موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (7-15)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

بَرِقَ: أي: شَخَصَ فلا يَطرِفُ، وفَزِعَ وتحَيَّرَ؛ وبَرَقَ وبَرِقَ: يُقالُ في العَينِ إذا اضطَرَبَتْ وجالتْ مِن خَوفٍ، والإنسانُ إذا بَقِيَ كالمُتَحَيِّرِ قيل: بَرِقَ بَصَرُه بَرَقًا، وأصلُ (برق) هنا: يدُلُّ على لَمعانٍ في شَيءٍ .
وَخَسَفَ الْقَمَرُ: أي: ذهَب ضَوؤُه، وقيل: غاب القَمَرُ وذهب، قيل: خسَف وكسَف واحدٌ، وقيل: إذا ذَهَب بعضُه فهو الكُسوفُ، وإذا ذَهَب كلُّه فهو الخُسوفُ، وقيل: الخُسوفُ للقَمَرِ، والكُسوفُ للشَّمسِ، وأصل (خسف): يدُلُّ على غُموضٍ وغُؤورٍ .
وَزَرَ: أي: مَلْجَأَ، والوَزَرُ: الملجأُ الَّذي يُلتجَأُ إليه مِن الجَبَلِ ونحوِه، وأصلُ (وزر) هنا: يدُلُّ على مَلجَأٍ .
بَصِيرَةٌ: أي: شاهدٌ، وأصلُ (بصر) هنا: العِلمُ بالشَّيءِ .
مَعَاذِيرَهُ: أي: ما اعتَذر به، أو اعتذارَه، جمعُ مَعْذرةٍ، والعُذْرُ هو رَوْمُ الإنسانِ إصْلاحَ ما أُنْكِر عليه بكَلامٍ، أو: تحرِّيه ما يمحو به ذُنوبَه .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ الله تعالى أحوالَ القيامةِ، فيقولُ: فإذا لَمَع بَصَرُ الإنسانِ وشَخَصَ مَبهوتًا متحَيِّرًا فلم يَطرِفْ، وذَهَب ضَوءُ القَمَرِ وجُمِع بيْنَ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ يقولُ الإنسانُ يَومَئِذٍ: أين المَهرَبُ والخَلاصُ؟! كَلَّا لا مَلجَأَ مِنَ اللهِ! إلى ربِّك في ذلك الوَقتِ المرجِعُ والاستِقرارُ، يُخبَرُ الإنسانُ يَومَئذٍ بما قدَّمَه أو أخَّرَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، بل الإنسانُ شاهِدٌ على نَفْسِه فيما عَمِل، فلا تخفَى عليه أعمالُه، ولو اعتَذَر أو جادَل بالباطِلِ عن كُفْرِه أو مَعاصيه، فهو يَعلَمُ أنْ لا عُذرَ له!

تفسير الآيات:

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7).
أي: فإذا لَمَع بَصَرُ الإنسانِ وشَخَصَ مَبهوتًا متحَيِّرًا فلم يَطرِفْ !
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8).
أي: وإذا ذَهَب ضَوءُ القَمَرِ !
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9).
أي: وإذا جُمِع بيْنَ الشَّمسِ والقَمَرِ !
عن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشَّمْسُ والقَمَرُ مُكَوَّرانِ يومَ القِيامةِ)) .
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10).
أي: إذا بَرِقَ البَصَرُ وخَسَف القَمَرُ وجُمِعَ الشَّمسُ والقَمَرُ، يقولُ الإنسانُ: أين المَهرَبُ والخَلاصُ ؟!
كَلَّا لَا وَزَرَ (11).
أي: ليس ثَمَّةَ مكانٌ يَومَئذٍ تَلجَؤون إليه، وتَعتَصِمونَ به .
كما قال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] .
وقال سُبحانَه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى: 47] .
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12).
أي: إلى ربِّك في ذلك الوَقتِ المرجِعُ والاستقرارُ: إمَّا في الجنَّةِ، وإمَّا في النَّارِ .
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13).
أي: يُخبَرُ الإنسانُ يومَئذٍ بجَميعِ عَمَلِه الَّذي قدَّمَه أو أخَّرَه؛ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5].
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في الآيةِ الأولى أنَّ الإنسانَ يُخبَرُ يومَ القيامةِ بأعمالِه، ثمَّ ذَكَر في هذه الآيةِ أنَّه شاهِدٌ على نَفْسِه بما عَمِلَ .
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14).
أي: إنَّ الإنسانَ شاهِدٌ على نَفْسِه فيما عَمِلَ، فلا تَخفى عليه أعمالُه الَّتي استحَقَّ عليها العِقابَ .
كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15).
أي: ولو اعتَذَر أو جادَلَ بالباطِلِ عن كُفْرِه أو مَعاصيه، فهو يَعلَمُ أنْ لا عُذرَ له !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فيه سؤالٌ: طَعَنَت الملاحِدةُ في الآيةِ، وقالوا: خُسوفُ القَمَرِ لا يَحصُلُ حالَ اجتماعِ الشَّمسِ والقَمَرِ!
الجوابُ: اللهُ تعالى قادِرٌ على أن يجعَلَ القَمَرَ مُنخَسِفًا، سواءٌ كانت الأرضُ متوسِّطةً بيْنَه وبيْن الشَّمسِ، أو لم تكُنْ، واللهُ قادِرٌ على كلِّ الممكِناتِ، فوجَبَ أن يَقدِرَ على إزالةِ الضَّوءِ عن القَمَرِ في جميعِ الأحوالِ .
2- في قَولِه تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ردٌّ على مَن يَقولُ بالدَّهرِ، وقِدَمِ العالَمِ، ومَن يقولُ: إنَّ المعتادَ مِن مجاري اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ: لا يَتَغَيَّرُ! وقد أخْبَر اللهُ تعالى نصًّا -كما ترى- أنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ يُجْمَعُ بيْنَهما، وفي الجَمعِ بيْنَهما ذَهابُ المعتادِ مِن مَجاريهِما .
3- قال تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ جُمِع الشَّمسُ والقَمَرُ ولم يَجتَمِعا قبْلَ ذلك، بل يَجمَعُهما الَّذي يجمَعُ عِظامَ الإنسانِ بعدَ ما فَرَّقها البِلَى ومَزَّقها .
4- قولُه سُبحانَه: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ غَلَّب المذكَّرَ على المؤنَّثِ؛ لاجتِماعِهما، ولو قُلتَ: طلَع الشَّمسُ والقَمَرُ، لَقَبُحَ ذلك، كما يَقبُحُ: قام هندٌ وزَيدٌ، إلَّا أن تريدَ الواوَ الجامِعةَ لا العاطفةَ، وأمَّا في الآيةِ فلا بُدَّ أن تكونَ الواوُ جامِعةً، ولَفظُ الفِعلِ -وَجُمِعَ- يَقتضي ذلك .
5- في قَولِه تعالى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ دليلٌ على قَبولِ إقرارِ المرءِ على نَفْسِه؛ لأنَّها شَهادةٌ منه عليها؛ قال اللهُ سُبحانَه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] ، ولا خِلافَ فيه؛ لأنَّه إخبارٌ على وَجهٍ تَنتفي التُّهمةُ عنه؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَكْذِبُ على نفْسِه. وقولُه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أي: لو اعتذرَ بعدَ الإقرارِ لم يُقْبَلْ منه؛ ففيه دليلٌ على أنَّ الرُّجوعَ عن الإقرارِ لا يُقْبَلُ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ الفاءُ لتَفريعِ الجَوابِ عن السُّؤالِ، وعُدِلَ عن أنْ يُجابوا بتَعيينِ وقْتٍ ليومِ القِيامةِ إلى أنْ يُهدَّدوا بأهوالِه؛ لأنَّهم لم يَكونوا جادِّينَ في سُؤالِهم؛ فكان مِن مُقتَضى حالِهم أنْ يُنذَروا بما يقَعُ مِن الأهوالِ عندَ حُلولِ هذا اليومِ مع تَضمينِ تَحقيقِ وُقوعِه؛ فإنَّ كَلامَ القُرآنِ إرشادٌ وهدْيٌ، ما يَترُكُ فُرصةً للهدْيِ والإرشادِ إلَّا انتَهَزَها، وهذا تَهديدٌ في ابتدائِه جاء في صُورةِ التَّعيينِ لوقْتِ يومِ القِيامةِ إيهامًا بالجوابِ عن سُؤالِهم، كأنَّه حمْلٌ لِكلامِهم على خِلافِ الاستِهزاءِ، على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ . وفيه تَعريضٌ بالتَّوبيخِ على أنْ فرَّطوا في التَّوقِّي مِن ذلك اليومِ، واشتَغَلوا بالسُّؤالِ عن وقْتِه، وقَريبٌ منه ما جاء في الحديثِ أنَّ رجُلًا مِن المسلمينَ سأَلَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((متى السَّاعةُ؟ فقال له: ماذا أعدَدْتَ لها؟)) ؛ فإنَّ هذه الأحوالَ المذكورةَ في الآيةِ ممَّا يقَعُ عندَ حُلولِ السَّاعةِ وقِيامِ القِيامةِ، فكان ذلك شيئًا مِن تَعيينِ وقْتِه بتَعيينِ أشراطِه .
- قولُه: بَرِقَ معْناه: دُهِشَ وبُهِتَ، وإنَّما أُسنِدَ في الآيةِ إلى البصَرِ تَنزيلًا له مَنزِلةَ مَكانِ البَرْقِ؛ لأنَّه إذا بُهِتَ شخَصَ بَصَرُه. وعلى قراءةِ «بَرَقَ» بفتْحِ الرَّاءِ ، مِن البريقِ بمعْنى اللَّمَعانِ، أي: لَمَعَ البصَرُ مِن شِدَّةِ شُخوصِه، ومآلُ معْنى القِراءتينِ واحدٌ، وهو كِنايةٌ عن الفزَعِ والرُّعبِ .
- والتَّعريفُ في الْبَصَرُ للجِنسِ المرادِ به الاستغراقُ، أي: أبصارُ النَّاسِ كلِّهم مِن الشِّدَّةِ الحاصلةِ في ذلك الوقتِ، على أنَّهم مُتفاوِتون في الرُّعبِ الحاصِلِ لهم على تَفاوتِهم فيما يُعرَضونَ عليه مِن طَرائقِ مَنازلِهم .
- وأيضًا قولُه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ يَقُولُ الْإِنْسَانُ [القيامة: 10] ، وإنَّما قُدِّمَ على عامِلِه للاهتِمامِ بالظَّرفِ؛ لأنَّه المقصودُ مِن سِياقِ مُجاوَبةِ قولِه: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 6] . وطُوِيَ التَّصريحُ بأنَّ ذلك حُلولُ يومِ القِيامةِ اكتِفاءً بذِكْرِ ما يدُلُّ عليه، وهو قولُهم: أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة: 10] ، فكأنَّه قِيل: حلَّ يومُ القِيامةِ، وحَضَرَت أهوالُه، يقولُ الإنسانُ يومئذٍ... ثمَّ تأكَّدَ بقولِه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 12] .
2- قولُه تعالَى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، أُعِيدَ لَفظُ (القمَر) في الفاصلتَينِ المُتواصلَتينِ؛ لأنَّ ذلك لبَيانِ أهوالِ القِيامةِ وتَعظيمِها، والعرَبُ تَستعمِلُ هذا فيما تَقصِدُ به التَّهويلَ والتَّعظيمَ، وقدِ اجتَمَعَ هنا قصْدُ التَّعظيمِ، ورَعْيُ الأسجاعِ، فتَأكَّدَ الحاملُ على التَّكريرِ، وإذا تَكرَّرَ أحدُ النَّيِّرينِ المرادُ اجتماعُهما أغْنى عن تَكرُّرِ الآخَرِ، وطَلَبَت الفواصلُ منها ما يُناسِبُ، فجاء على أتمِّ وَجهٍ في البلاغةِ .
3- قولُه تعالَى: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ يَوْمَئِذٍ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ يَقُولُ أيضًا، أي: يومَ إذْ يَبرُقُ البصَرُ، ويَخسِفُ القمَرُ، ويُجمَعُ الشَّمسُ والقمَرُ؛ فتَنوينُ (إذْ) تَنوينُ عِوَضٍ عن الجُملِ المحذوفةِ الَّتي دلَّت عليها الجُملةُ الَّتي أُضِيفَ إليها (إذ) .
- وذِكرُ يَوْمَئِذٍ معَ أنَّ قولَه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ... إلخ مُغْنٍ عنه؛ للاهتِمامِ بذِكرِ ذلك اليومِ الَّذي كانوا يُنكِرون وُقوعَه، ويَستهْزِئون فيَسأَلون عن وقْتِه، وللتَّصريحِ بأنَّ حُصولَ هذه الأحوالِ الثلاثةِ في وقْتٍ واحدٍ .
- والاستِفهامُ أَيْنَ الْمَفَرُّ مُستعمَلٌ في التَّمنِّي، أي: لَيْتَ لي فِرارًا في مكانِ نَجاةٍ .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
- قولُه: كَلَّا ردْعٌ وإبطالٌ لِما تَضمَّنَه أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الطَّمَعِ في أنْ يَجِدَ للفِرارِ سَبيلًا .
- والوَزرُ: المكانُ الَّذي يُلجَأُ إليه للتَّوقِّي مِن إصابةِ مَكروهٍ، مِثلُ الجِبالِ والحُصونِ؛ فيَجوزُ أنْ يكونَ كَلَّا لَا وَزَرَ كلامًا مُستأنَفًا مِن جانبِ اللهِ تعالَى جوابًا لمَقالةِ الإنسانِ، أي: لا وَزَرَ لك. ويجوزُ أنْ يكونَ مِن تَمامِ مَقالةِ الإنسانِ، أي يقولُ: أين المفرُّ؟ ويُجيبُ نفْسَه بإبطالِ طَمَعِه فيقولُ: كَلَّا لَا وَزَرَ، أي: لا وَزَرَ لي، وذلك بأنْ نظَرَ في جِهاتِه فلم يَجِدْ إلَّا النَّارَ، كما ورَدَ في الحَديثِ .
- قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلامٌ مِن جانبِ اللهِ تعالَى خاطَبَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّنيا؛ بقَرينةِ قولِه: يَوْمَئِذٍ، فهو اعتراضٌ وإدماجٌ للتَّذكيرِ بمُلكِ ذلك اليومِ، وذلك على قولٍ. وإضافةُ (ربّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيماءٌ إلى أنَّه ناصِرُه يَومَئذٍ بالانتقامِ مِن الَّذين لم يَقبَلوا دَعوتَه .
- وتَقديمُ المجرورِ إِلَى رَبِّكَ؛ لإفادةِ الحَصْرِ .
- والمُستقَرُّ: مَصدرٌ مِيميٌّ مِن استقَرَّ، إذا قَرَّ في المكانِ ولم يَنتقِلْ، والسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ في الوصْفِ .
- وجُملةُ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا أثارَه قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن مَضمونِ تلك الجُملةِ، أي: إلى اللهِ مَصيرُهم، وفي مَصيرِهم يُنبَّؤون بما قدَّموا وما أخَّروا .
- وتَنْبئةُ الإنسانِ بما قدَّمَ وأخَّرَ كِنايةٌ عن مُجازاتِه على ما فَعَلَه: إنْ خيرًا فخَيرٌ، وإنْ سُوءًا فسُوءٌ؛ إذ يُقالُ له: هذا جَزاءُ الفعلةِ الفُلانيَّةِ، فيَعلَمُ مِن ذلك فِعلتَه، ويَلْقى جَزاءَها، فكان الإنباءُ مِن لَوازمِ الجزاءِ، ويَحصُلُ في ذلك الإنباءِ تَقريعٌ وفضْحٌ لحالِه .
- قولُه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إضرابٌ انتقاليٌّ، وهو للتَّرقِّي مِن مَضمونِ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] إلى الإخبارِ بأنَّ الكافرَ يَعلَمُ ما فَعَلَه؛ لأنَّهم تَشهَدُ عليهم ألْسنتُهم وأيْديهم وأرْجُلُهم بما كانوا يَعمَلون .
- ونظْمُ قولِه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ صالحٌ لإفادةِ مَعنيَينِ؛ أوَّلُهما: أنْ يكونَ بَصِيرَةٌ بمعْنى مُبصِرٍ شَديدِ المُراقَبةِ، فيكونَ بَصِيرَةٌ خبَرًا عن الْإِنْسَانُ، عَلَى نَفْسِهِ مُتعلِّقًا بـ بَصِيرَةٌ، أي: الإنسانُ بَصيرٌ بنفْسِه، وعُدِّيَ بحرْفِ (على) لتَضمينِه معْنى المُراقَبةِ، وهو معْنى قولِه في الآيةِ الأُخرى: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14] ، وهاءُ بَصِيرَةٌ تكونُ للمُبالَغةِ، مِثلُ هاءِ علَّامةٍ ونسَّابةٍ، أي: الإنسانُ عليمٌ بَصيرٌ قويُّ العِلمِ بنفْسِه يَومَئذٍ. والمعْنى الثَّاني: أنْ يكونَ بَصِيرَةٌ مُبتدأً ثانيًا، والمرادُ به قَرينُ الإنسانِ مِن الحفَظةِ، ويكونَ عَلَى نَفْسِهِ خبَرَ المبتدأِ الثَّاني مُقدَّمًا عليه، ومَجموعُ الجُملةِ خبرًا عن الْإِنْسَانُ، وبَصِيرَةٌ حِينَئذٍ يَحتمِلُ أنْ يكونَ بمعْنى بَصيرٍ، أي: مُبصِرٍ، والهاءُ للمُبالَغةِ، وتكونَ تَعديةُ بَصِيرَةٌ بـ عَلَى لتَضمينِه معْنى الرَّقيبِ.
ويَحتمِلُ أنْ تكونَ بَصِيرَةٌ صِفةً لمَوصوفٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: حُجَّةٌ بَصيرةٌ، أو عينٌ بَصيرةٌ، وتكونَ بَصِيرَةٌ معبَّرًا بها عن كَونِها بيِّنةً، والتَّأنيثُ لتَأنيثِ الموصوفِ. وقد جَرَت هذه الجُملةُ مَجرى المثَلِ؛ لإيجازِها ووَفْرةِ مَعانيها .
- ومَعَاذِيرَهُ: جمْعٌ مُعرَّفٌ بالإضافةِ، يدُلُّ على العُمومِ .