1- قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ
- قولُه:
وَكَمْ قَصَمْنَا... عطْفٌ على قولِه:
مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء: 6] ، أو على قولِه:
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وهو تَعريضٌ بالتَّهديدِ، وفيه تَعريضٌ بنصْرِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعريضٌ بإنذارِ المُشرِكينَ بالانقراضِ بقاعدةِ قياسِ المُساواةِ
، وأنَّ اللهَ يُنشِئُ بعْدَهم أُمَّةً مُؤمِنةً
. أو استئنافٌ مَسوقٌ للتَّمثيلِ بالأُمَمِ الَّتي هلَكَتْ قبْلَهم
.
- وفيه نوعُ تَفصيلٍ لإجمالِ قولِه تعالى:
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وبَيانٌ لكَيفيَّةِ إهلاكِهم وسبَبِه، وتَنبيهٌ على كثرَتِهم
.
- و(كمْ) في قولِه:
وَكَمْ قَصَمْنَا تَقْتضي التَّكثيرَ، وفي لفْظِ القصْمِ الَّذي هو عبارةٌ عن أفظَعِ الكسْرِ بإبانةِ أجزاءِ المكسورةِ، وإزالةِ تأْليفِها بالكُلِّيَّةِ، مِن الدَّلالةِ على قُوَّةِ الغضبِ وشدَّةِ السَّخَطِ ما لا يَخْفى
. وفي (كم) الدَّالَّةِ على كثرةِ العدَدِ إيماءٌ إلى أنَّ هذه الكثرةَ تَستلزِمُ عدَمَ تخلُّفِ إهلاكِ هذه القُرى، وبَضميمةِ وَصْفِ تلك الأُمَمِ بالظُّلْمِ، أي: الشِّرْكِ، إيماءٌ إلى سبَبِ الإهلاكِ؛ فحصَلَ منه ومِن اسْمِ الكثرةِ معنى العُمومِ، فيَعلَمُ المُشرِكونَ التَّهديدَ بأنَّ ذلك حالٌّ بهم لا مَحالةَ بحُكمِ العُمومِ، وأنَّ هذا ليس مُرادًا به قريةٌ مُعيَّنةٌ
.
- قولُه:
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً مِنْ قَرْيَةٍ المرادُ: أهلُها؛ إِذْ لا تُوصَفُ القريةُ بالظُّلْمِ، كَقَوْلِهِ:
مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
[النساء: 75] .
- قولُه:
قَوْمًا آَخَرِينَ فيه تَنبيهٌ على استئصالِ الأوَّلينَ، وقطْعِ دابِرِهم بالكُلِّيَّةِ، وهو السِّرُّ في تَقديمِ حِكايةِ إنشاءِ هؤلاء على حِكايةِ مبادئِ إهْلاكِ أولئك بقولِه تعالى:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا...، فضميرُ الجمعِ فِي
أَحَسُّوا عائدٌ على (أهلِ) المحذوفِ مِن قولِه:
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ، ولا يعودُ على قولِه:
قَوْمًا آَخَرِينَ؛ إذ لا ذنبَ لهم يَقتضي ما تضمَّنه هذا الكلامُ
.
- قولُه:
وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ و
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، فجُملةُ
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، تَفريعٌ على جُملةِ
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
.
2- قوله تعالى:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ- قولُه:
مِنْهَا يَرْكُضُونَ الرَّكضُ: ضَرْبُ الدَّابَّةِ بالرِّجْلِ، ويجوزُ أنْ يَرْكبوا دوابَّهم يَرْكُضونها هاربينَ مُنهزِمينَ مِن قَريتِهم لمَّا أدرَكَتْهم مُقدِّمةُ العذابِ، ويجوزُ أنْ يُشَبَّهوا في سُرعةِ عَدْوِهم على أرجُلِهم بالرَّاكبينَ الرَّاكضينَ لدوابِّهم، فقيل لهم:
لَا تَرْكُضُوا، والقولُ مَحذوفٌ، فهو على إرادةِ القولِ، أي: قيل لهم استهزاءً:
لَا تَرْكُضُوا؛ إمَّا بلسانِ الحالِ، أو المقالِ
.
- وحَرْفُ (مِن) في قولِه:
مِنْهَا يَرْكُضُونَ يجوزُ أنْ يكونَ للابتداءِ، أي: خارجينَ منها، ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّعليلِ، أي: من البأْسِ الَّذي أحسُّوا به؛ فلا بُدَّ من تَقديرِ مُضافٍ، أي: مِن بأْسِنا
.
- وفي دُخولِ (إذا) الفُجائيَّةِ في جوابِ (لمَّا): دَلالةٌ على أنَّهم ابْتَدَروا الهُروبَ من شِدَّةِ الإحساسِ بالبأْسِ؛ تَصويرًا لشِدَّةِ الفزَعِ
.
3- قوله تعالى:
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ - وجُملةُ:
لَا تَرْكُضُوا ... مُعترِضةٌ بين
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا و
قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، وهي خِطابٌ للرَّاكضينَ بتَخيُّلِ كونِهم الحاضرينَ المُشاهِدينَ في وقْتِ حكايةِ قِصَّتِهم، تَهيئةً وتأهيلًا لِما اقْتَضى اجتلابَ حَرْفِ المُفاجأةِ. والكلامُ تَهكُّمٌ بهم
.
- ولَمَّا كان التَّأسيفُ إنَّما هو على العَيشِ الرَّافِهِ، لا على كَونِه مِن مُعطٍ مُعَيَّنٍ، بُنِيَ للمفعولِ قَولُه:
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ. ويجوزُ أن يكونَ بُنِيَ للمفعولِ؛ إشارةً إلى غَفْلَتِهم عن العِلمِ لِمَن أترَفَهم، أو إلى أنَّهم كانوا يَنسُبونَ نِعمَتَهم إلى قُواهم، ولو عَدُّوها منَ اللهِ لشَكَروه فنفَعَهم
.
- قولُه:
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أي: ارْجِعوا إلى نَعيمِكم ومَساكنِكم لعلَّكم تُسْألون غدًا عمَّا جَرى عليكم؛ ففيه تَوبيخٌ وتَهكُّمٌ بهم، أو: يَسْألُكم الوافدونَ نوالَكم، إمَّا لأنَّهم كانوا أسخياءَ يُنفقونَ أموالَهم رئاءَ الناسِ وطلبَ الثناءِ، أو كانوا بُخلاءَ، فقيل لهم ذلك تَهكُّمًا إلى تَهكُّمٍ، وتَوبيخًا إلى تَوبيخٍ
.
4- قولُه تعالى:
قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ إنْ جُعِلَتْ جُملةُ
لَا تَرْكُضُوا مُعترِضةً، تكونُ جُملةُ
قَالُوا يَاوَيْلَنَا مُستأنفةً استئنافًا بَيانيًّا عن
إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ؛ كأنَّ سائِلًا سأَلَ عمَّا يقولونَه حين يُسْرِعونَ هاربينَ؛ لأنَّ شأْنَ الهاربِ الفزِعِ أنْ تَصدُرَ منه أقوالٌ تدُلُّ على الفزَعِ أو النَّدمِ عن الأسبابِ الَّتي أحلَّتْ به المخاوِفَ، فيُجابُ بأنَّهم أيْقَنوا حينَ يرَونَ العذابَ أنَّهم كانوا ظالِمينَ. وإنْ جُعِلَتْ جُملةُ
لَا تَرْكُضُوا مقولَ قولٍ مَحذوفٍ، كانت جُملةُ
قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ جوابًا لقولِ مَن قال لهم:
لَا تَرْكُضُوا ...
.
5- قولُه تعالى:
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ - قولُه:
حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ كِنايةٌ عن مَوتِهم
.
- وفي قولِه:
حَصِيدًا خَامِدِينَ تَشبيهٌ بليغٌ؛ فقد شبَّهَهم بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم بالحصيدِ أوَّلًا، وهو الزَّرعُ المحصودُ، ووجْهُ الشَّبهِ بين المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به هو الاستئصالُ من المنابتِ، ثمَّ شبَّهَهم ثانيًا بالنَّارِ المُنطفِئةِ ولم يبْقَ منها إلَّا جمْرٌ مُنطفِئٌ لا نفْعَ فيه، ولا قابليَّةَ لشَيءٍ من النَّفعِ منه، فلا تُرى إلَّا أشْلاءٌ مُتناثِرةٌ وأجزاءٌ مُتفرِّقةٌ قد تَمدَّدتْ، وقد رانَ عليها البِلَى
.
6- قولُه تعالى:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - قولُه:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ... إشارةٌ إجماليَّةٌ إلى أنَّ تكوينَ العالَمِ وإبداعَ بني آدَمَ مُؤسَّسٌ على قواعدِ الحِكَمِ البالغةِ المُسْتتبِعةِ للغاياتِ الجليلةِ، وتَنبيهٌ على أنَّ ما حُكِيَ من العذابِ الهائلِ والعقابِ النَّازلِ بأهْلِ القُرى مِن مُقتضياتِ تلك الحِكَمِ ومُتفرِّعاتِها حسَبَ اقتضاءِ أعمالِهم إيَّاهُ، وأنَّ للمُخاطَبينَ المُقتدينَ بآثارِهم ذَنوبًا مثْلَ ذَنوبِهم
.
- وتَخصيصُ
وَمَا بَيْنَهُمَا بالذِّكْرِ يدُلُّ على الاهتمامِ به؛ لأنَّ أشرَفَه هو نوعُ الإنسانِ المقصودِ بالعِبْرةِ والاستدلالِ، وهو مَناطُ التَّكليفِ
.
- وعبَّرَ بقولِه:
لَاعِبِينَ لبَيانِ كَمالِ تَنزُّهِه تعالى عن الخلْقِ الخالي عن الحِكْمةِ، بتَصويرِه بصُورةِ ما لا يَرتابُ أحدٌ في استحالةِ صُدورِه عنه سُبحانه
.
7- قوله تعالى:
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ - قولُه:
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا جُملةٌ مُستأْنَفةٌ مُقرِّرةٌ لمعنى جُملةِ
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ تَقريرًا بالاستدلالِ على مَضمونِ الجُملةِ، وتَعليلًا لنفْيِ أنْ يكونَ خلْقُ السَّمواتِ والأرضِ لَعِبًا
.
- وقولُه:
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا عَقِيبَ قولِه:
وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ من بابِ وضْعِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضْمرِ من غيرِ لفْظِه السَّابقِ؛ لأنَّ اللَّهْوَ: ما يُتلهَّى به ويُلْعَبُ
، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.
- قولُه:
لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا في إضافةِ (لَدُنْ) إلى ضَميرِ الجَلالةِ دَلالةٌ على الرِّفْعةِ والتَّفضيلِ
.
- قولُه:
إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ فيه مَحذوفٌ؛ ثِقةً بدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: إنْ كُنَّا فاعلينَ لاتَّخذناه. وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) شَرطيَّةً كان تَكريرًا للتَّلازُمِ، وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) حَرْفَ نفْيٍ كانت الجُملةُ مُستأْنفةً؛ بَيانًا لتَقريرِ الامتناعِ المُستفادِ مِن (لو)، أي: ما كنَّا فاعلينَ لَهْوًا
.
8- قولُه تعالى:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ - قولُه:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ (بل) للإضرابِ عن اتِّخاذِ اللَّهوِ، وعن أنْ يكونَ الخلْقُ لَعِبًا، إضرابَ إبطالٍ وارتقاءٍ
. أو إضرابٌ عن إرادتِه، وتَخصيصُ شأْنِه هذا مِن بينِ سائرِ شُؤونه تعالى بالذِّكْرِ؛ للتَّخلُّصِ إلى ما سيأْتي من الوعيدِ
.
- قولُه:
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ في (إذا) الفُجائيَّةِ والجُملةِ الاسميَّةِ، من الدَّلالةِ على كَمالِ المُسارَعةِ في الذَّهابِ والبُطلانِ ما لا يَخْفى؛ فكأنَّه زاهِقٌ من الأصْلِ
. أو دَلَّ على سُرعةِ مَحْقِ الحقِّ الباطلَ عندَ وُرودِه؛ لأنَّ للحقِّ صَولةً، فهو سريعُ المفعولِ إذا وَرَد ووَضَحَ
.