موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (14-17)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ

غريب الكلمات:

مُحَصَّنَةٍ: أي: مُحكَمةٍ مُمتَنِعةٍ بالأسوارِ والخنادقِ، وأصلُ (حصن): يدُلُّ على حِفظٍ وحِياطةٍ .
جُدُرٍ: أي: حيطانٍ وأسوارٍ، إلَّا أنَّ الحائِطَ يُقالُ اعتبارًا بالإحاطةِ بالمكانِ، والجِدارَ يُقالُ اعتبارًا بالنُّتوءِ والارتِفاعِ .
بَأْسُهُمْ: أي: عداوتُهم، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما شابَهَها .
شَتَّى: أي: مُختَلِفةٌ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ .
وَبَالَ: الوبالُ: الجزاءُ والثِّقلُ والعاقِبةُ، وأيضًا: الوَخامةُ وسُوءُ العاقِبةِ، وأصلُ (وبل): يدُلُّ على شِدَّةٍ فِي شَيءٍ وتجَمُّعٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: لا يُقاتِلُكم المنافِقونَ واليَهودُ -أيُّها المُسلِمونَ- وهم مجتَمِعونَ، إلَّا في مُدُنٍ آمِنةٍ مُحاطةٍ بالحُصونِ، أو مِن وراءِ جُدرانٍ وأسوارٍ، عداوتُهم بيْنَهم شَديدةٌ، تَظُنُّ أنَّهم مُجتَمِعونَ، والحَقُّ أنَّ قُلوبَهم مُختَلِفةٌ؛ بسَبَبِ أنَّهم قَومٌ لا عَقْلَ لهم!
ثمَّ يقولُ تعالى ضاربًا المثَلَ؛ تثبيتًا للمؤمنينَ، وتهوينًا مِن شأنِ أعدائِهم: مَثَلُ اليَهودِ والمنافِقِينَ كمَثَلِ الَّذين مِن قَبلِهم مِن يَهودِ بني قَينُقاعَ وكُفَّارِ قُرَيشٍ، قبْلَ وُقوعِ جَلاءِ بني النَّضيرِ بزَمَنٍ يَسيرٍ، نالوا جزاءَ كُفرِهم، فعَذَّبَهم اللهُ في الدُّنيا، ولهم عَذابٌ شَديدٌ في الآخِرةِ.
ويَضرِبُ مثلًا آخَرَ فيقولُ: مَثَلُ أولئك المنافِقينَ الَّذين وَعَدوا يَهودَ بَني النَّضيرِ الخُروجَ معهم إن أُخرِجوا، والنُّصرةَ لهم إن قُوتِلوا، ثمَّ خَذَلوهم، ومثلُ  اليهودِ في اغترارِهم بهم؛ كمَثَلِ الشَّيطانِ إذ قال للإنسان: اكفُرْ باللهِ، فلمَّا كَفَر الإنسانُ بالله تبَرَّأَ منه الشَّيطانُ وخَذَلَه، وقال له: إنِّي أخافُ اللهَ ربَّ العالَمينَ! فكان آخِرَ أمْرِهما أنَّهما في النَّارِ ماكِثَينِ فيها أبَدًا، وذلك جزاءُ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيات:

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَر الله تعالى برَهْبَتِهم؛ دلَّ عليها بقولِه :
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ.
أي: لا يُقاتِلُكم المنافِقونَ واليَهودُ -أيُّها المُسلِمونَ- وهم مجتَمِعونَ، إلَّا في مُدُنٍ آمِنةٍ مُمَنَّعةٍ بالحُصونِ، أو مِن وراءِ جُدرانٍ وأسوارٍ وحِيطانٍ، فلا يَبرُزونَ لقِتالِكم؛ مِن شِدَّةِ جُبنِهم، وخَوفِهم منكم .
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ.
أي: عداوةُ بَعضِهم لِبَعضٍ عَداوةٌ شَديدةٌ .
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.
أي: تَظُنُّ أنَّهم مُجتَمِعونَ على كَلِمةٍ واحِدةٍ، والحَقيقةُ أنَّ قُلوبَهم مُختَلِفةٌ، وفي غايةِ التَّفَرُّقِ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: وُقوعُ مُعاداةِ بَعضِهم لبَعضٍ، وتَشَتُّتُ آرائِهم، وتَفَرُّقُ أهوائِهم؛ بسَبَبِ أنَّهم قَومٌ لا عَقْلَ لهم؛ حيثُ وَقَعوا فيما يَعلَمونَ ضَرَرَه، وأهمَلوا النَّظَرَ في عواقبِ الأُمورِ .
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان الإخبارُ بعَدَمِ عَقْلِهم دَعوى؛ دَلَّ عليها بأمرٍ مُشاهَدٍ، فقال :
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا.
أي: مَثَلُ اليَهودِ والمنافِقينَ كمَثَلِ يَهودِ بني قَينُقاعَ الَّذين عَذَّبَهم اللهُ بالجَلاءِ مِنَ المدينةِ، وكَمَثَلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ الَّذين هُزِموا في بَدرٍ، وذلك قبْلَ وُقوعِ جَلاءِ بَني النَّضيرِ بزَمَنٍ يَسيرٍ .
ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ.
أي: نالوا جزاءَ كُفرِهم، فعَذَّبَهم اللهُ في الدُّنيا .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ شَديدُ الإيلامِ في الآخِرةِ .
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذا المَثَلُ مُتَّصِلٌ بقَولِه تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر: 15] كما يُفصِحُ عنه قَولُه في آخِرِه: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ الآيةَ، أي: مَثَلُهم في تَسبيبِهم لأنفُسِهم عذابَ الآخِرةِ كمَثَلِ الشَّيطانِ إذ يُوَسْوِسُ للإنسانِ بأن يَكفُرَ، ثمَّ يَترُكُه ويَتبَرَّأُ منه، فلا ينتَفِعُ أحَدُهما بصاحِبِه، ويَقَعانِ معًا في النَّارِ؛ فجُملةُ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ حالٌ مِن ضَميرِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر: 15] ، أي: في الآخِرةِ .
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ.
أي: مَثَلُ أولئك المنافِقينَ الَّذين وَعَدوا يَهودَ بَني النَّضيرِ الخُروجَ معهم إن أُخرِجوا، والنُّصرةَ لهم إن قُوتِلوا، ثمَّ خَذَلوهم، فما مِن شَيءٍ مِن ذلك فَعَلوا، ومثَلُ اليهودِ في اغترارِهم بهم- كمَثَلِ الشَّيطانِ حينَ سوَّل للإنسانِ الكُفرَ بالرَّحمنِ، وزَيَّنَه له، ووَعَده وَعدًا حَسَنًا بالنَّصرِ أو نَحوِه .
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ.
أي: فلمَّا كَفَر الإنسانُ باللهِ؛ اتِّباعًا للشَّيطانِ، وقَبولًا لتَزيينِه، واغترارًا بوَعدِه- تبَرَّأَ منه الشَّيطانُ وخَذَلَه !
كما قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي: قال الشَّيطانُ مُبَيِّنًا سَبَبَ تَبَرُّئِه مِن الإنسانِ الَّذي أطاعه في الكُفرِ: إنِّي أخافُ اللهَ الَّذي أوجَدَ جميعَ الخلائِقِ، وربَّاهم بنِعَمِه، فلا يُغْني أحَدٌ مِن خَلْقِه عن أحَدٍ شَيئًا إلَّا بإذْنِه؛ فليس لي قُدرةٌ على دَفعِ العذابِ عنك، أو جَلْبِ النَّفعِ لك .
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17).
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا.
أي: فكان آخِرَ أمْرِ ذلك الشَّيطانِ والإنسانِ أنَّهما في النَّارِ ماكِثَينِ فيها أبَدًا .
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
أي: والعاقِبةُ السَّيِّئةُ بالخُلودِ في النَّارِ هي جزاءُ كُلِّ مَن ظَلَم نَفْسَه بالكُفرِ باللهِ .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ فيه تَربيةٌ للمُسلِمينَ؛ لِيَحذَروا مِن التَّخالُفِ والتَّدابُرِ، ويَعلَموا أنَّ الأُمَّةَ لا تكونُ ذاتَ بأسٍ على أعدائِها إلَّا إذا كانت متَّفِقةَ الضَّمائِرِ، يَرَونَ رأيًا مُتماثِلًا في أُصولِ مَصالِحِهما المُشتَرَكةِ، وإن اختَلَفت في خُصوصيَّاتِها الَّتي لا تَنقُضُ أُصولَ مَصالحِها، ولا تُفَرِّقُ جامِعَتَها؛ وأنَّه لا يكفي في الاتِّحادِ تَوافُقُ الأقوالِ، ولا التَّوافُقُ على الأغراضِ، إلَّا أن تكونَ الضَّمائِرُ خالِصةً مِن الإحَنِ والعَداواتِ ، فاجتِماعُ النُّفوسِ مع تنافُرِ القُلوبِ واختِلافِها: أصلُ كُلِّ فَسادٍ، ومُوجِبُ كُلِّ تَخاذُلٍ، ومُقتَضٍ لتجاسُرِ العَدُوِّ؛ واتِّفاقُ القُلوبِ، والاشتراكُ في الهِمَّةِ، والتَّساوي في القَصدِ: يُوجِبُ كُلَّ ظَفَرٍ، وكُلَّ سعادةٍ .
2- عَن قَتادةَ في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال: (كذلك أهلُ الباطِلِ؛ مُختَلِفةٌ شَهادتُهم، مُختَلِفةٌ أهواؤُهم، مُختَلِفةٌ أعمالُهم، وهم مُجتَمِعونَ في عَداوةِ أهلِ الحَقِّ) .
3- أعظَمُ الأسبابِ في القَضاءِ على كِيانِ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ هو اختِلافُ القُلوبِ؛ وذلك لاستِلزامِه الفَشَلَ، وذَهابَ القُوَّةِ والدَّولةِ، وسبَبُ هذا الدَّاءِ الَّذي عَمَّت به البلوى إنَّما هو ضَعفُ العَقلِ؛ كما بيَّن الله تعالى ذلك في قولِه: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ثمَّ ذَكَر العِلَّةَ لكَونِ قُلوبِهم شَتَّى بقَولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، ولا شَكَّ أنَّ داءَ ضَعفِ العَقلِ الَّذي يُصيبُه فيُضعِفُه عن إدراكِ الحقائِقِ، وتمييزِ الحَقِّ مِن الباطِلِ، والنَّافِعِ مِن الضَّارِّ، والحَسَنِ مِن القَبيحِ: لا دواءَ له إلَّا إنارتُه بنُورِ الوَحيِ؛ لأنَّ نُورَ الوَحيِ يحيا به مَن كان مَيتًا، ويُضيءُ الطَّريقَ للمُتمَسِّكِ به .
4- في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أنَّه لا فائدةَ مِنِ اجتِماعِ الأبدانِ مع تَفَرُّقِ القلوبِ! الفائدةُ باجتماعِ القلوبِ وتآلُفِ القلوبِ ولو تباعدَتِ الأبدانُ، وكم مِن إنسانٍ يكونُ بيْنَك وبيْنَه مَوَدَّةٌ وصداقةٌ وهو بعيدٌ منك، وبعيدٌ عنك؟! وكم مِن إنسانٍ بالعكسِ؛ تَشعُرُ بأنَّه يُنافِقُك؛ وأنَّه لا يُكِنُّ لك المحَبَّةَ ولا الصَّداقةَ؛ ومع ذلك هو ملازِمٌ لك كمُلازَمةِ الظِّلِّ؟! فالشَّأنُ كلُّ الشَّأنِ بالقلوبِ . قال الإمامُ أحمدُ: (إنَّ لي إخوانًا لا ألْقاهم إلَّا في كلِّ سنةٍ مرَّةً، أنا أوثقُ بمودَّتِهم ممَّن ألقَى كلَّ يومٍ) .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- القِتالُ على الخَيلِ بالسِّلاحِ هو أعلى وأفضلُ مِن القِتالِ في الحُصونِ بالسِّلاحِ، فالحِصانُ خَيرٌ مِن الحُصونِ، ومَن لم يكُنْ قِتالُه إلَّا في الحُصونِ والجُدُرِ فهو مَذمومٌ كما قال تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ لَمَّا كان رُبَّما ظُنَّ أنَّ هذا عن عَجزٍ منهم لازِمٍ لهم، دَفَعَه بقَولِه إعلامًا بأنَّه إنَّما هو مِن مُعجِزاتِ هذا الدِّينِ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، أي: إذا أدارُوا رأيًا، أو حاربَ بَعضُهم بَعضًا -على قولٍ-؛ فجَرَّأَ المؤمِنينَ عليهم بأنَّ ما يَنظُرونَه مِن شِدَّتِهم وشَجاعتِهم إذا حارَبوا المُشرِكينَ، لا يُذكَرُ عندَ مُحارَبةِ المؤمِنينَ؛ كرامةً أكرَمَ اللهُ بها المؤمِنينَ، تتضَمَّنُ عَلَمًا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ، تقويةً لإيمانِهم، وإعلاءً لشَأنِهم .
3- قولُ اللهِ تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى فيه سُؤالٌ: كيف ذلك ونحنُ نراهم متَّفِقينَ؟
الجوابُ: أنَّ ظاهِرَ حالِهم حالُ اجتِماعٍ واتِّحادٍ، وهم في بواطِنِهم مُختَلِفونَ؛ فآراؤُهم غَيرُ مُتَّفِقةٍ، لا ألْفةَ بيْنَهم؛ لأنَّ بيْنَهم إِحَنًا وعَداواتٍ، فلا يَتعاضَدونَ، وهذا تقويةٌ للمؤمنينَ، وتَشجيعٌ لقُلوبِهم على قِتالِهم، والاستِخفافِ بجَماعتِهم .
4- في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أنَّ اليهودَ ليسوا مجتَمِعينَ -وذلك على أنَّ الضَّميرَ يعودُ عليهم-؛ ولذلك هم أحزابٌ شتَّى، وحتَّى داخِلَ الحزبِ الواحدِ مُتفَرِّقونَ؛ لأنَّهم لا يُمكِنُ أنْ يَجتَمِعوا وقد أَلْقَى اللهُ بيْنَهم العداوةَ والبَغضاءَ، لكنْ لاحِظْ أنَّ العَدُوَّينِ إذا كان لهما عدوٌّ ثالثٌ، اجتمَعا عليه لمقابلةِ العدوِّ الثَّالثِ؛ فاجتِماعُهم الآنَ ليس لأنَّهم مُتحابُّونَ مُتآلِفونَ أبدًا، ولا يمكِنُ أنْ نُصَدِّقَ، واللهُ يقولُ: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة: 64] ، لكِنَّهم اجتَمَعوا لهَدَفٍ واحدٍ ومَصلَحةٍ واحِدةٍ ضِدَّ عَدُوٍّ واحدٍ للجَميعِ، وهذا الاجتِماعُ لا شَكَّ أنَّه اجتِماعٌ ظاهِريٌّ فقط، مَقصودٌ لغيرِه، وليس مَقصودًا لِذاتِه ، فقُلوبُهم ليست مُتوادَّةً مُتوالِيةً إلَّا ما دام الغَرَضُ الَّذي يَؤُمُّونَه مُشتَرِكًا بيْنَهم، ثمَّ يَتخَلَّى بَعضُهم عن بعضٍ، بخِلافِ المؤمِنِ؛ فإنَّه يُحِبُّ المؤمِنَ، ويَنصُرُه بظَهرِ الغَيبِ، وإن تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعدَ الزَّمانُ .
5- العقلُ الصَّريحُ يُوجِبُ الاجتماعَ؛ فإنَّ الحقَّ لا يَختلِفُ ولا يَتناقَضُ، وقد بَيَّنَ سُبحانَه وتعالى أنَّ تَشَتُّتَ اليهودِ هو بسَبَبِ عَدَمِ العَقلِ، قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ، فالعَقلُ مدارُ الاجتماعِ، كما كان الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما أنَّ الهوى مدارُ الاختِلافِ .
6- في قَولِه تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أنَّ الشَّيطانَ يَخذُلُ الإنسانَ في المواطنِ التي يحتاجُ فيها إلى النَّصرِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
- قولُه: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ هذه الجُملةُ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر: 13] ؛ لأنَّ شِدَّةَ الرَّهبةِ مِن المسلمينَ تَشتمِلُ على شِدَّةِ التَّحصُّنِ لقِتالِهم إيَّاهم، أي: لا يَقدِرون على قِتالِكم إلَّا في هاتِه الأحوالِ .
- وهذا أيضًا كِنايةٌ عن مَصيرِهم إلى الهزيمةِ؛ إذ ما حُورِبَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إلَّا ذَلُّوا، كما قال عليٌّ رضِيَ اللهُ عنه، وهذا إطْلاعٌ لهم على تَطمينٍ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، ودَخائلِ الأعداءِ .
- قولُه: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئنافٌ سِيقَ لبَيانِ أنَّ ما ذُكِرَ مِن رَهبتِهم ليسَ لضَعْفِهِم وجُبْنِهم في أنفُسِهم؛ فإنَّ بأْسَهُم بالنِّسبةِ إلى أقرانِهِم شديدٌ -على قولٍ-، وإنَّما ضَعْفُهم وجُبْنُهم بالنِّسبةِ إليكم بما قذَفَ اللهُ تَعالَى في قُلوبِهم مِن الرُّعبِ . وقيل: هو استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الإخبارَ عن أهلِ الكِتابِ وأنصارِهم بأنَّهم لا يُقاتِلون المسلِمينَ إلَّا في قُرًى مُحصَّنةٍ المُفيدَ أنَّهم لا يتَّفِقون على جَيشٍ واحدٍ مُتسانِدين فيه؛ ممَّا يُثيرُ في نفْسِ السامعِ أنْ يَسأَلَ عن مُوجِبِ ذلك مع أنَّهم مُتَّفِقون على عَداوةِ المسلِمينَ، فيُجابُ بأنَّ بيْنهم بأسًا شديدًا وتَدابُرًا، فهمْ لا يَتَّفِقون .
- وافتُتِحَ الكلامُ بكَلمةِ بَأْسُهُمْ؛ للاهتِمامِ بالإخبارِ عنه بأنَّه بيْنَهم، أي: مُتسلِّطٌ مِن بَعضِهم على بَعضٍ، وليس بأْسُهم على المسلمينَ، وفيه تَهكُّمٌ .
- قولُه: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قيل: القلوبُ: العقولُ والأفكارُ، وإطلاقُ القلْبِ على العقلِ كَثيرٌ في اللُّغةِ؛ شُبِّهَت العقولُ المختلِفةُ مَقاصدُها بالجماعاتِ المُتفرِّقينَ في جِهاتٍ في أنَّها لا تَتلاقى في مَكانٍ واحدٍ .
- وأُتيَ بلَفظِ القومِ في قولِه: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ؛ إيماءً إلى أنَّ ذلك مِن آثارِ ضَعْفِ عُقولِهم حتَّى صارَتْ عُقولُهم كالمَعدومةِ؛ فالمُرادُ: أنَّهم لا يَعقِلون المَعقِلَ الصَّحيحَ، وإسنادُ الحُكْمِ إلى عُنوانِ (قَوم) يُؤذِنُ بأنَّ ذلك الحُكمَ كالجِبِلَّةِ المُقوِّمةِ للقوميَّةِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: لَا يَعْقِلُونَ، وفي الآيةِ الَّتي قبْلَها: لَا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13] ؛ ووَجْهُه: أنَّه لَمَّا قال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، أي: خَوفُهم منكم أشدُّ مِن خَوفِهم مِن اللهِ تَعالى؛ لأنَّهم يَعلَمون ظاهرًا، ولا يَعرِفون ما استَتَرَ عنْهم منه، والفَقيهُ: مَن يَستدرِكُ مِن الكلامِ ظاهرَه الجَليَّ، وغامِضَه الخَفيَّ، بسُرعةِ فِطنتِه، وجَودةِ قَريحتِه، فلمَّا رَهِبوا النَّبيَّ ما لم يَرهَبوا اللهَ عزَّ ذِكرُه، صاروا كمَن يَعرِفُ ما يَشهَدُه، ويَجهَلُ ما يَغيبُ عنْه، ولو فَقِهوا لَعَلِموا أنَّ لِما ظَهَرَ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باطنًا، خَفِيَ عنهم مِن أمْرِ اللهِ تَعالى؛ فلذلك وَصَفَهم بأنَّهم قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وقال هنا: لَا يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ مَعرِفةَ مآلِ التَّشتُّتِ في الرَّأيِ، وصَرْفِ البأسِ إلى المُشاركِ في المصلحةِ مِن الوهْنِ والْفَتِّ في ساعدِ الأُمَّةِ؛ مَعرِفةٌ مَشهورةٌ بيْن العُقلاءِ، فإهْمالُهم سُلوكَ ذلك جَعَلَهم سواءً مع مَن لا عُقولَ لهم، فكانت هذه الحالةُ شِقْوةً لهم حصَلَت منها سَعادةٌ للمسلمينَ .
2- قولُه تعالَى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: مَثَلُهم .
- قولُه: مِنْ قَبْلِهِمْ حرْفُ (مِن) صِلةٌ؛ لتأْكيدِ ارتباطِ الظَّرفِ بعامِلِه .
3- قولُه تعالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
- قولُه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ خَبرٌ ثانٍ للمُبتدأِ المُقدَّرِ مُبيِّنٌ لحالِهِم، مُتضمِّنٌ لحالٍ أُخْرَى لليهودِ، وهي اغترارُهم بمُقابَلةِ المنافقينَ أوَّلًا وخَيبتُهُم آخِرًا، وقد أُجْمِلَ في النَّظمِ الكريمِ، حيث أُسنِدَ كلٌّ مِن الخَبَرينِ إلى المقدَّرِ المضافِ إلى ضَميرِ الفَريقَينِ مِن غيرِ تَعيينِ ما أُسْنِدَ إليه بخُصوصِه؛ ثقةً بأنَّ السَّامعَ يَرُدُّ كلًّا مِن المَثَلَينِ إلى ما يُماثِلُه، كأنَّهُ قيلَ: مَثَلُ اليهودِ في حُلولِ العذابِ بهم كمَثَلِ الَّذينَ مِن قبْلِهم... إلخ، ومَثَلُ المنافِقينَ في إغرائِهِم إيَّاهُم على القتالِ -حسَبَما نُقِلَ عنهُم- كمَثَلِ الشَّيطانِ... . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وفي الآيةِ إيجازُ حذْفٍ، حُذِفَ فيها مَعطوفاتٌ مُقدَّرةٌ بعْدَ شرْطِ (لَمَّا) هي داخلةٌ في الشَّرطِ؛ إذ التَّقديرُ: فلمَّا كَفَرَ واستَمرَّ على الكفْرِ، وجاء يومَ الحشْرِ واعتَذَرَ بأنَّ الشَّيطانَ أضَلَّه؛ قال الشَّيطانُ: إنِّي بَريءٌ منك... إلخ .
- وجُملةُ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ تَعليلٌ كاذِبٌ مِن الشَّيطانِ لبَراءتِه مِن مُتَّبِعِه؛ وإلَّا فهو لا يَخافُ اللهَ .
4- قولُه تعالَى: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ مِن تَمامِ المَثَلِ، أي: كان عاقبةُ المُمثَّلِ بهما خُسرانَهما معًا، وكذلك تكونُ عاقبةُ الفريقَينِ المُمثَّلينِ أنَّهما خائبانِ فيما دبَّرَا وكادَا للمُسلِمينَ .
- وجُملةُ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ تَذييلٌ، والإشارةُ بـ (ذلِك) إلى ما يدُلُّ عليه فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ مِن معْنى: فكانتْ عاقبتُهما سُوأَى، والعاقبةُ السُّوأى جَزاءُ جَميعِ الظَّالِمينَ المُعتدينَ على اللهِ والمسلِمينَ، فكما كانتْ عاقبةُ الكافرِ وشَيطانِه عاقبةَ سُوءٍ، كذلك تكونُ عاقبةُ المُمثَّلَينِ بهما وقدِ اشتَرَكَا في ظُلمِ أهلِ الخَيرِ والهُدى .