موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (11-13)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ: أي: يَنهَزِمونَ، يُقالُ: ولَّاه دُبُرَه: إذا انهزَم. والتَّولِّي: الإعراضُ بعدَ الإقبالِ. والإدبارُ: الذَّهابُ إلى جِهةِ الخَلفِ، وأصلُ (دبر): يدُلُّ على خِلافِ القُبُلِ [274] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 79)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
رَهْبَةً: أي: خَوفًا وخَشيةً، وأصلُ (رهب): يدُلُّ على خَوفٍ [275] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/447)، ((المفردات)) للراغب (ص: 366)، ((تفسير القرطبي)) (18/35)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ تعالى عن المنافِقِينَ، حينَ بعَثوا إلى يهودِ بَني النَّضيرِ يَعِدونهم النَّصرَ مِن أنفُسِهم، فيقولُ تعالى: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- إلى المنافِقينَ الَّذين يقولونَ لإخوانِهم في الكُفرِ مِن يَهودِ بني النَّضيرِ: لَئِنْ أخرَجَكم المُسلِمونَ مِن ديارِكم لَنَخرُجَنَّ معكم مِن المدينةِ، ولن نُطيعَ في شأنِكم مُحمَّدًا ولا غيرَه مِمَّن يَسألُنا خِذْلانَكم، ولَئِنْ قاتَلَكم محمَّدٌ ومَن مَعَه لَنَنصُرَنَّكم عليهم، واللهُ يَشهَدُ إنَّ هؤلاء المُنافِقينَ لَكاذِبونَ فيما قالوا!
 لَئِنْ أُخرِجَ يهودُ بَني النَّضيرِ مِن ديارِهم لا يخرُجُ معهم أولئك المُنافِقونَ، ولَئِن قُوتِلوا لا يَنصُرونهم، ولَئِنْ نَصَروهم -على سَبيلِ الفَرضِ والتَّقديرِ- فقاتَلوا معهم عَدُوَّهم، لَيَفِرُّون ويَهرُبونَ مُنهَزِمينَ، ثمَّ لا يُنصَرونَ.
لَخَوفُهم منكم -أيُّها المؤمِنونَ- أشَدُّ مِن خَوفِهم مِنَ اللهِ تعالى؛ لأنَّهم قَومٌ لا يَعلَمونَ قَدْرَ عَظَمةِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه.

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى حالَ المُؤمِنينَ؛ أتْبَعَه بذِكرِ حالِ المنافِقينَ [276] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/251). .
وأيضًا لَمَّا ذُكِر ما حلَّ ببَني النَّضيرِ وما اتَّصَلَ به مِن بَيانِ أسبابِه، ثمَّ بَيانِ مَصارِفِ فَيئِهم وفَيءِ ما يُفتَحُ مِن القُرى بعْدَ ذلك؛ أُعقِبَ بذِكرِ أحوالِ المنافِقينَ مع بَني النَّضيرِ وتَغريرِهم بالوُعودِ الكاذبةِ؛ ليَعلَمَ المُسلِمون أنَّ النِّفاقَ سَجيَّةٌ في أولئك، لا يَتخلَّون عنه ولو في جانبِ قومٍ همُ الَّذين يَوَدُّون أنْ يَظهَروا على المسلِمينَ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/98). .
أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.
أي: ألم يَنْتَهِ علمُك -يا محمَّدُ- إلى المنافِقينَ الَّذين يقولونَ لإخوانِهم في الكُفرِ مِن يَهودِ بني النَّضيرِ: نُقسِمُ باللهِ لَئِنْ أخرَجَكم المُسلِمونَ مِن ديارِكم لَنَخرُجَنَّ معكم مِن المدينةِ [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/534)، ((الوسيط)) للواحدي (4/275، 276)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين (2/56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/98، 99). قال الشوكاني: (الخِطابُ لرَسولِ اللهِ، أو لكُلِّ مَن يَصلُحُ له. والَّذين نافَقوا هم: عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ وأصحابُه). ((تفسير الشوكاني)) (5/242). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بأهلِ الكتابِ هنا: يهودُ بني النَّضيرِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابن كثير، والبِقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/534)، ((تفسير السمرقندي)) (3/ 430)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/446)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/535)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/115). وقيل: المرادُ: يَهودُ بَني قُرَيظةَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/280). وعلى هذا القولِ يكون المُنافِقونَ قد قالوا لهم ذلك بعدَ أن أُجليَ بَنو النَّضيرِ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/404). قال مقاتل: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لئن أخرَجكم محمَّدٌ مِن المدينةِ كما أخرَج أهلَ النَّضيرِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/280). وقيل: المرادُ: يهودُ بني قُرَيظةَ والنَّضيرِ. وممَّن ذهب إلى هذا: الثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/284)، ((تفسير البغوي)) (5/62)، ((تفسير القرطبي)) (18/34). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زَمَنِين)) (4/370). ؟
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا.
أي: ولن نُطيعَ في شأنِكم مُحمَّدًا ولا غيرَه مِمَّن يَسألُنا خِذْلانَكم، ويَدْعونا إلى تَركِ نُصرتِكم [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير القرطبي)) (18/34)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ.
أي: ولَئِنْ قاتَلَكم محمَّدٌ ومَن مَعَه لَنَنصُرَنَّكم عليهم، فنُعينُكم على قِتالِهم [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير الشوكاني)) (5/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
أي: واللهُ يَشهَدُ إنَّ هؤلاء المُنافِقينَ لَكاذِبونَ فيما وَعَدوا به يهودَ بَني النَّضيرِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير القرطبي)) (18/34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852). قال ابنُ كثير: (أي: لَكاذِبونَ فيما وَعَدوهم به؛ إمَّا أنَّهم قالوا لهم قولًا مِن نِيَّتِهم ألَّا يَفُوا لهم به، وإمَّا أنَّهم لا يَقَعُ منهم الَّذي قالوه). ((تفسير ابن كثير)) (8/74). .
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا شَهِدَ اللهُ تعالى على كَذِبِ المنافِقينَ على سَبيلِ الإجمالِ؛ أتْبَعَه بالتَّفصيلِ [282] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/509). .
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ.
أي: لَئِنْ أُخرِجَ يَهودُ بني النَّضيرِ مِن ديارِهم لا يخرُجُ معهم أولئك المُنافِقونَ الَّذين وَعَدوهم الخُروجَ [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852). قال الشوكاني: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وقد كان الأمرُ كذلك؛ فإنَّ المنافِقينَ لم يَخرُجوا مع مَن أُخرِج مِن اليهودِ، وهم بَنو النَّضيرِ ومَن معهم، ولم يَنصُروا مَن قُوتِل مِن اليَهودِ، وهم بَنو قُرَيْظةَ وأهلُ خَيْبَرَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/243). وقال ابنُ عاشور: (ضميرُ أُخْرِجُوا وقُوتِلُوا عائِدانِ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر: 11] ، أي: الَّذين لم يُخْرَجوا ولَمَّا يُقاتَلوا، وهم قُرَيظةُ وخَيبرُ، أمَّا بنو النَّضيرِ فقد أُخرِجوا قبْلَ نُزولِ هذه السُّورةِ، فهم غيرُ مَعنيِّينَ بهذا الخبَرِ المستقبَلِ. والمعنى: لَئِنْ أُخرِجَ بَقيَّةُ اليهودِ في المستقبَلِ لا يَخرُجونَ معهم، ولَئِنْ قُوتِلوا في المستقبَلِ لا يَنصُرونَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ.
أي: ولَئِن قُوتِلوا لا يَنصُرُهم المنافِقونَ ولا يُقاتِلونَ معهم كما وَعَدوهم [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير السمعاني)) (5/404)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852). .
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ.
أي: ولَئِنْ نَصَرهم المُنافِقونَ -على سَبيلِ الفَرضِ والتَّقديرِ- فقاتَلوا معهم عَدُوَّهم، لَفَرَّ المنافِقونَ وهَرَبوا مُنهَزِمينَ [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير الرازي)) (29/509، 510)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852). .
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ.
أي: ثمَّ لا يُنصَرُ الكفَّارُ مِن بَعدِ ذلك [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/101). قيل: المرادُ: لا يُنصَرُ بنو النَّضيرِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، والواحديُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7398)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير البغوي)) (5/62)، ((تفسير الخازن)) (4/273). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (28/101). وقيل: المرادُ: لا يُنصَرُ المنافِقونَ. وهذا المعنى جوَّزه الزمخشريُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/506). وقيل: المرادُ: لا يُنصَرُ المنافِقونَ ولا اليهودُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: البِقاعي، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/449)، ((تفسير الشربيني)) (4/252). قال البِقاعي: (لَمَّا كان مِن عادةِ العَرَبِ الكَرُّ بعدَ الفَرِّ، بَيَّنَ أنَّهم لا كَرَّةَ لهم بعدَ هذه الفَرَّةِ وإن طال المَدى، فقال: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ أي: لا يتجَدَّدُ لفريقَيهم ولا لواحدٍ منهما نُصرةٌ في وقتٍ مِن الأوقاتِ، وقد صَدَق سُبحانَه؛ لم يَزَلِ المنافِقونَ واليهودُ في الذُّلِّ، ولا يَزالونَ). ((نظم الدرر)) (19/449). .
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان المقصودُ مِن ذِكرِ وَهْنِ المنافِقينَ في القِتالِ تشديدَ نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنفُسِ المؤمِنينَ؛ حتَّى لا يَرهَبوهم، ولا يَخشَوا مُسانَدتَهم لأهلِ حَربِ المُسلِمينَ؛ أحلافِ المنافِقينَ مِن اليهودِ- أعقَبَ ذلك بإعلامِ المؤمِنينَ بأنَّهم يَخشَونَ المُسلِمينَ خَشيةً شَديدةً، وُصِفت شِدَّتُها بأنَّها أشَدُّ مِن خَشيتِهم اللهَ تعالَى [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/101). .
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ.
أي: إنَّ الخَوفَ الكامِنَ في صُدورِهم منكم -أيُّها المؤمِنونَ- أشَدُّ مِن خَوفِهم مِنَ اللهِ تعالى [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير القرطبي)) (18/35)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74). والضَّميرُ في قَولِه تعالى: صُدُورِهِمْ قيل: عائدٌ إلى بني النَّضيرِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير القرطبي)) (18/35). وقيل: في صُدورِ المنافِقينَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمينُ الحلبي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/281)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/288). وقيل: في صُدورِ المنافِقينَ واليهودِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ عطيَّة، وابنُ جُزَي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/289)، ((تفسير ابن جزي)) (2/362)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/101، 102). !
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ.
أي: خَوفُهم مِن المسلِمينَ أعظَمُ مِن خَوفِهم مِنَ اللهِ تعالى؛ لأنَّهم قَومٌ لا يَعلَمونَ قَدْرَ عَظَمةِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه؛ فيُدرِكوا أنَّه هو وَحْدَه مَنْ يَنبَغي أن يُخشَى [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/536)، ((تفسير الرازي)) (29/510)، ((تفسير القرطبي)) (18/35)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/104). قال ابنُ عاشور: (الفِقهُ: فَهمُ المعاني الخفيَّةِ... ذلك أنَّهم تَبِعوا دواعيَ الخَوفِ المشاهَدِ، وذَهِلوا عن الخَوفِ المُغَيَّبِ عن أبصارِهم، وهو خَوفُ اللهِ؛ فكان ذلك من قِلَّةِ فَهمِهم للخَفِيَّاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/104). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دليلٌ على أنَّ سَجايا المنافِقينَ مَجبولةٌ على مُنافَقةِ أوليائِهم وأعدائِهم معًا! فهو تنبيهٌ بَيِّنٌ أنَّ الاستِنامةَ إلى وُدِّ مَن ليس يَتَّقي، والمُعَوَّلَ على وَلايتِه: ليس مِن فِعْلِ ذوي التَّحصيلِ، ولا يُغتَرُّ به مِن خليلٍ، ويؤيِّدُ هذا قولُه سُبحانَه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، فلو كانت خُلَّتُهم في الدُّنيا مُستقيمةً لَكانوا بها مُحسِنينَ، والإحسانُ لا يعودُ سَيِّئًا فيَضمَحِلَّ، كما لم تَضمَحِلَّ خُلَّةُ المتَّقينَ، وكانت في الدُّنيا والآخِرةِ مُتَّصِلةً لهم غيرَ مُنقَطِعةٍ بهم [290] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/260). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ إنَّما الفِقهُ كُلُّ الفِقهِ أن يكونَ خَوفُ الخالِقِ ورَجاؤُه ومحَبَّتُه مُقَدَّمةً على غَيرِها، وغَيرُها تبَعًا لها [291] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 851). .
3- في قَولِه تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ حُجَّةٌ لِمَن يَقولُ: (خَوِّفِ المنافِقَ بالنَّاسِ، والمؤمِنَ باللهِ جلَّ وعزَّ) [292] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/261). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أنَّه سُبحانَه يَشهَدُ على كَذِبِهم. ووَجهُه: أنَّ ما يُسِرُّونَه هو في قُلوبِهم، ولا يَعلَمُ ما في القُلوبِ إلَّا عَلَّامُ الغُيوبِ، فكأنَّ هذا المضمَرَ في قُلوبِهم بالنِّسبةِ إلى اللهِ أمرٌ مَشهودٌ يُرى بالعَينِ، كما قال اللهُ تبارك وتعالى في سورةِ (المنافِقونَ): وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [293] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/233). [المنافقون: 1] .
2- قولُه: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَمَّا كان قولُهم لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ كلامًا يَقضي عليه سامعُه بالصِّدقِ مِن حيثُ كَونُه مُؤكَّدًا مع كونِه مُبتدَأً من غيرِ سؤالٍ فيه؛ بيَّن حالَه سُبحانَه بقولِه: وَاللَّهُ يَشْهَدُ، أي: يقولون ذلك والحالُ أنَّ المحيطَ بكلِّ شيءٍ قُدرةً وعِلمًا يَشهَدُ بما يَعلمُ مِن بواطنِهم في عالَمِ الغَيبِ. ولَمَّا كان بعضُ مَن يَسمَعُ قولَهم هذا يُنكِرُ أنْ لا يُطابِقَه الواقعُ، وكان إخلافُهم فيه مُتحقِّقًا في عِلمِ اللهِ؛ أطْلَق عليه ما لا يُطلَقُ إلَّا على ما كشَفَ الواقعُ عن أنَّه غيرُ مُطابقٍ، فقال تَشجيعًا للمؤمنينَ على قِتالِهم مؤكِّدًا: إِنَّهُمْ، أي: المنافِقون لَكَاذِبُونَ [294] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/447، 448). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ... هذا مِن أعظمِ دَلائلِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّه إخبارٌ بمُغَيَّبٍ بعيدٍ عن العادةِ بشَهادةِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا [الحشر: 2] ، فحَقَّقه اللهُ عن قريبٍ [295] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/447، 448). ، ففيه دَليلٌ على صِحَّةِ النبُوَّةِ؛ لأنَّه إخبارٌ بالغَيبِ [296] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/145). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عادل)) (18/599). .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فيه سُؤالٌ: كيف قال: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ بعدَ قولِه: لَا يَنْصُرُونَهُمْ؟
الجوابُ: أنَّ المعنى على الفَرضِ والتَّقديرِ، أي: ولَئِنْ نَصَروهم فَرضًا وتقديرًا، كقَولِه تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [297] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/361)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 557). [الزمر: 65] .
وقيل: قَولُه: لَا يَنْصُرُونَهُمْ أي: طائعينَ. وقَولُه: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي: مُكرَهينَ.
وقيل: قولُه: لَا يَنْصُرُونَهُمْ أَي: لا يَدومون على نَصرِهم. وقولُه: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي: نصَروهم في الابتِداءِ. وقيل غيرُ ذلك [298] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/404). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ هذا بِشارةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمينَ، بأنَّ اللهَ أوقَعَ الرُّعبَ منهم في نُفوسِ عَدُوِّهم، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ )) [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/103). والحديث أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (335) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (521) مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنهما. .
6- قَولُ اللهِ تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ فيه سُؤالٌ: إنْ عُلِّقَ قَولُه: مِنَ اللَّهِ بـ أَشَدُّ لَزِمَ ثُبوتُ الخَوفِ لله، وهو مُحالٌ، أو بـ (الرَّهبةِ)، لَزِمَ كَونُ المؤمنينَ أشَدَّ خَوفًا مِن المذكورينَ، وليس مُرادًا؟
الجوابُ: الرَّهبةُ مَصدَرُ (رُهِبَ) بالبناءِ للمفعولِ هنا -على مذهبِ مَن يُجيزُ جعْلَ المصدرِ مَبنيًّا للمفعولِ- فالمعنى: أشَدُّ مَرهوبيَّةً، يعني: أنَّكم في صُدورِهم أَهيَبُ مِن كَونِ اللهِ تعالى فيها، ونظيرُه قولُك: (زَيدٌ أشَدُّ ضَربًا في الدَّارِ مِن عَمرٍو)، يعني: مَضروبيَّةً [300] يُنظر: ((أنموذج جليل)) لزين الدين الرازي (ص: 512)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 557). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/507). .
فإنْ قيل: كيفَ يستقيمُ التَّفضيلُ وهم ما كانوا يَرهبونَ الله؛ لأنَّهم لو رهبوه لتركوا النِّفاقَ والكُفرَ؟
قيل: رَهبَتُهم في السِّرِّ منكم أشَدُّ مِن رَهبتِهم مِنَ اللهِ تعالى الَّتي يُظهِرونَها لكم، وكانوا يُظهِرونَ للمُؤمِنينَ رَهبةً شَديدةً مِنَ اللهِ تعالى [301] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/507)، ((أنموذج جليل)) لزين الدين الرازي (ص: 512). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ الجُملةُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ [302] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/98)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/49). .
- قولُه: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ... الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن حالِ المنافِقينَ الَّذين طمَّعوا إخوانَهم مِن أهلِ الكِتابِ في نُصرتِهم وموالاتِهم على المؤمنينَ، فبُنِيَ على نفْيِ العِلمِ بحالِهم كِنايةً عن التَّحريضِ على إيقاعِ هذا العِلمِ، كأنَّه يقولُ: تأمَّلِ الَّذين نافَقوا في حالِ مَقالتِهم لإخوانِهم، ولا تَترُكِ النَّظرَ في ذلك؛ فإنَّه حالٌ عَجيبٌ [303] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/98). . وقيل: هو تعجُّبٌ مِنِ اغتِرارِ اليهودِ بما وعَدَهم المُنافِقونَ مِن النَّصرِ، مع عِلمِهم بأنَّهم لا يَعتقدون دِينًا ولا كِتابًا [304] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/34). .
- قولُه: يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ... استئنافٌ لبَيانِ المُتعجَّبِ منهُ، وصِيغةُ المُضارِعِ يَقُولُونَ للدَّلالةِ على استِمرارِ قَولِهِم، وتَكرُّرِ ذلك منهم، أي: يَقولون ذلك مُؤكِّدينه ومُكرِّرينَه لا على سَبيلِ البَداءِ أو الخاطرِ المَعدولِ عنه، أو لاستِحضارِ صُورتِه. وهذه الجُملةُ في مَوضعِ المفعولِ الثَّاني، والتَّقديرُ: ألمْ تَرَهُم قائِلينَ... [305] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/99)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/49). .
- والمرادُ بإخوانِهم بَنو النَّضيرِ، وإنَّما وصَفَهم بالإخُوَّةِ لهم؛ لأنَّهم كانوا مُتَّحدِين في الكُفْرِ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [306] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
- وفي وصْفِ إخوانِهم بأنَّهم الَّذِينَ كَفَرُوا إيماءٌ إلى أنَّ جانبَ الأُخوَّةِ بيْنَهم هو الكفْرُ، إلَّا أنَّ كُفرَ المنافِقينَ كُفْرُ الشِّركِ، وكُفْرَ إخوانِهم كُفْرُ أهلِ الكتابِ، وهو الكفْرُ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
- وإنَّما وَعَدوهم بالخُروجِ معهم بقولِه: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا؛ ليَطْمَئِنُّوا لنُصرتِهم؛ فهو كِنايةٌ عن النَّصرِ، وإلَّا فإنَّهم لا يَرضَون أنْ يُفارِقوا بِلادَهم [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
- وجُملةُ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا مَعطوفةٌ على جُملةِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ؛ فهي مِن المَقولِ لا مِن المُقسَمِ عليه، وقد أُعرِيَت عن المُؤكِّدِ؛ لأنَّ بَني النَّضيرِ يَعلَمون أنَّ المنافِقِين لا يُطِيعون الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلِمينَ؛ فكان المُنافِقون في غُنْيةٍ عن تَحقيقِ هذا الخبَرِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
- وفي قولِه: فِيكُمْ إيجازٌ بالحذْفِ، أي: في ضُرِّكم؛ إذ لا يَخطُرُ بالبالِ أنَّهم لا يُطِيعون مَن يَدْعُوهم إلى مُوالاةِ إخوانِهم [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/99). .
- قولُه: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أعلَمَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم كاذِبونَ في ذلك بعدَما أعْلَمه بما أقْسَموا عليه؛ تطمينًا لخاطِرِه؛ لئلَّا يَتوجَّسَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خِيفةً مِن بأسِ المنافِقينَ، وسمَّى اللهُ الخبرَ شهادةً؛ لأنَّه خبرٌ عن يَقينٍ بمنزلةِ الشَّهادةِ الَّتي لا يَتجازَفُ المخبِرُ في شأنِها [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
2- قولُه تعالَى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ
- قولُه: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ بَيانٌ لجُملةِ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر: 11] ، واللَّامُ مُوطِّئةٌ للقسَمِ، وهذا تأْكيدٌ مِن اللهِ تعالَى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم لنْ يَضُرُّوه شيئًا؛ لكَيْلَا يَعبَأَ بما بَلَغَه مِن مَقالتِهم [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
- وقد سُلِكَ في هذا البيانِ طَريقُ الإطنابِ؛ فإنَّ قولَه: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر: 11] جمَعَ ما في هاتَينِ الجُملتَينِ، فجاء بَيانُه بطَريقةِ الإطنابِ؛ لزِيادةِ تَقريرِ كَذِبِهم [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
- وقولُه: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ارتِقاءٌ في تَكذيبِهم على ما وَعَدوا به إخوانَهم، والواوُ واوُ الحالِ، وليست واوَ العطْفِ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/100). .
- وحرْفُ (ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ انتِفاءَ النَّصرِ أعظَمُ رُتبةً في تأْييسِ أهلِ الكتابِ مِن الانتفاعِ بإعانةِ المنافِقِين، فهو أقْوى مِن انهزامِ المنافِقينَ إذا جاؤوا لإعانةِ أهْلِ الكتابِ في القتالِ، والمقصودُ تَثبيتُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمينَ، وتأْمينُهم مِن بأْسِ أعدائِهم [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/101). .
3- قولُه تعالَى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ إنَّ خَشيةَ جَميعِ الخلْقِ مِن اللهِ أعظَمُ خَشيةً، فإذا بلَغَت الخشيةُ في قلْبِ أحدٍ أنْ تكونَ أعظَمَ مِن خَشيةِ اللهِ، فذلك مُنتهَى الخشيةِ. والمقصودُ تَشديدُ نُفوسِ المسلِمينَ؛ ليَعلَموا أنَّ عدُوَّهم مُرْهَبٌ منهم، وذلك ممَّا يَزيدُ المسلِمينَ إقدامًا في مُحاربتِهم؛ إذ ليس سِياقُ الكلامِ للتَّسجيلِ على المنافِقِين واليهودِ قِلَّةَ رَهْبَتِهم للهِ، بلْ إعلامُ المسلِمينَ بأنَّهم أرهَبُ لهم مِن كلِّ أعظَمِ الرَّهَباتِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/101، 102). .
- قولُه: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ هذا تَركيبٌ غَريبُ النَّسْجِ بَديعُه! والمألوفُ في أداءِ مِثلِ هذا المعْنى أنْ يُقالَ: (لَرَهْبَتُهم منكم في صُدورِهم أشدُّ مِن رَهبتِهم مِن اللهِ)؛ فحُوِّلَ عن هذا النَّسجِ إلى النَّسجِ الَّذي حُبِكَ عليه في الآيةِ؛ لِيَتأتَّى الابتداءُ بضَميرِ المسلِمينَ اهتمامًا به، ولِيَكونَ مُتعلِّقُ الرَّهبةِ ذَواتِ المسلِمينَ؛ لتَوقُّعِ بَطْشِهم، وليأتِيَ التَّمييزُ المُحوَّلُ عن الفاعِلِ -على قولٍ-؛ لِما فيه مِن خُصوصيَّةِ الإجمالِ مع التَّفصيلِ، ولِيَتأتَّى حذْفُ المُضافِ في تَركيبِ مِنَ اللَّهِ؛ إذ التَّقديرُ: مِن رَهبةِ اللهِ؛ لأنَّ حَذْفَه لا يَحسُنُ إلَّا إذا كان مَوقعُه مُتَّصلًا بلَفظِ (رَهْبة)؛ إذ لا يَحسُنُ أنْ يُقالَ: (لَرَهْبتُهم أشدُّ مِن اللهِ)؛ فاليهودُ والمنافِقون مِن شأْنِهم أنْ يَخشَوا اللهَ؛ أمَّا اليهودُ فلأنَّهم أهلُ دِينٍ، فهمْ يَخافون اللهَ ويَحذَرون عِقابَ الدُّنيا وعِقابَ الآخرةِ، وأمَّا المنافِقون فهُمْ مُشرِكون، وهم يَعترِفون بأنَّ اللهَ تعالَى هو الإلهُ الأعظَمُ، وأنَّه أَولى الموجوداتِ بأنْ يُخْشَى؛ لأنَّه ربُّ الجميعِ، وهمْ لا يُثبِتون البعثَ والجزاءَ، فخَشْيتُهم اللهَ قاصرةٌ على خَشيةِ عَذابِ الدُّنيا مِن خسْفٍ وقحْطٍ واستِئصالٍ، ونحوِ ذلك، وليس وراءَ ذلك خَشيةٌ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/102، 103). .
- ووَجْهُ وَصْفِ الرَّهبةِ بأنَّها فِي صُدُورِهِمْ الإشارةُ إلى أنَّها رهبةٌ جِدُّ خَفيَّةٍ، أي: إنَّهم يَتظاهَرون بالاستِعدادِ لحرْبِ المسلِمينَ، ويَتطاوَلون بالشَّجاعةِ ليَرهَبَهم المسلِمون، وما همْ بتلك المَثابةِ، فأطْلَعَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على دَخيلتِهم، فليس قولُه: فِي صُدُورِهِمْ وصْفًا كاشفًا [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/103). والصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ، ومن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/299، 314). .
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ لَمَّا حصَلَت البِشارةُ مِن الخبَرِ عن الرُّعبِ الَّذي في قُلوبِهم، ثُنِيَ عِنانُ الكلامِ إلى مَذمَّةِ هؤلاء الأعداءِ مِن جَرَّاءِ كَونِهم أخوفَ للنَّاسِ منهم للهِ تعالَى؛ بأنَّ ذلك مِن قِلَّةِ فِقهِ نُفوسِهم، ولو فَقِهُوا لَكانوا أخوفَ للهِ منهم للنَّاسِ، فنَظَروا فيما يُخلِّصُهم مِن عِقابِ التَّفريطِ في النَّظرِ في دَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَلِموا صِدقَه، فنَجَوْا مِن عَواقبِ كُفْرِهم به في الدُّنيا والآخِرةِ، فكانت رَهبتُهم مِن المسلمينَ هذه الرَّهبةَ مُصيبةً عليهم، وفائدةً للمسلمينَ؛ فالجُملةُ مُعترِضةٌ بيْن البيانِ ومُبَيَّنِه [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/103). .
- والإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى المذكورِ مِن قولِه: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، واجتلابُ اسمِ الإشارةِ ليَتميَّزَ الأمرُ المحكومُ عليه أتمَّ تَمييزٍ؛ لغَرابتِه [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/104). .
- والإتيانُ بلَفظِ قَوْمٌ؛ لِما يُؤذِنُ به مِن أنَّ عَدَمَ فِقهِ أنفُسِهم أمْرٌ عُرِفوا به جميعًا، وصار مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، لا يَخْلو عنه أحدٌ منهم [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/104). .