّ فيها ذلك [216] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 176). !
5- في قَولِه تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أنَّ طاعةَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مستقلَّةٌ، بمعنى: أنه إذا أمَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشَيءٍ، لا نقولُ: هل يوجَدُ في القرآنِ هذا الأمرُ أو لا يوجدُ؟ بل طاعتُه مستقلَّةٌ؛ وجْهُ ذلك: أنَّه أعاد فقال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وإعادةُ الفِعلِ تدُلُّ على أنَّ طاعةَ الرَّسولِ مستقلَّةٌ، بمعنى أنَّنا لا نحتاجُ إلى شاهدٍ مِن القرآنِ فيما أمَرَ به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم. لكنْ هل يمكنُ أنْ يكونَ أَمْرُ اللهِ وأمْرُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُتناقِضَينِ؟
الجوابُ: لا يقَعُ التَّناقضُ؛ لأنَّه لو وقَعَ لَكانت طاعةُ الرَّسولِ مَعصيةً للهِ، وطاعةُ اللهِ معصيةً للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم! وهذا تناقُضٌ؛ لأنَّ التَّناقضَ يكونُ النَّقيضُ حُكْمُه ضد حُكْمِ نقيضِه، فلو قُلْنا: إنَّه يَقَعُ التَّناقضُ لَزِمَ مِن ذلك ما تقَدَّمَ مِن أنَّ طاعةَ اللهِ تكونُ معصيةً للرَّسولِ، وطاعةَ الرَّسولِ تكونُ معصيةً للهِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/357). !
6- في قَولِه تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أنَّ الكتابَ والسُّنَّةَ أصلٌ يُرجَعُ إليه [218] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/324). .
7- قال عزَّ وجَلَّ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. في قَولِه تعالى: الرَّسُولَ أنَّ الرِّسالةَ مِن أَفْخَرِ الأوصافِ الَّتي يَتَّصِفُ بها العبدُ، ولا شكَّ أنَّ الرَّسولَ يَفْضُلُ ويَشرُفُ بحَسَبِ مَنزِلةِ مُرْسِلِه، لو جاء رسولٌ مِن عندِ رجُلٍ شريفٍ عالي المنزلةِ، فهل يكونُ في نُفوسِنا كرَسولٍ جاء مِن عامَّةِ النَّاسِ؟ الجوابُ: لا، بل يكونُ في نُفوسِنا لهذا الرَّسولِ بمِقدارِ ما يَستَحِقُّه مِن مَنزلةِ مَن أَرْسَله؛ فعليه تكونُ الرِّسالةُ فخرًا لِمَن أُرْسِلَ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/358). .
8- في قَولِه تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تحريضٌ للمُؤمِنينَ على مُكافَحةِ الكُفَّارِ، والصَّبرِ على دينِ اللهِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/320). .
9- قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فجِيءَ في ذلك بصيغةِ أمْرِ المُؤمِنينَ بالتَّوكُّلِ على اللهِ دونَ غَيرِه؛ ربطًا على قلوبِهِم، وتثبيتًا لنُفوسِهِم؛ كَيْ لا يأسَفوا مِن إعراضِ المُشرِكينَ وما يُصيبُهم منهم، وأنَّ ذلك لنْ يَضُرَّهم، فإنَّ المُؤمِنينَ لا يَعتزُّونَ بهم، ولا يتَقوَّوْنَ بأمثالِهِم؛ لأنَّ اللهَ أمَرَهُم ألَّا يَتوكَّلوا إلَّا عليه، وفيه إيذانٌ بأنَّهم لا يُخالِفونَ أمْرَ اللهِ، وذلك يَغِيظُ الكافِرين [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/282). .

بلاغة الآيات:

1- قولُهُ تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استِئنافٌ انتُقِلَ إليه بعدَ أنْ تُوُعِّدَ المُشرِكونَ بما يَحصُلُ لهم مِن التَّغابُنِ يومَ يَجمَعُ اللهُ النَّاسَ يومَ الحسابِ. ويُشبِهُ أنْ يكونَ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ تَهديدَ المُشرِكينَ بيومِ الحسابِ يُثيرُ في نُفوسِ المُؤمِنينَ التَّساؤُلَ عن الانتصافِ مِنَ المُشرِكينَ في الدُّنيا على ما يَلْقاهُ المُسلِمونَ مِن إضرارِهم بمكَّةَ؛ فإنَّهم لم يَكُفُّوا عن أذى المُسلِمينَ وإصابتِهم في أبدانِهم وأموالِهم، والفِتنةِ بيْنَهم وبيْنَ أزواجِهم وأبنائِهم [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/278). . أو هو كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للرَّدِّ على الكفَّارِ الَّذينَ قالوا: لو كانَ المُسلِمونَ على حقٍّ لَصانَهمُ اللهُ مِنَ المصائِبِ في الدُّنيا [223] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/114). .
- قولُه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، أي: يَهْدِ قلبَه عِندَما تُصيبُه مُصيبةٌ؛ فحَذَف هذا المُتعلَّقَ لظُهورِه مِن السِّياقِ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/279). .
- ومفعولُ أَصَابَ محذوفٌ، أي: ما أصابَ أحدًا، والفاعلُ مِنْ مُصِيبَةٍ، و(مِنْ) زائدةٌ [225] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/190). .
- قولُه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، قال ذلك مع أنَّ الهدايةَ سابقةٌ على الإيمانِ؛ لأنَّه ليس المُرادُ يَهْدِ قَلْبَهُ للإيمانِ، بل المرادُ: يَهْدِه لليقينِ عِندَ نُزولِ المصائبِ؛ فيَعلَمْ أنَّ ما أخطأهُ لم يكُنْ لِيُصيبَه، وما أصابَه لم يكُنْ لِيُخْطِئَه، أو يَهْدِه للرِّضا والتَّسليمِ عندَ وُجودِ المصائبِ، أو للاستِرجاعِ عندَ نزولِها بأنْ يقولَ: إنَّا لِلهِ وإنَّا إليه راجِعونَ [226] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 568، 569). .
- والخبرُ في قولِه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ إيماءٌ إلى الأمرِ بالثَّباتِ والصَّبرِ عِندَ حلولِ المصائبِ؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن هَدْيِ اللهِ قلْبَ المؤمنِ عندَ المصيبةِ تَرغيبُ المُؤمِنينَ في الثَّباتِ والتَّصبُّرِ عِندَ حلولِ المصائبِ؛ فلذلك ذُيِّلَ بجُملةِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فهو تَذييلٌ للجملةِ الَّتي قَبْلَها، وارِدٌ على مُراعاةِ جميعِ ما تضَمَّنَتْه؛ مِن أنَّ المصائبَ بإذْنِ اللهِ، ومِن أنَّ اللهَ يَهْدي قلوبَ المُؤمِنينَ للثَّباتِ عندَ حُلولِ المصائبِ، ومِنَ الأمرِ بالثَّباتِ والصَّبرِ عندَ المصائبِ، أي: يَعلَمُ جميعَ ذلك [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/280). .
- وفي قولِه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كِنايةٌ عن مُجازاةِ الصَّابرينَ بالثَّوابِ؛ لأنَّ فائدةَ عِلمِ اللهِ الَّتي تُهِمُّ النَّاسَ هي التَّخلُّقُ، ورجاءُ الثَّوابِ ورفْعِ الدَّرَجاتِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/280). .
2- قولُهُ تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- قولُه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] ؛ لأنَّها تضمَّنَتْ أنَّ المُؤمِنينَ مُتهيِّئونَ لطاعةِ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما يَدْعُوانِهم إليه مِن مصالحِ الأعمالِ، كما يدُلُّ عليه تذييلُ الكلامِ بقولِه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13] ، ولأنَّ طلَبَ الطَّاعةِ فرْعٌ عن تحقُّقِ الإيمانِ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/280). .
- قولُه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرَّر الأمْرَ بالطَّاعةِ للتَّأكيدِ، والإيذانِ بالفَرقِ بيْنَ الطاعتَيْنِ في الكَيفيَّةِ [230] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/258). .
- وتَفريعُ قولِه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ تَحذيرٌ مِن عِصيانِ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/281). .
- والتَّعريفُ في قولِه: رَسُولِنَا بالإضافةِ؛ لقَصْدِ تعظيمِ شأنِه بأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولُ ربِّ العالَمينَ. وهذا الضَّميرُ الْتفاتٌ مِنَ الغَيْبةِ إلى التَّكلُّمِ يُفيدُ تشريفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعِزِّ الإضافةِ إلى المُتكلِّمِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/281). .
- وأيضًا إظهارُ الرَّسولِ مُضافًا إلى نونِ العظَمةِ في مَقامِ إضمارِه؛ لتشريفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والإشعارِ بمَدارِ الحُكْمِ الَّذي هو كَونُ وَظيفتِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَحضَ البلاغِ، ولزيادةِ تَشنيعِ التَّولِّي عنه [233] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/258). .
- ومعْنى الحَصرِ في قولِه: فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قصرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على كَونِ واجبِه البلاغَ، قصْرَ مَوصوفٍ على صفةٍ؛ فالرّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَقصورٌ على لُزومِ البلاغِ له، لا يَعْدُو ذلكَ إلى لزومِ شَيءٍ آخَرَ، وهو قصرُ قلبٍ [234] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ تَنزيلًا لهم في حالةِ العِصيانِ المفروضِ مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ اللهَ لو شاءَ لَألجأهم إلى العَملِ بما أمَرَهم به؛ إلْهابًا لنُفوسِهم بالحثِّ على الطَّاعةِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/281). .
3- قولُه تعالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
- قولُه: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12] وجُملةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، واسمُ الجَلالةِ مُبتدَأٌ، وجُملةُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبرٌ، وهذا تَذكيرٌ للمُؤمِنينَ بما يَعلمونَه، أي: مَنْ آمَنَ بأنَّ اللهَ لا إلهَ إلَّا هو، كان حقًّا عليه أنْ يُطِيعَه، وألَّا يَعبَأَ بما يُصيبُه في جانِبِ طاعةِ اللهِ مِن مصائِبَ وأذًى. ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ في مَوقعِ العِلَّةِ لجُملةِ وَأَطِيعُوا [التغابن: 12] ، وتُفيدُ أيضًا تَعليلَ جُملةِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12] ؛ لأنَّ طاعةَ الرَّسولِ ترجِعُ إلى طاعةِ اللهِ؛ قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/281، 282). [النساء: 80] .
- وافتتاحُ الجُملةِ باسمِ الجَلالةِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ -إذْ لم يقُلْ: (هُوَ لا إلهَ إلَّا هُوَ)-؛ لاستِحضارِ عَظَمةِ اللهِ تعالَى بما يَحْويهِ اسمُ الجَلالةِ مِن معاني الكَمالِ، ولِتَكونَ الجملةُ مُستقِلَّةً بنَفْسِها، فتَكونَ جاريةً مَجْرى الأمثالِ والكَلِمِ الجوامِعِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/282). .
- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عطفٌ على وَأَطِيعُوا اللَّهَ [التغابن: 12] ، فهو في معنى: وتوَكَّلوا على الله؛ فإنَّ المُؤمِنينَ يَتوكَّلونَ على اللهِ لا على غَيرِه، وأنتُم مُؤمِنونَ؛ فتَوَكَّلوا عليه [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/282). .
- وتقدُّمُ المجرورِ وَعَلَى اللَّهِ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: إنَّ المُؤمِنينَ لا يَتوكَّلونَ إلَّا على اللِه، أي: عليه تعالَى خاصَّةً دُونَ غَيرِه، لا استقلالًا ولا اشتراكًا [239] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/282). .
- والإتيانُ باسمِ الجلالةِ في قولِه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ إظهارٌ في موقعِ الإضمارِ؛ لتَكونَ الجُملةُ مُستقِلَّةً، فتَسيرَ مَسْرى المثَلِ؛ ولذلكَ كان إظهارُ لفظِ الْمُؤْمِنُونَ، ولم يَقُلْ: وعلى اللهِ فَلْيَتوكَّلوا، ولِمَا في الْمُؤْمِنُونَ مِنَ العُمومِ الشَّاملِ للمُخاطَبينَ وغَيرِهم؛ لِيَكونَ معنى التَّمثيلِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/282). . وأيضًا إظهارُ الجلالةِ في مَوضعِ الإضمارِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ التَّوكُّلِ والأمرِ به؛ فإنَّ الألوهيَّةَ مُقتضيةٌ للتَّبتُّلِ إليه تعالَى بالكلِّيَّةِ، وقطْعِ التَّعلُّقِ عمَّا سِواهُ بالمرَّةِ [241] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/258). .