موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (40-41)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

يَلِجَ: أيْ: يَدخُلَ، والوُلُوجُ: الدُّخولُ في مَضِيقٍ، وأَصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيْءٍ .
سَمِّ الْخِيَاطِ: أيْ: ثَقْبِ الإِبْرَةِ، والسَّمُّ والسُّمُّ: كلُّ ثَقْبٍ ضيِّقٍ كخَرْقِ الإبرَةِ، وأصلُه يدلُّ على مَدْخَلٍ في الشَّيءِ، والخِياطُ: الإبرةُ التي يُخاطُ بها .
مِهَادٌ: أيْ: فِراشٌ وقَرارٌ، والمَهْدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، وأصلُ المِهَادِ: المكانُ المُمهَّدُ المُوطَّأُ .
غَوَاشٍ: أي: ما يَغشاهُم مِنَ النَّارِ، وهي لُحُفٌ تَغْشاهم وتُحيطُ بهِم مِنْ فوقِهم، أوْ ما يُغطِّيهِم مِن أنواعِ العَذابِ، وغَواشٍ جمعُ غاشِيَةٍ، وهي الغِطاءُ، وأصلُ (غشي): يَدُلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بشَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تَعالى أنَّ المُكذِّبينَ بآياتِه، والَّذِينَ استَكْبَروا عَنْها لا يَصْعَدُ عمَلُهُم إلى اللهِ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنزَّلُ عَلَيهِم بَرَكاتٌ ولا رَحَماتٌ، وإذا مَاتُوا لا تُفَتَّحُ لأَرْواحِهِم أبوابُ السَّماءِ، ولا يَدْخُلونَ الجَنَّةَ أبَدًا، كَما أنَّ الجمَلَ لا يَدْخُلُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ، وبمِثْلِ هذا العِقابِ يُعاقِبُ اللهُ مَن أجْرَمَ؛ لَهُم مِنَ النَّارِ فِراشٌ تَحتَهُم، ومِن فَوقِهِم غِطاءٌ مِنَ النَّارِ يَغْشاهُم، وكَذَلِك يَجْزي اللهُ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
أي: إنَّ الَّذينَ كَذَّبوا بآياتِيَ الَّتي جاءَتْ بها رُسُلي، وأَعْرَضوا عَنِ التَّصْديقِ بأَخْبارِها، والعَمَلِ بأَحْكامِها لا يَصْعَدُ لَهم في حَيَاتِهِم إلى اللهِ قولٌ ولا عَملٌ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنَزَّلُ إليهم برَكاتٌ ورَحَماتٌ، ولا تُفتَّحُ لأَرْواحِهم إذا مَاتوا أَبْوابُ السَّماءِ .
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اللهُ عنه، قال: ((خَرَجْنا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، في جِنَازةِ رَجُلٍ مِن الأَنْصارِ، فانتَهَيْنا إلى القَبْرِ ولَمَّا يُلْحَدْ ، فجَلَسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، وجَلَسْنا حَوْلَه، كأَنَّ عَلى رُؤوسِنا الطَّيْرَ، وفي يَدِه عُودٌ يَنْكُتُ في الأرضِ ، فرَفَع رَأْسَه، فقال: اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذابِ القَبْرِ. مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا.
ثمَّ قالَ: إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كَأنَّ وُجوهَهُمُ الشَّمْسُ، معَهُم كَفَنٌ مِن أَكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٍ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجْلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوْتِ علَيه السَّلامُ، حتَّى يَجْلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقُولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجي إِلى مَغْفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ، وفي ذَلِك الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كأَطْيبِ نَفْحةِ مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الأَرْضِ. فيَصْعَدونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ، إلَّا قَالُوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقُولُونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحْسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إِلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماء السَّابِعَةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ ، وأَعيدُوه إلى الأَرْضِ؛ فإنِّي مِنها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومِنْها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى.
فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، فيَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن رَبُّك؟ فيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فيَقولانِ له: ما دِينُك؟ فيَقولُ: دِينيَ الإسلامُ، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِث فيكُم؟ فيَقُولُ: هو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، فيَقولانِ له: وما عِلْمُك؟ فيَقولُ: قرَأتُ كِتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به وصَدَّقتُ، فيُنادي مُنادٍ في السَّماءِ: أنْ صَدَق عَبْدي، فأفْرِشوه مِنَ الجنَّةِ، وألبِسُوه مِن الجَنَّةِ، وافْتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ. فيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وطِيبِها، ويُفْسَحُ له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه. ويَأْتيه رجُلٌ حسَنُ الوَجهِ، حَسنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسُرُّك؛ هذا يَومُك الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ له: مَن أنتَ؛ فوَجهُك الوَجهُ يَجيءُ بالخَيرِ؟ فيَقولُ: أَنا عمَلُكَ الصَّالحُ، فيَقولُ: رَبِّ أقِمِ السَّاعةَ حتَّى أرجِعَ إلى أَهْلي ومالي.
وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ ، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجْلِسَ عِندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كَما يُنتزع السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لَم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُج مِنها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فَلا يَمُرُّون بها على مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فلانٍ؛ بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأَرضِ السُّفْلى، فتُطْرَحُ روحُه طَرحًا. ثمَّ قرَأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31].
فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، ويَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن ربُّك؟ فيَقولُ: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما دينُك؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أنْ كَذَب، فافْرُشوا له مِنَ النَّارِ، وافْتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيَأتيهِ مِنْ حَرِّها، وسَمُومِها، ويُضيَّقُ عليه قَبرُه حتَّى تَختَلِفَ فيه أَضلاعُه، ويَأتيه رجلٌ قَبيحُ الوَجْهِ، قبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسوؤُك! هذا يَومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: مَن أنتَ؛ فوَجْهُك الوَجهُ يَجيءُ بالشَّرِّ، فيَقولُ: أنا عمَلُك الخَبيثُ، فيَقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ ))
.
وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ
أيْ: ولا يَدْخُلُ هَؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بِآياتِنا واستَكْبَروا عَنْها الجَنَّةَ أبَدًا، كَما لا يَدخُلُ البَعيرُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ
كَما قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] .
وقال سُبْحانَه: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 50-51] .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ
أيْ: ومِثْلَ هذا العِقابِ الَّذي وَصَفْنا- مِن عدَمِ تَفَتُّحِ أَبْوابِ السَّماءِ للأَرْواحِ والأَعْمالِ وغَيرِ ذَلك، والحِرْمانِ مِن دُخولِ الجَنَّةِ- نُعاقِبُ الَّذين كَفَروا، فكَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عَنِ الإِيمانِ بِها .
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ
أي: لِهؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عنها فِراشٌ مِنَ النَّارِ مِن تَحْتِهم، ومِن فَوقِهم غِطاءٌ مِن النَّارِ يَغْشاهُم، وتُحيطُ بهِمُ النَّارُ مِن كلِّ جَوانبِهِم .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
أيْ: ومِثْلَ هذا الَّذي وصَفْنا مِنَ العَذابِ نُعاقِبُ مَن ظَلَمَ نفْسَه، فجَلَب سخَطَ اللهِ عَلَيها بالكُفْر به، ووضَعَ العِبادَةَ في غيرِ مَوضِعِها باتِّخاذِ شَريكٍ مَعَ اللهِ فيها .

الفوائد التربوية:

قال تَعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، الاستِكْبارُ هو طلَبُ التَّرفُّعِ بالباطِلِ، وهذا اللَّفْظُ في حَقِّ البشَرِ يَدُلُّ عَلى الذَّمِّ؛ قال تَعالى في صِفَةِ فِرْعونَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [القصص: 39] .
يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فكما أنَّهم كذَّبوا بآياتِ اللهِ، فلم يُؤمِنوا بها- مع أنَّها آياتٌ بَيِّناتٌ- واستكَبَروا عنها فلم يَنقادُوا لأحكامِها، بل كذَّبوا وتَوَلَّوا- فهم حينئذٍ آيِسونَ مِن كُلِّ خَيرٍ، فلا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لأرواحِهم إذا ماتوا وصَعِدَت تُريدُ العُروجَ إلى الله، كما لم تصعَدْ في الدُّنيا إلى الإيمانِ باللهِ ومَعرِفَتِه ومَحَبَّتِه؛ فكذلك لا تصعَدُ بعدَ الموتِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَوْلُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ يَدُلُّ على أنَّ الأَرْواحَ إنَّما تَكونُ سَعيدةً إمَّا بأن يُنَزَّلَ عَليها مِن السَّماءِ أنواعُ الخَيْراتِ، وإمَّا بأَنْ تَصعد أعمالُ تِلك الأَرْواحِ إلى السَّمَواتِ؛ وذَلك يَدُلُّ على أنَّ السَّمواتِ مَوْضعُ بَهجةِ الأَرْواحِ، وأماكِنُ سَعاداتِها، ومنها تُنزَّلُ الخَيراتُ والبَرَكاتُ، وإليها تَصْعَدُ الأَرْواحُ حالَ فَوزِها بكَمَالِ السَّعاداتِ؛ ولَمَّا كان الأَمْرُ كذَلِك كان قولُه: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِن أعظَمِ أنواعِ الوَعيدِ والتَّهْديدِ .
في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دلالةٌ على أنَّ المؤمنينَ تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ؛ يعني: لأرواحِهم عند المَوتِ ، فمفهومُ الآيةِ أنَّ أرواحَ المؤمنينَ المُنقادينَ لأمرِ اللهِ، المُصَدِّقينَ بآياته، تُفَتَّحُ لها أبوابُ السَّماءِ حتى تعرُجَ إلى اللهِ، وتَصِلَ إلى حيثُ أراد اللهُ مِنَ العالَمِ العُلويِّ، وتبتهِجَ بالقُربِ مِن رَبِّها والحُظوةِ برِضوانِه .
في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مناسبةٌ في أنَّ أبوابَ السَّماءِ لَمَّا لم تُفتَحْ لأعمالِهم بل أُغلِقَت عنها؛ كذلك لم تُفتَحْ لأرواحِهم عند المُفارَقةِ وأُغلِقَت عنها، وكذلك أهلُ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ لَمَّا كانت أبوابُ السَّماءِ مفتوحةً لأعمالِهم، حتى وَصَلَت إلى اللهِ سُبحانه؛ فإنَّها فُتِحَت لأرواحِهم، حتى وصَلَتْ إليه تعالى، وقامَتْ بين يَدَيه؛ فرَحِمَها وأمرَ بكتابةِ اسْمِها في عِلِّيِّينَ .
قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وذَكَر (سَمَّ الخِيَاطِ)؛ لأَنَّه يُضرَبُ به المثَلُ في ضِيقِ المَسْلَكِ .
قولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فيهِ جَوازُ فَرْضِ المُحالِ، والتَّعْليقُ عَليه؛ كَما يقَعُ كَثيرًا للفُقَهاءِ .
قولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ، المرادُ مِن هذِه الآيَةِ الإِخْبارُ عَن إِحاطَةِ النَّارِ بهِم مِن كُلِّ جانِبٍ: فلَهُم مِنْها غِطاءٌ ووِطَاءٌ، وفِرَاشٌ ولِحافٌ .
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ؛ أفادَتِ الآيَتانِ أنَّ المُجْرِمينَ والظَّالِمينَ- الرَّاسِخِينَ في صِفَتَيِ الإِجْرامِ والظُّلمِ- هُمُ الكافِرونَ، وأنَّ المُؤْمِنينَ لا يَكُونُونَ كَذَلِك؛ كَما قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ، وهذا تَحْقيقُ القُرْآنِ والنَّاسُ في غَفْلةٍ عَنه؛ ولِذلِكَ خَالَفُوه في عُرْفِه .

بلاغة الآيتين:

قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ
قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ مَسوقٌ لتَحْقيقِ خُلودِ الفَريقَينِ في النَّارِ .
وقَد أكَّدَ الخبَرَ بقَولِه: إِنَّ لِتَأيِيسِهم مِن دُخولِ الجنَّةِ؛ لدَفْعِ تَوهُّمِ أن يَكونَ المُرادُ مِن الخُلودِ المُتقَدِّمِ ذِكرُه الكِنايَةَ عَن طُولِ مُدَّةِ البَقَاءِ في النَّارِ؛ فإنَّه ورَدَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ مُرادًا به هذا المعنى .
وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ... وقَعَ الإظهارُ في مَقامِ الإِضْمارِ، حيثُ لم يقُل: (إنَّهم لا تُفتَّح لهم..)؛ تَعميمًا، وتَعْليقًا للحُكمِ بالوَصْفِ؛ لِدَفعِ احْتِمالِ أن يَكونَ الضَّميرُ عائِدًا إلى إِحْدى الطَّائفتَينِ المُتَحاوِرَتَينِ في النَّارِ، واختِيرَ مِن طرُقِ الإِظْهارِ طَريقُ التَّعريفِ بالمَوصولِ؛ إيذَانًا بِما تُومِئُ إلَيْه الصِّلةُ مِن وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، أي: إنَّ ذلك لأجْلِ تكذيبِهم بآياتِ اللهِ واسْتِكبارِهم عنها .
وقولُه: لَا تُفَتَّحُ بضَمِّ التَّاءِ الأُولى، وفَتحِ الفاءِ والتَّاءِ الثَّانيةِ مُشدَّدةً، وهو مُبالَغةٌ في (فَتَحَ)؛ فيُفيدُ تَحقيقَ نَفْيِ الفَتحِ لَهم، أو أُشيرَ بتِلك المُبالَغةِ إلى أنَّ المنفيَّ فتحٌ مَخصوصٌ وهو الفَتحُ الَّذي يُفتَحُ للمُؤمِنينَ، وهو فتحٌ قويٌّ، فتَكونُ تلك الإشارةُ زيادةً في نِكايَتِهم .
قولُه: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، بعدَ أنْ حقَّقَ خُلودَهم في النَّارِ بتَأكيدِ الخَبرِ كُلِّه بحَرْفِ التَّوكيدِ؛ زِيدَ تَأكيدًا بطَريقِ تأكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه، المشتَهِرِ عِندَ أهْلِ البَيانِ بتَأكيدِ المَدْحِ بِما يُشبِهُ الذَّمَّ؛ إذْ هو نفيٌ مُغَيًّا بمُسْتَحيلٍ؛ وهو أن يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ؛ أي: لو كان لانتِفاءِ دُخولِهمُ الجنَّةَ غايةٌ لكَانَت غايَتُه وُلوجَ الجَملِ في سَمِّ الخِياطِ، وهو أمرٌ لا يَكونُ أبَدًا .
وخَصَّ (الجمَلَ) بالذِّكْر مِنْ بينِ سائرِ الحيَواناتِ؛ لأَنَّه أكبَرُ الحيَواناتِ جِسْمًا عِندَ العرَبِ، وثَقْبُ الإبرةِ أضيقُ المنافِذِ، فكان وُلوجُ الجَملِ في تلك الثُّقبة الضَّيقةِ مُحالًا .
قولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ تَذْييلٌ يُؤْذِنُ بأنَّ الإجرامَ هو الَّذي أوقَعَهم في ذلك الجزَاء .
قولُه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
قولُه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ فيه: كِنايةٌ عَنِ انتِفاءِ الرَّاحةِ لهم في جَهنَّمَ؛ فإنَّ المرءَ يحتاجُ إلى المِهادِ والغاشِيَةِ عندَ اضْطِجاعِه للرَّاحةِ، فإذا كان مِهادُهم وغاشِيتُهم النَّارَ فَقَدِ انْتَفَتْ راحَتُهم، وهَذا ذِكْرٌ لعذابِهِم السُّوءِ بعْدَ أنْ ذَكَرَ حِرْمانَهم مِنَ الخَيرِ .
وقولُه: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ صرَّحَ في هذا بالفَوقيَّةِ، بَينَما لم يُصرِّح بالتَّحتيةِ في المهادِ؛ لأنَّ المِهادَ كالصَّريحِ فيه، ولأنَّ (الغاشِيةَ) ربَّما كانَتْ عن يَمينٍ أَو شِمالٍ، أو كانَت بمعنَى مُجرَّدِ الوُصولِ والإِدْراكِ، ولَعلَّه حذَفَ الأوَّلَ؛ لأنَّ الآيةَ مِن الاحْتِباكِ: فذَكَر جَهنَّمَ أوَّلًا دَليلًا على إرادَتِها ثانيًا، وذكَرَ الفَوْقَ ثانيًا دَليلًا على إرادَةِ (التَّحْتِ) أوَّلًا .
قولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ وقولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عَبَّر عنهم بالمُجرِمينَ تارَةً وبالظَّالِمينَ أُخْرى؛ إِشْعارًا بأنَّهم بتكذيبِهم الآياتِ اتَّصَفوا بكلِّ واحدٍ مِن ذَينِكَ الوَصْفَينِ القَبيحَينِ، وذكَر الجُرْمَ مَعَ الحِرْمانِ مِن دُخولِ الجنَّةِ، والظُّلْمَ مَع التَّعذيبِ بالنَّارِ؛ لِلتَّنبيهِ عَلى أنَّه أَعظَمُ الجَرائمِ والجَرائرِ .