موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (26-35)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

التَّرَاقِيَ: جمعُ تَرْقُوةٍ: وهي ثُغْرةُ النَّحرِ، أو عَظْمٌ يَصِلُ ما بيْن ثُغْرةِ النَّحرِ والعاتِقِ، ولكُلِّ إنسانٍ تَرْقُوتانِ عن يمينِه وعن شمالِه، ويُكْنَى ببُلوغِ النَّفْسِ التَّراقيَ عن الإشفاءِ على الموتِ [165] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 500)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/345)، ((البسيط)) للواحدي (22/514)، ((المفردات)) للراغب (ص: 166). .
مَنْ رَاقٍ: أي: مَنْ صاحِبُ رُقيةٍ أو طَبيبٌ يَرقِيه فيَشفِيه برُقْيَتِه أو دَوائِه؟ يُقالُ: رَقاه يَرْقِيه رُقْيةً: إذا عَوَّذَه بما يَشْفِيه، كأنَّهم طَلَبوا له الرُّقْيةَ والشِّفاءَ. وقيل: مَن يَرْقَى ويَصعَدُ برُوحِه مِن الملائِكةِ؟ مِن رَقِيَ يَرْقَى رُقِيًّا. وأصلُ (رقي) هنا: يدُلُّ على عُوذةٍ يُتعَوَّذُ بها، ويدُلُّ على الصُّعودِ [166] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 501)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/426)، ((البسيط)) للواحدي (22/515)، ((تفسير البغوي)) (8/285). .
الْمَسَاقُ: أي: المَرجِعُ والمآبُ، وأصلُ (سوق): يدُلُّ على حَدْوِ الشَّيءِ [167] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/117)، ((تفسير القرطبي)) (19/113)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282). .
يَتَمَطَّى: أي: يَتبختَرُ ويَختالُ في مِشْيَتِه؛ مِنَ المَطَا، وهو الظَّهرُ، فيَلْوي ظَهْرَه تبختُرًا. أو مِنَ المطِّ: وهو المَدُّ؛ لأنَّه يتبَختَرُ ويمُدُّ يَدَيه في المشْيِ، وأصلُه «يَتمَطَّطُ»، فجُعِلَت الطَّاءُ الثَّالثةُ ياءً؛ للتَّخفيفِ [168] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 501)، ((تفسير ابن جرير)) (23/523)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/273)، ((البسيط)) للواحدي (22/526). .
أَوْلَى لَكَ: أي: وَلِيَكَ المكروهُ، وقارَبَك ما يُهلِكُك، وهو أفعَلُ، مِنَ الوَلْيِ: وهو القُربُ، ومَعناه التَّوَعُّدُ والتَّهَدُّدُ. وقيل: وَعيدٌ بمعنى: وَيْلٌ لك، وأصلُ أَوْلى: أَوْيَلُ، أي: أشَدُّ وَيْلًا، فوقَعَ فيه قَلبٌ، ووَزْنُه أفلَعُ، مأخوذٌ مِنَ الوَيلِ [169] يُنظَر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (10/458)، ((البسيط)) للواحدي (20/250) و(22/527)، ((تفسير الزمخشري)) (4/324)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/411)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (40/250)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/109). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
قَولُه تعالى: أَوْلَى لَكَ: فيه عِدَّةُ أوجُهٍ:
أحَدُها: أنَّه مُبتدَأٌ مَرفوعٌ. و لَكَ: جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ خبَرٌ، وهي كَلِمةُ تهديدٍ ووعيدٍ، أي: وَيلٌ لك، أو هَلاكٌ لك، وسَوَّغ الابتداءَ بالنَّكرةِ كَونُه دُعاءً.
الثَّاني: أنَّ أَوْلَى خبرٌ لِمُبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه: فالعِقابُ أو الهلاكُ أَولى لك، أي: أقرَبُ وأَدنى.
الثَّالِثُ: أنَّ أَوْلَى: فِعلٌ ماضٍ، وفاعِلُه مُضمَرٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: قاربَك ووَلِيَك ما يُهلِكُك، واللَّامُ في لَكَ زائِدةٌ في المفعولِ.
الرَّابعُ: أنَّه فِعلٌ ماضٍ، وفاعِلُه ضَميرُ اللهِ عزَّ وجلَّ، واللَّامُ مَزيدةٌ في المفعولِ الأوَّلِ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ، والتَّقديرُ: أَوْلاكَ اللهُ تعالى ما تَكرَهُه. أو اللَّامُ غيرُ مَزيدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: أدنَى اللهُ عزَّ وجلَّ الهلاكَ لك.
وقولُه تعالى: فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى تكريرٌ للتَّأكيدِ [170] يُنظَر: ((تفسير السمعاني)) (6/110)، ((تفسير الزمخشري)) (4/664)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1255)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/698) و (10/583)، ((تفسير الألوسي)) (15/164). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالةَ الاحتضارِ، وما يَعتريها مِن الأهوالِ: كَلَّا إذا بلَغَت الرُّوحُ العِظامَ الموجودةَ عندَ ثُغْرةِ النَّحرِ في أعلى الصَّدرِ وبدايةِ الحُلْقومِ، وذلك عندَ مَوتِ الإنسانِ، وقيلَ: هل مِن راقٍ يَرْقِيه، وطبيبٍ يُداويه؛ فيَشفى مِمَّا هو فيه؟ وظنَّ ذلك المُحتَضَرُ أنَّه مُفارِقٌ للدُّنيا وما فيها، وتتابَعَتْ عليه الشَّدائِدُ، إلى رَبِّك المَساقُ والمرجِعُ.
ثمَّ يُخبِرُ اللهُ تعالى عن حالِ الكافرِ في الدُّنيا، فيقولُ: فلمْ يُصَدِّقْ بما وجَبَ عليه التَّصديقُ به، ولا صلَّى ما أُمِرَ بأدائِه مِنَ الصَّلَواتِ، ولكِنْ كذَّبَ بالحَقِّ فلم يُؤمِنْ به، وأعرَضَ عنه فلم يَعمَلْ به، ثمَّ مَضَى إلى أهلِه مُتبَختِرًا مُختالًا في مِشْيَتِه.
ثمَّ يتوَعَّدُ اللهُ -تعالى- ويُهَدِّدُ هذا الكافِرَ فيقولُ: وَلِيَك الهَلاكُ، وقَرُبَ منك المكروهُ! ثمَّ وَلِيَكَ الهلاكُ، وقَرُبَ منك المكروهُ!

تفسير الآيات:

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن تعظيمَ أحوالِ الآخِرةِ؛ بيَّن أنَّ الدُّنيا لا بدَّ فيها مِن الانتهاءِ والنَّفادِ، والوُصولِ إلى تجَرُّعِ مرارةِ الموتِ [171] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/734). .
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26).
أي: كَلَّا [172] قيل: كَلَّا هنا نافيةٌ لِما يظُنُّه المشركون مِن أنَّهم لا يُعاقَبونَ على شِرْكِهم ومَعصِيتِهم رَبَّهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/512)، ((تفسير السمعاني)) (6/108). وقيل: معناها: استبعادُ إيمانِ الكافرِ بيومِ القيامةِ، أي: بعيدٌ أن يؤمِنَ الكافرُ بيومِ القيامةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، وابنُ عادل، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/513)، ((تفسير القرطبي)) (19/111)، ((تفسير ابن عادل)) (19/569)، ((تفسير الشوكاني)) (5/410). وقيل: كَلَّا رَدْعٌ وزجرٌ وتنبيهٌ، ومعناه: ارتَدِعوا عمَّا يؤدِّي إلى العذابِ، وعن إيثارِ الدُّنيا على الآخرةِ، وتنبَّهوا على ما بيْن أيديكم مِن الموتِ. وممَّن قال بهذا في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/254)، ((تفسير الزمخشري)) (4/663)، ((تفسير البيضاوي)) (5/267)، ((تفسير النسفي)) (3/573)، ((تفسير أبي السعود)) (9/68)، ((تفسير الألوسي)) (15/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/356، 357). وقيل: المرادُ: نَفيُ استمرارِ محبَّةِ الدُّنيا، بل لا بُدَّ أن ينقَطِعَ ذلك انقِطاعًا قَبيحًا جِدًّا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/107). إذا بلَغَت الرُّوحُ العِظامَ الموجودةَ عندَ ثُغْرةِ النَّحرِ في أعلى الصَّدرِ، وبدايةِ الحُلقومِ، وذلك عندَ مَوْتِ الإنسانِ [173] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/111)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/264)، ((تفسير ابن كثير)) (8/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/358). قال ابنُ عاشور: (جمعُ تَرْقُوَةٍ: وهي ثُغْرةُ النَّحرِ، ولكُلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتانِ عن يمينِه وعن شِمالِه. ومعنى: بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ: أنَّ الرُّوحَ بَلَغَت الحَنجَرةَ حيثُ تَخرجُ الأنفاسُ الأخيرةُ، فلا يُسمَعُ صَوتُها إلَّا في جهةِ التَّرْقُوةِ، وهي آخِرُ حالاتِ الاحتضارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/358). .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة: 83 - 87] .
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27).
أي: وقيلَ: هل مِن راقٍ يَرْقِيه، وطبيبٍ يُداويه؛ فيَشفَى مِن مَرَضِه [174] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/395)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1155)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/264)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 358). قال السعدي: (أي: مَن يَرْقِيه؟ مِنَ الرُّقْيةِ؛ لأنَّهم انقَطَعت آمالُهم مِن الأسبابِ العاديَّةِ، فلم يَبْقَ إلَّا الأسبابُ الإلهيَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 900). وقال الشوكاني: (وقالَ أبو الجوزاءِ: هو مِن رَقَى يَرْقَى إذا صَعِد، والمعنَى: مَن يَرْقَى برُوحِه إلى السَّماءِ: أمَلائكةُ الرَّحمةِ أم ملائِكَةُ العذابِ؟ وقيلَ: إنَّه يقولُ ذلك مَلَكُ الموتِ؛ وذلك أنَّ نفْسَ الكافرِ تكرَهُ الملائِكَةُ قُرْبَها). ((تفسير الشوكاني)) (5/410). ؟
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28).
أي: وأيقَن المُحتَضَرُ أنَّه مُفارِقٌ الدُّنيا والأموالَ والأولادَ، والأهلَ والأحبابَ [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/515)، ((تفسير ابن عطية)) (5/406)، ((تفسير القرطبي)) (19/112)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/359). قال جمْعٌ مِن المفسِّرينَ: الظَّنُّ هنا بمعنى اليقينِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، وابن الجوزي، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/515)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/372)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 429)، ((تفسير القرطبي)) (19/112). قال ابن عطيَّة: (وهذا يقينٌ فيما لم يَقَعْ بَعْدُ؛ ولذلك استُعمِلَت فيه لفظةُ الظَّنِّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/406). وقال ابن عاشور: (الظَّنُّ: العِلمُ المقارِبُ لليَقينِ، وضميرُ أَنَّهُ ضميرُ شأنٍ، أي: وأيْقَنَ أنَّه). ((تفسير ابن عاشور)) (29/359). .
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29).
أي: وتتابَعَتْ على المُحتَضَرِ الشَّدائِدُ [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/515، 522)، ((الوسيط)) للواحدي (4/395)، ((تفسير القرطبي)) (19/112)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900). قال الماوَرْدي: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فيه أربعةُ أوجُهٍ: أحدُها: اتِّصالُ الدُّنيا بالآخِرةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ، والبلاءُ بالبلاءِ، وهو شِدَّةُ كُرَبِ الموتِ، بشِدَّةِ هَولِ المَطلَعِ. قاله عِكْرِمةُ، ومجاهِدٌ. الثَّالثُ: التفَّت ساقاه عندَ الموتِ. وحكى ابنُ قُتَيْبةَ عن بعضِ المفسِّرينَ أنَّ التفافَ السَّاقِ بالسَّاقِ عندَ السِّياقِ. قال الحسَنُ: ماتت رِجْلاه فلم تَحمِلاه، وقد كان عليهما جَوَّالًا. الرَّابعُ: أنَّه اجتمَع أمْرانِ شديدانِ عليه: النَّاسُ يُجَهِّزونَ جَسَده، والملائِكةُ يُجَهِّزونَ رُوحَه. قاله ابنُ زَيدٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/158). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 501). وممَّن ذهب إلى أنَّ المعنى: شِدَّةُ الدُّنيا بشِدَّةِ الآخرةِ: السمعانيُّ، وابنُ الجوزي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/109)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 429)، ((تفسير العليمي)) (7/226). قال الخازن: (السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ، يعني: شِدَّةَ مُفارَقةِ الدُّنيا، مع شدَّةِ الموتِ وكربِه). ((تفسير الخازن)) (4/374). وقال ابن جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ عندي قولُ مَن قال: معنَى ذلك: والْتَفَّتْ ساقُ الدُّنيا بساقِ الآخرةِ، وذلك شِدَّةُ كربِ الموتِ بشِدَّةِ هولِ المَطْلَعِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/522). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يعني: التفَّ أمرُ الدُّنيا بالآخرةِ، فصار واحدًا كِلاهما). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/513). قال الواحديُّ: (قال المفسِّرونَ: تتابعَتْ عليه الشَّدائدُ). ((الوسيط)) (4/395). ونسَبَه الشَّوكانيُّ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/410). قال الواحديُّ أيضًا: (قال ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ عطاءٍ: يريدُ شدَّةَ الموتِ، بشِدَّةِ الآخرةِ. وهو قولُ الكلبيِّ، ومقاتلٍ، وقَتادةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والسُّدِّيِّ، قالوا: معناه: تتابعَتْ عليه الشَّدائدُ: شدَّةُ بُعْدِ مُفارَقةِ الوطنِ مِن الدُّنيا والأهلِ، وشدَّةُ القُدومِ على ربِّه، فالتقَتْ آخِرُ شِدَّةِ الدُّنيا، بأوَّلِ شدَّةِ الآخرةِ). ((البسيط)) (22/519، 520). وممَّن ذهَب إلى المعنى الثَّالثِ: أي: التفَّت ساقاه عندَ الموتِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والزمخشري، والنسفي، وابن جُزَي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/254)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1155)، ((تفسير الزمخشري)) (4/663)، ((تفسير النسفي)) (3/573)، ((تفسير ابن جزي)) (2/435)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 68)، ((تفسير الشوكاني)) (5/410)، ((تفسير القاسمي)) (9/369). قال القاسمي: (أي: الْتَوَت ساقُه بساقِه، فلا يَقدِرُ على تحريكِها). ((تفسير القاسمي)) (9/369). وقال ابن جُزَي: (هذا عبارةٌ عن شدَّةِ كُرَبِ الموتِ وسَكَراتِه، أي: التفَّتْ ساقُه على الأخرى عندَ السِّياقِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/435). وقيل: المرادُ: لَفُّ ساقَيِ الميِّتِ في كَفَنِه. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/359). قال ابن عاشور: (قولُه: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إن حُمِلَ على ظاهِرِه، فالمعنى: التِفافُ ساقَيِ المحتَضَرِ بعدَ موتِه؛ إذ تُلَفُّ الأكفانُ على ساقَيه، ويُقرَنُ بيْنَهما في ثوبِ الكَفَنِ، فكُلُّ ساقٍ منهما مُلتفَّةٌ صُحبةَ السَّاقِ الأخرى، فالتَّعريفُ عِوَضٌ عن المضافِ إليه، وهذا نهايةُ وصفِ الحالةِ الَّتي تهيَّأَ بها لمصيرِه إلى القَبرِ الَّذي هو أوَّلُ مَراحِلِ الآخرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/359). !
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا صَوَّر وَقتَ تأسُّفِه على الدُّنيا وإعراضِه عنها؛ ذكَرَ غايةَ ذلك [177] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/110). ، فقال:
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30).
أي: إلى رَبِّك يَومَئذٍ المرجعُ [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/522)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1156)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/110، 111). قال ابن كثير: (وذلك أنَّ الرُّوحَ تُرفَعُ إلى السَّمَواتِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: رُدُّوا عبدي إلى الأرضِ؛ فإنِّي منها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أُخرى). ((تفسير ابن كثير)) (8/282). قيل: ضميرُ المخاطَبِ في قَولِه تعالى: إِلَى رَبِّكَ عائدٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/522)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/110). وقولُه: يَوْمَئِذٍ أي: يومَ التِفافِ السَّاقِ بالسَّاقِ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/522). وقال البقاعي: (يَوْمَئِذٍ أي: إذ وقَع هذا الأمرُ). ((نظم الدرر)) (21/110). وقال مكِّي: (أي: إلى ربِّك مَساقُه إذا اشتدَّ كربُه، وحَشرَجَتْ نفْسُه). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (12/7893). وقيل: يَوْمَئِذٍ أي: يومَ القيامةِ. وممَّن اختاره: الرَّسْعَني، والقرطبيُّ، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/394)، ((تفسير القرطبي)) (19/113)، ((تفسير الخازن)) (4/374)، ((تفسير الشوكاني)) (5/410). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 61، 62].
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6].
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كَأنَّ وُجوهَهُمُ الشَّمْسُ، معَهُم كَفَنٌ مِن أَكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنوطٌ [179] الحَنوطُ: ما يُخلَطُ مِن الطِّيبِ لأكفانِ الموتى وأجسادِهم. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1176). مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجْلِسوا منه مَدَّ البَصَرِ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ عليه السَّلامُ، حتَّى يَجلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبةُ، اخْرُجي إلى مَغْفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذلك الكَفَنِ، وفي ذلك الحَنُوطِ، ويَخرُجُ منها كأَطْيَبِ نَفْحةِ [180] النَّفحةُ: المرَّةُ مِن نَفحِ الطِّيبِ، أي: رائحَتِه. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/325). مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحْسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسَمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشَيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماءِ السَّابِعةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ [181] عِلِّيِّينَ: هو دِيوانُ المُقَرَّبينَ. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/326). ، وأَعِيدُوه إلى الأرضِ؛ فإنِّي منها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخْرِجُهم تارةً أُخرى...
وإنَّ العَبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ [182] المُسوحُ: جمعُ الْمِسحِ: وهو اللِّباسُ الخَشِنُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1179). ، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجلِسَ عِندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفُّودُ [183] السَّفُّودُ: الحديدةُ الَّتي يُشوى بها اللَّحمُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/489). مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُجُ منها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فَلا يَمُرُّون بها على مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فلانٍ؛ بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] . فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفْلى، فتُطْرَحُ رُوحُه طَرحًا. ثمَّ قرَأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] ...))
[184] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (12059)، وأحمدُ (18534)، والطيالسيُّ (789)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ مُتقارِبةٍ. صحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (1/300)، وقال ابنُ مَنْدَه في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه مُتَّصِلٌ مَشهورٌ ثابِتٌ على رَسمِ الجَماعةِ). وصَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (3558). .
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31).
أي: فلم يُصَدِّقْ بما وجب عليه التَّصديقُ به، ولا صلَّى ما أُمِرَ بأدائِه مِنَ الصَّلَواتِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/522)، ((تفسير القرطبي)) (19/113)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/361). قال الزمخشري: (فلا صَدَّق بالرَّسولِ والقُرآنِ، ولا صَلَّى. ويجوزُ أن يرادَ: فلا صَدَّق مالَه، بمعنى: فلا زكَّاه). ((تفسير الزمخشري)) (4/664). وقال البِقاعي: (فَلَا صَدَّقَ أي: هذا الإنسانُ الَّذي الكلامُ فيه: الرَّسولَ فيما أخبَرَه بما كان يعمَلُ مِن الأعمالِ الخبيثةِ، ولا إيمانَه بالإنفاقِ في وُجوهِ الخَيرِ الَّتي نُدِبَ إليها واجِبةً كانت أو مَسنونةً، وحُذِفَ المفعولُ؛ لأنَّه أبلَغُ في التَّعميمِ). ((نظم الدرر)) (21/111). وقال الخطابي: (قد يُوضَعُ «لا» بمعنى «لم»، كقولِه تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، أي: لم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ). ((معالم السنن)) (2/129). .
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفى عنه أفعالَ الخَيرِ؛ أثبَتَ له أفعالَ الشَّرِّ، فقال [186] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/111). :
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32).
أي: ولكِنْ كذَّبَ بالحَقِّ فلم يُؤمِنْ به، وأعرَضَ عنه فلم يَعمَلْ به [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/522)، ((تفسير القرطبي)) (19/114)، ((تفسير ابن كثير)) (8/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900). .
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33).
أي: ثمَّ مَضَى إلى أهلِه مُتبَختِرًا مُعْجَبًا بنَفْسِه، غيرَ مُبالٍ بكُفْرِه ومَعاصيه [188] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 501)، ((تفسير ابن جرير)) (23/523)، ((تفسير القرطبي)) (19/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/362). قال ابنُ عطية: (قال جمهورُ المتأوِّلينَ: هذه الآيةُ كُلُّها إنَّما نزلت في أبي جَهلِ بنِ هِشامٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/406). وقال ابن عاشور: (المرادُ: كُلُّ إنسانٍ كافرٍ، كما يَقتضيه أوَّلُ الكلامِ مِن قَولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ إلى قَولِه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: 3 - 14] ، وما أبو جَهلٍ إلَّا مِن أوَّلِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/364). .
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34).
أي: قال اللهُ تعالى مُتوَعِّدًا ومُهَدِّدًا هذا الكافِرَ: وَلِيَك الهَلاكُ، وقَرُبَ منك المكروهُ [189] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 292)، ((تفسير ابن جرير)) (23/524)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/254)، ((الوسيط)) للواحدي (4/396)، ((تفسير القرطبي)) (19/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/363). قال ابنُ عطيَّة: (المعنى: أَولى لك الازدِجارُ والانتهاءُ، وهو مأخوذٌ مِن «وَلِيَ»، والعرَبُ تَستَعمِلُ هذه الكَلِمةَ زَجرًا، ومنه قَولُه تعالى: فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ [محمد: 20، 21]). ((تفسير ابن عطية)) (5/407). وقال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: (قولُه تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى كَلِمةُ تهديدٍ وتخويفٍ يُخاطَبُ بها مَن أشرَفَ على هلاكٍ، فيُحَثُّ بها على التَّحَرُّزِ، أو يُخاطَبُ بها مَن نجا ذليلًا منه، فيُنهى عن مِثْلِه ثانيًا، وأكثَرُ ما يُستَعمَلُ مُكَرَّرًا، وكأنَّه حَثٌّ على تأمُّلِ ما يَؤُولُ إليه أمرُه؛ ليتنَبَّهَ للتَّحَرُّزِ منه). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 100). وقال ابنُ كثير: (هذا تهديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ منه تعالى للكافِرِ به المتبختِرِ في مِشْيَتِه، أي: يحِقُّ لك أن تَمشِيَ هكذا وقد كفَرْتَ بخالِقِك وبارئِك! كما يُقالُ في مِثْلِ هذا على سبيلِ التَّهَكُّمِ والتَّهديدِ، كقَولِه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49]). ((تفسير ابن كثير)) (8/282، 283). !
ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35).
أي: ثمَّ وَلِيَكَ الهلاكُ، وقَرُبَ منك المكروهُ [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/524)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/254)، ((الوسيط)) للواحدي (4/396)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/364). قال البِقاعي: (فَأَوْلَى أي: ابتلاكَ اللهُ بداهيةٍ عَقِبَ داهيةٍ، وأبلَغ ذلك التَّأكيدَ إشارةً إلى أنَّه يَستَحِقُّه على مَدى الأعصارِ، فقال مُشيرًا بأداةِ التَّراخي إلى عَظيمِ ما ارتكب وقُوَّةِ استِحقاقِه لهذا التأكيدِ: ثُمَّ أَوْلَى لَكَ أي: أيُّها الَّذي قد أحَلَّ نَفْسَه بالغَفلةِ دونَ مَحَلِّ البَهائِمِ فَأَوْلَى أي: وصَلْتَ إلى هذا الهلاكِ بداهيةٍ تَعقُبُها تارةً متواليًا، وتارةً مُتراخِيًا، وبَعضُها أعظَمُ مِن بعضٍ، لَحِقَكَ ذلك لا محالةَ؛ فإنَّ هذا دعاءٌ مِمَّن بيَدِه الأمرُ كُلُّه!). ((نظم الدرر)) (21/113). !

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: يتبختَرُ، وفيه ذمُّ هذه المِشْيةِ [191] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 278). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ تضَمَّنَت هذه الآيةُ وَصْفَ الرُّوحِ بأنَّها جِسمٌ يَنتَقِلُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ فتُجْمَعُ مِن تَفاريقِ البَدَنِ حتَّى تَبلُغَ التَّراقيَ [192] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 153). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ لعَلَّه إنَّما سُمِّيَ اليقينُ هاهنا بالظَّنِّ؛ لأنَّ الإنسانَ ما دام يبقى رُوحُه مُتعَلِّقًا ببَدَنِه فإنَّه يَطمَعُ في الحياةِ؛ لشِدَّةِ حُبِّه لهذه الحياةِ العاجلةِ، على ما قال: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [القيامة:20] ، ولا ينقَطِعُ رَجاؤُه عنها، فلا يَحصُلُ له يقينُ الموتِ، بل الظَّنُّ الغالِبُ مع رجاءِ الحياةِ.
وفيه وَجهٌ آخَرُ: لعَلَّه سَمَّاه بالظَّنِّ على سَبيلِ التَّهَكُّمِ [193] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/735). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ يدُلُّ على أنَّ الرُّوحَ قائِمةٌ بنَفْسِها باقيةٌ بعدَ موتِ البَدَنِ؛ لأنَّه تعالى سَمَّى الموتَ فِراقًا، والفِراقُ إنَّما يكونُ لو كانت الرُّوحُ باقيةً؛ فإنَّ الفِراقَ والوِصالَ صِفةٌ، والصِّفةُ تَستدعي وُجودَ الموصوفِ [194] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/735). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى يدُلُّ على أنَّ الكافِرَ يَستَحِقُّ الذَّمَّ والعِقابَ بتَرْكِ الصَّلاةِ، كما يَستَحِقُّهما بتَرْكِ الإيمانِ [195] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/736). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى يُؤَيِّدُ أنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ كُفْرٌ؛ إذْ قَرَنَه جلَّ جلالُه مع تكذيبِ الرُّسُلِ وتَرْكِ تصديقِهم [196] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/455). مذهبُ الحنابلةِ أنَّ تاركَ الصَّلاةِ بالكلِّيَّةِ يكفُرُ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّةَ، وابنِ القيِّمِ، وابنِ عُثيمينَ. يُنظر: ((الإنصاف)) للمَرْداوي (1/285)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (1/229)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (2/24)، ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 64)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/51). .
6- استُدِلَّ بقولِه سبحانَه: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ... إلخ على أنَّ الكفَّارَ مُخاطَبونَ بالفروعِ [197] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/165). .
7- قال الله تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وكلُّ مَن لم يُصَدِّقْ لم يُصَلِّ؛ ففيه أنَّه قد يُنْفَى الشَّيءُ الَّذي نَفْيُه يَستَلزِمُ نفْيَ غيرِه، لكنْ تُذْكَرُ تلك اللَّوازمُ على سبيلِ التَّصريحِ؛ للفَرقِ بيْن دَلالةِ اللَّوازمِ ودَلالةِ المُطابَقةِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة: 42] ، وأنَّ كلَّ مَن لَبَّسَ بالباطلِ فلا بُدَّ أنْ يَكْتُمَ بعضَ الحقِّ، وهذا ليس مِن بابِ النَّهي عنِ المجموعِ المقتَضي لجوازِ أحَدِهما، ولا مِن بابِ النَّهيِ عن فِعلَينِ مُتباينَينِ حتَّى لا يُعادَ فيه حرفُ النَّفيِ، بل هو مِن بابِ النَّهيِ عنِ المُتلازِماتِ، كما يُقالُ: لا تَكفُرْ وتُكَذِّبْ بالرَّسولِ، ولا تُجادِلْ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كتابٍ مُنيرٍ [198] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/266). !

بلاغة الآيات :

قولُه تعالَى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
- قولُه: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ردْعٌ ثانٍ على قَولِ الإنسانِ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 6] ، وهو مُؤكِّدٌ للرَّدعِ الَّذي قبْلَه في قولِه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [القيامة: 20] ، ومعْناهُ زجْرٌ عن إحالةِ البَعثِ؛ فإنَّه واقعٌ غيرُ بَعيدٍ؛ فكلُّ أحَدٍ يُشاهِدُه حينَ الاحتِضارِ للموتِ، كما يُؤذِنُ به قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 30] ، وأُتبِعَ تَوصيفُ أشراطِ القِيامةِ المباشِرةِ لحُلولِه بتَوصيفِ أشْراطِ حُلولِ التَّهيُّؤِ الأوَّلِ لِلقائِه مِن مُفارَقةِ الحياةِ الأُولى [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/356). . أو هو ردْعٌ عن إيثارِ الدُّنيا على الآخِرةِ، كأنَّه قِيل: ارتَدِعوا وتَنبَّهوا على ما بيْنَ أيْدِيكم مِن الموتِ الَّذي عندَه تَنقطِعُ العاجِلةُ، وتَنتَقِلون إلى الآجِلةِ، فيكونُ ردْعًا على مَحبَّةِ العاجِلةِ، وترْكِ العِنايةِ بالآخِرةِ، فليس مُؤكِّدًا للرَّدعِ الَّذي في قولِه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [القيامة: 20] ، بل هو ردْعٌ على ما تَضمَّنَه ذلك الرَّدعُ مِن إيثارِ العاجلةِ على الآخِرةِ [200] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/663)، ((تفسير البيضاوي)) (5/267)، ((تفسير أبي حيان)) (10/351)، ((تفسير أبي السعود)) (9/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/357)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/305). .
- وجَوابُ (إذا) مَحذوفٌ، تَقديرُه: وجَدَ ما عَمِلَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ [201] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/352). .
- وضَميرُ بَلَغَتِ راجعٌ إلى غيرِ مَذكورٍ في الكلامِ، ولكنَّه مَعلومٌ مِن فِعلِ (بَلَغَت)، ومِن ذِكرِ التَّراقي؛ فإنَّ فِعلَ بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ يدُلُّ أنَّها رُوحُ الإنسانِ، والتَّقديرُ: إذا بَلَغَت الرُّوحُ أو النَّفْسُ [202] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/663)، ((تفسير البيضاوي)) (5/267)، ((تفسير أبي حيان)) (10/351)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/357)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/305). .
- والتَّراقي: جمْعُ تَرْقُوةٍ، وهي ثُغرةُ النَّحرِ، ولكلِّ إنسانٍ تَرقوتانِ عن يَمينِه وعن شِمالِه؛ فالجمْعُ هنا مُستعمَلٌ في التَّثنيةِ لقَصْدِ تَخفيفِ اللَّفظِ، وقد أُمِنَ اللَّبْسُ؛ لأنَّ في تَثنيةِ «تَرْقوةٍ» شَيئًا مِن الثِّقَلِ لا يُناسِبُ أفصَحَ كَلامٍ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/358). .
- قيل: اللَّامُ في التَّرَاقِيَ -مِثلُ اللَّامِ في الْمَسَاقُ-: عِوَضٌ عن المضافِ إليه، أي: بَلَغَت رُوحُه تَراقِيَه [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/358). .
- قولُه: وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قيل: هو استِفهامُ إبعادٍ وإنكارٍ، أي: قد بَلَغَ مَبلَغًا لا أحدَ يَرْقِيه، كما يقولُ القائلُ عندَ اليأسِ: مَن ذا الَّذي يَقدِرُ أنْ يَرقِيَ هذا المُشرِفَ على الموتِ [205] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/734)، ((تفسير أبي حيان)) (10/351). ؟!
- قولُه: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ يَجوزُ أنْ يكونَ ذلك تَمثيلًا؛ فإنَّ العرَبَ يَستعمِلون السَّاقَ مثَلًا في الشِّدَّةِ وجِدِّ الأمرِ تَمْثيلًا بساقِ السَّاعي أو النَّاهضِ لعمَلٍ عَظيمٍ، يَقولون: قامتِ الحربُ على ساقٍ [206] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/663، 664)، ((تفسير أبي حيان)) (10/352)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/359)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/307). .
- قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ بَيانٌ للرَّدعِ، وتَقريبٌ لإبطالِ الاستبعادِ المحْكيِّ عن مُنكِري البَعثِ بقولِه: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/357). [القيامة: 6] .
- وتَقديمُ إِلَى رَبِّكَ على مُتعلَّقِه -وهو الْمَسَاقُ- للاهتِمامِ به؛ لأنَّه مَناطُ الإنكارِ منهم [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/357). .
- والتَّنوينُ في قولِه: يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عن جُمَلٍ أربعٍ؛ هي: بلَغَت الرُّوحُ التَّراقيَ، وقِيل مَن راقٍ، وظنَّ أنَّه الفِراقُ، والتفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ [209] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/306). .
- والخِطابُ في قولِه: إِلَى رَبِّكَ الْتفاتٌ عن طَريقِ خِطابِ الجَماعةِ في قولِه: بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [القيامة: 20] ؛ لأنَّه لَمَّا كان خِطابًا لغيرِ مُعيَّنٍ حَسُنَ التَّفنُّنُ فيه [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/360). .
- والتَّعريفُ في الْمَسَاقُ تَعريفُ الجِنسِ الَّذي يعُمُّ النَّاسَ كلَّهم، بما فيهم الإنسانُ الكافرُ المردودُ عليه. ويجوزُ التَّعبيرُ عن اللَّامِ بأنَّها عِوَضٌ عن المضافِ إليه، أي: مَساقُ الإنسانِ الَّذي يَسأَلُ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/360). [القيامة: 6] .
- وسُلِكَ في الجُمَلِ الَّتي بعْدَ إِذَا مَسلَكُ الإطنابِ؛ لتَهويلِ حالةِ الاحتِضارِ على الكافِرِ، وفي ذلك إيماءٌ إلى أنَّ الكافرَ يَتراءَى له مَصيرُه في حالةِ احتِضارِه [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/360). .
- قوله عزَّ وجلَّ: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى قيل: عُطِفَ على قولِه: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، تَعجُّبًا مِن حالِ الإنسانِ، يعْني: سأَلَ أيَّانَ يومُ القِيامةِ، فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أي: يَسأَلُ وما استَعدَّ له إلَّا ما يُوجِبُ دَمارَه وهَلاكَه. وأمَّا قولُه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ فجَوابٌ عن السُّؤالِ، وقولُه: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ يَخْلصُ إلى ما استُطْرِدَ مِن أحوالِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أُقحِمَ الجوابُ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ لشِدَّةِ الاهتمامِ [213] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/175). .
وقيل: قولُه: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى تَفريعٌ على قولِه: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 6] ، فالضَّميرُ عائدٌ إلى الإنسانِ في قولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] ، أي: لجَهْلِه البَعثَ لم يَستعِدَّ له. ويَجوزُ أنْ يكونَ الفاءُ تَفريعًا وعطْفًا على قولِه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 30] ، أي: فقدْ فارَقَ الحياةَ وسِيقَ إلى لِقاءِ اللهِ خاليًا مِن العُدَّةِ لذلك اللِّقاءِ. وفي الكَلامِ على كِلا الوَجهينِ حَذْفٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، تَقديرُه: فقدْ عَلِمَ أنَّه قد خسِرَ وتَندَّمَ على ما أضاعَهُ مِن الاستِعدادِ لذلك اليومِ [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/360، 361). .
- وعُطِفَ وَلَا صَلَّى على نفْسِ التَّصديقِ؛ تَشويهًا له بأنَّ حالَه مُباينٌ لأحوالِ أهْلِ الإسلامِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/361). .
- وحُذِفَ مَفعولُ كَذَّبَ لِيَشملَ كلَّ ما كذَّبَ به المشرِكون، والتَّقديرُ: كذَّبَ الرَّسولَ والقرآنَ وبالبعثِ، وتولَّى عن الاستجابةِ لشَرائعِ الإسلامِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/361). .
- وأفادتْ جُملةُ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى مَعنيَينِ؛ أحدُهما: تَوكيدُ قولِه: فَلَا صَدَّقَ بقولِه: كَذَّبَ. وثانيهِما: زِيادةُ بَيانِ معْنى فَلَا صَدَّقَ بأنَّه تولَّى عمْدًا؛ لأنَّ عدَمَ التَّصديقِ له أحوالٌ [217] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/353)، ((تفسير أبي السعود)) (9/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/362). .
- و(ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى حرْفُ عطْفٍ للتَّرتيبِ مع التَّراخي، والسِّرُّ الاستِبعادُ؛ لأنَّ مَن صدَرَ عنه مِثلُ ذلك يَنْبغي أنْ يَخافَ مِن حُلولِ غضَبِ اللهِ، ولكنَّ هذا يَمْشي مُتبختِرًا مُتعجْرِفًا، يُطاوِلُ أعنانَ السَّماءِ، وهو أهوَنُ قدْرًا، وأخسُّ مكانًا [218] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/285)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/306). !
- قولُه: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى كَلمةُ توعُّدٍ تَجْري مَجرى المثَلِ في لُزومِ هذا اللَّفظِ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/363). .
- والكافُ في قولِه: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى خِطابٌ للإنسانِ المصرَّحِ به غيرَ مرَّةٍ في الآياتِ السَّابقةِ بطَريقِ الغَيبةِ إظهارًا وإضمارًا، وعُدِلَ هنا عن الغَيبةِ إلى الخِطابِ على طَريقةِ الالْتفاتِ؛ لمُواجَهةِ الإنسانِ بالدُّعاءِ؛ لأنَّ المُواجَهةَ أوقَعُ في التَّوبيخِ، وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: أَولى له [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/363). .
- وجِيءَ بفاءِ التَّعقيبِ في قولِه: فَأَوْلَى؛ للدَّلالةِ على أنَّه يُدْعى عليه بأنْ يَعقُبَه المكروهُ، ويعقبَ بدُعاءٍ آخَرَ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/363). .
- وكرَّر أَوْلَى بقولِه: ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى مُبالَغةً في التَّهديدِ والوعيدِ، فهو تَهديدٌ بعْدَ تَهديدٍ، ووَعيدٌ بعْدَ وَعيدٍ، أي: فهو وعيدُ أربعةٍ لأربعةٍ... فتَرْكُ التَّصديقِ: خَصْلةٌ، والتَّكذيبُ: خَصلةٌ، وتَرْكُ الصَّلاةِ: خَصْلةٌ، والتَّوَلِّي عن اللهِ تعالى: خَصلةٌ؛ فجاء الوعيدُ أربعةً مُقابَلةً لتَركِ الخِصالِ الأربَعةِ [222] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/114)، ((تفسير أبي حيان)) (10/353)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 590)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/306). . وأيضًا التَّكريرُ تَأكيدٌ للدُّعاءِ عليه أَوْلَى لَكَ، ولتَأكيدِه السَّابقِ فَأَوْلَى [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/364). . وقيل: بلْ كرَّرَها أربعَ مرَّاتٍ؛ فإنَّ قولَه أَوْلَى تامٌّ في الذَّمِّ، وإنَّما كرَّرَها؛ لأنَّ المعْنى: أَولى لك الموتُ، فأَولى لك العذابُ في القبْرِ، ثمَّ أَولى لك أهوالُ القيامةِ، وأَولى لك عَذابُ النَّارِ [224] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1314)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 243، 244)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/495، 496)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/422)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 590). ، أو هو وعيدٌ ودُعاءٌ، يعني: قَرُبَ منك ما يُهْلِكُ قُرْبًا بعدَ قُرْبٍ، كما تقولُ: غَفَرَ اللهُ لك ثُمَّ غَفَرَ اللهُ لك، أي: غَفَرَ لك مَغفِرةً بعدَ مغفرةٍ، فليس هذا بتَكرارٍ مَحْضٍ، ولا مِن بابِ التَّأكيدِ اللَّفظيِّ، بل هو تَعَدُّدُ الطَّلبِ لتعدُّدِ المطلوبِ، ونظيرُه: اضرِبْه ثُمَّ اضرِبْه [225] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (8/356). .
- وجِيءَ بحرْفِ (ثُمَّ) لعطْفِ الجُملةِ دَلالةً على أنَّ هذا التَّأكيدَ ارتقاءٌ في الوعيدِ، وتَهديدٌ بأشدَّ ممَّا أفادَه التَّهديدُ الأوَّلُ وتَأكيدُه، والمرادُ: تَهديدُ كلِّ إنسانٍ كافرٍ، كما يَقتضيهِ أوَّلُ الكلامِ مِن قولهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] إلى قولِه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/364). [القيامة: 14] .