موسوعة التفسير

سُورةُ اللَّيلِ
الآيات (12-21)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

تَلَظَّى: أي: تتوقَّدُ وتَشتَعِلُ، واللَّظى: اللَّهَبُ الخالِصُ، يُقالُ: تلَظَّت النَّارُ تتلَظَّى تَلَظِّيًا: أي: توقَّدَت وتوهَّجَت وتلَهَّبَت [75] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 160)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 456)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 466). .
يَصْلَاهَا: أي: يَدخُلُها ويُقاسي حَرَّها، وأصلُ الصَّلَى: الإيقادُ بالنَّارِ [76] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 166). .
وَتَوَلَّى: أي: أعرَضَ، والتَّولِّي إذا وُصِلَ بـ (عن) لفظًا، أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنَى الإعراضِ، وتَركِ القُربِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/476)، ((المفردات)) للراغب (ص: 886)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
يَتَزَكَّى: أي: يَتَطَهَّرُ، ويَتنمَّى، والتَّزَكِّي: تَكَلُّفُ الزَّكاءِ، وهو النَّماءُ مِن الخيرِ، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على طهارة ونَماءٍ وزِيادةٍ [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/478)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 159)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((تفسير ابن عطية)) (5/492)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 310)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/95)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/391). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى
قَولُه تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ: مَنصوبٌ على الاستثناءِ المنقَطِعِ؛ لعَدَمِ اندراجِه تحتَ جِنسِ النِّعمةِ، فالمعنى: لكِنَّه فَعَل ذلك لابتغاءِ وَجْهِ رَبِّه سُبحانَه، وطَلَبِ رِضاه عزَّ وجَلَّ، لا لمكافأةِ نِعمةٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مَفعولًا لأجْلِه على المعنى؛ لأنَّ المعنى: لا يُؤتِي مالَه مِن أجْلِ شَيءٍ مِن الأشياءِ إلَّا مِن أجْلِ طَلَبِ رِضا رَبِّه عزَّ وجَلَّ، لا لمكافأةِ نِعمةٍ؛ فهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ العِلَلِ والأسبابِ [79] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/90)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/32)، ((تفسير الشوكاني)) (5/553)، ((تفسير الألوسي)) (15/371). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: إنَّ علينا تَبيينَ طريقِ الهُدى للنَّاسِ، وإنَّ لنا وَحْدَنا لَلآخِرةَ والدُّنيا، والتَّصَرُّفَ فيهما؛ فحذَّرْتُكم -أيُّها النَّاسُ- نارَ جَهنَّمَ الَّتي تتوقَّدُ وتشتَعِلُ، لا يَدخُلُها ويُقاسي حَرَّها إلَّا الكافِرُ الشَّقيُّ الَّذي كذَّب بالحَقِّ، وأعرَضَ عن اتِّباعِه، وسيُباعَدُ عن النَّارِ المؤمِنُ الَّذي يتَّقي سَخَطَ اللهِ وعَذابَه، والَّذي يتصَدَّقُ بأموالِه في سَبيلِ اللهِ؛ طَلَبًا لتَطهيرِ نَفْسِه، وليس إنفاقُه ليكافِئَ به مَن أنعَمَ عليه بمعروفٍ سابقٍ، ولكِنْ يَبتغي بإنفاقِه وَجْهَ رَبِّه الأعلى، ولَسوف يَرضى بما يُثيبُه اللهُ تعالى به في الآخِرةِ.

تفسير الآيات:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَرَّفهم سُبحانَه أنَّ سَعْيَهم شَتَّى، وبَيَّن ما للمُحسِنينَ مِنَ اليُسرى، وما للمُسيئينَ مِن العُسرى- أخبَرَهم بأنَّ عليه بيانَ الهُدى مِنَ الضَّلالِ [80] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/546). .
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12).
أي: إنَّ علينا أن نبَيِّنَ طريقَ الهُدى الَّذي يوصِلُ سالِكَه إلى اللهِ تعالى وجنَّتِه [81] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/271)، ((تفسير ابن جرير)) (24/475)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/336)، ((البسيط)) للواحدي (24/83، 84)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/213-216) و(17/230، 231)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 69، 70)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 229، 230). ممَّن اخْتارَ المَعْنى المَذْكورَ في الجُمْلةِ وأنَّ المُرادَ: إنَّ علينا أن نُبَيِّنَ طَريقَ الهُدى مِن طَريقِ الضَّلالِ، والحَقَّ مِن الباطِلِ، وأنَّ الهُدى هنا هو هُدى البَيانِ والإرْشادِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، وابنُ جَريرٍ، والزَّجَّاجُ، والسَّمَرْقَنْديُّ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، والثَّعْلَبيُّ، ومَكِّيٌّ، والواحِديُّ، والزَّمَخْشَريُّ، والرَّازيُّ، والنَّسَفيُّ، والخازِنُ، وأبو حَيَّانَ، والبِقاعيُّ، والعُلَيْميُّ، وابنُ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/722)، ((تفسير ابن جرير)) (24/475)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/336)، ((تفسير السمرقندي)) (3/589)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/140)، ((تفسير الثعلبي)) (10/218)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8315)، ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1209)، ((تفسير الزمخشري)) (4/763)، ((تفسير الرازي)) (31/185)، ((تفسير النسفي)) (3/651)، ((تفسير الخازن)) (4/435)، ((تفسير أبي حيان)) (10/493)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/92)، ((تفسير العليمي)) (7/380)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 229). وقال ابنُ القَيِّم:ِ (وقيل: المعنى: مَن سلَك الهُدَى فعلى الله سبيلُه، كقولِه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9]. وهذا قولُ مجاهدٍ، وهو أصحُّ الأقوالِ... وهو معنًى شريفٌ جليلٌ، يدُلُّ على أنَّ سالكَ طريقِ الهُدى يُوصِلُه طريقُه إلى اللهِ ولا بُدَّ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 69). وهذا القولُ هو قولُ الفرَّاءِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/271). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القشيري)) (3/737). .
وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13).
أي: وإنَّ لنا وَحْدَنا مُلْكَ الآخِرةِ والدُّنيا، والتَّصَرُّفَ فيهما [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/476)، ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((تفسير القرطبي)) (20/86)، ((تفسير ابن كثير)) (8/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). قال ابنُ جرير: (عنَى بذلك جَلَّ ثناؤُه أنَّه يوفِّقُ لطاعتِه مَن أحَبَّ مِن خَلْقِه، فيُكرِمُه بها في الدُّنيا، ويُهيِّئُ له الكرامةَ والثَّوابَ في الآخرةِ، ويَخذُلُ مَن يَشاءُ خِذْلانَه مِن خَلْقِه عن طاعتِه، فيُهينُه بمعصيتِه في الدُّنيا، ويُخْزيه بعُقوبتِه عليها في الآخِرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/476). وقال القرطبي: (لَلْآَخِرَةَ: الجنَّة. وَالْأُولَى: الدُّنيا. وكذا روى عَطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، أي: الدُّنيا والآخرةُ لله تعالى. وروى أبو صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: ثوابُ الدُّنيا والآخرةِ، وهو كقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [النساء: 134] ، فمَن طلَبَهما مِن غيرِ مالِكِهما فقد أخطأ الطَّريقَ). ((تفسير القرطبي)) (20/86). .
كما قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [النساء: 134] .
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14).
أي: فحذَّرْتُكم -أيُّها النَّاسُ- نارَ جَهنَّمَ الَّتي تتوقَّدُ وتشتَعِلُ [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/476)، ((تفسير القرطبي)) (20/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 231). .
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15).
أي: لا يَدخُلُها ويُقاسي حَرَّها إلَّا الكافِرُ الشَّقيُّ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/476)، ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((تفسير ابن عطية)) (5/492)، ((تفسير القرطبي)) (20/86)، ((تفسير ابن كثير)) (8/421)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/94). .
كما قال تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [الأعلى: 10 - 13] .
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16).
أي: الَّذي كذَّب بالحَقِّ، فلم يُؤمِنْ به، وأعرَضَ عن اتِّباعِه والعمَلِ به [85] يُنظر: ((الإخنائية)) لابن تيميَّة (ص: 310)، ((تفسير ابن كثير)) (8/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 927)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 231). .
كما قال تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31-32] .
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17).
أي: وسيُباعَدُ عن النَّارِ المؤمِنُ الَّذي يتَّقي سَخَطَ اللهِ وعَذابَه [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/478)، ((تفسير السمرقندي)) (3/590)، ((تفسير القرطبي)) (20/88)، ((تفسير ابن كثير)) (8/422)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/314)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 231). قال ابنُ عطيَّة: (لم يختَلِفْ أهلُ التَّأويلِ أنَّ المرادَ بـ الْأَتْقَى إلى آخِرِ السُّورةِ: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، ثمَّ هي تتناوَلُ كُلَّ مَن دخل في هذه الصِّفاتِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/492). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((تفسير الرازي)) (31/187، 188)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/376)، ((تفسير ابن كثير)) (8/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 927). وقال الواحِديُّ: (الْأَتْقَى يَعْني: أبا بكرٍ في قَولِ الجَميعِ). ((الوسيط)) (4/505). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/264)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/455). ونَسَبَه السَّمْعانيُّ إلى أكثَرِ المُفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/240). قال ابنُ كَثيرٍ: (وقد ذكَرَ غيرُ واحِدٍ مِن المُفَسِّرينَ أنَّ هذه الآياتِ نزَلَتْ في أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضيَ اللهُ عنه، حتَّى إنَّ بعضَهم حَكى الإجْماعَ مِن المُفَسِّرينَ على ذلك. ولا شكَّ أنَّه داخِلٌ فيها، وأَوْلى الأُمَّةِ بعُمومِها؛ فإنَّ لَفْظَها لَفْظُ العُمومِ، وهو قَولُه تَعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، ولكنَّه مُقدَّمُ الأُمَّةِ وسابِقُهم في جَميعِ هذه الأوْصافِ، وسائِرِ الأوْصافِ الحَميدةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/422). .
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر ما يتعَلَّقُ بالقُوَّةِ العِلميَّةِ؛ أتْبَعَه ما ينظُرُ إلى القوَّةِ العَمَليَّةِ؛ فقال [87] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/95). :
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18).
أي: الَّذي يتصَدَّقُ بأموالِه في سَبيلِ اللهِ؛ طَلَبًا لتَطهيرِ نَفْسِه وتَنميتِها [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/478)، ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((تفسير ابن عطية)) (5/492)، ((تفسير القرطبي)) (20/88)، ((تفسير ابن كثير)) (8/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 927)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 231). .
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنسانُ قد يُعْطي ليزكِّيَ نَفْسَه بدَفعِ مانِّه، ومكافأةِ نِعَمِه؛ قال [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/95). :
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19).
أي: وليس إنفاقُه مِن أجْلِ أن يكافِئَ مَن أنعَمَ عليه بمعروفٍ سابقٍ [90] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/272)، ((الوسيط)) للواحدي (4/505)، ((تفسير ابن كثير)) (8/422)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 233). .
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20).
أي: ولكِنْ يَبتغي بإنفاقِ مالِه وَجْهَ رَبِّه الأعلى، فهو يَطمَعُ في رُؤيتِه في الآخِرةِ [91] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن القيم (ص: 412)، ((تفسير ابن كثير)) (8/422)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 233). .
كما قال تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم: 38] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9] .
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21).
أي: وأُقسِمُ إنَّ هذا المنفِقَ سيَرضى بما يُثيبُه اللهُ تعالى به في الآخِرةِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/480)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/337)، ((الوسيط)) للواحدي (4/506)، ((تفسير القرطبي)) (20/89)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/33)، ((تفسير الشوكاني)) (5/553)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 233). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إرشادٌ إلى أنَّ صاحِبَ التَّقْوى لا يَنبغي له أنْ يَتحَمَّلَ مِنَنَ الخَلْقِ ونِعَمَهم، وإنْ حَمَل منهم شيئًا بادرَ إلى جزائِهم عليه؛ لئلَّا يَتبقَّى لأحدٍ مِن الخَلْقِ عليه نِعمةٌ تُجزى، فيكونُ بعدَ ذلك عَمَلُه كلُّه للهِ وحْدَه، ليس جزاءً للمَخلوقِ على نِعمتِه [93] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 71). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى تنبيهٌ على أنَّ مَن ليس لمخلوقٍ عليه نِعمةٌ تُجزى لا يَفْعَلُ ما يَفعَلُه إلَّا ابتغاءَ وجْهِ ربِّه الأعلى، بخِلافِ مَن تَطَوَّقَ بنِعَمِ المخلوقينَ ومِنَنِهم؛ فإنَّه مُضطرٌّ إلى أنْ يَفعَلَ مِن أجْلِهم، ويَترُكَ مِن أجْلِهم؛ ولهذا كان مِن كمالِ الإخلاصِ ألَّا يَجعَلَ العبدُ عليه مِنَّةً لأحدٍ مِن النَّاسِ؛ لِتَكونَ مُعامَلتُه كلُّها للهِ ابتِغاءَ وَجهِه وطلب مَرضاتِه [94] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 72). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى أنَّه على المؤمنِ إذا أغناه اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يكونَ شاكرًا للهِ، قائمًا بما أوجَبَ اللهُ عليه مِن بَذْلِ المالِ في حقِّه، على الوَجهِ الَّذي يُرضي اللهَ عزَّ وجلَّ [95] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/432). .
4- في قَولِه تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى أنَّه ينبغي أنْ نستحضِرَ نيَّةَ التَّقَرُّبِ في العبادةِ، والغالبُ أنَّنا نَفْعَلُ العبادةَ على أنَّنا مُلزَمون بها، فنَنْويها لتصحيحِ العمَلِ، وهذا نَقْصٌ [96] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (1/358). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى سؤالٌ: في هذا دَلالةٌ على أنَّ اللهَ التزم على نَفْسِه الهدى للخَلْقِ، مع أنَّه جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدُلُّ على عدَمِ هُداه لبعضِ النَّاسِ، كقَولِه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 108] ، وقَولِه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] ، وقَولِه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا [آل عمران: 86] الآيةَ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ؟
الجوابُ: أنَّ الهُدى يُستعمَلُ في القُرآنِ خاصًّا وعامًّا؛ فالمُثبَتُ: العامُّ، والمنفيُّ: الخاصُّ، ونَفيُ الأخَصِّ لا يستلزِمُ نَفيَ الأعمِّ، وأمَّا على قولِ مَن قال: «إنَّ معنى الآيةِ: إنَّ الطَّريقَ الَّذي يدُلُّ علينا وعلى طاعتِنا هو الهُدى لا الضَّلالُ»، وقولِ مَن قال: «إنَّ معنى الآيةِ: أنَّ مَن سلَكَ طرَيقَ الهُدى وصَل إلى اللهِ»؛ فلا إشكالَ في الآيةِ أصلًا [97] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 273). والهُدَى الخاصُّ: هو التَّفضُّلُ بالتَّوفيقِ إلى دينِ الحقِّ، والهدَى العامُّ: هو إيضاحُ الحقِّ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/10). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وكذا قَولُه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] ، وقَولُه: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] التَّعديةُ بحرفِ الاستعلاءِ دونَ حرفِ الغايةِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ سالكَ طريقِ اللهِ متوكِّلٌ عليه، فلا بُدَّ له مِن عبادتِه، ومِن التَّوكُّلِ عليه، فإذا قيل: «عليه الطَّريقُ المستقيمُ» تضَمَّنَ أنَّ سالكَه عليه يتوكَّلُ، وعليه تدُلُّه الطَّريقُ، وعلى عبادتِه وطاعتِه يقعُ ويَسقُطُ [98] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/213). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى التِزامٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُبَيِّنَ للخَلْقِ ما يَهتدونَ به إليه، والمرادُ بالهُدى هنا: هُدى البَيانِ والإرشادِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى التَزمَ على نفْسِه بيانَ ذلك؛ حتَّى لا يكونَ للنَّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ، وهذا في قَولِه تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] إلى أنْ قال: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، فلا يمكِنُ للعَقلِ البشَريِّ أنْ يَسْتَقِلَّ بمعرفةِ الهدى؛ ولذلك التَزمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنْ يُبَيِّنَ الهُدى للإنسانِ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 229). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى إشارةٌ عظيمةٌ إلى أنَّ أمورَ الجزاءِ في الأُخرى تَجري على ما رَتَّبه اللهُ وأعلَمَ به عِبادَه، وأنَّ نِظامَ أُمورِ الدُّنيا وترَتُّبَ مُسَبَّباتِه على أسبابِه أمرٌ قد وضعه اللهُ تعالى، وأمَرَ بالحِفاظِ عليه، وأرشَدَ وهدى؛ فمَن فَرَّط في شيءٍ مِن ذلك فقد استحَقَّ ما تسَبَّب فيه [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/389). .
5- في قَولِه تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى سؤالٌ عن هذه الآيةِ الَّتي مِن أجْلِها قال أهلُ الإرجاءِ بالإرجاءِ، فزَعَموا أنَّه لا يدخُلُ النَّارَ إلَّا كافِرٌ؛ لِقَولِه: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
الجوابُ: أنَّ الأمرَ ليس كما ظنُّوا؛ فهذه نارٌ موصوفةٌ بعَينِها، لا يَصْلَى هذه النَّارَ إلَّا الأشقى الَّذي كَذَّب وتوَلَّى، ولأهلِ النَّارِ مَنازِلُ؛ فمِنها قَولُه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ، واللهُ عزَّ وجَلَّ كُلُّ ما وعد عليه بجِنسٍ مِنَ العذابِ فجائِزٌ أن يعَذِّبَ به، وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، فلو كان كُلُّ مَن لم يُشرِكْ باللهِ لا يُعَذَّبُ، لم يكُنْ في قَولِه سبحانَه وتعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فائدةٌ [101] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/336). .
6- قال الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى بأن يكونَ قَصْدُه به تزكيةَ نَفْسِه، وتطهيرَها مِنَ الذُّنوبِ والعُيوبِ، قاصدًا به وَجْهَ اللهِ تعالى؛ فدَلَّ هذا على أنَّه إذا تضَمَّن الإنفاقُ المستحَبُّ تَرْكَ واجبٍ -كدَينٍ، ونَفَقةٍ، ونحوِهما- فإنَّه غيرُ مَشروعٍ، بل تكونُ عَطِيَّتُه مردودةً عندَ كثيرٍ مِنَ العُلَماءِ؛ لأنَّه لا يتزكَّى بفِعلِ مُستحَبٍّ يُفَوِّتُ عليه الواجِبَ [102] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 927). قال ابنُ تَيميَّةَ: (وفيه... ما يُبَيِّنُ أنَّ الفَضْلَ بالصَّدَقةِ لا يكونُ إلَّا بعْدَ أداءِ الواجِبِ مِن المُعاوَضاتِ، كما قال تَعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] ، فمَن عليه دُيونٌ مِن أثْمانٍ وقَرْضٍ وغَيرِ ذلك، فلا يُقَدِّمُ الصَّدَقةَ على قَضاءِ هذه الواجِباتِ، ولو فَعَلَ ذلك؛ فهلْ تُرَدُّ صَدقتُه؟ على قَولَينِ مَعْروفَينِ للفُقَهاءِ، فهذه الآيةُ يَحتَجُّ بها مَن [قالَ:] تُرَدُّ صَدقتُه؛ لأنَّ اللهَ تَعالى إنَّما أَثْنى على مَن آتى مالَه يَتَزَكَّى، وما لأحَدٍ عندَه مِن نِعمةٍ تُجزَى، فإذا كان عندَه نِعمةٌ تُجْزى فعليه أن يَجزِيَ بها قبْلَ أن يُؤْتِيَ مالَه يَتَزكَّى، فإذا آتى مالَه يَتَزكَّى قبْلَ أن يَجزِيَ بها لم يكُنْ مَمْدوحًا، فيكونُ عَمَلُه مَرْدودًا؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ» [مسلم «1718»]). ((منهاج السنة النبوية)) (8/501). .
7- قَولُه تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى استُدِلَّ به على أنه لا يُجزِئُ دفعُ الزَّكاةِ إلى الأبوَينِ صحيحَينِ كانا أو زَمِنَينِ، ولا إلى أحدٍ يَقْدَمُ منه إلى المُعطي إحسانٌ؛ لأنَّه يَصيرُ مكافأةً ومجازاةً، وإنَّما هي لِمَن لا يُكافي ولا يُجازي، ولا يَدفعُ بها ذَمًّا، بل تكونُ للهِ عزَّ وجلَّ خالصةً لوَجهِه فقط، فإنَّما المكافأةُ تكونُ في إخراجِ الأموالِ في التَّطَوُّعِ لا في الفَرْضِ [103] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/523). .
8- قال تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى نبَّه بقولِه تُجْزَى على أنَّ نعمةَ الإسلامِ الَّتي لرسولِ اللهِ على هذا الأتقى لا تُجزَى؛ فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ يمكنُ جزاءُ نعمتِه إلَّا نعمةَ الإسلامِ؛ فإنَّها لا يمكِنُ المنعَمَ بها عليه أنْ يَجزيَ بها، وهذا يدُلُّ على أنَّ الصِّدِّيقَ رضيَ اللهُ عنه أوَّلُ وأَولى مَن ذُكِرَ في هذه الآيةِ، وأنَّه أحقُّ الأُمَّةِ بها؛ فإنَّ عليًّا رضيَ اللهُ عنه تَرَبَّى في بيتِ النَّبيِّ، فلِرسولِ اللهِ عندَه نِعْمةٌ غيرُ نِعمةِ الإسلامِ يمكِنُ أنْ تُجزَى [104] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 71). .
9- قولُه تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضَى هذه الآيةُ مِن جَوامعِ الكَلِمِ؛ لأنَّها يَندرِجُ تَحتَها كلُّ ما يَرغَبُ فيه الرَّاغبونَ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/392). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى
- قولُه: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لإخبارِهِم بأنَّ عليه سُبحانَه بمُقْتضى حِكمتِه بَيانَ الهُدى مِن الضَّلالِ [106] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/503). . وهو استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ الكلامِ السَّابقِ مِن قولِه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى إلى قولِه: لِلْعُسْرَى [اللَّيل: 5-10]؛ وذلك لإلقاءِ التَّبِعةِ على مَن صار إلى العُسرى بأنَّ اللهَ أعذَرَ إليه -إذ هَداهُ بدَعوةِ الإسلامِ إلى الخَيرِ- فأعرَضَ عن الاهتداءِ باختيارِه اكتِسابَ السَّيِّئاتِ؛ فإنَّ التَّيسيرَ لليُسرى يَحصُلُ عندَ مَيلِ العبْدِ إلى عمَلِ الحَسَناتِ، والتَّيسيرَ للعُسرى يَحصُلُ عندَ مَيلِه إلى عمَلِ السَّيِّئاتِ [107] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/388). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ: يُومِئُ إلى أنَّ هذا كالجوابِ عمَّا يَجِيشُ في نُفوسِ أهلِ الضَّلالِ عندَ سَماعِ الإنذارِ السَّابقِ مِن تَكذيبِه بأنَّ اللهَ لو شاءَ منهم ما دَعاهم إليه لَألجَأَهُم إلى الإيمانِ؛ فقد حُكِيَ عنهم في الآيةِ الأُخرى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/388). [الزخرف: 20] .
- وعطْفُ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى على جُملةِ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى تَتْميمٌ [109] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). وتَنبيهٌ على أنَّ تَعهُّدَ اللهِ لعِبادِه بالهُدى فضْلٌ منه، وإلَّا فإنَّ الدارَ الآخِرةَ مِلْكُه، والدارَ الأُولى مِلْكُه بما فِيهما [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/388، 389). .
- قَولُه: وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى فيه تقديمُ الآخرةِ على الأُولى، مع أنَّ الأُولى متقَدِّمةٌ على الآخرةِ في الزَّمَنِ، لكِنَّه أَخَّرَها لفائدتَينِ:
الفائدةُ الأُولى: معنويَّةٌ، والفائدةُ الثَّانيةُ: لفظيَّةٌ. أمَّا المعنويَّةُ فلِأَنَّ الآخرةَ أهمُّ مِن الدُّنيا، ولأنَّ الآخرةَ يَظهَرُ فيها مُلْكُ اللهِ تعالى تمامًا؛ في الدُّنيا هناك رؤساءُ، وهناك ملوكٌ، وهناك أمراءُ، يَملِكونَ ما أعطاهم اللهُ عزَّ وجلَّ مِن المُلْكِ، لكِنْ في الآخرةِ لا مُلْكَ لأحَدٍ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ؛ فلهذا قَدَّمَ ذِكْرَ الآخرةِ مِن أجْلِ هذه الفائدةِ المعنويَّةِ. أمَّا الفائِدةُ اللَّفظيَّةُ فهي مُراعاةُ الفواصلِ؛ أواخِرِ الآياتِ، فكلُّها آخرُها ألِفٌ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 230). .
2- قولُه تعالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
- قولُه: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى يَجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ لمُجرَّدِ التَّفريعِ الذِّكريِّ إذا كان فِعلُ (أنْذرْتُكم) مُستعمَلًا في ماضيهِ، وكان المرادُ الإنذارَ الَّذي اشتَمَلَ عليه قولُه: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [اللَّيل: 8-11]، وهذه الفاءُ يُشبِهُ معْناها معْنى فاءِ الفَصيحةِ؛ لأنَّها تدُلُّ على مُراعاةِ مَضمونِ الكلامِ الَّذي قبْلَها، وهو تَفريعُ إنذارٍ مُفصَّلٍ على إنذارٍ مُجمَلٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ للتَّفريعِ المعنويِّ، فيَكونَ فِعلُ (أنذَرْتُكم) مُرادًا به الحالُ، وإنَّما صِيغَ في صِيغةِ المُضِيِّ؛ لتَقريبِ زَمانِ الماضي مِن الحالِ، وهو تَفريعٌ على جُملةِ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [اللَّيل: 12]، والمعْنى: إنَّ علينا هَدْيَكم، فأنذَرْتُكم إبلاغًا في الهُدى [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/389). .
- وتَنكيرُ نَارًا للتَّهويلِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/389). .
- وأصْلُ تَلَظَّى: تَتلظَّى بتاءينِ؛ حُذِفَتْ إحداهما للاختِصارِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/389). .
- وقد أُتبِعَ الْأَشْقَى بصِفةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى؛ لزِيادةِ التَّنصيصِ على أنَّ المشرِكينَ المقصودُ بذلك؛ فإنَّهم يَعلَمون أنَّهم كذَّبوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَوَلَّوا، أي: أعْرَضوا عن القرآنِ، وقد انحصَرَ ذلك الوَصفُ فيهم يَومَئذٍ؛ فقدْ كان الناسُ في زمَنِ ظُهورِ الإسلامِ أحَدَ فَريقينِ: إمَّا كافرٌ، وإمَّا مُؤمنٌ تَقِيٌّ، ولم يكُنِ الَّذين أسْلَموا يَغشَون الكَبائرَ؛ لأنَّهم أقْبَلوا على الإسلامِ بشَراشِرِهم [115] أي: بكُلِّيَّتِهم. وقيل: الشَّراشِرُ: النَّفْسُ والمحبَّةُ جميعًا. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/ 187). ؛ ولذلك عُطِفَ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ... إلخ تَصريحًا بمَفهومِ القصْرِ، وتَكميلًا للمُقابَلةِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/390). .
- ووُصِفَ الْأَشْقَى بصِلةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى؛ للإيذانِ بأنَّ للصِّلةِ تَسبُّبًا في الحُكْمِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/390). .
- والأشْقى والأتْقى مُرادٌ بهما: الشَّديدُ الشَّقاءِ، والشَّديدُ التَّقْوى [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/390). .
- وفي قَولِه: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى إلى قَولِه: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى احتِباكٌ [119] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذَكَرَ التَّكذيبَ أوَّلًا؛ دليلًا على حَذْفِ ضَدِّه ثانيًا، وإيتاءَ المالِ ثانيًا؛ دليلًا على حَذْفِ ضِدِّه أوَّلًا [120] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/95). .
3- قولُه تعالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى
- قولُه: وَسَيُجَنَّبُهَا الواوُ عاطفةٌ، والسِّينُ حرْفُ استقبالٍ جِيءَ به للتَّأكيدِ [121] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/503). .
- ووُصِفَ الْأَتْقَى بصِلةِ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى؛ للإيذانِ بأنَّ للصِّلةِ تَسبُّبًا في الحُكْمِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/390). .
- وجُملةُ يَتَزَكَّى حالٌ في ضَميرِ يُؤْتِي، وفائدةُ الحالِ التَّنبيهُ على أنَّه يُؤتِي مالَه لقصْدِ النَّفعِ، والزِّيادةِ مِن الثَّوابِ، تَعريضًا بالمشرِكين الَّذي يُؤتُونَ المالَ للفخْرِ والرِّياءِ والمفاسِدِ والفُجورِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/391). .
- والتَّزكِّي: تَكلُّفُ الزَّكاءِ، وهو النَّماءُ مِن الخَيرِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/391). .
- قولُه: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى استِئنافٌ مُقرِّرٌ لكَونِ إيتائِه للتَّزكِّي خالصًا لوَجْهِ اللهِ تعالَى، أي: ليس لأحدٍ عندَه نِعمةٌ مِن شَأنِها أنْ تُجزى وتُكافَأَ، فيَقصِدَ بإيتاءِ ما يُؤتي مُجازاتَها [125] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/168). .
- قولُه: وَلَسَوْفَ يَرْضَى جَوابُ قَسَمٍ مُضمَرٍ، أيْ: وباللهِ لَسوفَ يَرْضَى، وهو وعْدٌ بالثَّوابِ الجَزيلِ الَّذي يُرْضي صاحبَه، وهذا تَتميمٌ لقولِه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى؛ لأنَّ ذلك ما أفادَ إلَّا أنَّه ناجٍ مِن عَذابِ النَّارِ؛ لاقتضاءِ المقامِ الاقتِصارَ على ذلك؛ لقصْدِ المُقابَلةِ مع قولِه: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، فتُمِّمَ هنا بذِكرِ ما أُعِدَّ له مِن الخَيراتِ [126] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/318)، ((تفسير أبي السعود)) (9/168)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/392). .
- وحرْفُ (سوف) لتَحقيقِ الوعْدِ في المُستقبَلِ، أي: يَتغلغَلُ رِضاهُ في أزمنةِ المُستقبَلِ المديدِ، واللَّامُ لامُ الابتداءِ لتَأكيدِ الخبَرِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/392). .