موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (115-118)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات:

عَبَثًا: العَبَثُ: اللَّعِبُ، وما لا فائدةَ فيه، وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ، يُقالُ: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا: إذا خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ، وأصلُ (عبث): يَدُلُّ على الخَلْطِ .
بُرْهَانَ: البرهانُ: الحُجَّةُ والدَّليلُ، وأصْلُه: وُضوحُ الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى: أفظَنَنتُم أنَّما خلَقْناكم لَعِبًا وباطلًا، لا لحِكمةٍ ولا فائدةٍ، وأنَّكم لا تُرجَعونَ إلينا يومَ القِيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ؟! فتعاظَمَ وتقَدَّسَ اللهُ الملِكُ الحَقُّ عن أنْ يَخلُقَ شيئًا من المخلوقات عَبثًا، وعن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بعظمته وجَلالِه وكَمالِه، لا إلهَ غَيرُه، وهو ربُّ العَرشِ الكريمِ.
ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى أنَّ مَن يَعبُدُ مع اللهِ الواحِدِ إلهًا آخَرَ لا دَليلَ له على استِحقاقِه العِبادةَ، فسَيَلْقَى الحِسابَ الشَّديدَ في الآخرةِ مِن ربِّه جلَّ وعلا؛ إنَّه لا نَجاةَ ولا فلاحَ للكافرينَ يومَ القيامةِ.
ثمَّ أمَر اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَدْعوَه فيقولَ: ربِّ اغفِرْ وارحَمْ، وأنت سبحانَك خيرُ مَن يَرحَمُ.

تفسير الآيات:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ سُبحانَه صِفاتِ القِيامةِ؛ ختَمَ الكلامَ فيها بإقامةِ الدَّلالةِ على وُجودِها؛ وهي أنَّه لولا القِيامةُ لَمَا تميَّزَ المُطِيعُ مِن العاصي، والصِّدِّيقُ مِن الزِّنديقِ، وحينَئذٍ يكونُ خَلْقُ هذا العالَمِ عبَثًا ، فقال:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا.
أي: أفظَنَنْتُم أنَّني خلَقْتُكم لَعِبًا وباطلًا، بلا قصْدٍ ولا فائدةٍ ولا حِكْمةٍ، مُهمَلينَ؛ لا تُؤْمَرونَ ولا تُنهَون، ولا تُثابُون ولا تُعاقَبون ؟!
كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16] .
وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال تَباركَ وتَعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] .
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ.
أي: وتَحْسَبون أنَّكم بَعدَ مَوتِكم لا تُبعَثون يومَ القِيامةِ أحياءً للحِسابِ والجَزاءِ على أعْمالِكم خَيرِها وشَرِّها ؟!
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116).
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.
أي: فتَعاظَمَ وتقدَّسَ اللهُ عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ به سُبحانَه، ومِن ذلك إيجادُه المخلوقاتِ عَبثًا؛ فإنَّه التَّامُّ المُلْكِ الَّذي قهَرَ كُلَّ شَيءٍ، الَّذي لا يَتطرَّقُ الباطِلُ إليه في شَيءٍ مِن ذاتِه ولا صِفاتِه؛ فلا زوالَ له ولا لِمُلْكِه، فأنَّى يأْتيهِ العَبثُ ؟!
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الحَقُّ مِن حيثُ هو قدْ يكونُ له ثانٍ؛ نفَى ذلك في حَقِّه تعالى بقولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ فلا يُوجَدُ له نظيرٌ أصلًا في ذاتٍ ولا صِفَةٍ، ومَن يكونُ كذلك يكونُ حائزًا لجَميعِ أوصافِ الكَمالِ، وخِلالِ الجَلالِ والجَمالِ، مُتعاليًا عن سِماتِ النَّقصِ، والعبَثُ مِن أدْنى صِفاتِ النَّقصِ؛ لِخُلُوِّهِ عن الحِكمةِ الَّتي هي أساسُ الكَمالِ. ثمَّ زاد في التَّعيينِ والتَّأكيدِ للتَّفرُّدِ بوَصْفِه بصِفَةٍ لا يَدَّعِيها غيرُه، فقال: رَبُّ الْعَرْشِ .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، وكلُّ ما سِواهُ عَبيدُه؛ فهو المُستحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له .
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
أي: رَبُّ العَرْشِ الشَّريفِ الحسَنِ البَهِيِّ المَنْظَرِ، الَّذي هو سَقْفُ المَخلوقاتِ وأعظَمُها .
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه هو المَلِكُ الحقُّ لا إلَهَ إلَّا هو؛ أتبَعَه بأنَّ مَنِ ادَّعَى إلهًا آخَرَ فقدِ ادَّعَى باطِلًا مِن حيثُ لا بُرهانَ لهم فيه، ثمَّ ذكَرَ أنَّ مَن قال بذلك فجزاؤُه العِقابُ العظيمُ؛ بقولِه: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ .
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
أي: ومَن يَعبُدْ مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ لا حُجَّةَ له على عِبادتِه؛ فرَبُّه وَحْدَه سيُحاسِبُه يومَ القيامةِ، ويُعذِّبُه على شِرْكِه به .
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
أي: إنَّه لا يَنجَحُ الكافِرونَ، ولا يَسْعدون، ولا يَفوزونَ، ولا يَنالونَ الخُلودَ في نَعيمِ الجنَّةِ، بلْ هم أهْلُ النَّارِ الهالِكونَ .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى أحوالَ الكُفَّارِ في جَهْلِهم في الدُّنيا، وعذابِهم في الآخرةِ؛ أمَرَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالانقطاعِ إليه، والالتِجاءِ إلى دَلائلِ غُفْرانِه ورَحْمَتِه؛ فإنَّهما هما العاصِمانِ عن كلِّ الآفاتِ والمَخافاتِ .
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: يا رَبِّ، استُرْ ذُنوبَنا، وتجاوَزْ عن مُؤاخَذَتِنا بها، وارْحَمْنا في دُنيانا وآخِرَتِنا .
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
أي: وأنتَ أفضَلُ مَن رحِمَ .

الفوائد التربوية:

1- إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خَلَق الجِنَّ والإنسَ؛ لحِكمةٍ عَظيمةٍ، وغايةٍ حميدةٍ، وهي عبادتُه تبارك وتعالى، كما قال سُبحانَه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّ لله تعالى حِكمةً بالِغةً مِن خَلقِ الجِنِّ والإنسِ، وهي عبادتُه. وعلى هذا فمَن تمَرَّد على رَبِّه واستكبَرَ عن عبادتِه فإنَّه يكونُ نابذًا لهذه الحِكمةِ التي خَلَق اللهُ العِبادَ مِن أجْلِها، وفِعلُه يَشهَدُ أنَّ اللهَ خَلَق الخَلقَ عَبثًا وسُدًى! وهو وإنْ لم يُصَرِّحْ بذلك لكِنْ هذا هو مُقتَضى تمرُّدِه واستِكبارِه عن طاعةِ رَبِّه .
2- قَوْله تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا يدلُّ على أنَّ الآدَمِيَّ لم يُخلَقْ لطلبِ الدُّنيا والاشتِغالِ بها، وإنَّما خُلِق ليَعبدَ الله، ويقومَ بأوامرِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- مَن تأمَّلَ بَعضَ هِدايةِ اللهِ المَبْثوثةِ في العالَمِ، شهِدَ له بأنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هوَ، عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ، العزيزُ الحكيمُ، وانتقَلَ مِن مَعرفةِ هذه الهِدايةِ إلى إثباتِ النُّبوَّةِ بأيسَرِ نظَرٍ، وأوَّلِ وَهلةٍ، وأحسَنِ طَريقٍ وأخصَرِها، وأبْعَدِها مِن كُلِّ شُبهةٍ؛ فإنَّه لم يُهمِلِ هذه الحيواناتِ سُدًى، ولم يَتْرُكْها مُعطَّلةً، بلْ هَداها إلى هذه الهِدايةِ الَّتي تَعجِزُ عُقولُ العُقلاءِ عنها. كيف يَلِيقُ به أنْ يَترُكَ النَّوعَ الإنسانيَّ -الَّذي هو خُلاصةُ الوُجودِ، الَّذي كرَّمَه وفضَّلَه على كَثيرٍ مِن خَلْقِه- مُهْمَلًا، وسُدًى مُعطَّلًا، لا يَهْديهِ إلى أقْصَى كَمالاتِه، وأفضَلِ غاياتِه، بلْ يَترُكُه مُعطَّلًا لا يأمُرُه ولا يَنهاهُ، ولا يُثِيبُه ولا يُعاقِبُه؟! وهل هذا إلَّا مُنافٍ لِحِكمَتِه، ونِسْبةٌ له مَا لا يَلِيقُ بجَلالِه؟! ولهذا أنكَرَ ذلك على مَن زعَمَه، ونزَّهَ نفْسَه عنه، وبيَّنَ أنَّه يَستحِيلُ نِسْبةُ ذلك إليه، وأنَّه يَتعالى عنه؛ فقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ؛ فنزَّهَ نفْسَه عن هذا الحُسبانِ؛ فدَلَّ على أنَّه مُستقِرٌّ بُطلانُه في الفِطَرِ السَّليمةِ، والعُقولِ المُستقيمةِ، وهذا أحَدُ ما يدُلُّ على إثباتِ المَعادِ بالعقْلِ، وأنَّه ممَّا تظاهَرَ عليه العقْلُ والشَّرعُ .
2- قال اللهُ تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ في هذينِ الاسمينِ: الْمَلِكُ الْحَقُّ إبطالٌ لهذا الحُسبانِ الَّذي ظَنَّه أعداؤُه؛ إذْ هو مُنافٍ لكَمالِ مُلْكِه ولكونِه الحَقَّ؛ إذِ الْمَلِكُ الْحَقُّ هو الَّذي يكونُ له الأمرُ والنَّهيُ، فيَتصرَّفُ في خَلْقِه بقولِه وأمْرِه، وهذا هو الفَرقُ بين (المَلِكِ) و(المالكِ)؛ إذِ المالِكُ هو المُتصرِّفُ بفِعْلِه، والمَلِكُ هو المُتصرِّفُ بفِعْلِهِ وأَمْرِهِ، والرَّبُّ تعالى مالِكُ المُلْكِ، فهو المُتصرِّفُ بفِعْلِه وأَمْرِهِ، فمَن ظَنَّ أنَّه خَلَقَ خلْقَه عَبثًا، لم يأمُرْهم ولم يَنْهَهُم، فقد طعَنَ في مُلْكِه، ولم يَقْدُرْه حَقَّ قَدْرِه، كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ، فمَن جحَدَ شرْعَ اللهِ وأمْرَه ونَهْيَه، وجعَلَ الخلْقَ بمَنزلةِ الأنعامِ المُهْمَلةِ؛ فقد طعَنَ في مُلْكِ اللهِ، ولم يَقْدُرْه حَقَّ قَدْرِه .
3- قال اللهُ تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ لَمَّا كان بعضُ مُلوكِ الدُّنيا قد يَفعَلُ ما يُنافي شِيَمَ المُلوكِ مِن العبَثِ بما فيه مِنَ الباطلِ، أتْبَعَ ذلك بصِفَةٍ تُنزِّهُه عنه، فقال: الْحَقُّ .
4- دُعاءُ غيرِ اللهِ كُفْرٌ؛ لقولِه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، فأثبَتَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أمْرينِ مُهمَّينِ:
الأمْرَ الأوَّلَ: أنَّ مَن دعا غيرَ اللهِ فهو كافِرٌ؛ لقولِه: لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
الأمرَ الثَّانيَ: أنَّ مَن دعا غيرَ اللهِ فإنَّه لا يُفلِحُ، لا يَحصُلُ له مَطلوبُه، ولا يَنْجو مِن مَرْهوبِه، فيكونُ داعِي غيرِ اللهِ خاسرًا في دِينِه ودُنياه، وإذا كان غيرَ مُفلِحٍ فهو أيضًا غيرُ عاقلٍ، بلْ هذا غايةُ السَّفهِ؛ لقولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] ، أي: لا أحَدَ أضَلُّ ممَّن يَدْعو مِن دُونِ اللهِ، ولكنَّه جاء هذا النَّفيُ بصِيغةِ الاستِفهامِ؛ لأنَّه أبلَغُ مِنَ النَّفيِ المحضِ، حيث يكونُ مُشرَبًا معنَى التَّحدِّي .
5- صيغةُ التَّفضيلِ في قولِه: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ؛ لأنَّ المخلوقينَ قد يرحمُ بعضُهم بعضًا، ولا شكَّ أنَّ رحمةَ اللهِ تُخالِفُ رَحمةَ خَلقِه، كمخالفةِ ذاتِه وسائِرِ صِفاتِه لِذَواتِهم وصِفاتِهم .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ
- قولُه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا فرَّعَ الاستِفهامَ عن حُسبانِهم أنَّ الخلْقَ لأجْلِ العبَثِ على إظهارِ بُطلانِ ما زعَمُوه مِن إنكارِ البَعثِ. والاستِفهامُ تَقريرٌ وتَوبيخٌ؛ لأنَّ لازِمَ إنكارِهم البَعثَ أنْ يكونَ خلْقُ النَّاسِ مُشتمِلًا على عبَثٍ، فنُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن حَسِبَ ذلك، فقُرِّرُوا ووُبِّخُوا؛ أخْذًا لهم بلازِمِ اعتقادِهم .
2- قوله تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
- وجُملةُ: فَتَعَالَى اللَّهُ يجوزُ أنْ تكونَ خبَرًا، قُصِدَ منه التَّذكيرُ والاستِنتاجُ ممَّا تقدَّمَ مِن الدَّلائلِ المُبيِّنةِ لمعنَى تعالِيه، وأنْ تكونَ إنشاءَ ثَناءٍ عليه بالعُلوِّ .
- قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ دَليلانِ على ما قَبلَه فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ؛ وهما: انفرادُه بالإلهيَّةِ، وذلك وَصفٌ ذاتِيٌّ، وبأنَّه مالِكُ أعظَمِ المخلوقاتِ -أعني: العرشَ-، وذلك دَليلُ عَظمةِ القُدرةِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء هنا قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، وفي (التَّوبةِ): فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] ، وفي (النَّملِ): لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 26] ؛ ووَجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى وُصِفَ العرشُ بالكريمِ؛ لأنَّه في سِياقِ الحُكْمِ بالعَدلِ، والتَّنزُّهِ عن العَبثِ، بخِلافِ سِياقِ سُورةِ (التَّوبةِ) و(النَّملِ)، فإنَّه للقَهرِ والجَبروتِ .
3- قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
- قولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صِفَةٌ لازِمةٌ، نحوَ قولِه: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] ؛ جِيءَ بها للتَّوكيدِ، وبِناءِ الحُكْمِ عليه، لا أنْ يكونَ في الآلهةِ ما يَجوزُ أنْ يقومَ عليه بُرهانٌ. وتَنبيهًا على أنَّ التَّديُّنَ بما لا دَليلَ عليه باطِلٌ، فكيفَ بما شَهِدَتْ بَديهةُ العُقولِ بخِلافِه؟! ويجوزُ أنْ يكونَ اعتراضًا بيْنَ الشَّرطِ والجَزاءِ؛ لتَوكيدِ مَضمونِهما .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، ولم يقُل: (لَا بُرْهَانَ لَهُ عليه)؛ ووجه ذلك: أنَّه لَمَّا كان المُرادُ ما يُسمَّى بُرهانًا -ولو على أدْنى الوُجوهِ الكافيةِ-، عبَّرَ بالباءِ؛ سُلوكًا لِغايةِ الإنصافِ، دُونَ (على) المُفْهِمةِ للاستِعلاءِ بغايةِ البَيانِ، فقال: بِهِ، أي: بسبَبِ دُعائِه؛ فإنَّه إذا اجتهَدَ في إقامةِ بُرهانٍ على ذلك لم يَجِدْ، بلْ وجَدَ البراهينَ كلَّها قائمةً على نفْيِ ذلك .
- والقَصرُ في قولِه: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَصرٌ حَقيقيٌّ. وفيه إثباتُ الحسابِ، وأنَّه للهِ وَحْدَه؛ مُبالَغةً في تَخطِئَتِهم وتَهديدِهم، ويجوزُ أنْ يكونَ القَصرُ إضافِيًّا؛ تَطمينًا للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ اللهَ لا يُؤاخِذُه باستِمرارِهم على الكُفْرِ، ويدُلُّ على ذلك تَذييلُه بجُملةِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
- قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وُضِعَ الْكَافِرُونَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ لأنَّ (مَنْ يَدْعُ) في معنَى الجَمعِ، والأصلُ: حِسابُه أنَّه لا يُفلِحُ هو، وإنَّما وجَبَ الجَمْعُ؛ لأنَّ الآيةَ تَذييلٌ للآياتِ الواردةِ في حَقِّ المُعانِدينَ المُصرِّينَ . ووُضِعَ الْكَافِرُونَ مَوضِعَ الضَّميرِ المُفرَدِ بَعدَ الإفرادِ في حِسَابُهُ؛ للإشعارِ بأنَّ عدَمَ الفَلاحِ مُعلَّلٌ بالكُفْرِ، فوُضِعَ الْكَافِرُونَ مَوضِعَ ضَميرِه؛ تَنبيهًا على كُفْرِه، وتَعميمًا للحُكْمِ، فصار أوَّلُ السُّورةِ وآخِرُها مُفْهِمًا لِأنَّ الفَلاحَ مُختَصٌّ به المُؤمِنونَ، ولِيَتطابَقَ أوَّلُ السُّورةِ وآخِرُها ، أو لِرِعايةِ التَّوافُقِ في الفواصِلِ .
- وفيه: تَسليةٌ للرَّسولِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه .
- وفيه: ضَرْبٌ مِن رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ؛ إذِ افتُتِحَتِ السُّورةُ بـ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] ، وخُتِمَت بـ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وهو نَفْيُ الفلاحِ عن الكافرينِ ضِدَّ المُؤمِنينَ .
4- قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
- في حَذْفِ مُتعلَّقِ اغْفِرْ وَارْحَمْ تَفويضُ الأمرِ إلى اللهِ في تَعيينِ المَغفورِ لهم والمَرحومِينَ، والمُرادُ مَن كانوا مِن المُؤمِنينَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ المعنى: اغْفِرْ لي وارْحَمْني؛ بقَرينَةِ المَقامِ .
- وفيه: إيذانٌ بأنَّ الاستِغفارَ والاستِرحامَ مِن أهمِّ الأُمورِ الدِّينيَّةِ؛ حيثُ أُمِرَ بهما مَن قد غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تأخَّرَ، فكيف بمَن عدَاهُ ؟!
- وأمْرُه بأنْ يَدعُوَ بذلك يَتضمَّنُ وَعْدًا بالإجابةِ، وهذا الكلامُ مُؤْذِنٌ بانتِهاءِ السُّورةِ؛ فهو مِن بَراعةِ المَقطَعِ .