موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (38-40)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لِيَرْبُوَ: أي: لِيَزدادَ، وأصلُ الرِّبا: الزِّيادةُ [475] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 342)، ((تفسير ابن جرير)) (18/503)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 245، 518)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/483)، ((المفردات)) للراغب (ص: 340). .
الْمُضْعِفُونَ: أي: ذَوُو المُضاعَفةِ والزِّيادةِ مِنَ الحَسَناتِ، وأصلُ (ضعف): يدُلُّ على أن يُزادَ الشَّيءُ مِثلَه [476] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 342)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/362)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 292)، ((تفسير القرطبي)) (14/39)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 334). .

المَعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: فآتِ قَريبَك حَقَّه من البِرِّ والصِّلةِ، والمِسكينَ والمسافِرَ المُنقَطِعَ عن أهلِه، ذلك خيرٌ للمُخلِصينَ الَّذين يُريدونَ بذلك النَّظرَ إلى وجهِ اللهِ يومَ القيامة، وأولئك هم الفائِزونَ في الدُّنيا والآخرةِ، وما آتيتُم -أيُّها النَّاسُ- مِن مالٍ تُريدونَ به زيادةً مِن أموالِ النَّاسِ بأن يَرُدُّوه إليكم أكثَرَ ممَّا آتَيْتُموهم، فلا يَنمو عندَ اللهِ، ولا خيرَ فيه؛ وما آتيتُم مِن زكاةٍ تُريدونَ بها وجهَ اللهِ فأولئك هم الَّذين لهم الضِّعفُ مِنَ الأجرِ والثَّوابِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه مظاهرَ فضلِه على النَّاسِ، فيقولُ: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي خلَقَكم مِنَ العدَمِ، ثم رزَقَكم، ثمَّ يُميتُكم مِن بَعدِ حياتِكم، ثمَّ يُحييكم للبَعثِ يومَ القيامةِ. هل مِن آلهتِكم -أيُّها المُشرِكونَ- مَن يَقدِرُ على فِعلِ شَيءٍ مِن ذلك؟! تنزَّه اللهُ وتقدَّس عن شِركِ هؤلاء المُشرِكينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكر أنَّه تعالى هو الباسِطُ القابِضُ، وجعَلَ في ذلك آيةً للمُؤمِن؛ أمَر نبيَّه بالإحسانِ لِمَن به فاقةٌ واحتياجٌ؛ لأنَّ مِن الإيمانِ الشَّفَقةَ على خَلقِ الله؛ فخاطبَ مَن بَسَط له الرِّزقَ بأداءِ حَقِّ اللهِ مِن المالِ، وصَرْفِه إلى مَن يَقرُبُ منه؛ في رحِمٍ، وإلى غيرِه مِن مِسكينٍ وابنِ سَبيلٍ [477] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/393). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ أنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ وَيقدِرُ، فلا ينبغي أن يَتوقَّفَ الإنسانُ في الإحسانِ؛ فإنَّ اللهَ إذا بسَطَ الرِّزقَ لا يَنقُصُ بالإنفاقِ، وإذا قَدَرَ لا يَزدادُ بالإمساكِ [478] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/102). .
وأيضًا فوَجهُ تعَلُّقِ الآيةِ بما قَبْلَها: هو أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّن أنَّ العبادةَ لا ينبغي أن تكونَ مقصورةً على حالةِ الشِّدَّةِ، بقَولِه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الروم: 33]، ولا أن تكونَ مَقصورةً على حالةِ أخذِ شَيءٍ مِن الدُّنيا، بِقَولِه: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا، وبيَّن أنَّه ينبغي أن يكونَ -في حالةِ بَسطِ الرِّزقِ وقَدْرِه عليه- نَظَرُه على اللهِ الخالِقِ الرَّازِقِ؛ لِيَحصُلَ الإرشادُ إلى تعظيمِ الله. والإيمانُ قِسْمانِ: تَعظيمٌ لأمرِ اللهِ، وشَفَقةٌ على خَلقِ اللهِ، فقال بعد ذلك [479] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/102). :
فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
أي: فآتِ [480] قال القرطبي: (الخِطابُ للنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمرادُ هو وأمَّتُه). ((تفسير القرطبي)) (14/35). قريبَك حقَّه مِنَ البِرِّ والصِّلةِ، والمِسكينَ حَقَّه مِنَ الصَّدَقةِ، والمسافِرَ المُنقَطِعَ حَقَّه مِنَ الإعانةِ على سَفَرِه [481] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/502)، ((تفسير ابن كثير)) (6/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 223-225). .
ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ.
أي: إيتاءُ الأقاربِ والمساكِينِ وأبناءِ السَّبيلِ حُقوقَهم الشَّرعيَّةَ خَيرٌ للمُخلِصينَ الذين يُريدونَ بذلك وجهَ اللهِ [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/502)، ((تفسير القرطبي)) (14/36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/104). قال القاسمي: (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: النَّظرَ إليه يومَ القيامةِ. وهو الغايةُ القُصْوى. أو يريدون ذاتَه بمعروفِهم، لا رياءً ولا سُمْعةً، ولا مُكافأةَ يَدٍ). ((تفسير القاسمي)) (8/16). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ بقولِه تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ: أي: النَّظَرَ إليه سُبحانَه: ابنُ كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/318)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 226). وقال ابن جرير: (خيرٌ لِلذَّين يُريدونَ الله بإتيانِهم ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (18/502). وقال محمد رشيد رضا: (هذا التَّعبيرُ يَدُلُّ على الإخلاصِ للهِ تعالَى في العملِ، وابتغاءِ مَرْضاتِه به وحْدَه، وعدمِ الرِّياءِ فيه). ((تفسير المنار)) (7/364). .
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: وأولئك هم الفائِزونَ في الدُّنيا والآخِرةِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/502)، ((تفسير القرطبي)) (14/36)، ((تفسير ابن كثير)) (6/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/104، 105). .
وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى العملَ الَّذي يُقصَدُ به وجْهُه مِن النَّفَقاتِ، ذكَر العملَ الَّذي يُقصَدُ به مَقصدٌ دُنيويٌّ [484] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 642). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا جرى التَّرغيبُ والأمرُ بذلك المالِ لِذوي الحاجةِ، وصِلةِ الرَّحِمِ، وما في ذلك مِن الفَلاحِ؛ أعقَبَ بالتَّزهيدِ في ضَربٍ آخَرَ مِن إعطاءِ المالِ لا يَرضى اللهُ تعالى به، وكان الرِّبا فاشيًا في زَمَنِ الجاهليَّةِ وصَدرِ الإسلامِ، وخاصَّةً في ثَقيفٍ وقُرَيشٍ؛ فلمَّا أرشَد اللهُ المسلِمينَ إلى مُواساةِ أغنيائِهم فُقراءَهم؛ أتْبَعَ ذلك بتهيئةِ نُفوسِهم للكَفِّ عن المعامَلةِ بالرِّبا للمُقتَرِضينَ منهم؛ فإنَّ المعاملةَ بالرِّبا تُنافي المواساةَ؛ لأنَّ شَأنَ المُقتَرِضِ أنَّه ذو حاجةٍ، وشأنَ المُقرِضِ أنَّه ذو سَعَةٍ، فمُعامَلتُه المُقتَرِضَ منه بالرِّبا استِغلالٌ لحاجتِه لاضْطِرارِه، وذلك لا يليقُ بالمُؤمِنينَ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/105). .
وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ.
أي: وما آتَيتم -أيُّها النَّاسُ- مِن عَطاءٍ تُريدونَ به زيادةً وأرباحًا تَحصُلُ لكم مِن أموالِ النَّاسِ، بأن يَرُدُّوه إليكم بأكثَرَ مِمَّا آتيتُموه؛ فلا يَزْكو ويَنمو عندَ اللهِ؛ فهو مالٌ مَمْحوقُ البَرَكةِ، ولا ثوابَ فيه [486] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/503)، ((تفسير ابن كثير)) (6/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/105، 106)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 232-234). قال السمعاني: (أكثرُ أهلِ التَّفسيرِ أنَّ المرادَ مِنَ الآيةِ هو أن يُعطيَ الرَّجُلُ غيرَه عَطيَّةً لِيُعطيَه أكثَرَ منها، وهذا جائزٌ للنَّاسِ أن يَفعلوا، غيرَ أنَّه في القيامةِ لا يُثابُ عليه، فهو معنَى قولِه: فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ). ((تفسير السمعاني)) (4/215). وقال ابن كثير: (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ أي: مَن أَعطى عَطيَّةً يُريدُ أن يَرُدَّ النَّاسُ عليه أكثَرَ ممَّا أَهدى لهم، فهذا لا ثَوابَ له عندَ الله. بهذا فسَّره ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، وعِكْرِمةُ، ومحمَّدُ بنُ كعبٍ، والشَّعْبيُّ. وهذا الصَّنيعُ مُباحٌ وإن كان لا ثَوابَ فيه، إلَّا أنَّه قد نُهِيَ عنه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ خاصَّةً، قاله الضَّحَّاكُ، واستدَلَّ بقولِه: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] ، أي: لا تُعطِ العطاءَ تُريدُ أكثَرَ منه). ((تفسير ابن كثير)) (6/318). وقيل: هذه الآيةُ في معنى قولِه تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276] سواءً بسَواءٍ، وأنَّ المرادَ: ما أعطَيْتُم مِن أموالِكم على وجهِ الرِّبا فلا يَزْكو عندَ الله. وممَّن اختاره في الجملةِ: الزمخشريُّ، والنسفيُّ، وابنُ جُزَي، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/481)، ((تفسير النسفي)) (2/702)، ((تفسير ابن جزي)) (2/134)، ((تفسير القاسمي)) (8/16)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/105). .
وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ ما زيادتُه نَقصٌ؛ أتْبَعَه ما نَقصُه زيادةٌ، فقال [487] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/101). :
وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.
أي: وما آتيتُم مِن زكاةٍ عن إخلاصٍ لله تعالى، تريدونَ بها وجهَه؛ فأولئك هم الذين يُضاعِفُ اللهُ لهم ثوابَ صَدَقاتِهم [488] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/507)، ((تفسير القرطبي)) (14/39)، ((تفسير ابن كثير)) (6/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 642)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 235-237). قال البقاعي: (الْمُضْعِفُونَ أي: الذين ضاعَفوا أموالَهم في الدُّنيا بسَبَبِ ذلك الحِفظِ والبرَكةِ، وفي الآخرةِ بكَثرةِ الثَّوابِ عند اللهِ مِن عشرةِ أمثالٍ إلى ما لا حَصْرَ له). ((نظم الدرر)) (15/101، 102). .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245] .
وقال سُبحانَه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما تصدَّقَ أحَدٌ بصَدقةٍ مِن طَيِّبٍ -ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذَها الرَّحمنُ بيَمينِه وإن كانت تمرةً، فتَربو في كَفِّ الرَّحمنِ حتى تكونَ أعظَمَ مِن الجَبَلِ، كما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّه [489] الفَلُوُّ: المُهرُ، وهو الصَّغِيرُ من أولادِ الفَرَسِ، سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه فُصِلَ وعُزِلَ عن أمِّه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/99). أو فَصيلَه [490] الفَصيلُ: ولَدُ النَّاقةِ إذا فُصِلَ مِن إرضاعِ أمِّه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/99). !)) [491] رواه البخاري (1410) ومسلم (1014)، واللفظ له. .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا وَضَح أنَّه لا زيادةَ إلَّا فيما يَزيدُه اللهُ، ولا خيرَ إلَّا فيما يختارُه اللهُ، فكان ذلك مُزَهِّدًا في زيادةِ الاعتناءِ بطَلَبِ الدُّنيا- بيَّن ذلك بطريقٍ لا أوضحَ منه، فقال [492] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/102). :
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.
أي: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي خَلَقكم مِنَ العَدَمِ، ثمَّ رَزَقكم وأنتم لا تَملِكونَ شَيئًا، ثمَّ يميتُكم مِن بعدِ حَياتِكم، ثمَّ يُحييكم للبَعثِ يومَ القيامةِ [493] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/508)، ((تفسير ابن كثير)) (6/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643). .
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.
أي: هل مِن آلهتِكم -أيُّها المُشرِكونَ- مَن يَقدِرُ على فِعلِ شَيءٍ مِن ذلك [494] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/508)، ((تفسير ابن كثير)) (6/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643). ؟
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: تنزَّه اللهُ وتقدَّسَ وتعالى عن شِركِ هؤلاءِ المُشرِكينَ [495] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/508)، ((تفسير ابن كثير)) (6/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 643). !

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فاللهُ سُبحانَه لا يَقبَلُ إلَّا ما كان خالِصًا لِوَجهِه، لا رياءَ فيه [496] يُنظر: ((نظم الدر)) للبقاعي (15/99). .
2- قال تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ مَن بَذَلَ مالَه مِن أجلِ الحُصولِ على أمْرِ الدُّنيا، فإنَّه لا أَجْرَ له في ذلك، تؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ [497] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 237). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ تَنبيهٌ على أهميَّةِ الإخلاصِ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 237). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فيه سؤالٌ: ذُكِر الأقارِبُ بلَفظِ   ذَا الْقُرْبَى، ولم يُذكَرِ المِسكينُ بلَفظِ (ذي المَسكَنة).
الجوابُ: ذلك لأنَّ القرابةَ لا تتجدَّدُ؛ فهي شيءٌ ثابِتٌ، و (ذو كذا) لا يقالُ إلَّا في الثَّابتِ؛ فإنَّ مَن صدَرَ منه رأيٌ صائِبٌ مرَّةً، أو حصَلَ له جاهٌ يومًا واحِدًا، أو وُجِدَ منه فَضلٌ في وقتٍ؛ لا يقالُ: (ذو رأيٍ) و(ذو جاهٍ)، و(ذو فضلٍ)، وإذا دام ذلك له، أو وُجِدَ منه ذلك كثيرًا؛ يقالُ له: (ذو الرَّأيِ) و(ذو الفَضلِ)؛ فقال: ذَا الْقُرْبَى؛ إشارةً إلى أنَّ هذا حَقٌّ مُتأكِّدٌ ثابتٌ.
وأمَّا المَسكَنةُ فتطرَأُ وتَزولُ؛ ولهذا المعنى قال: مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] ؛ فإنَّ المسكينَ يدومُ له كَونُه ذا مَتربةٍ ما دامت مَسكَنتُه، أو يكونُ كذلك في أكثَرِ الأمرِ [499] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/103). .
2- قَولُ الله تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ مُشعِرٌ بأنَّ المعطَى مالٌ، ويُقوِّي ذلك وقوعُ الآيةِ عَقِبَ قَولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/102). .
3- قَولُ الله تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فيه سؤالٌ: خَصَّصَ اللهُ تعالى الأقسامَ الثَّلاثةَ بالذِّكرِ دونَ غَيرِهم، مع أنَّه تعالى ذكَرَ الأصنافَ الثَّمانيةَ في الصَّدَقاتِ؟
الجوابُ: أراد هاهنا بيانَ مَن يجِبُ الإحسانُ إليه على كُلِّ مَن له مالٌ، سواءٌ كان زكَويًّا أو لم يكُنْ، وسواءٌ كان بعد الحَولِ أو قَبْلَه؛ لأنَّ المقصودَ هاهنا الشَّفَقةُ العامَّةُ، وهؤلاء الثَّلاثةُ يجِبُ الإحسانُ إليهم وإنْ لم يكُنْ للمُحسِنِ مالٌ زائِدٌ؛ أمَّا القريبُ فتَجِبُ نفقَتُه وإن كان لم تجِبْ عليه زكاةٌ، كعَقارٍ أو مالٍ لم يَحُلْ عليه الحَولُ، والمِسكينُ كذلك؛ فإنَّ مَن لا شيءَ له إذا بَقِيَ في ورطةِ الحاجةِ حتى بلَغ الشِّدَّةَ، يجِبُ على مَن له مَقدِرةٌ دَفعُ حاجتِه، وإن لم يكُنْ عليه زكاةٌ، وكذلك من انقطعَ في مَفازةٍ ومع آخَرَ دابَّةٌ يُمكِنُه بها إيصالُه إلى مَأمَنٍ، يلزَمُه ذلك وإنْ لم تكُنْ عليه زكاةٌ، والفَقيرُ داخِلٌ في المِسكينِ؛ لأنَّ مَن أوصى للمساكينِ شَيئًا، يُصرَفُ إلى الفُقَراءِ أيضًا، وإذا نظَرْتَ إلى الباقينَ مِن الأصنافِ رأيتَهم لا يجِبُ صَرفُ المالِ إليهم إلَّا على الذين وَجَبَت الزكاةُ عليهم، واعتُبِرَ ذلك في العامِلِ، والمُكاتَبِ، والمؤلَّفةِ، والمَديونِ [501] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/102). .
4- قَولُ الله تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فيه سؤالٌ: لِمَ لم يَذكُرْ غَيرَه مِن الأفعالِ، كالصَّلاةِ وغَيرِها؟
الجوابُ: الصَّلاةُ مَذكورةٌ مِن قَبلُ؛ لأنَّ الخِطابَ هاهنا بقَولِه: فَآَتِ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، وغَيرُه تَبَعٌ، وقد قال له مِن قَبلُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30] ، وقال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [502] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/103، 104). [الروم: 31] .
5- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إثباتُ الوَجهِ للهِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 229). .
6- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارةٌ إلى أنَّ مَن فَعَلَ مثلَ هذه الأمورِ لله، فإنَّه سوف يرى اللهَ عزَّ وجلَّ ويلقاه، كما ثبت ذلك في الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ: أنَّ المُؤمِنينَ يَرَونَ ربَّهم كما يَرَونَ القَمَرَ ليلةَ البَدرِ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 226). .
7- قَولُ الله تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ فيه أنَّ كُلَّ ما لا يَربو عندَ اللهِ، فهو ممحوقٌ لا وُجودَ له، فمآلُه إلى فَناءٍ وإن كَثُرَ [505] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/171). .
8- قَولُ الله تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ عبَّرَ عنها بذلك؛ لِيُفيدَ الطَّهارةَ والزِّيادةَ، أي: تُطهِّرونَ بها أموالَكم مِنَ الشُّبَهِ، وأبدانَكم مِن موادِّ الخبَثِ، وأخلاقَكم مِنَ الغِلِّ والدَّنَسِ [506] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/101). .
9- قَولُ الله تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ لَمَّا كان الإخلاصُ عزيزًا، أشار إلى عَظَمتِه بتكريرِه، بقَولِه عَزَّ وجَلَّ: تُرِيدُونَ  وَجْهَ اللَّهِ، وقد قال في الآيةِ التي قبلَه: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [507] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/101). .
10- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أنَّ الصَّدَقةَ تزيدُ المالَ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/347). ، وذلك على أحدِ القولينِ في الآيةِ.
11- إنَّ مَن تَفَرَّدَ بخَلقِ العَبدِ وبهِدايتِه، وبرزقِه وإحيائِه وإماتتِه في الدُّنيا، وبمَغفرةِ ذُنوبِه في الآخرةِ: مُستَحِقٌّ أنْ يُفرَدَ بالإلهيَّةِ والعبادةِ، والسُّؤالِ والتضَرُّعِ إليه، والاستكانةِ له؛ قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [509] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/38). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- قولُه: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ فاءُ التَّفريعِ تُفِيدُ أنَّ الكلامَ بعْدَها مُترتِّبٌ على الكلامِ الذي قبْلَها، وقدِ اشتمَلَ الكلامُ قبْلَها على لَحاقِ آثارِ رَحمةِ اللهِ بالنَّاسِ، وإصابةِ السُّوءِ إيَّاهم، وعلى أنَّ ما يُصِيبُهم مِن السُّوءِ بما قدَّمَتْ أيدي النَّاسِ، وذُكِرَ بسْطُ الرِّزقِ وتقْديرُه، وتضمَّنَ ذلك أنَّ الفرَحَ يُلْهِيهم عن الشُّكرِ، وأنَّ القُنوطَ يُلْهِيهم عن المُحاسَبةِ في الأسبابِ؛ فكان الأمْرُ بإيتاءِ الضُّعفاءِ والمنكوبينَ إرشادًا إلى وسائلِ شُكرِ النِّعمةِ عندَ حُصولِها شُكْرًا مِن نَوعِها واستكشافِ الضُّرِّ عندَ نُزولِه، وإلى أنَّ مِن الحقِّ التَّوسعةَ على المُضيَّقِ عليهم الرِّزقُ، كما يُحِبُّ أنْ يُوسَّعَ عليه رِزْقُه [510] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/481)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/250)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/102). .
- وفي قولِه: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قُدِّمَ ذُو القُرْبى على المسكينِ وابنِ السَّبيلِ؛ للاهتِمامِ به؛ لأنَّ بِرَّه صَدقةٌ وصِلَةٌ [511] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/391، 392). ، ولَمَّا كان المِسكينُ حاجتُه ليست مختَصَّةً بمَوضِعٍ، كان مُقَدَّمًا على مَن حاجتُه مختَصَّةٌ بموضِعٍ دونَ مَوضِعٍ [512] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/102). .
- والتعبيرُ باسمِ الإشارةِ في قولِه: ذَلِكَ خَيْرٌ؛ للتَّنويهِ بالمأْمورِ به [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/104). .
- وفي قولِه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِن أجْلِ ضَميرِ الفَصْلِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [514] القَصرُ الإضافي: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصود بالكلامِ، أو إزالة شكِّه وترددِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: أولئك المُتفرِّدونَ بالفلاحِ، وهو نجاحُ عَمَلِهم في إيتاءِ مَن ذُكِرَ لوجْهِ اللهِ تعالى لا للرِّياءِ والفخْرِ، فمَن آتَى للرِّياءِ والفخْرِ فلا فلاحَ له مِن إيتائِه [515] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/104، 105). .
- وبيْن قولِه: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وقولِه: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ... مُقابَلةٌ، وممَّا يدلُّ على أنَّ الآيتَينِ مُتقابلتانِ: تَكريرُ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فيهما، وتَخصيصُ كلٍّ مِن الآيتينِ باسمِ الإشارةِ الدَّالِّ على أنَّ ما قبْلَه جَديرٌ بما بعْدَه؛ لأجْلِ ذِكْرِ مُوجِبِه [516] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/250). .
2- قَولُه تعالى: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
- قولُه: وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ (ما) شرطيَّةٌ تُفِيدُ العُمومَ، فالجُملةُ مُعترِضةٌ بعدَ جُملةِ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الروم: 38] إلخ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، ومَضمونُ هذه الجُملةِ بمَنزلةِ الاستدراكِ؛ للتَّنبيهِ على إيتاءِ مالٍ هو ذَميمٌ. وجِيءَ بالجُملةِ شرطيَّةً؛ لأنَّها أنسَبُ بمَعنى الاستدراكِ على الكلامِ السَّابقِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/105). .
- قولُه: فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، أي: تَحصُلُ فيه زِيادةٌ تكونُ أموالُ النَّاسِ ظرْفًا لها؛ فهو كِنايةٌ عن أنَّ الزِّيادةَ التي يأخُذُها المُرْبِي مِن أموالِهم لا يَملِكُها أصْلًا [518] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/100). .
- ومعنى فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ أنَّه عمَلٌ ناقصٌ عندَ اللهِ غيرُ زاكٍ عِنده، والنَّقصُ يُكْنى به عن المَذمَّةِ والتَّحقيرِ [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/106). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ فيه التعبيرُ باسمِ الإشارةِ (أولئك)؛ للتَّنويهِ بهؤلاء، والدَّلالةِ على أنَّهم أحْرياءُ بالفلاحِ. وكذلك اسمُ الإشارةِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ اقْتضاهُ مَقامُ اجتلابِ اسمِ الإشارةِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/106، 107). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، أي: ذوو الأضْعافِ مِن الثَّوابِ، أو الذين ضَعَّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ، وفي تَغْييرِ النَّظمِ الكريمِ والالْتِفاتِ ما لا يَخْفى مِن المُبالَغةِ والتَّعظيمِ؛ كأنَّه خاطَبَ به الملائكةَ وخواصَّ الخلْقِ تَعريفًا لحالِهم: فأولئك الذين يُرِيدون وجْهَ اللهِ بصَدقاتِهم، همُ المُضْعِفون؛ فهو أمدَحُ لهمْ مِن أنْ يقولَ: (فأنتم المُضعِفون)؛ لأنَّه إذا التفَتَ إلى الغيرِ شاكرًا لِصَنيعِهم، واستِحمادًا منه لهم، وترْغيبًا له فيما نالوا به هذه المَنزِلةَ؛ كان أبلَغَ وأنبَلَ ممَّا لو قال لهم: فأنتُم المُضعِفون. أو للتَّعميمِ؛ كأنَّه قال: فمَن فعَلَ ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ. وأيضًا فيه إشعارٌ بأنَّ أولئك مُحِقُّون بأنْ يَكونوا مُضعِفينَ؛ لاكتسابِهم تلك الفضيلةَ، وليس في (فأنتم المُضعِفون) مِن ذلك شَيءٌ [521] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/481)، ((تفسير البيضاوي)) (4/208)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/252)، ((تفسير أبي حيان)) (8/394)، ((تفسير أبي السعود)) (7/62). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هم) في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ لِقَصْرِ جِنسِ المُضْعِفينَ على هؤلاء، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ للمُبالَغةِ؛ لعَدَمِ الاعتدادِ بإضعافِ مَن عَداهم؛ لأنَّ إضعافَ مَن عَداهم إضعافٌ دُنيويٌّ زائلٌ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/106). .
3- قَولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
استئنافٌ ممَّا أُقِيمَ عليه دلائلُ انفرادِ اللهِ تعالى بالتَّصرُّفِ في النَّاسِ، وإبطالِ ما زَعَموه مِن الإشراكِ في الإلهيَّةِ، مُؤكِّدًا بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البُرهانُ والعِيَانُ، ووقَعَ عليه الوِفاقُ، ثمَّ اسْتنتَجَ مِن ذلك تقدُّسَه عن أنْ يكونَ له شُركاءُ، فقال: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وفيه إدماجٌ [523] الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيُقرنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ، ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجَتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة: البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للاستدلالِ على وُقوعِ البعثِ [524] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/208)، ((تفسير أبي السعود)) (7/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/107). .
- قولُه: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ استفهامٌ إنكاريٌّ في مَعنى النَّفيِ؛ ولذلك زِيدَت (مِن) الدَّالَّةِ على تَحقيقِ نفْيِ الجِنسِ كلِّه في قولِه: مِنْ شَيْءٍ. والمعنى: ما مِن شُركائِكم مَن يَفعَلُ شيئًا مِن ذلِكُم؛ فـ (مِن) الأُولى بَيانيَّةٌ هي بَيانُ الإبهامِ الذي في مَنْ يَفْعَلُ، فيكونُ مَنْ يَفْعَلُ مُبتدأً، وخبَرُه مَحذوفٌ دلَّ عليه الاستفهامُ، تقديرُه: حصَلَ، أو وُجِدَ، أو هي تَبعيضيَّةٌ صِفَةٌ لِمُقدَّرٍ، أي: هلْ أحدٌ مِن شُركائِكم. و(مِن) الثَّانيةُ في قولِه: مِنْ ذَلِكُمْ تَبعيضيَّةٌ في مَوضعِ الحالِ مِنْ شَيْءٍ. و(مِن) الثَّالثةُ زائدةٌ لاستغراقِ النَّفيِ، وكلٌّ منها مُستقِلَّةٌ بتأْكيدٍ؛ لتَعجيزِ الشُّركاءِ وتَجهيلِ عَبَدتِهم [525] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/482)، ((تفسير البيضاوي)) (4/208)، ((تفسير أبي حيان)) (8/395)، ((تفسير أبي السعود)) (7/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/107، 108). . وقيل: هو استفهامٌ على جِهَةِ التَّقريرِ لهم والتَّوبيخِ [526] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/394). .
- قولُه: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ إضافةُ (شُركاء) إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ مِن المُشركينَ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ همُ الذين خَلَعوا على الأصنامِ وصْفَ الشُّركاءِ للهِ؛ فكانوا شُركاءَ بزَعْمِ المُخاطَبينَ، وليسوا شُركاءَ في نفْسِ الأمْرِ، وهذا جارٍ مَجْرى التَّهكُّمِ [527] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/108). .
- وجُملةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُستأْنفةٌ لإنشاءِ تَنزيهِ اللهِ تعالى عن الشَّريكِ في الإلهيَّةِ [528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/108). .
- وفي قولِه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الْتفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ باقْتضاءِ ذِكْرِ قَبائحِهم للإعراضِ عنهم، وطَرْحِهم عن رُتبةِ الخِطابِ [529] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/108). .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ يُشْرِكُونَ؛ لِمَا في الشِّركِ مِن الغَرابةِ، أو للإشعارِ باستمرارِه وتجدُّدِه منهم [530] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/47). .