موسوعة التفسير

سورةُ المُجادلةِ
الآيات (14-19)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غَريبُ الكَلِماتِ:

تَوَلَّوْا: أصلُ (ولي) يدُلُّ على القُرْبِ، سواءٌ مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه [347] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
أَيْمَانَهُمْ: أي: حَلِفَهم، واليَمينُ: القَسَمُ، وسُمِّيَ الحَلِفُ يَمينًا -وهو اسمُ اليَدِ-؛ لأنَّهم كانوا يَبْسُطونَ أيْمانَهم إذا حَلَفوا أوْ تحالَفوا، ثمَّ كثُر ذلك حتَّى سُمِّيَ الحلفُ والعهدُ نفْسُه يمينًا، وقِيل: يَمينٌ فَعيلٌ مِن اليُمنِ، وهو البَرَكةُ، سَمَّاها اللهُ تعالَى بذلك؛ لأنَّها تحفَظُ الحُقوقَ [348] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/159)، ((البسيط)) للواحدي (10/313)، ((تفسير ابن عطية)) (1/301)، ((تفسير القرطبي)) (3/102). .
جُنَّةً: أي: تَقِيَّةً وسُترةً، وأصلُ (جنن): يدُلُّ على سَترٍ [349] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 181)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((المفردات)) للراغب (ص: 203)، ((تفسير القرطبي)) (18/123)، ((تفسير ابن كثير)) (8/125). .
اسْتَحْوَذَ: أي: غَلَب واستَولَى، وأصلُ (حوذ): يدُلُّ على الخِفَّةِ والسُّرعةِ [350] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 458)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 112)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/115)، ((المفردات)) للراغب (ص: 262)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 395)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 411). .
حِزْبُ الشَّيْطَانِ: أي: جُنْدُه وأتْباعُه وطائِفَتُه، والحزبُ: الجماعةُ مِن النَّاسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، والطَّائفةُ مِن كلِّ شيءٍ حزبٌ، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ [351] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/492)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((تفسير القرطبي)) (17/306). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا شناعةَ حالِ المنافِقِين، وسوءَ عاقبتِهم: ألمْ تَرَ -يا محمَّدُ- إلى المنافِقينَ الَّذين توَلَّوُا اليَهودَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم، وما هؤلاء المنافِقونَ مِن أهلِ دينِكم، ولا هم أيضًا على مِلَّةِ اليهودِ، ويَحلِفونَ لكم كَاذِبينَ وهم يَعلَمونَ كَذِبَهم، هيَّأَ اللهُ لأولئك المنافِقينَ عَذابًا شديدًا؛ لأنَّهم عَمِلوا أعمالًا سَيِّئةً.
اتَّخَذ المنافِقونَ حَلِفَهم الكاذِبَ للمُؤمِنينَ وِقايةً لهم مِن كَشْفِ أمْرِهم، فصَدُّوا عن اتِّباعِ الحَقِّ؛ فلهم عَذابٌ مُذِلٌّ لهم. لن تُغْنيَ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم شيئًا مِن عذابِ اللهِ، أولئك أهلُ النَّارِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا، يومَ يَبعَثُهم اللهُ فيَحلِفونَ له كَذِبًا أنَّهم مُؤمِنونَ مُهتَدونَ كما كانوا يَحلِفونَ لكم في الدُّنيا كَذِبًا، ويَظُنُّونَ أنَّهم في حَلِفِهم باللهِ كَذِبًا على شَيءٍ يَنفَعُهم عندَ اللهِ تعالى، ألَا إنَّ المنافِقينَ هم الكاذِبونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى سببَ انغماسِ المنافِقينَ في نِفاقِهم، فيقولُ: استولَى عليهم الشَّيطانُ حتَّى غَفَلوا عن ذِكرِ اللهِ، ولم يَعمَلوا بطاعَتِه، ولم يَنتَهوا عن معصيتِه، أولئك أتْباعُ الشَّيطانِ وجُندُه، ألَا إنَّ أتْباعَ الشَّيطانِ وجُندَه هم الخاسِرونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَر الله تعالى بإحاطةِ عِلمِه؛ ردعًا لِمَن يَغتَرُّ بطولِ حِلمِه- دلَّ على ذلك باطِّلاعِه على نِفاقِ المنافِقِين، الَّذي هو أبطنُ الأشياءِ [352] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/385). .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أي: ألمْ تَرَ -يا محمَّدُ- إلى المنافِقينَ الَّذين توَلَّوُا اليَهودَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم، فيَنصَحونَ لهم ويُناصِرونَهم [353] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/263)، ((تفسير ابن جرير)) (22/487)، ((تفسير ابن كثير)) (8/51، 52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/552، 553). قال ابن تيميَّة: (هم المنافِقونَ الَّذين توَلَّوُا اليهودَ، باتِّفاقِ أهلِ التَّفسيرِ، وسياقُ الآيةِ يدُلُّ عليه). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/77، 78). وقال السعدي: (يخبِرُ تعالى عن شَناعةِ حالِ المنافِقِينَ الَّذين يَتَولَّون الكافِرِين مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم ممَّن غَضِبَ اللهُ عليهم، ونالوا مِن لَعنةِ الله أوفى نصيبٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 847). وقال الشنقيطي: (المراد إنكارُ الله على المنافِقينَ تَوَلِّيَهم القَومَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم، وهم اليهودُ والكفَّارُ). ((أضواء البيان)) (7/553). ؟
كما قال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر: 11] .
مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ.
أي: ليس المنافِقونَ في الحقيقةِ مِن أهلِ دينِكم -أيُّها المؤمِنونَ-، ولا هم أيضًا على مِلَّةِ اليهودِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/488)، ((تفسير القرطبي)) (17/304)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/386)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). قال السعدي: (ليسوا مِن المؤمِنينَ ولا مِن الكافِرينَ، فليسوا مؤمنينَ ظاهِرًا وباطِنًا؛ لأنَّ باطِنَهم مع الكُفَّارِ، ولا مع الكُفَّارِ ظاهِرًا وباطِنًا؛ لأنَّ ظاهِرَهم مع المؤمنينَ، وهذا وصْفُهم الَّذي نعَتَهم اللهُ به). ((تفسير السعدي)) (ص: 847). ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه: مَا هُمْ يعودُ على المنافِقِين: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، وابن جُزَي، وأبو حيان، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/264)، ((تفسير ابن جرير)) (22/488)، ((تفسير السمرقندي)) (3/419)، ((تفسير الثعلبي)) (9/ 262)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7369)، ((الوسيط)) للواحدي (4/267)، ((تفسير البغوي)) (5/49)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/250)، ((تفسير القرطبي)) (17/ 304)، ((تفسير النسفي)) (3/451)، ((تفسير ابن جزي)) (2/355)، ((تفسير أبي حيان)) (10/129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). قال أبو حيَّان: (الضَّمير في مَا هُمْ عائدٌ على الَّذين توَلَّوْا، وهم المنافِقون، أي: ليسوا منكم أيُّها المؤمنونَ، وَلَا مِنْهُمْ أي: ليسوا مِن الَّذين توَلَّوْهم، وهم اليهودُ. ومَا هُمْ استئنافُ إخبارٍ بأنَّهم مُذَبْذَبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء... وقال ابنُ عطيَّة: يحتملُ تأويلًا آخَرَ، وهو أن يكونَ قولُه: مَا هُمْ يريدُ به اليهودَ، وقولُه: وَلَا مِنْهُمْ يريدُ به المنافِقِين، فيَجيءُ فِعلُ المنافِقِينَ على هذا التَّأويلِ أخَسَّ؛ لأنَّهم توَلَّوْا مغضوبًا عليهم، ليسوا مِن أنفُسِهم فيَلزَمَهم ذِمامُهم، ولا مِن القَومِ المُحِقِّينَ فتكونَ الموالاةُ صوابًا. انتهى. والظَّاهرُ التَّأويلُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الَّذين توَلَّوْا هم المُحَدَّثُ عنهم، والضَّميرُ في وَيَحْلِفُونَ عائدٌ عليهم، فتَتَناسَقُ الضَّمائرُ لهم ولا تختلِفُ. وعلى هذا التَّأويلِ يكونُ مَا هُمْ استئنافًا، وجاز أن يكونَ حالًا مِن ضميرِ تَوَلَّوْا. وعلى احتمالِ ابنِ عطيَّةَ يكونُ مَا هُمْ صِفةً لقَومٍ). ((تفسير أبي حيان)) (10/129). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/280). وقال السمين الحلبي عن الاحتمالِ الَّذي ذكره ابنُ عطيَّة: (فيه تنافُر الضَّمائرِ؛ فإنَّ الضَّميرَ في وَيَحْلِفُونَ عائدٌ على الَّذِينَ تَوَلَّوْا). ((الدر المصون)) (10/273). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 8 - 10] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 142، 143].
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدخُلُ عليكم رجُلٌ يَنظُرُ بعَينِ شَيطانٍ، أو بعينَيْ شَيطانٍ. قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال له [355] ورد في بعضِ الرِّواياتِ: ((فقال: يا محمَّدُ، عَلامَ سبَبْتَني -أو شتَمْتَني)) قال أحمد شاكر: («محمَّد» خطأٌ ينافي السِّياقَ؛ فإنَّ الَّذي نُسِب إليه السَّبُّ والشَّتمُ هو هذا المنافِقُ الأزرقُ، ورسولُ الله يَسألُه ويَتَّهِمُه، وهو يَحلِفُ كاذبًا يَتبرَّأُ مِن التُّهمةِ..، فالظَّاهرُ أنَّ الخطأَ بهذه الزِّيادةِ مِن بعضِ رُواةِ المُسنَدِ أو ناسخيه). ((مسند أحمد)) بتحقيق أحمد شاكر (2/543). ويُنظر: ((مسند أحمد)) بتحقق شعيب الأرناؤوط (4/48). : عَلامَ تَسُبُّني أوْ تَشْتُمُني؟ قال: فجَعَل يَحْلِفُ، قال: فنزَلَت هذه الآيةُ الَّتي في المجادَلةِ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة: 14] والآيةُ الأُخرى)) [356] أخرجه أحمدُ (2147)، والبَزَّارُ (5010)، وابنُ جرير في ((تفسيره)) (22/489) واللَّفظُ له، والطَّبَرانيُّ (12/8) (12309). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/125): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/18)، وحَسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4/48). ويُنظر: ((الصحيح المسند من أسباب النزول)) للوادعي (ص: 205). ويُنظر روايةٌ أخرى لهذا الحديثِ (ص: 348). .
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أي: وهم يَحلِفونَ للمُؤمِنينَ على الكَذِبِ في دعوى الإيمانِ، أو غيرِ ذلك، وهم يَعلَمونَ أنَّهم كاذِبونَ فيما حَلَفوا عليه [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/488)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/386، 387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). !
كما قال الله تبارك وتعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة: 56] .
وقال سُبحانَه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون: 1، 2].
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن حالِ المنافِقينَ؛ أتْبَعَه الإخبارَ عن مآلِهم [358] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/387). .
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.
أي: هيَّأَ اللهُ لأولئك المنافِقينَ عَذابًا شديدًا [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/489)، ((تفسير القرطبي)) (17/304)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). قال السعدي: (جزاءُ هؤلاء الخَوَنةِ الفَجَرةِ الكَذَبةِ: أنَّ اللهَ أعَدَّ لهم عذابًا شديدًا، لا يُقادَرُ قَدرُه، ولا يُعلَمُ وَصفُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 847). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145].
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ بعَذابِهم علَّله بما دَلَّ على أنَّه واقِعٌ في أتَمِّ مواقِعِه، فقال مؤكِّدًا؛ تقبيحًا على مَن كان يَستَحسِنُ أفعالَهم [360] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/388). :
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: قد أعدَّ اللهُ لهم عذابًا شديدًا؛ لأنَّهم عَمِلوا أعمالًا سَيِّئةً مُتكَرِّرةً أصَرُّوا عليها، حتَّى صارت دَيدَنًا لهم وطَبعًا وجِبِلَّةً [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/489)، ((تفسير القرطبي)) (17/304)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/49). .
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16).
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
أي: جَعَل المنافِقونَ حَلِفَهم الكاذِبَ للمُؤمِنينَ وِقايةً لهم مِن كَشْفِ أمْرِهم، وافتِضاحِ نِفاقِهم، فيتَّقونَ بذلك القَتلَ، ويَدفَعونَ عن أنفُسِهم وأموالِهم وذرارِيِّهم، فصَدُّوا أنفُسَهم وغيرَهم عن اتِّباعِ الحَقِّ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/489، 490)، ((تفسير القرطبي)) (17/304)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/553). قال ابن جرير: (فالمنافِقونَ يَصُدُّونَ المؤمنينَ عن سبيلِ اللهِ فيهم بأيْمانِهم إنَّهم مؤمنونَ، وإنَّهم منهم، فيَحولونَ بذلك بيْنَهم وبيْنَ قَتْلِهم، ويَمتَنِعونَ به ممَّا يَمتَنِعُ منه أهلُ الإيمانِ باللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/490). وقال ابن كثير: (اتَّقَوا بالأيْمانِ الكاذبةِ، فظَنَّ كثيرٌ ممَّن لا يَعرِفُ حقيقةَ أمْرِهم صِدْقَهم، فاغتَرَّ بهم، فحَصَل بهذا صَدٌّ عن سبيلِ اللهِ لبَعضِ النَّاسِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/52). وقال ابن عاشور في قولِه جُنَّةً: (أي: وقايةً مِن شُعورِ المسلمينَ بهم؛ لِيَتمَكَّنوا مِن صَدِّ كثيرٍ ممَّن يريدُ الدُّخولَ في الإسلامِ عن الدُّخولِ فيه؛ لأنَّهم يختَلِقونَ أُكذوباتٍ يَنسُبونَها إلى الإسلامِ والمسلمينَ... و«صَدُّوا» يجوزُ أن يكونَ مُتعَدِّيًا، وحُذِفَ مفعولُه؛ لظُهورِه، أي: فصَدُّوا النَّاسَ عن سبيلِ اللهِ، أي: الإسلامِ، بالتثَّبيطِ، وإلصاقِ التُّهَمِ والنَّقائصِ بالدِّينِ. ويجوزُ أن يكونَ الفِعلُ قاصِرًا، أي: فصَدُّوا هم عن سَبيلِ اللهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/49، 50). وذهب السَّعدي إلى حملِ الآيةِ على كِلا المعنيَينِ، أي: صَدُّوا أنفُسَهم، وصَدُّوا غيرَهم عن سبيلِ اللهِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 847). واستظهر الشنقيطي أنَّ المرادَ أنَّهم صَدُّوا غَيرَهم ممَّن أطاعَهم؛ لأنَّ صُدودَهم في أنفُسِهم دَلَّ عليه قولُه تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، والحَملُ على التَّأسيسِ أَولى مِن الحَملِ على التَّأكيدِ. يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/553). ومِمَّن ذهب إلى أنَّهم صدُّوا غَيْرَهم: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52). .
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أي: فلهؤلاء المنافِقينَ عَذابٌ مُذِلٌّ لهم [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/554). قال القرطبي: (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ في الدُّنيا بالقَتلِ، وفى الآخِرةِ بالنَّارِ). ((تفسير القرطبي)) (17/304). قيل: لهم عذابٌ مُهينٌ في مُقابَلةِ ما امتَهَنوا مِن الحَلِفِ باسمِ اللهِ العظيمِ في الأيْمانِ الكاذِبةِ الحانثةِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/52). وقيل: جزاءً بما طلبوا بذلك الصَّدِّ إعزازَ أنفُسِهم، وإهانةَ أهلِ الإسلامِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/389). وقيل: لأنَّهم استكبَروا عن الإيمانِ باللهِ، والانقيادِ لآياتِه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 847). .
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها مناسبةٌ لقولِ الله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16] ، فكما لمْ تَقِهم أيمانُهم العذابَ، لم تُغْنِ عنهم أموالُهم ولا أنصارُهم شَيئًا يومَ القيامةِ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/50، 51). ، فأرشد اللهُ تعالى إلى أنَّ ما ظنُّوه مُنجيًا لهم مِن عذابِه مِن المالِ والأولادِ ليس بنافِعٍ لهم حيَنئذٍ، فقال [365] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/23). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/389). :
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: لن تُغنيَ عن المنافِقينَ بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوهِ أموالُهم، فيَفتَدوا بها مِن عذابِ اللهِ، ولا أولادُهم، فيُنقِذوهم منه [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/50، 51). قال السعدي: (فلا تَدفَعُ عنهم شيئًا مِن العذابِ، ولا تُحصِّلُ لهم قِسطًا مِن الثَّوابِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 847). وقال ابن عاشور: (كان المنافِقونَ مِن أهلِ الثَّراءِ بالمدينةِ، وكان ثراؤُهم مِن أسبابِ إعراضِهم عن قَبولِ الإسلامِ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ سيادةٍ، فلم يَرضَوا أن يَصيروا في طَبَقةِ عُمومِ النَّاسِ. وكان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ مُهَيَّأً لأن يُملِّكوه على المدينةِ قُبَيلَ إسلامِ الأنصارِ، فكانوا يَفخَرونَ على المسلمينَ بوَفرةِ الأموالِ، وكثرةِ العَشائِرِ، وذلك في السَّنةِ الأولى من الهِجرةِ، ومِن ذلك قولُ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلُولَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] ، يريد بالأعَزِّ فَريقَه، وبالأذَلِّ فَريقَ المسلمينَ، فآذنَهم اللهُ بأنَّ أموالَهم وأولادَهم لا تُغْني عنهم ممَّا توعَّدَهم اللهُ به من المذَلَّةِ في الدُّنيا، والعذابِ في الآخِرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/50، 51). .
كما قال الله تبارك وتعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: أولئك أهلُ النَّارِ الَّذين هم لها مُلازِمونَ، وفيها ماكِثونَ، ومنها لا يُخرَجونَ [367] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/390)، ((تفسير الشوكاني)) (5/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). .
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18).
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسًا في ظِلِّ حُجرتِه، قد كاد يَقلِصُ [368] يَقلِصُ أي: يرتَفِعُ ويَذهَبُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/100). عنه، فقال لأصحابِه: يجيئُكم رجُلٌ يَنظُرُ إليكم بعَينِ شَيطانٍ، فإذا رأيتُموه فلا تكَلِّموه، فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فلمَّا رآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه، فقال: عَلامَ تَشتُمني أنت وأصحابُك؟! قال: كما أنتَ حتَّى آتيَك بهم، فذهب فجاءَ بهم، فجعلوا يَحلِفونَ باللهِ ما قالوا، وما فَعَلوا، وأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ إلى آخِرِ الآيةِ)) [369] أخرجه أحمد (3277) واللَّفظُ له، والطَّبَرانيُّ (12/7) (12307)، والحاكمُ (3795). صحَّحه الحاكِمُ على شرطِ مسلمٍ، وصحَّح إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((الصارم المسلول)) (2/48)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/284)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/95)، وجوَّد إسنادَه الزَّيْلَعيُّ في ((تخريج الكشاف)) (3/432)، وابنُ كثير في ((تفسير القرآن)) (8/78)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/125): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وحَسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5/317). .
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ.
أي: يومَ يَبعَثُ اللهُ أولئك المنافِقينَ مِن قُبورِهم أحياءً، فيَحلِفونَ لله كَذِبًا أنَّهم مُؤمِنونَ مُهتَدونَ كما يَحلِفونَ لكم -أيُّها المؤمِنونَ- في الدُّنيا كَذِبًا [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((تفسير القرطبي)) (17/305)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847). قيل: قولُه: يَوْمَ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: اذكُرْ. وممَّن اختاره: جلالُ الدين المحلي، والشربيني، والقِنَّوْجي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 728)، ((تفسير الشربيني)) (4/234)، ((تفسير القنوجي)) (14/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/52). وقيل: الآيةُ مُتعلِّقةٌ بما قبْلَها، أي: هم أصحابُ النَّارِ أو ماكِثونَ فيها وخالِدونَ يومَ يَبَعَثُهم اللهُ، أو يَوْمَ ظرفٌ لإظهارِ التَّعذيبِ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، وابن عطية، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/490)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7372)، ((تفسير ابن عطية)) (5/281)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/391). !
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
أي: ويَظُنُّ المنافِقونَ يومَ القيامةِ أنَّهم في حَلِفِهم باللهِ كَذِبًا على شَيءٍ يُعتدُّ به فيَنفَعُهم عندَ اللهِ تعالى [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/491)، ((تفسير القرطبي)) (17/305)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 847)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/52). قال ابن جرير: (يظنُّونَ أنَّهم في أيْمانِهم وحَلِفِهم باللهِ كاذِبِينَ: على شَيءٍ مِن الحَقِّ). ((تفسير ابن جرير)) (22/491). وقال ابن كثير: (أي: يَحلِفونَ باللهِ عزَّ وجلَّ أنَّهم كانوا على الهدى والاستقامةِ، كما كانوا يحلِفونَ للنَّاسِ في الدُّنيا؛ لأنَّ مَن عاش على شَيءٍ مات عليه وبُعِثَ عليه، ويَعتَقِدونَ أنَّ ذلك يَنفَعُهم عندَ الله كما كان ينفَعُهم عندَ النَّاسِ!). ((تفسير ابن كثير)) (8/52). وقال السعدي: (ويحسَبونَ في حَلِفِهم هذا أنَّهم على شيءٍ؛ لأنَّ كُفرَهم ونِفاقَهم وعقائِدَهم الباطِلةَ لم تَزَل تَرسَخُ في أذهانِهم شيئًا فشيئًا، حتَّى غرَّتْهم وظنُّوا أنَّهم على شَيءٍ يُعتَدُّ به، ويُعلَّقُ عليه الثَّوابُ، وهم كاذِبون في ذلك، ومِن المعلومِ أن الكَذِبَ لا يَروجُ على عالِمِ الغَيبِ والشَّهادةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 847). .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ.
أي: ألَا إنَّ المنافِقينَ هم الكاذِبونَ حَقًّا؛ فقد بَلَغوا في الكَذِبِ حَدًّا لم يَبلُغْه غَيرُهم [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/491)، ((تفسير الزمخشري)) (4/496)، ((تفسير ابن كثير)) (8/52)، ((تفسير الشوكاني)) (5/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/53). .
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان هذا الانهماكُ فيما لا يُغْني ممَّا يَحصُلُ لسامِعِه غايةُ العَجَبِ مِن وُقوعِ عاقِلٍ فيه مرَّةً مِنَ الدَّهرِ، فَضلًا عن مُلازَمتِه؛ أخبَرَ عن الحامِلِ لهم عليه، فقال [373] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/392). :
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.
أي: غَلَب عليهم الشَّيطانُ فتمَلَّكهم واستولى على قُلوبِهم حتَّى غَفَلوا عن ذِكرِ اللهِ، فلم يَعمَلوا بطاعتِه، ولم يَنتَهوا عن معصيتِه، ويَقِفوا عندَ حُدودِه [374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/491)، ((الوسيط)) للواحدي (4/267)، ((تفسير ابن عطية)) (5/281)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/53)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/54، 55). قال الشوكاني: (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي: أوامِرَه والعَمَلَ بطاعَتِه، فلم يَذْكُروا شَيئًا مِن ذلك. وقيل: زَواجِرَه في النَّهْيِ عن معاصيه، وقيل: لم يَذْكُروه بقُلوبِهم ولا بألسِنَتِهم). ((تفسير الشوكاني)) (5/230). وقال ابن أبي زَمَنين: (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أن يَذكُروه بالإخلاصِ له). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/363). وقال ابن كثير: (استَحوذَ على قلوبِهم الشَّيطانُ حتَّى أنْساهم أن يَذكُروا اللهَ عزَّ وجلَّ، وكذلك يَصنَعُ بمَنِ استَحوَذَ عليه). ((تفسير ابن كثير)) (8/53). وقال ابن عاشور: (المعنى: أنَّه أنساهم توحيدَ الله بكلمةِ الشَّهادةِ، والتَّوجُّه إليه بالعبادةِ. والَّذي لا يَتذَكَّرُ شيئًا لا يَتَوجَّهُ إلى واجِباتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بَدوٍ لا تُقامُ فيهم الصَّلاةُ إلَّا قد استَحوذَ عليهم الشَّيطانُ، فعليك بالجماعةِ؛ فإنَّما يأكُلُ الذِّئبُ القاصيةَ )) [375] أخرجه أبو داودَ (547) واللَّفظُ له، والنسائيُّ (847)، وأحمدُ (21710).  صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (2101)، وابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/386)، وصحَّح إسنادَه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (3796)، والنوويُّ في ((المجموع)) (4/182)، وحسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (547)، وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (547). .
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ.
أي: أولئك أتْباعُ الشَّيطانِ وأنصارُه وجُندُه وطائِفتُه [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/491)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/53)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/393)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: ألَا إنَّ أتْباعَ الشَّيطانِ وأنصارَه وجُندَه هم الهالِكونَ، الَّذين خَسِروا دينَهم ودُنياهم وأنفُسَهم وأهْلِيهم [377] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/491)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

قولُ الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ المرادُ إنكارُ اللهِ على المنافِقينَ توَلِّيَهم القومَ الَّذين غَضِبَ اللهُ عليهم، وهذا الإنكارُ يدُلُّ على شِدَّةِ مَنعِ ذلك التَّوَلِّي [378] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/553). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنَّ مِن علاماتِ النِّفاقِ محبَّةَ أعداءِ الإسلامِ وأئمَّةِ الكُفرِ، ومَدْحَهم، ونَشْرَ آرائِهم المخالفةِ للإسلامِ [379] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/380). .
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إلى قَولِه تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ إلى قَولِه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ دَلالةٌ على أنَّ المنافِقينَ كانوا يُرضُونَ المؤمِنينَ بالأَيْمانِ الكاذبةِ، ويُنكِرونَ أنَّهم كَفَروا، ويَحلِفونَ أنَّهم لَمْ يتكَلَّموا بكَلِمةِ الكُفرِ، وذلك دليلٌ على أنَّهم يُقتَلونَ إذا ثَبَتَ ذلك عليهم بالبيِّنَةِ؛ لِوُجوهٍ:
أحدُها: أنَّهم لو كانوا إذا أَظهروا التَّوبةَ قُبِلَ ذلك منهم لَمْ يَحتاجوا إلى الحَلِفِ والإنكارِ، ولَكانوا يقولونَ: قُلْنا وقد تُبْنا، فعُلِمَ أنَّهم كانوا يَخافُونَ إذا ظَهَرَ ذلك عليهم أنَّهم يُعاقَبونَ مِن غيرِ استتابةٍ.
الثَّاني: أنَّه قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، واليَمينُ إنَّما تكونُ جُنَّةً إذا لَمْ نأتِ ببَيِّنَةٍ عادِلةٍ تُكَذِّبُها، فإذا كَذَّبَتْها بَيِّنَةٌ عادلةٌ انخرقتِ الجُنَّةُ، فجاز قَتْلُهم، ولا يمكِنُه أنْ يَجْتَنَّ بعدَ ذلك إلَّا بجُنَّةٍ مِن جنسِ الأُولى، وتلك جُنَّةٌ مخروقةٌ.
الثَّالثُ: أنَّ الآياتِ دليلٌ على أنَّ المنافِقينَ إنَّما عَصَمَ دماءَهم الكذبُ والإنكارُ، ومعلومٌ أنَّ ذلك إنَّما يَعصِمُ إذا لم تَقُمِ البَيِّنةُ بخِلافِه؛ ولذلك لم يَقتُلْهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [380] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 346). وقال ابن حجر بعدَ أن ذكَرَ الخِلافَ في قَبولِ تَوبةِ الزِّنديقِ -وهو الَّذي يُظهِرُ الإسلامَ ويُبطِنُ غيرَه-: (ومِن حُجَّةِ مَنِ اسْتَتابهم قولُه تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً؛ فدَلَّ على أنَّ إظهارَ الأيْمانِ يُحَصِّنُ مِن القَتلِ، وكلُّهم أجْمَعوا على أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهرِ، واللهُ يَتولَّى السَّرائرَ). ((فتح الباري)) (12/273). ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (9/6(، ((الإيمان الأوسط)) لابن تيميَّة (ص: 302). .
3- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ في قَولِه: وَهُمْ يَعْلَمُونَ دَلالةٌ على إبطالِ قَولِ الجاحِظِ: إنَّ الخَبَرَ الكَذِبَ هو الَّذي يكونُ مخالِفًا للمُخبَرِ عنه مع أنَّ المُخبِرَ يَعلَمُ المخالَفةَ؛ وذلك أنَّه لو كان كما زَعَم لم يكُنْ لِقَولِه: وَهُمْ يَعْلَمُونَ فائدةٌ، بل يكونُ تَكرارًا صِرْفًا [381] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (6/276). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/497). قال ابنُ عاشور: (توهَّمَ الجاحِظُ أنَّ ماهيَّةَ الكَذِبِ تتقَوَّمُ مِن عَدَمِ مطابقةِ الخبَرِ للواقِعِ وللاعتقادِ معًا، وسرى هذا التَّقَوُّمُ إلى ماهيَّةِ الصِّدقِ، فجَعَل قِوامَها المطابَقةَ للخارجِ والاعتقادِ معًا، ومِن هنا أثبت الواسِطةَ بيْنَ الصِّدقِ والكَذِبِ، وقريبٌ منه قولُ الرَّاغِبِ، ويُشبِهُ أن يكونَ الخِلافُ لَفظِيًّا، ومحَلُّ بَسْطِه في عِلْمَيِ الأصولِ والبلاغةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (1/341). ويُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 478)، ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (1/118). .
4- في قَولِه تعالى: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ؛ مُنْكِري صفاتِ اللهِ، في إخبارِه عن نفْسِه بالغَضَبِ [382] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/254). ، فالغضبُ صفةٌ فِعليَّةٌ خَبَريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتابِ والسُّنَّةِ [383] يُنظر: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) للسقاف (ص: 262). .
5- قول الله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فيه سؤالٌ: ما فائِدةُ الإخبارِ عنهم بذلك؟
الجَوابُ: فائدتُه بيانُ ذَمِّهم بارتِكابِهم اليَمينَ الغَمُوسَ [384] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 555). .
6- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أنَّ مِن شأنِ النَّفْسِ المجادَلةَ بالباطِلِ، حتَّى إنَّه يومَ القيامةِ تريدُ أنْ تدفَعَ عن نفْسِها وتجادِلَ اللهَ بالباطِلِ [385] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/445). !
7- قال اللهُ تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ هذا يقتَضي توَغُّلَهم في النِّفاقِ ومُرونتَهم عليه، وأنَّه باقٍ في أرواحِهم بعد بَعْثِهم؛ لأنَّ نُفوسَهم خرَجَت مِن عالَمِ الدُّنيا متخَلِّقةً به؛ فإنَّ النُّفوسَ إنَّما تَكتسِبُ تَزكيةً أو خُبْثًا في عالَمِ التَّكليفِ، وحِكمةُ إيجادِ النُّفوسِ في الدُّنيا هي تَزكيتُها وتَصفيةُ أكْدارِها؛ لتَخلُصَ إلى عالَمِ الخُلودِ طاهرةً، فإنْ هي سَلَكَت مَسلكَ التَّزكيةِ تَخلَّصَت إلى عالَمِ الخُلودِ زَكيَّةً، ويَزيدُها اللهُ زَكاءً وارْتياضًا يومَ البعثِ، وإنِ انغمَسَت مدَّةَ الحياةِ في حَمْأةِ النَّقائصِ وصَلْصالِ الرَّذائلِ، جاءت يومَ القيامةِ على ما كانتْ عليه تَشويهًا لحالِها؛ لتَكونِ مَهزلةً لأهْلِ المَحشرِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/52، 53). .
8- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ أنَّ كلَّ كافرٍ مُلْحِدٍ فاجرٍ، فهو مِن أولياءِ الشَّيطانِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/456). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ هذه حالةٌ أُخرى مِن أحوالِ أهلِ النِّفاقِ؛ هي تَولِّيهم اليهودَ مع أنَّهم لَيسوا مِن أهلِ مِلَّتِهم؛ لأنَّ المنافِقِينَ مِن أهلِ الشِّركِ. والجُملةُ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا ابتِدائيًّا؛ لأنَّها عَودٌ إلى الغرَضِ الَّذي سِيقتْ فيه آياتُ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا [المجادلة: 5] بعْدَ أنْ فُصِلَ بمُستطْرَداتٍ كَثيرةٍ بعْدَه [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/48). .
- وهو كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للتَّعجيبِ مِن حالِ المنافِقِينَ الَّذين كانوا يَتَّخِذون اليهودَ أولياءَ، ويُناصِحونهم، ويُفْشُون إليهم بأسرارِ المؤمنينَ [389] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/221)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/25، 26). .
- والهمزةُ في أَلَمْ تَرَ للاستِفهامِ التَّعجُّبيِّ، ووجْهُ التَّعجيبِ مِن حالِهم أنَّهم تَولَّوا قَومًا مِن غيرِ جِنسِهم، ولَيسوا في دِينِهم، ما حمَلَهم على تَولِّيهم إلَّا اشتراكُ الفريقَينِ في عَداوةِ الإسلامِ والمسلمينَ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/48). . وقيل: الهمزةُ للاستِفهامِ التَّقريريِّ [391] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/26). .
- وضَميرُ مَا هُمْ يَعودُ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وهمُ المنافِقون؛ وجُملةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ حالٌ مِن الَّذِينَ تَوَلَّوْا، أي: ما هم مُسلِمون ولا يَهودُ. وقيل: يَعودُ الضَّميرُ إلى قَوْمًا، وهم اليَهودُ؛ فتَكونَ جُملةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ صفةَ قَوْمًا، أي: قومًا لَيسوا مُسلِمينَ ولا مُشرِكين، بلْ هم يَهودُ. وكذلك ضَميرُ وَلَا مِنْهُمْ يَحتمِلُ الأمْرَينِ على التَّعاكُسِ، وقيل: كِلا الاحتِمالينِ واقعٌ ومُرادٌ على طَريقةِ الكلامِ المُوجَّهِ (أي: الَّذي يَصلُحُ لاحتِمالِ معنيَينِ)؛ تَكثيرًا للمَعاني مع الإيجازِ، فيُفيدُ التَّعجيبَ مِن حالِ المنافِقِينَ أنْ يَتولَّوا قَومًا أجانبَ عنهم على قَومٍ همْ أيضًا أجانبُ عنهم، على أنَّهم إنْ كان يُفرِّقُ بيْنَهم وبيْن المسلمينَ اختِلافُ الدِّينِ، فإنَّ الَّذي يُفرِّقُ بيْنهم وبيْن اليهودِ اختلافُ الدِّينِ واختلافُ النَّسَبِ؛ لأنَّ المنافِقين مِن أهلِ يَثرِبَ عرَبٌ، ويُفيدُ بالاحتِمالِ الآخَرِ الإخبارَ عن المنافِقين بأنَّ إسلامَهم ليس صادقًا، أي: ما همْ منكم أيُّها المسلِمونَ، وهو المقصودُ، ويكونُ قولُه: وَلَا مِنْهُمْ على هذا الاحتِمالِ احتِراسًا [392] الاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). وتتْميمًا [393] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْم اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). لحِكايةِ حالِهم، وعلى هذا الاحتِمالِ يَكونُ ذمُّ المنافقين أشَدَّ؛ لأنَّه يدُلُّ على حَماقتِهم؛ إذ جَعَلوا لهم أولياءَ مَن لَيسوا على دِينِهم، فهمْ لا يُوثَقُ بوِلايتِهم، وأضْمَروا بُغضَ المسلمينَ، فلم يُصادِفوا الدِّينَ الحقَّ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/48). .
- وقولُه: وَيَحْلِفُونَ عطْفٌ على تَوَلَّوْا، وجِيءَ به مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِه، ولاستِحضارِ الحالةِ العَجيبةِ في حِينِ حَلِفِهم على الكذِبِ؛ للتَّنصُّلِ ممَّا فَعَلوه [395] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/48). .
- وقولُه: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حالٌ مِن فاعلِ وَيَحْلِفُونَ، مُفيدةٌ لكَمالِ شَناعةِ ما فَعَلُوا [396] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/495)، ((تفسير البيضاوي)) (5/195)، ((تفسير أبي حيان)) (10/129)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 555)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 221)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/49). .
2- قولُه تعالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- جُملةُ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تَعليلٌ لإعدادِ العذابِ الشَّديدِ لهم، أي: إنَّهم عَمِلوا فيما مَضَى أعمالًا سيِّئةً مُتطاوِلةً مُتكرِّرةً، كما يُؤذِنُ به المضارعُ مِن قولِه: يَعْمَلُونَ [397] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/49). .
3- قولُه تعالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا عن جُملةِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة: 14] ؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ أنْ يَقولَ: ما ألْجَأَهم إلى الحَلِفِ على الكذِبِ؟ فأُجِيبَ بأنَّ ذلك لقَضاءِ مآرِبِهم، وزِيادةِ مَكْرِهم. ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ الجُملةُ خبَرًا ثانيًا لـ (إنَّ) في قولِه: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة: 15] ، وتكونَ داخلةً في التَّعليلِ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/49). .
- وفِعلُ (صَدُّوا) يَجوزُ أنْ يكونَ مُتعدِّيًا، وحُذِفَ مَفعولُه لظُهورِه، أي: فصَدُّوا النَّاسَ عن سَبيلِ اللهِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الفِعلُ قاصِرًا (لازمًا)، أي: فصَدُّوا همْ عن سَبيلِ اللهِ. ومَجيءُ فِعلِ فَصَدُّوا ماضيًا مُفرَّعًا على اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، مع أنَّ أيْمانَهم حصَلَت بعْدَ أنْ صَدُّوا عن سَبيلِ اللهِ على كِلا المعنيَينِ؛ مُراعًى فيه التَّفريعُ في قولِه: فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [399] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/50). .
- وفُرِّعَ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ على قولِه: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ ليُعلَمَ أنَّ ما اتَّخذوا مِن أيْمانِهم جُنَّةً سَببٌ مِن أسبابِ العَذابِ يَقْتضي مُضاعَفةَ العذابِ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/50). .
- وقد وُصِفَ العذابُ أوَّلَ مرَّةٍ بشَديدٍ -في قولِه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [المجادلة: 15] -، وهو الَّذي يُجازَون به على تَولِّيهم قومًا غضِبَ اللهُ عليهم وحَلِفِهم على الكذِبِ. ووُصِفَ عَذابُهم ثانيًا بأنَّه مُهِينٌ؛ لأنَّه جَزاءٌ على صدِّهم النَّاسَ عن سَبيلِ الله، وهذا معْنَى شَديدِ العذابِ مِن أجْلِ عَظيمِ الجُرْمِ، وإنَّما وعدَهم اللهُ العذابَ المُهينَ المُخزيَ؛ لكُفرِهم وصَدِّهم، كقولِه تعالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل: 88] ، فهو وَعيدٌ ثانٍ بوَصفٍ آخَرَ لعذابِهم، فكان العَذابُ مُناسِبًا للمَقصدَينِ في كفْرِهم، وهو عَذابٌ واحدٌ فيه الوصْفانِ. وكُرِّرَ ذِكرُه إبلاغًا في الإنذارِ والوعيدِ؛ فإنَّه مَقامُ تَكريرٍ، مع تَحسينِه باختِلافِ الوصْفَينِ، وقيلَ: الأوَّلُ عذابُ القبرِ، وهذا عذابُ الآخِرةِ [401] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/495)، ((تفسير البيضاوي)) (5/196)، ((تفسير أبي السعود)) (8/222)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/50). .
4- قولُه تعالَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا فيه إقحامُ حرْفِ النَّفيِ (لا) في المعطوفِ وَلَا أَوْلَادُهُمْ على المَنفيِّ؛ لتَوكيدِ انتفاءِ الإغناءِ [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/51). .
- وجُملةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ في مَوضعِ العِلَّةِ لجُملةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أي: لأنَّهم أصحابُ النارِ، أي: حقَّ عليهم أنَّهم أصحابُ النَّارِ، أيْ: مُلازِمُوها ومُقارِنُوها؛ إذ قد تقرَّرَ مِن قولِه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [المجادلة: 15] ومِن قولِه: فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة: 16] أنَّهم لا مَحيصَ لهم عن النَّارِ، فكيف تُغْني عنهم أموالُهم وأولادُهم شيئًا مِن عذابِ النَّارِ؟! فاسمُ الإشارةِ في مِثلِ هذا الموقعِ يُنبِّهُ على أنَّ المشارَ إليه صار جديرًا بما يَرِدُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن أجْلِ الأخبارِ الَّتي أُخبِرَ بها عنه قبْلَ اسمِ الإشارةِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/51، 52). .
- وجاء قولُه تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ بغيرِ فاءٍ، موافَقةً للجُمَلِ الَّتي قبْلَها، وموافقةً لقوله أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ [404] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 235)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/457). [المجادلة: 22] .
5- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ هذا مُتَّصلٌ بقولِه: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ إلى قولِه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [405] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/52). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ لَفظُ يَوْمَ مَنصوبًا على المفعولِ به لفِعلٍ تَقديرُه: اذكُرْ؛ تَنويهًا بذلك اليومِ، وتَهويلًا عليهم [406] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/24، 52). .
- وحَلِفُهم للهِ في الآخِرةِ إشارةٌ إلى ما حكاهُ اللهُ عنْهم في قولِه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ في صِفةِ الحَلِفِ، وهي قولُهم: إنَّهم غيرُ مشرِكين، وفي كَونِه حَلِفًا على الكذِبِ وهم يَعلَمون؛ ولذلك سمَّاه تعالى فِتنةً في قولِه تعالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/52). [الأنعام: 23] .
- وحُذِفَت صِفةُ شَيْءٍ؛ لظُهورِ معْناها مِن المَقامِ، أي: على شَيءٍ نافعٍ [408] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/130)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/52). .
- وخُتِمَ الكلامُ بقولِه: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وهو تَذييلٌ جامعٌ لحالِ كَذِبِهم الَّذي ذكَرَه اللهُ بقولِه: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [المجادلة: 14] ، فالمرادُ أنَّ كذِبَهم عليكم لا يُماثِلُه كذِبٌ، حتَّى قُصِرَت صِفةُ الكاذبِ عليهم بضَميرِ الفصْلِ في قولِه: إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [409] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). للمُبالَغةِ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ بكذِبِ غَيرِهم، وأُكِّدَ ذلك بحرْفِ التَّوكيدِ تَوكيدًا لمُفادِ الحصْرِ الادِّعائيِّ، وهو أنَّ كذِبَ غَيرِهم كَلا كَذبٍ في جانبِ كَذِبِهم، وبأداةِ الاستِفتاحِ المُقتضيةِ استِمالةَ السَّمْعِ لخبَرِهم؛ لتَحقيقِ تَمكُّنِ صِفةِ الكذِبِ منهم، حتَّى إنَّه يُلازِمُهم يومَ البعثِ [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/53). .
6- قولُه تعالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما سِيقَ مِن وصْفِهم بانحصارِ صِفةِ الكذِبِ فيهم، يُثيرُ سُؤالَ السَّامعِ أنْ يَطلُبَ السَّببَ الَّذي بلَغَ بهم إلى هذا الحالِ الفظيعِ، فيُجابُ بأنَّه استِحواذُ الشَّيطانِ عليهم، وامتلاكُه زِمامَ أنفُسِهم يُصرِّفُها كيف يُريدُ، وهل يَرْضى الشَّيطانُ إلَّا بأشَدِّ الفسادِ والغَوايةِ [411] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/54). ؟!
- والاستِحواذُ: الاستِيلاءُ والغلَبُ، وهو استِفعالٌ مِن حاذَ حَوذًا؛ إذا حاطَ شَيئًا وصرَّفَه كيف يُريدُ. يقال: حاذَ العِيرَ؛ إذا جمَعَها وساقَها غالِبًا لها، فاشتَقُّوا منه (استَفعَلَ) للَّذي يَسْتولي بتَدبيرٍ ومُعالَجةٍ؛ ولذلك لا يُقال: (استَحْوذَ) إلَّا في استيلاءِ العاقلِ؛ لأنَّه يَتطلَّبُ وَسائلَ استيلاءٍ. والسِّينُ والتاءُ للمُبالَغةِ في الغلَبِ، مِثْلها في (استجابَ) [412] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/54). .
- والذِّكرُ يُطلَقُ على نُطقِ اللِّسانِ باسمٍ أو كَلامٍ، وهو هنا مُستعمَلٌ في صَريحِه وكِنايتِه، أي: مُستعمَلٌ في لازِمِه، وهو العِبادةُ والطاعةُ؛ لأنَّ المعْنى: أنَّه أنْساهم تَوحيدَ اللهِ بكَلمةِ الشَّهادةِ، والتَّوجُّهِ إليه بالعِبادةِ، والَّذي لا يَتذكَّرُ شَيئًا لا يَتوجَّهُ إلى واجباتِه [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- جُملةُ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ نَتيجةٌ وفَذْلَكةٌ [414] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لقولِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ؛ فإنَّ الاستِحواذَ يَقْتضي أنَّه صيَّرَهم مِن أتْباعِه [415] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- وجِيءَ التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ لزِيادةِ تَمييزِهم؛ لئلَّا يُتردَّدَ في أنَّهم حِزبُ الشَّيطانِ [416] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- وجُملةُ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ واقِعةٌ مَوقعَ التَّفرُّعِ والتَّسبُّبِ على جُملةِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: فإنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هم الخاسِرون؛ ولذلك عُدِلَ عن ذلك إلى حرْفِ الاستِفتاحِ تَنبيهًا على أهمِّيَّةِ مَضمونِها، وأنَّه ممَّا يَحِقُّ العِنايةُ باستِحضارِه في الأذهانِ؛ مُبالَغةً في التَّحذيرِ مِن الاندماجِ فيهم، والتَّلبُّسِ بمِثلِ أحوالِهم المذكورةِ آنفًا. وزِيدَ هذا التَّحذيرُ اهتمامًا بتأْكيدِ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ) وبصِيغةِ القصْرِ؛ إذ لا يَتردَّدُ أحدٌ في أنَّ حِزبَ الشَّيطانِ خاسِرون؛ فإنَّ ذلك مِن القَضايا المُسلَّمةِ بيْن البشَرِ؛ فلذلك لم تكُنْ هذه المُؤكِّداتُ لرَدِّ الإنكارِ، بلْ لتَحذيرِ المسلِمينَ أنْ تَغُرَّهم حَبائلُ الشَّيطانِ، وتَرُوقَ في أنظارِهم بَزَّةُ المنافِقِين، وتَخدَعَهم أيْمانُهم الكاذبةُ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- وإظهارُ كَلمةِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ دونَ ضَميرِ (همْ)؛ لزِيادةِ التَّصريحِ، ولِتَكونَ الجُملةُ صالحةً للتَّمثُّلِ بها، مُستقِلَّةً بدَلالتِها [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هم) أفاد القصْرَ، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [419] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في مِقدارِ خُسرانِهم، وأنَّه لا خُسرانَ أشَدُّ منه، فكأنَّ كلَّ خُسرانٍ غَيرِه عدَمٌ، فيُدَّعى أنَّ وصْفَ الخاسرِ مَقصورٌ عليهم [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/55). .
- في تَصديرِ جُملةِ: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ بحرْفَيِ التَّنبيهِ والتَّحقيقِ، وإظهارِ المُضافَينِ معًا في مَوقعِ الإضمارِ، وتَوسيطِ ضَميرِ الفصلِ مِنْ فُنونِ التَّأكيدِ ما لا يَخْفَى [421] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/223). .